الفصل الأول
آداب العالم في علمه
وفيه اثنا عشر نوعًا
النوع الأول:
أن يقصد العالم بعلمه وجه الله تعالى ولا يقصد به توصلًا إلى غرض دنيوي، كتحصيل مال أو جاه أو شهرة أو سمعة أو تميز عن الأقران ونحو ذلك، ولا يشين علمه وتعليمه بشيء من الطمع في رفق يحصل له من مشتغل عليه بمال أو خدمة أو نحوها، وإن قل وإن كان على صورة الهدية، التي لولا اشتغاله عليه لما أهداها إليه، وكان منصور لا يستعين بأحد يختلف إليه في حاجة، وقال سفيان بن عيينة: كنت قد أوتيت فهم القرآن، فلما قبلت الصرة من أبي جعفر سلبته نسأل الله المسامحة، وينبغي له أن يصحح نيته عند الشروع في كل ما يفيده.
قال أبو مزاحم الخاقاني: قيل لأبي الأحوص حدثنا، فقال: ليت لي نية، فقالوا له: إنك تؤجر، فقال شعرًا:
يمنوني الخير الكثير وليتني ... نجوت كفافًا لا عليّ ولا ليا
وقد صح عن الشافعي ﵀ أنه قال: وددت أن الخلق تعلموا مني هذا العلمِ على أن لا ينسب إلي حرف منه. وقال ﵀: ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة، ووددت إذا ناظرت أحدًا أن يظهر على يديه، وقال: ما كلمت أحدًا قط إلا وددت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ. وعن أبي يوسف ﵀ قال: يا قوم أريدوا بعلمكم الله، فإني لم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أعلوهم، إلا لم أقم حتى أفتضح.
الثاني:
دوام مراقبة الله تعالى في السر والعلانية، والمحافظة على خوفه في جميع حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله، فإنه أمين على ما أودع من العلوم، وما منح من الحواس والفهوم. قال الله تعالى: (لا تخوَنوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) . وقال تعالى: (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشونِ) .
قال الشافعي: ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع، وعليه بدوام السكينة والوقار والخشوع والورع والتواضع والخضوع.
ومما كتب مالك إلى الرشيد: إذا علمت علمًا فلْيُرَ عليك أثره، وسكينته وسمته، ووقاره، وحلمه. لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: العلماء ورثة الأنبياء.
وقال عمر: تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار وعن أبي هريرة مرفوعًا: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة. وتواضعوا لمن تعلمون منه. رواه الطبراني في الأوسط. وعن السلف ﵏: حق على العالم أن يتواضع لله، في سره وعلانيته ويحترس من نفسه ويقف عما أشكل عليه.
الثالث:
أن يصون العلم كما صانه علماء السلف، ويقوم له بما جعله الله تعالى له من العزة والشرف، فلا يدنسه بالأطماع، ولا يذله بذهابه ومشيه إلى غير أهله من أبناء الدنيا من غير ضرورة أو حاجة أكيدة، ولا إلى من يتعلمه منه منهم، وإن عظم شأنه وكبر قدره وسلطانه.
قال الزهري: هو أن بالعلم أن يحمله العالم إلى بيت المتعلم. وقال مالك بن أنس للمهدي وقد استدعاه لولديه يعلمهما: العلم أولى أن يوقر ويؤتى، وفي رواية: العلم يزار ولا يزور ويؤتى ولا يأتي. وفي رواية: أدركت أهل العلم يؤتون ولا يأتون، ويروى عنه أيضًا أنه قال: دخلت على هارون الرشيد فقال يا أبا عبد الله: ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبياننا منك الموطأ، قال: فقلت أعزك الله أن هذا العلم منكم خرج، فإن أنتم أعززتموه عز، وإن أذللتموه ذلَّ والعلم يؤتى ولا يأتي فقال: صدقت اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا من سمع الناس.
1 / 1
ويروى أن الرشيد سأله هل لك دار؟ فقال: لا. فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال: اشتر بها دارًا، فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق قال لمالك: ينبغي لك أن تخرج معنا فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان الناس على القرآن، فقال له: أما حما، الناس على الموَطأ فليس إلى ذلك سبيل، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم افترقوا بعده في الأمصار، فحدثوا فعند أهل كل مصر علم. وقد قال صلى الله عِليه وعلى آله وسلم: اختلاف أمتي رحمة، وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد، وهذه دنانيركم كما هي أن شئتم فخذوها، وإن شئتم فدعوها، يعني أنك إنما حملتني على مفارقة المدينة بما اصطنعت لدي فلا أوثر الدنيا على الأخرى، وأخرج الخطيب البغدادي في الجامع عن مقاتل بن صالح الحميدي قال: دخلت على حماد بن سلمة فبينما أنا عنده إذ دق رسول محمد بن سليمان فدخل فسلم وناوله كتابه فقال: أقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة.
أما بعد فصبحك اللهّ بما صبح به أولياءه وأهل طاعته وقعت مسألة فأتنا نسألك عنها، فقال لي: اقلب الكتاب واكتب: أما بعد وأنت صبحك اللهّ بما صبح به أولياءه وأهل طاعِته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدًا، فإن وقعت مسألة فأتنا فاسألنا عما بدا لك، وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجالك فلا أنصحك ولا أنصح نفسي، والسلام.
فبينما أنا عنده جالس إذ دق داق الباب فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا؟ قالت: هذا محمد بن سليمان، قال: قولي له يدخل وحده، فدخل فسلم ثم جلس بين يديه، ثم ابتدأ فقال: مالي إذا نظرت إليك امتلأت رعبًا، فقال حماد سمعت ثابتًا البناني يقول: سمعت انس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: أن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء. فقال: ما تقول يرحمك الله؟ وذكر مسألته وجوابها، ثم قال وحاجة إليك قال: ما لم تكن رزية في دين، قال: أربعون ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه، قال: أرددها على من ظلمته بها قال: والله ما أعطيتك إلا ما ورثته قال: لا حاجة لي فيها، ازوها عني زوى الله عنك أوزارك، قال فغير هذا، قال: هات ما لم يكن رزية في دين، قال: تأخذها فتقسمها، قال: فلعلي أن عدلت في قسمتها أن يقول بعض من لم يرزق منها أنه لم يعدل في قسمتها فيأثم، إزوها عني، زوى الله عنك أوزارك.
وسيأتي في الفصل الخامس ما اتفق لبعض أولاد المهدي العباسي مع شريك.
وأخبار السلف في هذا الباب كثيرة شهيرة. فإن دعت حاجة أو ضرورة إلى شيء من ذلك، واقتضته مصلحة دينية راجحة على مفسدة بذله وحسنت فيه نية صالحة فلا بأس به، وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض السلف من المشي إلى الملوك وولاة الأمر، كالشافعي وغيره، لا على أنهم قصدوا بذلك فضول الأغراض الدنيوية، وكذلك إذا كان المأتي إليه من العلم والزهد في المنزلة العلية والمحل الرفيع، فلا بأس بالتردد إليه لإفادته، فقد كان سفيان الثوري يمشي إلى إبراهيم بن أدهم ويفيده، وكان أبو عبيد يمشي إلى علي بن المديني يسمعه غريب الحديث.
