إذا ذكر الإنجليزي عبارة «العصر الفكتوري» عنى بذلك نحو سبعين سنة قضتها إنجلترا في خمول يشمل الأخلاق والأدب بين سنة 1837 وسنة 1900 وهي المدة التي تولت فيها الحكم الملكة فكتوريا.
وقد كان هذا العصر عصر تجديد، بل ثورة في العلوم؛ ففيه ظهر «داروين» وقلب البيولوجيا رأسا على عقب. واستحالت نظرياته إلى مذاهب تشبه المذاهب السياسية من حيث ابتعاث الحماسة أو المقت. وفيه ظهر «هربرت سبنسر» الذي قضى حياة طويلة يدافع عن مادية صريحة. ومن الناس من يطلق عليه وصف الفيلسوف ، مع أنه أعدى أعداء الفلسفة؛ إذ هو لا يؤمن إلا بالعلم. وظهرت في هذا العصر نزعات علمية كثيرة نقلت الطب من الكهانة والسحر إلى التجربة، ونقلت التربية من حفظ اللغتين الإغريقية واللاتينية إلى درس الطبيعات والكيمياء.
وكانت المدينة الإنجليزية في هذا العصر الفكتوري تنتقل من الزراعة إلى الصناعة، ومعايش الناس تتجدد من حيث اختلاف الحرفة، ولكنها تبقى مع ذلك جامدة من حيث العادات الاجتماعية متشبثة بعادات المجتمع الزراعي البائد.
وهذا الجمود شمل الحياة الاجتماعية. وإلى الآن لا يزال الإنجليزي يستعمل لفظة هي «المسز جرندي» التي تدلنا على هذا الجمود، فإن هذه المسز أو السيدة هي ربة البيت الإنجليزية التي كانت تحتم على أعضاء منزلها الوقار والاحتشام، بل التزمت؛ فلم تكن تسمح للفتاة بالخروج وحدها أو المزاح مع الشبان أو اتخاذ الملابس المختصرة أو ارتياء الآراء الجديدة. وكان البيت الإنجليزي مدة ذلك العصر مثالا للجمود، بل الكمود، لوجود هذه السيدة المحترمة التي كانت تعتقد أنها تصون الأخلاق بتزمتها.
والأدب بطبيعته يساير الحياة الاجتماعية، فإن الأديب يكتب مقالته، أو يؤلف قصته، وهو يفرض جمهورا يسمعه، فإذا هو ارتأى رأيا، ينبو عن ذوق هذا الجمهور أو عقائده أو أخلاقه، أكنه في نفسه وكظمه وأبدى غيره مما يرضي هذا الجمهور. وقد يقال هنا إن حرية الرأي تقول بغير ذلك، ولكن يجب على القارئ أن يعرف أن الجمهور يحد من حرية الرأي مثلما تحد منها القوانين سواء؛ ولذلك كان جميع الأدباء في العصر الفكتوري يحترمون آراء «المسز جرندي» ولا يخالفونها إلا في تواضع وذلة. ولهذا السبب اتجه الأدب الإنجليزي طوال القرن التاسع عشر نحو الصياغة اللفظية دون التفكير والاقتحام، فنحن إذا قرأنا «ماكولي» المؤرخ راعنا أسلوبه المنمق وعبارته الملحنة المنغمة، ولكننا نخرج منه بلا شيء من حيث التفكير. وكذلك الحال مع «سكوت» و«ثاكري» القصصيين.
وقد يستطيع القارئ أن يذكر الشاعرين «شيلي» و«بيرون» وأن يصفهما بالثورة على التقاليد والعرف والنزوع إلى حرية الإغريق، وهذا صحيح، ولكنهما عاشا وماتا وكأنهما غريبان عن إنجلترا، تقرؤهما فئة صغيرة وتقتني مؤلفاتهما، وتدسها في زوايا الحجر حتى لا تراها عين هذه السيدة المحترمة «المسز جرندي».
واستمر الجمود شاملا للمجتمع والأدب إلى حوالي سنة 1880 حين أخذت تتراكم أسباب الثورة أو التجديد وتستمد قوتها من العلوم الجديدة، فهذه الصناعة مثلا تبعث «كارل ماركس» على تأليف كتابه في ضرورة الاشتراكية مع شروح وافية مؤلمة في فساد المجتمع. وهذا العلم الجديد «البيولوجيا» يبعث «إبسن» الشاعر النروجي على تأليف دراما تصف «سلطان» الوراثة، وكيف يرث الأبناء نقائص آبائهم في الجسم والغريزة. ثم هذه المادية الجديدة تبعث الشاعر «سونبرن» على أن يؤلف القصائد في الانتقاض على العقائد. ثم نرى دعوة إلى الجمال يدعو إليها «أوسكار وايلد» من ناحية، و«ولتر باتير» من ناحية أخرى، مع اختلاف بين الاثنين في الوثن الجميل الذي يتعبد له كل منهما؛ فإن الأول يحب باريس الحديثة ويتغنى بلياليها، ويعرف للترف المادي قيمته في الجسم الرائع، والمائدة المطهمة، والحديث البارع، ولذة اللحم. والثاني يحب أثينا القديمة، ويذكر آلهتها وفلاسفتها ويساوي بين الاثنين، ويرى في تمثال الرب أفلون نموذجا فذا للجمال الإنساني كما يرى في شبان الإغريق نماذج أخرى لجمال الآلهة.
لورد بيرون.
وكل هذا يحدث على الرغم من آراء الجمهور أو شعائره الاجتماعية، حتى إن «أوسكار وايلد» قضى سنتين في السجن لأنه عمل بما قال، ونزل بالواقع إلى ما كان يتخيله، وجعل من الأدب حياة يعيشها على نحو تلك الحياة التي كان يعيشها أبو نواس، وهي لا تختلف من أدبه، كما لا يختلف خياله وواقعه وقصيدته من معيشته.
ولكن ما نكاد نقترب من 1900 حتى نجد الانفجار، ولهذا الانفجار أسباب خارجية وأخرى داخلية. وقد ذكرنا هذه الأسباب الداخلية، وهي تنحصر في التقدم العلمي الذي عكس أشعته على الأدب، والتقدم الصناعي الذي عكس أشعته على التفكير الاجتماعي. وكانت إنجلترا طوال القرن التاسع عشر في مقدمة الأمم في العلم والصناعة. وتأثر الأدب من هاتين الناحيتين يرجع إليها وحدها.
অজানা পৃষ্ঠা