وليست الثورة مقصورة عليهم وحدهم، فإن الصدود عن الوهم والخيال عظيم الآن في إنجلترا، حيث تروج كتب التراجم للعظماء وأشباه العظماء، كما تروج التواريخ، رواجا عظيما. وهذا يدل على أن الجمهور نفسه يريد أن يقرأ قصصا حقيقية عن أشخاص حقيقيين، ولا يريد وهما أو خيالا. وإذا كان «برنارد شو» قد قصر الأدب على إصلاح المجتمع، فإن هؤلاء الثائرين لا ينشدون من الأدب سوى غاية واحدة هي البحث عن الطرق التي نستطيع بها أن نعيش أمتع عيش وألذه، فهم يرون أننا شغلنا عن لذة الحياة بنظريات وواجبات غريبة، في حين أن غايتنا الأولى يجب ألا تكون الفلسفة، أو العلم، أو خدمة البشر، أو تحصيل العيش، وإنما الغاية الأولى والوحيدة هي التمتع بالحياة، وما عدا ذلك فحواش وزوائد.
لورنس: أحد الثائرين
مات «د. ه. لورنس» منذ بضع سنوات (في 1931) فشرع الكتاب يدرسونه ويفحصون عن الغاية التي رمى إليها. وكان طيلة حياته لا يلقى سوى الاستهجان أو الإهمال، الذي هو عند المؤلفين شر من الاستهجان.
وقد نشأ «لورنس» في بيئة العمال؛ لأن أباه كان فحاما يشتغل في مناجم الفحم. ولكن أمه كانت على شيء من الثقافة، فوجهت الصبي نحو القراءة والتطلع في الأدب. وما هو أن بلغ سن الشباب، حتى كان يحترف التعليم في إحدى المدارس في الريف ويراسل المجلات فيكتب القصص والقصائد والمقالات . وقد مات وهو دون الخامسة والأربعين. ولكن الضجة التي أثيرت عقب موته لن تموت؛ إذ هي تجد من الأنصار والخصوم، ما سيبقي على ذكره بالجدال القائم عن مذهبه في الأدب الجديد.
وقد كان ل «لورنس» مذهب يدعو إليه لو أردنا الرجوع لأسبابه لاحتجنا إلى شرح طويل، فإننا نجد فيه مثلا، نزوعا إلى «المنحطين»؛ إذ هو حين يتكلم عن اللذة الجنسية يذكرنا ب «أوسكار وايلد» وإن كان هو في الوقت نفسه سليما من الشذوذ. كما نجد فيه دعوة إلى الحياة واشتهاء الملذات والتجارب، والإكبار من شأن الجسم واللحم والدم مع إهمال النفس والأخلاق. وهذه دعوة تشبه نزعات النهضة الأوروبية مع الزيادة والمبالغة. وهو مع ذلك ينظر للحياة نظرا فلسفيا يريد أن يعرف أسرارها ويتذوق أطايبها. وهو في هذا النظر ينتهي، كما انتهى بعض الصوفيين من قبل، إلى اللذة الجنسية. وذلك لأن الدعوة إلى الحياة كثيرا ما تسير نحو الثورة على العرف والأخلاق والذهن. والرغبة في تحسسها وتجربة ما فيها من ألم أو لذة هي في الحقيقة رغبة في إيثار الغريزة على الذهن. وعندئذ يلتقي المهذار المستهتر بالجاد المفلسف في ميدان واحد، وإن كان كل منهما يختلف من الآخر في بواعثه.
زد على هذا تعقد الحضارة القائمة، وأنها تشغلنا بشواغل وتخلق لنا من الواجبات ما يجعلنا ننسى أن إنسانيتنا إنما تنبت من أصل حيواني. وأن الواجب الأصلي هو أن يعيش كل منا ويتمتع بعيشه. ثم بعد ذلك يمكنه أن يتكلم عن الوطن أو الصناعة أو الأدب أو الفلسفة، أو ما شاء من ثمار الحضارة القائمة.
هذا هو «لورنس» الثائر على الأدب الإنجليزي، فإنه يصيح بأعلى صوته: قبل أن تهذر عن فنون الحضارة، وواجبات الإنسانية، تذكر أني أريد أن أعيش وأبلغ أقصى ما يمكنني من ملذات الحياة وآلامها وتجاربها ... «فإني أؤمن بإيمان عظيم هو الدم واللحم، وهو يسمو على الإيمان بالذهن.»
وإليك هذه النبذة المثيرة نقتبسها من بعض كلامه حيث يقول:
ماذا يعود علينا من هذا النظام الصناعي الذي يزحمنا بأقذار في حين لا يتمتع أحدنا بعيشه؟ إننا نحتاج إلى ثورة، ولكنها لن تكون ثورة في سبيل المال، أو العمل، بل في سبيل الحياة؛ ذلك لأن المال أو العمل شيء عرضي. إني أزداد كل يوم ثورة، ولكن ثورتي هي من أجل الحياة. وليست المادية التي يقول بها «ماركس» خيرا مما نحن فيه؛ لأننا إنما نحتاج إلى الحياة، وتبادل الثقة حيث يثق الإنسان بالإنسان. ويصبح العيش في الدنيا شيئا حرا وليس شيئا مكسوبا. وهذا العالم سيختار بين أمرين، إما القيام بحركة كبيرة للسخاء والتسامح وإما انتظار الموت الكاسح.
د. ه. لورنس.
অজানা পৃষ্ঠা