المشرقان عليك ينتحبان
قاصيهما في مأتم والداني
إن قارئ اليوم يعجب لهذا الذي مات فبكاه الشرق والغرب جميعا؛ لأن زمن الإغراق في الكذب قد انقضى، ولم يعد أعذب الشعر أكذبه، والمحتمل أن شوقي كان يريد أن ينتهي من هذا كله إلى الإبجرام الشهير:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
ولا داعي لتكرار ما قاله العقاد عن البارودي وشوقي معا؛ فقد كان العقاد واعيا بالاتجاه الذي سار فيه شعرهم - على غزارته وجماله - ألا وهو الإحالة إلى الماضي. وإذا كان من الصعب على قارئ العربية اليوم أن يعيد الحياة في الماضي، فكيف بالأجنبي الذي يريد أن يتعرف على أدبنا؟
اللغة المشتركة
يقول الشاعر الإنجليزي وليام وردزورث إن هناك «واحات زمنية» في وجود كل إنسان يرتادها المرة بعد المرة ليروي عطش خياله، ويتبرد من هجير الحياة، وحينما صدمته انتكاسة الثورة الفرنسية كان يختلف إلى تلك الواحات حينا فحينا، وكثيرا ما كان يجد فيها العزاء والسلوى؛ لأنه كان يرى فيها الإنسان في مرحلة البراءة قبل أن تطحنه أضراس التجربة، وكان يعني بالتجربة مثل كل الرومانسيين مواجهة الشر والاعتراف بوجوده، بل والتصالح مع هذا الوجود!
وإذا كان جيلنا يجد نفسه اليوم في حاجة إلى ارتياد هذه الواحات، وربما كان ذلك قبل أن يحين موعد ارتيادها الحقيقي الذي لا يأتي إلا بالتجربة؛ فذلك لأننا عشنا سنوات كانت توازي سنوات الطفولة في صفائها ونقائها، وهي سنوات التفتح على الأدب العالمي وفورة الحماس الذي لم يسبق له مثيل في الستينيات، فكنا نقرأ بنهم في الأدب وكل ما يتصل به من دراسات نظرية وتطبيقية، وكنا نناقش ما شاء الله لنا أن نتناقش فيما قرأنا، وكان لنا أساتذة يمثلون القمم التي نطمح إلى تسنمها، وأنا أقصد بجيلنا بالتحديد جيل من تفتحت مواهبهم في الستينيات، وهم بعد في ربيع العمر أو على مشارفه فكتبوا المسرح والمقالة والكتاب، ونشطوا إبداعا وترجمة وتأليفا، وقد بدا لهم الطريق دون نهاية، أو كما يقول شاعر إنجليزي آخر وهو «ألكسندر بوب»: «كلما تراءت لهم قمة برزت من ورائها قمة!»
كانت الترجمة تشهد ازدهارا نادرا - ولكنه كان طريقا ذا اتجاه واحد؛ لأننا كنا نترجم من الإنجليزية (أو الفرنسية) إلى العربية فحسب، ولم نكن بعد نطمح بل لم نكن نتصور أن لدينا أدبا قادرا على احتلال مكانه الحق بين آداب العالم لسبب بسيط، وهو انبهارنا الشديد بالأدب العالمي الذي كان يفتح أمامنا آفاقا تختلف اختلافا بينا عن تلك التي عهدناها في أدبنا العربي. كانت المشكلة عندي هي أنني درجت على موازاة الأدب بإحكام الصنعة اللغوية، وكان هذا أمرا طبيعيا في سني بعد أن تركت الكتاب والتحقت بالتعليم العام، فوجدت بين أساتذتي من لا يكترث إلا للبلاغة التقليدية وصناعة الإنشاء، ووجدت في محيط الأسرة من أقاربي من يؤكد لي صحة ذلك - فكتاب الشيخ مصطفى عناني يعاد طبعه المرة بعد المرة «الوسيط في الأدب العربي» وكتب علي الجارم (النحو الواضح وغيره) تملأ المنزل، ووالدي غارق إلى أذنيه في العقد الفريد وفي نفح الطيب!
অজানা পৃষ্ঠা