ووافق ذلك تقهقر الكنيسة، وفي فرنسا تقاليد - منذ الثورة الكبرى - ضد الكنيسة، وقد انتهت هذه التقاليد إلى فصل الدين من الدولة في أوائل القرن الحاضر، وسار التعليم مدنيا بحتا، حتى إن أمثلة النحو والصرف في الكتب الابتدائية كان يعنى مؤلفوها فيها بحذف الكلمات التي تدل على معنى كنسي أو ديني.
وزاد في تقهقر الكنيسة أن الروح المادي تفشى وساد العقول، ولذلك ما ندهش له نحن في مصر لم يعد له من الخطورة ما يدعو إلى أقل الاستغراب، فضلا عن الدهشة، في فرنسا، فإن بول سارتر مثلا يجعل الإلحاد أساس فلسفته، دون مبالاة للرأي العام.
وليس بين الأدباء من هو أحب إلى القلوب من «أناطول فرانس»، ومع ذلك لا يخلو كتاب لهذا الأديب من زندقة، وهو على الرغم من استغراقه في كلمات الشعائر والعبارات الدينية، بل على الرغم من الإحساس الديني العجب الذي يتسم به، يعود على الكنيسة بالثورة ثالبا جاحدا، ولكنه يجحد بلا غضب؛ إذ هو يضحك على الدوام، ويضحك في حنان من خصومه.
ثم يجيء «أندريه جيد» وهو بشري الدين، يجحد الغيبيات والأساطير كلها، ويدعو الإنسان إلى أن يرتفع فوق نفسه وينشد الهدف الأعلى بعد الهدف العالي، ثم هو يكافح في السياسة، فيؤلف ضد الاستعمار وضد الاستغلال، وأحيانا يستهتر، ولكنه في استهتاره يحس بالتبعات الفنية حتى لتكاد تحكم عليه بأنه إنما يستهتر للتجربة الفنية فقط.
وفيما بين 1920 و1935 نجد كاتبا عاصفا هو «أنري باربوس» يكتب، ويعمل، إيمانا وكفاحا، وهو يلخص في أدبه، في فلسفته، في سياسته وديانته، كل هذه النزعات التي سبقته، ولكنه يمتاز عن جميع هؤلاء الذين سبقوه أنه مع الشعب، ولذلك كان صحفيا كما كان مؤلفا، وشيعته باريس عند وفاته في سنة 1936 كما لم تشيع كاتبا آخر منذ وفاة فكتور هيجو.
وأخيرا نجد «بول سارتر» الذي يمكن أن نعده خصما سياسيا لأنري باربوس، ولكنه فيما عدا السياسة يمتاز على كل من سبقوه من حيث أنه جعل الفلسفة موضوع المقهى والجريدة يناقشها العمال والطلبة كما يدرسها الأثرياء من النساء والرجال.
وليس شك أن هناك نزعات استهتارية في الأدب الفرنسي، كما نرى مثلا في مارسيل بروست أو بودلير، على اختلافهما، ولكن يجب أن نعترف أن هذا الأدب ينحو في مجمله نحو الجد والإحساس بالتبعات الاجتماعية، ومن هنا هذا الاحترام الذي يجده من الجمهور، وهو احترام يأخذ مكان الاحترام السابق للكنيسة.
وبكلمة أخرى نقول: إن الوجدان الأدبي في فرنسا، بل في الأقطار الأوروبية جميعها، يأخذ مكان الوجدان الديني، والمؤلف العظيم لا يكتب ليسري عن قارئه همومه، ويرفه عنه، بل هو يزيده هموما ويبعث فيه اهتمامات روحية، ويحمله تبعات اجتماعية جديدة، وهو هنا مثل الرسام الجديد؛ فقد كان الرسام القديم يرسم الصورة الجميلة للمرأة الجميلة، أما الرسام الجديد فإنه يعنى برسم المشكلات والأهداف، ولا يبالي أن يحزنك أو يبعث فيك الاشمئزاز، فأنت تنظر إلى الرسم لتدرس وتتألم، وليس لتتسلى وتسر.
وهكذا الشأن في الأدب، فإن رسالته العصرية دينية، ولكنها مع ذلك بشرية.
وهذه الجملة الأخيرة تحتاج إلى تفسير؛ ذلك أن الأديان الغيبية القديمة كانت تحملنا تبعات وتطالبنا بواجبات، ولكن القيم الأخلاقية والاجتماعية في هذه الأديان كانت قيم الآخرة ولم تكن قيم الدنيا، فكان علينا أن نكون صالحين نمارس الفضيلة، ونصلي، ونصوم، حتى نستمتع بالفردوس ولا نتعرض للعقوبة بعد الموت، فالقيم هنا أخروية، ولكن الأدب الفرنسي العصري، بل الأوروبي كله، يحملنا أيضا تبعات ويطالبنا بواجبات، القيم الأخلاقية والاجتماعية فيه هي قيم الدنيا فقط، فيجب أن نكون صالحين، وأن نمارس الفضيلة؛ كي نخدم المجتمع البشري ونرقى بشخصيتنا أخلاقا ومعارف، ونجعل من كوكبنا فردوسا نجد فيه السعادة والخير والشرف.
অজানা পৃষ্ঠা