الرابع:
أن يتخلق بما حث الشرع عليه من الزهد في الدنيا والتقلل منها بقدر الإمكان، فإن ما يحتاج إليه منها على الوجه المعتدل من القناعة لا يعد من الدنيا، وأقل درجات العالم أن يستقذر المعلق بالدنيا ولا يبالي بفواتها، لأنه أعلم الناس بخسّتها، وفتنتها، وسرعة زوالها، وكثرة عنائها، وقلة غنائها.
وعن الشافعي ﵀: لو أوصى لأعقل الناس صرف إلى الزهاد، فمن أحق من العلماء بزيادة العقل وكماله. وقال يحيى بن معاذ: لو كانت الدنيا تبرًا يفنى والآخرة خزفًا يبقى، لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني، فكيف والدنيا خزف فانٍ والآخرة تبر باق. وعليه بالسخاء والجود على حسب الوجود.
الخامس:
1 / 2
أن يتنزه عن دنيء المكاسب ورذيلها طبعًا، وعن مكروهها عادة وشرعًا، كالحجامة والدباغة والصرف والصياغة، ويتجنب مواضع التهم وأن بعدت، ولا يقيل شيئًا يتضمن نقص مروة، وما يستنكر ظاهرًا وإن كان جائزًا باطنًا فإنه يعرض نفسه للتهمة، وعرضه للوقيعة، ويوقع الناس في الظنون المكروهة، وثم الوقيعة. فإن اتفق وقوع شيء من ذلك منه لحاجة أو نحوها، أخبر من شاهده بحكمه، وبعذره ومقصوده، كيلا يأثم من رآه بسببه، أو ينفر عِنه فلا ينتفع بعلمه ولا يستفيد بذلك الجاهل به. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للرجلين لما رأياه يتحدث مع صفية: فوليا على رسلكما إنها صفية، ثم قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا، وفي رواية: فتهلكا.
السادس:
أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام، وظواهر الأحكام، كإقامة الصلوات ومساجد الجماعات، وإنشاء السلام، للخواص والعوام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى بسبب ذلك صادعًا بالحق عند السلاطين، باذلًا نفسه لله لا يخاف فيه لومة لائم، ذاكرًا قوله تعالى: (واصبر على ما أصابك أن ذلك من عزم الأمور) .
وما كان رسول الله صلى اللهّ عليه وعلى آله وسلم، وغيره من الأنبياء عليه من الصبر على الأذى، وما كانوا يتحملونه في الله تعالى حتى كان لهم العقبى. وكذلك القيام بإظهار السنن، وإخمال البدع، والقيام لله في أمور الدين، وما فيه من مصالح المسلمين على الطريق المشروع، والمسلك المطبوع، ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها، فإن العلماء هم القدوة وإليهم المرجع في الأحكام، وهم حجة الله تعالى على العوام، وقد يراقبهم للأخذ عنهم من لا ينظرون، ويقتدي بهديهم من لا يعلمون، وإذا لم ينتفع العالم بعلمه فغيره أبعد من الانتفاع به، كما سبق من قول الشافعي ﵀. ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع. ولهذا عظمت زلة العالم لما يترتب عليها من المفاسد لاقتداء الناس به.
السابع:
أن يحافظ على المندوبات الشرعية؛ القولية والفعلية، ولبالغ في ما يتضمن إجلال صاحب الشريعة النبوية، وتعظيمه واتباعه صلى اللهّ عليه وعلى آله وسلم، فيلازم تلاوة القرآن، وذكر الله تعالى بالقلب واللسان، وكذلك ما ورد من الدعوات والأذكار في إناء الليل والنهار، ومن نوافل العبادات من الصلاة والصيام، وحج البيت الحرام، والصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن محبته وإجلاله وتعظيمه واجب، والأدب عند سماع اسمه وذكر سنته مطلوب وسنة. وكان في الصادق بن محمد الباقر ﵉، إذا ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند: اصفرّ لوَنه، وكان مالك ﵀ إذا ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتغير لونه وينحني. وكان ابن القاسم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجف لسانه في فيه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم. وينبغي له إذا تلا القرآن أن يتفكّر في معانيه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، والوقوف عند حدوده. وليحذر من نسيانه بعد حفظه فقد ورد في الأخبار النبوية ما يزجر عِن ذلك.
والأولى أن يكون له منه في كل يوم ورد راتب لا يخل به، فإن غاب عليه فيوم ويوم، فإن عجز ففي ليلتي الاثنين والجمعة. وقراءة القرآن في كل سبعة أيام ورد حسن. ورد في الحديث عمل به أحمد ابن حنبل، ويقال من قرأ من القرآن في كل سبعة أيام لم ينسه قط. وينبغي له أن يستعمل الرخص في مواضعها عند الحاجة إليها، ووجود سببها ليقتدي به نجيها، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
الثامن:
معاملة الناس بمكارم الأخلاق، من طلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وكظم الغيظ، وكف الأذى عن الناس، والاحتمال منهم والإيثار وترك الاستيثار، والأنصاف، وترك الأستنصاف، وشكر الفضل، والسعي في قضاء الحاجات، وبذل الجاه في الشفاعات والتلطف بالفقراء والتحبب إلى الجيران والأقرباء والرفق بالطلبة وإعانتهم وبرهم، كما سيأتي أن شاء الله تعالى، وإذا رأى من لا يقيم صلاته أو طهارته أو شيئًا من الواجبات عليه، أرشده بتلطف ورفق، كما فعل صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد، ومع معاوية بن الحكم في الصلاة.
1 / 3
التاسع:
أن يطهر باطنه وظاهره من الأخلاق الردية، ويعمره بالأخلاق المرضية، فمن الأخلاق الردية الغل، والحسد، والبغي، والغضب لغير الله تعالى، والغش، والكبر، والرياء والعجب، والسمعة، والبخل، والجبن والبطر والطمع، والفخر، والخيلاء، والتنافس في الدنيا، والمباهاة فيها، والمداهنَّة والتزين للناس، وحب المدح بما لم يفعل، والعمى عن عيوب النفس، والاشتغال عنها بعيوب الخلق، والحمية، والعصبية لغير الله، والرغبة والرهبة لغيره، والغيبة، والنميمة، والبهتان، والكذب، والفحش في القول، واحتقار الناس ولو كانوا دونه، فالحذر الحذر، من هذه الصفات الخبيثة، والأخلاق الرذيلة، فإنها باب كل شر، بل ير الشر كله. وقد بلي بعض فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات، إلا من عصم الله تعالى ولا سيما الحسد، والعجب والرياء واحتقار الناس. وأدوية هذه الأربعة في كتب الزهد، ومن أنفعها التصفية للإمام يحيى بن حمزة ﵇، وكنز الرشاد للإمام عز الدين، ومن أخصرها تكملة الأحكام. ومن أدوية الحسد، الفكر في أنه اعتراض على الله تعالى في حكمته المقتضية تخصيص المحسود بالنعمة، مع أنه محض ضرر على الحاسد يجلب له الغم، وتعب القلب، وتعذيبه بما لا ضرر فيه، على المحسود. ومن أدوية العجب، تذكر أن علمه وفهمه وجودة ذهنه وفصاحته وغير ذلك من النعم، فضل من الله عليه، وأمانة عنده ليرعاها حق رعايتها، وأن العجب بها كفران لنعمتها فيعرضها للزوال، لأن معطيه إياها قادر على سلبها منه في طرفة عين: (وما ذلك على الله بعِزيز)، (فأمنوا مكر الله) . ومن أدوية الرياء الفكر في أن الخلق كلهم لا يقدرون على نفعه وضرره، فلم يحبط عمله ويضر دينه ويشغل نفسه بمراعاة من لا يملك له في الحقيقة نفعًا ولا ضرًا مع أن الله تعالى يطلعهم على نيته، وقبح سريرته. كما صح في الحديث، من سمع سمع الله به، ومن رأيا رأيا الله به. ومن أدوية احتقار الناس، تدبر قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم) الآية، (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، أن أكرمكم عند الله أتقاكم، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) . وربما كان المحتقر أطهر عند الله قلبًا وأزكى عملًا، وأخلص نية كما قيل: أن اللهّ تعالى أخفى ثلاثة في ثلاثة، وليه في عباده، ورضاه في طاعته، وغضبه في معصيته، مع أن احتقار عباد الله مجرد خسران يورث الذل لفاعله.
