ثم هناك إلى هذه الجمعيات، رجال الذهن الذين ينتمون إلى العلم أو الدين أو الاجتماع، فيدأبون في نشر آرائهم التي استنبطوها من دراساتهم. وهم يعملون لنشرها بين الجمهور بمختلف المؤلفات. وأعظم مثال على هؤلاء، ذلك اللورد العجيب الذي بهر الناس بذكائه وثقافته، وبهدم ما يحترمونه من عقائد، نعني به «برتراند روسل». فإن القارئ لمؤلفاته يشعر أن «برنارد شو» بالنسبة إليه يعد من الجامدين في أشياء كثيرة؛ إذ هو كتب عن الإمبراطورية البريطانية والزواج والصناعة والدين، بروح اقتحامي جريء. ولو أن أحد المفكرين في القرون الوسطى نسب إليه كتاب واحد من مؤلفاته لكان هذا كافيا لإحراقه. وهو عالم ينظر إلى الاجتماع نظرة مادية محضة. ثم هو مخلص أشد الإخلاص في تفكيره؛ إذ هو لا يعرف المداعبة في الغيبيات العلمية التي يخرق فيها العلماء مثل «جينس» أو «إدينجتون» ويهيمون في خلالها. ولا هو يستطيع أن يداهن الوطنيين الإنجليز بكلمة مديح عن تاريخهم أو إمبراطوريتهم؛ إذ هو يصرح بأن هذه الإمبراطورية تعوق التقدم في العالم، وأنه ليس هناك أي مبرر لأن تغتال بريطانيا الهند أو مصر.
ثم هناك مفكر آخر من رجال الذهن هو «هافلوك أليس» فإنه اختص منذ أكثر من ثلاثين سنة بدرس التناسليات، فأشاع على هذا الموضوع فيضا من الضوء الذي استخلصه من ثقافته العلمية. وهو لا يستطيع الوصول إلى الجمهور، ولكنه يهيئ الخميرة للخاصة من الأدباء والصحفيين الذين يعلمون هذا الجمهور. ولا يمكن لإنسان يقرأ مؤلفات هذا الرجل إلا أن يتأثر بها.
وكل من «برتراند روسل» و«هافلوك أليس» يدعو إلى التمتع بالحياة، وإلى أن يعيش الإنسان ملء حياته، فلا يقتر على نفسه ولا ينكر عليها لذة الذهن أو لذة العواطف. وكل منهما يعد من هذه الناحية الوارث الشرعي لدعوة النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر ، فإن هذه النهضة هي في لبابها، وصميم الغاية التي نشدتها، دعوة إلى التمتع بالدنيا على حساب الآخرة والإكبار من شأن الجسم على حساب الروح. ومن ذلك العصر إلى الآن، والتجديد في أوروبا سواء أكان في الأدب أو الفنون يتجه هذا الاتجاه. وعلينا نحن «الشرقيين» أن نعرف ذلك وندركه حق الإدراك كلما أردنا أن ندرس ثقافة أوروبا، أو مزاجها الأدبي، أو المقصود من حركاتها التجديدية. وقد نكره نحن هذه النزعات، وليس شك أن فيها كثيرا مما يكره، ولكن يجب ألا نخدع أنفسنا عن حقيقتها فنتوهم أنها غير ما تبدو لنا.
هافلوك أليس.
ومن رجال الذهن الذين أثروا أثرا غير صغير في التفكير الإنجليزي القسيس «إنج»، فإن هذا القسيس يرتئي من الآراء ما لو أعلن هنا في بلادنا لعد إلحادا أو كفرا. ولكنه مع ذلك يحتفظ بمنصبه في الكنيسة الإنجليزية، وهو منصب سام. وهذا برهان على مدى الحرية التي يتمتع بها رجال الدين في إنجلترا. ولم يغب عن ذهننا تلك الثورة الصغيرة التي قام بها أسقف برمنجهام (وهو دكتور في العلوم) حين صرح بأن القربان المقدس في الكنيسة لا يمكن لأحد أن يثبت قداسته بالتحليل الكيماوي. ولا يزال هذا الرجل في منصبه مع ذلك، لا يجد الاحترام فقط بل يجد العطف من الجمهور الحر.
والقسيس «إنج» وأسقف برمنجهام كلاهما يعمل للتجديد في الدين. وينتشر منهما روح الحرية الفكرية إلى الصحف والقسيسين والخطابة. ومن هذه الوسائل الأخيرة ما يبلغ الجمهور فيؤثر فيه. ولكن ذكرنا للقسيس «إنج» ول «برتراند روسل» في فصل واحد قد يوهم القارئ باشتراكهما في الآراء. ولكن الحقيقة أن الفرق بينهما شاسع، وإنما هما يشتركان في النزعة؛ إذ كلاهما مجدد في ميدانه. وميدان الأول هو الاجتماع، وهو ميدان حر، وميدان الثاني هو الدين، وهو كثير العقبات والقيود.
وقبل سنوات ظهر قسيس آخر هو «هيوليت جونسون». وقد ألف عن روسيا كتابا شعبيا بيعت نسخه بمئات الألوف ودعا فيه الإنجليز إلى تأليف حكومة اشتراكية. وقد فسر المسيحية بأنها مذهب اشتراكي.
وللمفكرين الأوروبيين أثر آخر في تجديد الفكر الإنجليزي، لا يقل عن أثر المفكرين من الإنجليز أنفسهم، فإن «أدلر» و«فرويد» و«برجسون» و«نيتشه» و«سبنجلر» و«كوهلر» تقرأ مؤلفاتهم بشراهة، بل تؤسس المجلات لدرس مذاهبهم التقدمية والرجعية.
وعلى ذكر المجلات نقول إنها في إنجلترا تزود المفكرين بالمواد الخام للتجديد. وليس في العالم شيء يعمل للتثقيف بين الجمهور مثل المجلات الإنجليزية الأسبوعية، فإنها وإن كان عدد قرائها قليلا تعيش بما تنشر على الناس من آراء سياسية، واجتماعية، وأدبية. وقد نجد في إنجلترا جريدة أحدية؛ أي تصدر يوم الأحد، ولها من القراء مليونان، أو ثلاثة ملايين، ومع ذلك فإنها لا قيمة لها أصلا عندما تبدي رأيا في السياسة أو الأدب، بينما العالم السياسي يهتز اهتزازا إذا كتبت مجلة «إسبكتاتور» أو «نيوستيتسمان» أو «ويك إند» مقالا عن الأحزاب أو إحدى الخطط. وقد لا يزيد قراء إحدى هذه المجلات على عشرة آلاف أو عشرين ألفا.
ولهذه المجلات الأسبوعية تأثير كبير؛ لأن قراءها صفوة الأمة، ولهم النفوذ والسلطان في تقرير الخطط، وتكوين الرأي العام، وتسويغ البدع أو استنكارها. وقد كانت مجلة «النيشن» عقب الحرب (في 1919) قوة كبيرة في يد محررها العظيم «ماسنجهام»؛ فإنه هو الذي أكسب التفكير السياسي في إنجلترا روح التسامح نحو الاشتراكية؛ إذ كان هو نفسه من الأحرار الذين يميلون إلى حزب العمال.
অজানা পৃষ্ঠা