وفي خبر للحارث بن معاوية: أنه سأل عمر عن القصص، وأن عمر قال له أخشى عليك أن تقص فترتفع في نفسك، ثم تقص فترتفع في نفسك، حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا فيضك الله تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك. رواه الإمام أحمد، والحارث ابن معاوية وثقه ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح.
ومن الأخلاق المرضية دوام التوبة، والإخلاص، واليقين، والتقوى، والصبر، والرضى، والقناعة، والزهد، والتوكل، والتفويض، وسلامة الباطن، وحسن الظن، والتجاوز، وحسن الخلق، ورؤية الإحسان، وشكر النعمة، والشفقة على خلق الله والحياء من الله ومن الناس. ومحبة الله تعالى هي الخصلة الجامعة لمحاسن الصفات. وإنما يتحقق بمتابعة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (قل أن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) .
العاشر:
دوام الحرص على الازدياد بملازمة الجد والاجتهاد؛ والمواظبة على وظائف الأوراد عبادة وقراءة وافرة ومطالعة وفكرًا وتعليقًا وحفظًا، وتصنيفًا وبحثًا ولا يضيع شيئًا من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم والعمل إلا بقدر الضرورة من أكل، أو شرب، أو نوم، أو استراحة لملل، أو أداء حق زوجة، أو زائر، أو تحصيل قوت وغيره، مما يحتاج إليه أولاده أو غيره، مما يتعذر معه الاشتغال، فإن بقية عمر المؤمن لا قيمة لها. ومن استوى يوماه فهو مغبون.
وقال المزني سمعت الشافعي يقول: سُئل بعض السلف، ما بلغ من اشتغالك بالعلم؟ قال: هو سلوتي إذا اهتممت، ولذتي إذا سلوت. قال: وأنشدني الشافعي لنفسه:
وما أنا بالغيران من دون أهله ... إذا أنا لم أضح غيورًا على علمي
طبيب فؤادي مذ ثلاثين حجة ... وصيقل ذهني والمفرج عن همي
1 / 4
وكان بعضهم لا يترك الاشتغال لعروض مرض خفيف، وألم لطيف، بل كان يستشفي بالعلم ويشتغل بقدر الإمكان. وذلك لأن درجة العلم درجة وراثة الأنبياء، ولا تنال المعالي إلا بشق الأنفس. وفي صحيح مسلم عن يحيى بن أبي كثير، قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم، وفي الحديث: جفت الجنة بالمكاره وقد قيل:
تريدين إدراك المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل
وكما قيل:
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكلة ... لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وقال الشافعي ﵀: حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من العلم، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في إدراك علمه نصًا واستنباطًا، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه.
وقال الربيع: لم أر الشافعي آكلًا بنهار ولا نائمًا بليل لاشتغاله بالتصنيف، ومع ذلك فلا يحمل نفسه من ذلك فوق طاقتها كيلا تسأم ويمل، فربما نفرت نفرة لا يمكنه تداركها، بل يكون أمره في ذلك قصدًا، وكل إنسان أبصر بنفسه.
الحادي عشر:
أن لا يستنكف أن يستفيد ما لا يعلمه ممن دونه منصبًا، أو نسبًا، أو سنًا، بل يكون حريصًا على الفائدة حيث كانت. الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها. قال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالمًا ما تعلم فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون. وأنشد بعض العرب:
وليس العمى طول السؤال وإنما ... تمام العمى طول السكوت على الجهل
وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم ما ليس عندهم.
قال الحميدي وهو تلميذ الشافعي: صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد مني الحديث. وقال أحمد بن حنبل، قال لنا الشافعي: أنتم أعلم بالحديث مني، فإذا صح عندكم الحديث فقولوا لنا حتى نأخذ به. وصحت رواية جماعة من الصحابة عن التابعين. وأبلغ من ذلك كله، قراءة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أبي وقال: أمرني الله أن أقرا عليك لم يكن الذين كفروا. قالوا: من فوائده أن لا يمتنع الفاضل من الأخذ عن المفضول.
الثاني عشر:
الاشتغال بالتصنَّيف والجمع والتأليف، لكن مع تمام الفضيلة وكمال الأهلية فإنه يطلع على حقائق الفنون ودقائق العلوم للاحتياج إلى كثرة التفتيش والمطالعة والتنقيب والمراجعة، وهو كما قال الخطيب البغدادي: يثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويجيد البيان، وبكسب جميل الذكر وجزيل الأجر، ويخلده إلى آخر الدهر، كما قيل:
يموَت قوَم فيحيى العلم ذكرهم ... والجهل يلحق أمواتًا بأموات
وقال بعضهم: علم الإنسان ولده المخلد.
قال أبو الفتح علي بن محمد البستي:
يقولون ذكر المرء يبقى بنسله ... وليس له ذكر إذا لم يكن نسل
فقلت لهم نسلي بدائع حكمتي ... فمن سره نسل فإنا بذا نسلو
الأولى أن يعتني بما يعم نفعه وتكثر الحاجة إليه، وليكن اعتناؤه بما لم يسبق إلى تصنيفه، بأن لا يكن ثم ما يغني عن تصنيفه في جميع أساليبه، وليتحر إيضاح العبارة في تأليفه معرضًا عن التطويل الممل، والإيجاز المخل، مع إعطاء كل مصنف ما يليق به ولا يخرج تصنيفه من يده قيل تهذيبه وتكرير النظر فيه وترتيبه، ومن الناس من ينكر التصنيف والتأليف في هذا الزمان على من ظهرت أهليته وعرفت معرفته، ولا وجه لهذا الإنكار إلا التنافس من أهل الإعصار ولله در القائل:
قل أن لا يرى المعاصر شيئًا ... وبرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان جديدًا ... وسيبقى هذا الجديد قديما
والمتصرف في مداده وورقه بكتابة ما شاء من أشعار، وحكايات مباحة أو غير ذلك، لا ينكر عليه، فلم إذا تصرف فيه بتسويد ما ينتفع به من علوم الشريعة ينكر ويستهجن، أما من لم يتأهل لذلك فالإنكار عليه متجه لما تضمنه من الجهل وتغرير من يقف على ذلك التصنيف به، ولكونه يضيع زمانه فيما لم يتقنه، ويدع الإتقان الذي هو أحرى به.
الفصل الثاني
في آداب العَالِم في دَرسِه
وفيه اثنا عشر نوعًا:
الأول:
1 / 5
إذا عزم على مجلس التدريس تطهر من الحدث، والجنب، وينظف، وتطيب، ولبس من أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل زمانه، قاصدًا بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة. كان مالك ﵀ إذا جاءه الناس لطلب الحديث، أغتسل، وتطيب، ولبس ثيابًا جددًا، ووضع رداءه على رأسه، ثم يجلس على منصبته، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ؛ وقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وروى الخطيب في الجامع من شعر على ﵁:
أجد الثياب إذا اكتسيت فإنها ... زين الرجال بها تعز وتكرم
دع التواضع في الثياب تحريًا ... فالله يعلم ما تجن وتكتم
فرثاث ثوبك لا يزيدك زلفة ... عند الإله وأنت عبد مجرم
وبهاء ثوبك لا يضرك بعد أن ... تخشى الإله وتتقي ما يحرم
ثم يصلي ركعتي الاستخارة إذا لم يكن وقت كراهة، ويستحب للشخص أن يجعل في كل يوم وقتًا معينًا يصلى فيه صلاة الاستخارة، ويقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم أن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك فيه وانطق به في حقي وفي حق غيري، وجميع ما يتحرك فيه غيري وينطق به في حقي وحق أهلي وولدي وما ملكت يميني، من ساعتي، هذه إلى مثلها من الغد، خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فأقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك فيه وأنطق به في حقي وفي حق غيري، وجميع ما يتحرك فيه غيري في حقي وفي حق أهلي وولدي، وما ملكت يميني من ساعتي هذه إلى مثلها من الغد، شر لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري فاصرفه عني وأصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به. وهذه الكيفية وإن لم تكن في الأحاديث، فهي موافقة لإطلاق ما جاء في الحث على الاستخارة كحديث: " إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة "، الحديث.
وقد كان أهل الجاهلية يستعملون في أمورهم الأستقسام بالأزلام ونحوها، فعوض صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك ما يتضمن التو حيد، والافتقار، والعبودية، والتوكل، وسؤال الرشد والفلاح، ورد الأمر إلى من بيده أزمة الخيرات وإنجاح الطلبات، ثم ينوي نشر العلم وتعليمه، وبث الفوائد الشرعية، وتبليغ أحكام الله تعالى التي ائتمن عليها، وأمر ببيانها والازدياد من العلم، وإظهار الصواب، والرجوع إلى الحق والاجتماع على ذكر الله تعالى والسلام على إخوانه من المسلمين والدعاء للسلف الصالحين.
ويحكى عن بعضهم أنه كان يكتب حتى تكل يده، فيضع القلم ثم ينشد:
لئن كان هذا الدمع يجري صبابةً ... على غير ليلى فهو دمع مضيع
وهذا من باب قوله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يصارعون في الخيرات وهم لها سابقون) . قال الحسن: كانوا يعملون أعمال البر ويحسبون أن لا يتقبل منهم.
الثاني:
1 / 6
إذا خرج من بيته دعا بالدعاء الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم وهو: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزِل أو أزَلّ، أو أظلِمَ أو أظلَم، أو أجهَلَ أو يُجهل علي، عزّ جارك وجلّ ثناؤك، ولا إله غيرك) . ثم يقول: (بسم الله وبالله، حسبي الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم ثبت جناني وادر الحق على لساني)، ويديم ذكر اللهّ تعالى إلى أن يصل إلى مجلس التدريس. فإذا وصل إليه سلم على من حضر وصلى ركعتين، أن لم يكن وقت كراهة، فإن كان مسجدًا تأكدت مطلقًا، ثم يدعو الله تعالى بالتوفيق والإعانة والعصمة، ويجلس مستقبلًا القبلة لحديث أكرم المجالس ما استقبل القبلة. رواه أبو يعلي والطبراني في الأوسط، عن ابن عمر مرفوعًا والطبراني في الكبير عن ابن عباس نحوه مرفوعًا، ويكون بسكينة، ووقار، وتواضع، وخشوع، متربعًا، أو غير ذلك مما لا يكره من الجلسات، ولا يجلس مقعيًا، ولا مستفزًا، ولا رافعًا إحدى رجليه على الأخرى، ولا مادًا رجليه أو إحداهما من غير عذر، ولا متكئًا على يديه إلى جنبه أو وراء ظهره، وليصن بدنه عن الزحف، والتنقل عن مكانه، ويديه عن العبث والتشبيك بهما، وعينيه عن تفريق النظر من غير حاجة، ويتقي المزاح وكثرة الضحك، فإنه يقلل الهيبة، ويسقط الحشمة، كما قيل من مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به. ولا يدرس في وقت جوعه، أو عطشه، أو همه، أو غضبه، أو نعاسه، أو قلقه، ولا في حال برده المؤلم، أو حره المزعج، فربما أجاب أو أفتى بغير الصواب، ولأنه لا يتمكن مع ذلك من استيفاء النظر.
الثالث:
أن يجلس بارزًا لجميع الحاضرين موقرًا فاضلهم بالعلم والسن، والصلاح والشرف. وترفعهم على حسب تقدمهم، في الإمامة، ويتلطف بالباقين، ويكرمهم بحسن السلام، وطلاقة الوجه ومزيد الاحترام، ولا يكره القيام لأكابر أهل الإسلام على سبيل الإكرام، وقد ورد إكرام العلماء وطلبة العلم في نصوص كثيرة، ويلتفت إلى الحاضرين التفاتًا قسطًا بحسب الحاجة، ويخص من يكلمه أو يسأله، أو يبحث معه على الوجه عند ذلك بمزيد التفات إليه وإقبال عليه، وإن كان صغيرًا وضعيفًا، فإن ترك ذلك من أفعال المتجبرين المتكبرين.
الرابع:
أن يقدم على الشروع في البحث والتدريس قراءة شيء من كتأب الله تعالى تبركًا وتيمنًا، وكما هي العادة، فإن كان في مدرسة شرط فيها ذلك أتبع الشرط ويدعو عقيب القراءة لنفسه، وللحاضرين، وسائر المسلمين، ثم يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويسمى الله تعالى ويحمده، ويصلي على النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم، ويترضى عن أئمة المسلمين ومشايخه، ويدعو لنفسه وللحاضرين ووالديهم أجمعين. وهو واقف مكانه إن كان في مدرسة أو نحوها جزاء لحسن فعله وتحصيلًا لقصده.
الخامس:
إذا تعددت الدروس قدم الأشرف فالأشرف، والأهم فالأهم: فيقدم تفسير القرآن، ثم الحديث، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم المذهب، ثم الخلاف، أو النحو أو الجدل، ويصل في درسه ما ينبغي وصله، ويقف في مواضع الوقف، ومنقطع الكلام. ولا يذكر شبهة في الدين في درس ويؤخر الجواب عنها إلى درس آخر، بل يذكرهما جميعًا أو يدعهما جميعًا. وينبغي أن لا يطيل الدرس تطويلًا يمل ولا يقصر تقصيرًا يخل، ويراعي في ذلك مصلحة الحاضرين، ولا يبحث في مقام أو يتكلم في فائدة إلا في موضع ذلك، فلا يقدمه عليه ولا يؤخره إلا لمصلحة تقتضي ذلك وترجحه.
السادس:
أن لا يرفع صوته زائدًا على قدر الحاجة، ولا يخفضه خفضًا لا يحصل معه كمال الفائدة. روى الخطيب في الجامع عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أن الله يحب الصوت الخفيض، ويبغض الصوت الرفيع، والأولى أن لا يجاوز صوته مجلسه، ولا يقصر عن سماع الحاضرين، فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمع، ولا يسرد الكلام سردًا بل يرتله ويرتبه ويتمهل فيه ليفكر فيه هو وسامعه. وقد روي أن كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان فصلًا يفهمه من سمعه، وإن كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا ليفهم عنه، وإذا فرغ من مسالة، أو فصل، سكت قليلًا حتى يتكلم من في نفسه كلام عليه، لأنا سنذكر أن شاء الله في أدب المتعلم أنه لا يقطع على العالم كلامه، فإذا لم يسكت هذه ربما فاتت الفائدة.
السابع:
1 / 7
أن يصون مجلسه عن اللغط، فإن اللغض تحته، وعن رفع الأصوات واختلاف وجهات البحث. قال الربيع: كان الشافعي إذا ناظره إنسان في مسألة فغدا إلى غيرها يقول: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد، ويتلطف في دفع ذلك في مباديه قبل انتشاره وثوران النفوس. ويذكر الحاضرين بما جاء في كراهة المماراة، لا سيما بعد ظهور الحق، وأن مقصود الاجتماع ظهور الحق وصفاء القلوب، وطلب الفائدة. وأنه لا يليق بأهل العلم تعاطي المنافسة والشحناء لأنها سبب العداوة والبغضاء، بل يجب أن يكون الاجتماع ومقصودة خالصًا لله تعالى ليثمر الفائدة في الدنيا والسعادة في الآخرة، ويتذكر قوله تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)، فإنه يفهم أن إرادة إبطال الحق أو تحقيق الباطل صفة إجرام فليحذر منه.
الثامن:
أن يزجر من تعدى في بحثه، أو ظهر منه لدد وسوء أدب، أو ترك إنصاف بعد ظهور الحق، أو أكثر الصياح بغير فائدة، أو أساء أدبه على غيره من الحاضرين أو الغائبين، أو ترفع في المجلس على من هو أولى منه، أو نام أو تحدث مع غيره أو ضحك، أو استهزأ بأحد من الحاضرين، أو فعل ما يخل بأدب الطلب في الحلقة، وسيأتي تفصيل هذا كله - أن شاء الله تعالى - بشرط أن لا يترتب على ذلك مفسدة تربو عليه. وينبغي أن يكون له نقيب فطن كيس درب يرتب الحاضرين، ومن يدخل عليهم على قدر منازلهم، ويوقظ النائم، ويشير إلى من ترك ما ينبغي أو فعل ما ينبغي تركه ويأمر بسماع الدروس والإنصات لها.
التاسع:
أن يلازم الِإنصاف في بحثه وخطابه، ويسمع السؤال من مورده على وجهه وإن كان صغيرًا، ولا يترفع عن سماعه فيحرم الفائدة، وإذا عجز السائل عن تقرير ما أورده أو تحرير العبارة فيه لحياء أو قصور، ووقع على المعنى عبر عن مراده، وبين وجه إيراده ورد على من رد عليه، ثم يجيب بما عنده أو يطلب ذلك من غيره، ويقصد بكلامه النصح والإرشاد وطلب النجاة، وما يعود نفعه على الكل، ويكلم كل أحد على قدر عقله وفهمه، فيجيب بما يحتمله حال السائل، ويتروى فيما يجيب به، وإذا سئل عما لم يعلمه قال: لا أعلم أو لا أدري فمن العلم أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم، أو الله اعلمِ، فقد قال ابن مسعود ﵁: يا أيها الناس من علم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله اعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. وعن بعضهم: لا أدري نصف العلم.
وعن ابن عباس: إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وقيل: ينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري لكثرة ما يقولها. واعلم أن قول المسؤول ما أدري لا يضيع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، لأن المتمكن لا يضره عدم معرفة بعض المسائل، بل يرفعه قوله لا أدري، لأنه دليل على عظم محله، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته، وحسن تثبته.
وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف، وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته، وقلت معرفته، لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، ولا يخاف من سقوطه من نظر رب العالمين، وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشتهر خطؤه بين الناس، فيقع فيما فر منه ويتصف عندهم بما احترز عنه. وقد أدب الله تعالى العلماء بقضية موسى مع الخضر ﵉، حين لم يرد موسى العلم إلى الله ﷿، لما سئل هل أحد في الأرض أعلم منك؟
العاشر:
أن يتودد لغريب حضر عنده ويبسط له لينشرح صدره، فإن للقادم دهشة، ولا يكثر الالتفات والنظر إليه استغرابًا له، فإن ذلك يخجله، وإذا أقيل بعض الفضلاء وقد شرع في مسألة امسك عنها حتى يجلس، وإن جاء وهو يبحث في مسألة أعادها له أو مقصودها، وإذا أقبل فقيه وقد بقي لفراغه وقيام الجماعة بقدر ما يصل الفقيه إلى المجلس، فليؤخر تلك البقية ويشتغل عنها ببحث أو غيره إلى أن يجلس الفقيه، ثم يعيدها أو يتم تلك البقية كيلا يخجل المقبل بقيامهم عند جلوسه.
الحادي عشر:
1 / 8
جرت العادة أن يقول المدرس عند ختم كل درس: والله أعلم، كذلك يكتب المفتي بعد كتابة الجواب، لكن الأولى أن يقال قبل ذلك كلام يشعر بختم الدرس كقوله: وهذا آخره أو ما بعده يأتي أن شاء الله تعالى ونحو ذلك، ليكون قوله والله أعلم خالصًا لذكر الله تعالى ولقصد معناه. ولهذا ينبغي أن يستفتح كل درس ببسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله، كما يستفتح جواب الفتيا بذلك ليكون ذاكرًا لله تعاطا في بدأته وخاتمته.
والأولى للمدرس أن يمكث قليلًا بعد قيام الجماعة فإن فيه فوائد وآدابًا له ولهم، منها عدم مزاحمتهم، ومنها أن كان في نفس أحدهم بقايا سؤال سأله، ومنها عدم ركوبه بينهم أن كان يركب وغير ذلك. ويستحب إذا قام أن يدعو بما ورد به الحديث، سبحانك اللهّ، اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
الثاني عشر:
أن لا ينتصب للدرس إذا لم يكن أهلًا له، ولا يذكر الدرس من علم لا يعرفه، فإن ذلك لعبًا في الدين وازدراء بين الناس. قال النبي صلى اللهّ عليه وعلى آله وسلم: المتشبع بما لم يعط، كلابس ثوب زور، وعن الشبلي: من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه. وعن أبي حنيفة ﵀: من طلب الرياسة في غير حينه، لم يزل في ذل ما بقي، واللبيب من صان نفسه عن تعرضها لما يعد فيه ناقصًا وبتعاطيه ظالمًا وبإصراره فاسقًا، فإنه متى لم يكن أهلًا استهزئ بحاله وانتقص به، ولا يرضى ذلك لنفسه أريب ولا يتعاطاه مع الغنا عنه لبيب. وأقل مفاسد ذلك أن الحاضرين يفقدون الإنصاف لعدم من يرجعون إليه عند الاختلاف، لأن رب الصدر لا يعرف المصيب فينصره، أو المخطئ فيزجره. وقيل لأبي حنيفة ﵁: في المسجد حلقة ينظرون في الفقه؛ فقال الَهُمْ رأس؟ قالوا: لا، قال: لا يفقه هؤلاء أبدًا. ولبعضهم في تدريس من لا يصلح:
تصدر للتدريس كل مهوس ... جهول ليسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس
الفصل الثالث
في آداب العَالِم مع طَلَبتِه
وهو أربعة عشر نوعًا: الأول: أن يقصد بتعليمهم وتهذيبهم وجه الله تعالى، ونشر العلم، وإحياء الشرع، ودوام ظهور الحق، وخمول الباطل، ودوام خير الأمة بكثرة علمائها، واغتنام ثوابهم، وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه من بعدهم وبركه دعائهم له، وترحمهم عليه، ودخوله في سلسلة العلم، بين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبينهم، وعداده في جملة مبلغي وحي الله وأحكامه، فإن تعليمه العلم من أهم أمور الدين، وأعلى درجات المؤمنين على ما سبق إيضاحه. أولًا: نعوذ بالله من قواطعه ومكدراته وموجبات حرمانه وفواته.
الثاني: أن لا يمتنع من تعليم الطالب لعدم خلوص نيته، فإنه يرجى له حسن النية، وربما عسر في كثير من المبتدين، تصحيح النية لضعف نفوسهم، وقلة أنسهم بموجبات تصحيح النية، والامتناع من تعليمهم، يؤدي إلى تفويت كثير من العلم، مع أنه يرجى ببركة العلم تصحيحها إذا انس بالعلم. وقد قالوا: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، معناه كانت عاقبته أن صار لله وينبغي للشيخ أن يحرض المبتدئ على حسن النية بتدريج، وبعلمه بعد أنسه به أنه ببركة حسن النية ينال الرتبة العالية من العلم، والعمل، أو اللطف، وأنواع الحكم، وتنوير القلب، وانشراح الصدر، وتوفيق العزم، وإصابة الحق، وحسن الحال، والتسديد في المقال، وعلو الدرجات.
1 / 9
الثالث: أن يرغبه في العلم وطلبه في أكثر الأوقات بذكر ما أعد الله تعالى للعلماء من منازل الكرامات، وأنهم ورثة الأنبياء، وعلى منابر من نور، ونحو ذلك مما ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات والأخبار، والآثار، والأشعار. ويرغبه مع ذلك بتدريج على ما يعين على تحصيله من الاقتصار على الميسور، وقدر الكفاية من الدنيا، والقناعة بذلك عن شغل القلب بالتعلق بها، وغلبة الفكر وتفريق الهم بسببها، فإن انصراف القلب عن تعلق الأطماع بالدنيا، والإكثار منها والتأسف على فائتها، أجمع لهمه، وأروح ليسره، وأشرف لنفسه، وأعلى لمكانته وأقل لحساده وأجدر بحفظ العلم وازدياده. ولذلك قل من نال من العلم نصيبًا وافرًا إلا من كان في مبادئ تحصيله على ما ذكرت من الفقر والقناعة والإعراض عن طلب الدنيا وعرضها الفاني. وسيأتي في أدب المتعلم أكثر من هذا أن شاء الله تعالى.
الرابع: أن يحب لطالبه ما يحب لنفسه، كما جاء في الحديث، ويكره له ما يكره لنفسه. وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب ويعامله بما يعامل به اعز أولاده من الحنو والشفقة عليه، والإحسان إليه، والصبر على جفاء ربما وقع منه ونقص لا يكاد الإنسان يخلو عنه، وسوء أدب في بعض الأحيان. ويبسط عذره بحسب الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما يصدر منه، بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف، قاصدًا بذلك حسن تربيته، وتحسين خلقه، وإصلاح شأنه فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة، فلا حاجة إلى صريح العبارة، وإن لم يفهم ذلك إلا بصريحها أتي به وراعى التدريج في التلطف، ويؤديه بالآداب السنية ويحرضه على الأخلاق المرضية، ويوصيه بالأمور العرفية الموافقة للأوضاع الشرعية.
الخامس: أن يسمح له بسهولة الإلقاء في تعليمه، وحسن التلطف في تفهيمه، لا سيما إذا كان أهلًا لذلك، بحسن أدبه وجودة طلبه ويحرضه على ضبط الفوائد وحفظ النوادر والفرائد، ولا يدخر عنه من أنواع العلوم، وما يسأله عنه وهو أهل له، لأن ذلك ربما يوحش الصدر، وينفر القلب، ويؤرث الو حشة، وكذلك لا يلقي إليه ما لم يتأهل له، لأن ذلك يبدد ذهنه ويعوق فهمه، فإن سأله الطالب شيئًا من ذلك لم يجبه، ويعرفه أن ذلك يضره ولا ينفعه، وإن منعه إياه شفقة عليه ولطفًا به، لا يخل عليه ثم يرغبه عند ذلك في الاجتهاد والتحصيل، ليتأهل لذلك وغيره.
السادس: أن يحرض على تعليمه وتفهيمه ببذل جهده وتقريب المعنى له من غير إكثار لا يحتمله ذهنه، أو بسط لا يضبطه حفظه، ويوضح لمتوقف الذهن العبارة، ويحتسب إعادة الشرح له، وتكراره، ويبدأ بتصوير المسائل وتوضيحها بالأمثلة وذكر الدلائل، ويقتصر على تصوير المسألة وتمثيلها لمن لم يتأهل لفهم مأخذها ودليلها، وبذكر الأدلة والمآخذ لمحتملها، ويبين له معاني أسرار حكمها وعللها، وما يتعلق بتلك المسألة، من فرع وأصل، ومن وهم فيها في حكم، أو تخريج، أو نقل بعبارة حسنة لم لأداء بعيدة عن تنقيص أحد من العلماء. ولا يمتنع من ذكر لفظة يستحيا من ذكرها عادة إذا احتيج إليها، ولم يتم التوضيح إلا بذكرها، فإن كانت الكناية تفيد معناها، وتحصيل مقتضاها تحصيلًا بينًا لم يصرح بذكره، بل يكتفي بالكتابة عِنها، وكذلك إذا كان في المجلس من لا يليق ذكرها بحضوره لحيائه أو لخفائه، فيكنى عن تلك اللفظة، ولهذه المعاني واختلاف الحال ورد في حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم التصريح تارة والكناية أخرى.
السابع: إذا فرغ الشيخ من شرح درس، فلا بأس بطرح مسائل تتعلق به على الطلبة، يمتحن بها فهمهم وضبطهم لما شرح لهم، فمن طهر استحكام فهمه له بتكرار الإصابة في جوابه شكره، ومن لم يفهمه تلطف في إعادته له، والمعنى بطرح المسائل أن الطالب ربما استحيا من قوله: لم أفهم، إما لرفع كلفة الإعادة عن الشيخ، أو لضيق الوقت، أو حياء من الحاضرين، أو كيلا تتأخر قراءتهم بسببه. وقيل لا ينبغي للشيخ أن يقول للطالب: هل فهمت؟ إلا إذا أمن من قوله: نعم، قبل أن يفهم، فإن لم يأمن من كذبه لحياء أو غيره، فلا يسأله عن فهمه، لأنه ربما وقع في الكذب بقوله: نعم، لما قلناه من الأسباب. وينبغي للشيخ أن يأمر الطلبة بالمرافقة في الدروس كما سيأتي أن شاء الله تعالى، وبإعادة الشرح بعد فراغه فيما بينهم ليثبت في أذهانهم، ويرسخ في أفهامهم، ولأنه يحثهم على استعمال الفكر، ومؤاخذة النفس بطلب التحقيق.
1 / 10
الثامن: أن يطالب الطلبة في بعض الأوقات بإعادة المحفوظات، ويمتحن ضبطهم لما قدم لمم من القواعد المهمة، والمسائل الغريبة، ويختبرهم بمسائل تبنى على أصل قرره أو دليل ذكره، فمن رآه مصيبًا في الجواب ولم يخف عليه شدة الإعجاب، شكره وأثنى عليه بين أصحابه ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد، ومن رآه مقصرًا ولم يخف نفوره، عنفه على قصوره، وحرضه على علو الهمة، ونيل المنزلة في طلب العلم، لا سيما إذا كان ممن يزيده التعنيف نشاطًا، والشكر انبساطًا، ويعيد ما يقتضي الحال إعادته ليفهمه الطالب فهمًا سخًا التاسع: إذا سلك الطالب فوق ما يقتضيه حاله، أو تحملته طاقته، وخاف الشيخ ضجره، أوصاه بالرفق بنفسه، وذكره بقول النبيِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى، ونحو ذلك مما يحمله على الأناة والاقتصار في الاجتهاد، وكذلك إذا ظهر له منه نوع سآمة، أو ضجر، أو مبادئ ذلك، أمره بالراحة وتخفيف الاشتغال، ولا يشير على الطالب بتعلم ما لا يحتمله فهمه أو سنه، ولا بكتاب يقصر ذهنه عن فهمه، فإن استشار الشيخ من لا يعرف حاله في الفهم والحفظ في قراءة فن أو كتاب، لم يشر عليه بشيء حتى يجرب ذهنه، ويعلم حاله، فإن لم يحتمل الحال التأخير أشار عليه بكتاب سهل من الفن المطلوب، فإن رأى ذهنه قابلًا، وفهمه جيدًا، نقله إلى كتاب يليق بذهنه، وإلا تركه، وذلك لأن نقل الطالب إلى ما يدل نقله إليه على جودة ذهنه يزيد انبساطه، وإلى ما يدل على قصوره يقلل نشاطه، ولا يمكن الطالب من الاشتغال في فنين أو اكثر، إذا لم يضبطهما، بل يقدم الأهم، فالأهم، كما سنذكره أن شاء الله تعالى، فإذا علم أو غلب على ظنه أنه لا يفلح في فن، أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فيه فلاحه.
العاشر: أن يذكر للطلبة قواعد الفن التي لا تنخرم، إما مطلقًا كتقديم المباشرة على السبب في الضمان، أو غالبًا كاليمين على المدعى عليه، إذا لم تكن بينة، ونحو ذلك من القواعد، وكذلك كل أصل وما ينبني عليه من كل فن يحتاج إليه من علمي التفسير والحديث، وأبواب أصول الدين والفقه، والنحو والتصريف واللغة، ونحو ذلك إما بقراءة كتاب من الفن أو بتدريج وهذا كله إذا كان الشيخ عارفًا بتلك الفنون، وإلا فلا يتعرض لها، بل يقتصر على ما يتقنه منها، ومن ذلك ما لا يسع الفاضل جهله كأسماع المشهورين من الصحابة، والتابعين وأئمة المسلمين، وعلماء أهل البيت المطهرين العاملين، وأهل الزهد والصلاح من الفقهاء المحققين، وما يستفاد من محاسن آدابهم، ونوادر أحوالهم، فيحصل له مع الطول فوائد كثيرة.
الحادي عشر: أن لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في موت، واعتناء مع تساويهم في الصفات من سن، أو فضيلة، أو تحصيل، أو ديانة، فإن ذلك ربما يو حش الصدور وشفر القلوب، فإن كان لأحدهم فضيلة، فأظهر إكرامه لأجلها فلا بأس بذلك، لأنه ينشط ويبعث على الاتصاف بتلك الصفات، ولا يقدم أحدًا في نوبة الآخر، إلا إذا رأى في ذلك مصلحة تزيد على مصلحة مراعاة النوبة، أو سمح الطالب بذلك كما سيأتي إن شاء الله وينبغي أن يتودد لحاضرهم ويذكر غائبهم بخير وحسن ثناء، وينبغي أن يستعلم عن أسمائهم وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم، ويكثر الدعاء لهم.
الثاني عشر: أن يرقب أحوال الطلبة في آدابهم وهديهم وأخلاقهم باطنًا وظاهرًا، فمن صدر منه من ذلك ما لا يليق من ارتكاب محرم أو مكروه، أو ما يؤدي إلى فساد حال، أو ترك اشتغال، أو إساءة أدب في حق الشيخ أو غيره، أو كثرة كلام بغير توجيه ولا فائدة، ومعاشرة من لا تليق معاشرته، أو نحو ذلك مما سيأتي أن شاء الله تعالى في آداب المتعلم، عرض الشيخ بالنهي عن ذلك بحضور من صدر منه ذلك، غير معرض به، ولا معين له، فإن لم ينته نهاه عن ذلك سرًا، ويكتفي بالإشارة مع من يكتفي بها، فإن لم ينته نهاه عن ذلك جهرًا، ويغلظ القول عليه أن اقتضاه الحال، ليزجر هو وغيره، ويتأدب به كل سامع، فإن لم ينته فلا بأس بطرده والإعراض عنه إلى أن يرجع، وكذا يتعاهد ما يعامل به بعضهم بعضًا من إفشاء السلام، وحسن التخاطب في الكلام، والتحابب، والتعاون على البر والتقوى، وعلى ما هم بصدده.
1 / 11
الثالث عشر: أن يسعى في مصالح الطلبة وجمع قلوبهم، ومساعدتهم بما تيسر من جاه أو مال عند قدرته على ذلك، وسلامة دينه وعدم ضرره، فإن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن يسر على معسر يسر الله عليه حسابه يوم القيامة، ولا سيما إذا كان ذلك إعانة على طلب العلم، وإذا غاب بعض الطلبة، أو ملازمي الحلقة زائدًا على العادة، سأل عنه فإن لم يخبر عنه بشيء، أرسل إليه وقصد منزله بنفسه، وهو أفضل، فإن كان مريضًا عاده، وإن كان في غمّ خفض عليه، أو في أمر يحتاج إليه فيه أعانه، وإن كان مسافرًا يفقد أهله ومن يتعلق به، وسأل عنهم ويعرض لحوائجهم ووصلهم بما أمكن، وإن لم يكن في شيء من ذلك تودد إليه ودعا له. واعلم أن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، واقرب أهله إليه.
الرابع عشر: أن يتواضع مع الطالب وكل مسترشد، إذا قام بما يجب عليه من حقوَق الله وحقوقه، ويخفض له جناحه، ويلين له جانبه، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) . وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا، وما تواضع أحد إلا رفعه الله. وهذا في التواضع، لمطلق الناس، فكيف من له حق الصحبة وحرمة التردد، وصدق التودد، وشرف الطلب، فهم كأولاده. وفي الحديث: " لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه ".
وعن الفضل: " أن الله يحب العالم المتواضع ويبغض الجبار، ومن تواضع لله ورثه الله الحكمة ". ويخاطب كلا منهم بكنيته ونحوها، من أحب الأسماء إليه وما فيه تعظيم له وتوَقير. وعن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يكني أصحابه إكرامًا لهم. وينبغي أن يرحب بالطلبة إذا لقيهم وعند إقبالهم عليه، ويكرمهم إذا جلسوا إليه ويؤنسهم بسؤاله عن أحوالهم، ويعاملهم بطلاقة الوجه وظهور البشر، وحسن المودة، ويزيد في ذلك لمن يرجى فلاحه ويظهر صلاحه ويضع الحكمة في موضعها.
الفصل الرابع
في آداب المتعلم في نفسه
وهي عشرة أنواع: الأول: أن يطهر قلبه من كل غش، ودنس، وغل، وحسد، وسوء عقيدة وخلق، ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإن العلم كما قال بعضهم: صلاة السر، وعبادة القلب، وقربة الباطن، فكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديها. وقالوا: يطيب القلب للعلم كما تطيب الأرض للزرع، فإذا طيب العلم ظهرت بركته، ونما كما ينمو زرعها، ويزكو إذا طيبت.
وفي الحديث أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب وقال سهل: " حرام على قلب أن يدخله نوَر وفيه شيء مما يكره الله ﷿ ". الثاني: حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله ﷿ والعمل به، وإحياء الشريعة، وتنوير قلبه، وتحلية باطنه، والقرب من الله تعالى يوم لقائه، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه، وعظم فضله، قال سفيان الثوري: ما عالجت شيئًا أشد من نيتي، ولا يقصد به أغراض الدنيوية من تحصيل الرياسة، والجاه، والمال، ومباهاة الأقران وتعظيم الناس له، وتصديره في المجالس، ونحو ذلك فليستبدل الأدنى بالذي هو خير.
والعلم عبادة من العبادات وقربة من القرب، فإن خلصت فيه النية قبل وزكا ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله حبط وضاع وخسرت صفقته، وربما كان ذلك سببًا في فوات تلك المقاصد فلا ينالها فيخيب قصده، ويضيع سعيه.
الثالث: أن يبادر شبابه وأوقات عمره فيصرفها إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأمل فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض عنها. ويقطع ما يقدر على قطعه من العلايق الشاغلة والعوايق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل، فإنها كقواطع الطريق. ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن تقليلًا للشواغل، لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، ولذلك يقال العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.
1 / 12
الرابع: أن يقنع من القوت بما تيسر، وإن كان يسيرًا، ومن اللباس بما ستر مثله، وإن كان خلقًا بالصبر على ضيق العيش، ينال سعة العلم ويجمع شمل القلب عن متفرقات الآمال، فتفجر فيه ينابيع الحكم. وعن الشافعي ﵀: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح. وقال: لا يدرك العلم إلا بالصبر على الذل، ومن آثر طلب العلم على الاحتراف فإن الله يعوضه ويأتيه بالرزق من حيث لا يحتسب. فعن زياد بن حارث الصدائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: من طلب العلم تكفل الله برزقه. أخرجه الخطيب في الجامع الخامس: إن يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، فإن بقية العمر لا قيمة لها، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل، وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع، وأجود الأماكن للحفظ كل مكان بعيد عن الملهيات، كالنبات، والخضرة، والأنهار، وقوارع الطرق، وضجيج الأصوات، لأنها تمنع من خلو القلب غالبًا.
السادس: من أعظم الأسباب المعينة على الاشتغال والفهم وعدم الملال، أكل القدر اليسير من الحلال. قال الشافعي ﵀: ما شبعت منذ ست عشرة سنة، وسبب ذلك، إن كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب، وكثرته جالبة للنوم، والبلادة، وقصور الذهن، وفتور الحواس، وكسل الجسم، هذا مع ما فيه من الكراهة الشرعية، والتعرض لخطر الأسقام البدنية كما قال:
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
ومن رام الفلاح في العلم وتحصيل البغية منه، مع كثرة الأكل والشرب والنوم، فقد رام مستحيلًا في العادة. والأولى أن يكون أكثر ما يؤخذ من الطعام، ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال، ما ملأ ابن آدم وعاء، شرًا من بطن، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه، رواه الترمذي، فإن زاد فهو إسراف. وقد قال تعالى: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) . قال بعض العلماء: جمع الله الطب كله بهذه الكلمة.
السابع: إن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه ويتحرى الحلال في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه، وفي جميع ما يحتاج إليه هو وعياله ليستثير قلبه، ويصلح لقبول العلم ونوره، والنفع به ولا يقنع لنفسه بظاهر الحل شرعًا، مهما أمكنه التورع، ولم تلجه حاجة، بل يطلب الرتبة العالية، ويقتدي بمن سلف من العلماء الصالحين في التورع عن كثير مما كانوا يفتون بجوازه، وأحق من اقتدى به في ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حيث لم يأكل التمرة التي وجدها في الطريق خشية إن تكون من الصدقة، مع بعد كونها منها، ولأن أهل العلم يقتدي بهم ويؤخذ عنهم، فإذا لم يستعملوا الورع فمن يستعمله؟ الثامن: إن يقلل استعمال المطاعم التي هي من أسباب البلادة، كالتفاح الحامض، والباقلا، وشرب الخل، وكذلك ما يكثر استعماله البلغم المبعد للذهن، ككثرة الألبان والسمك ونحو ذلك، ويجتنب ما يورث النسيان بالخاصة كأكل اثر سور الفار، وقراءة ألواح القبور، والدخول بين جملين مقطورين، وإلقاء القمل حية، ونحو ذلك من المجريات.
التاسع: إن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة عِلى ثمان ساعات، وهي ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل من ذلك فعل، ولا بأس إن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا أكل شيئًا من ذلك، أو ضعف بتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمانه، وكان بعض أكابر العلماء يجمع أصحابه في بعض أماكن التنزه في بعض أيام السنة، ويتمازحون بما لا يضرهم في دين ولا عرض. ويتجنب ما يعاب من الهزل والبسط بالفعل وفرط التمطي، والتمايل على الجنب والقفا والضحك الفاحش بالقهقهة.
1 / 13
العاشر: إن يترك العشرة، فإن تركها من أهم ما ينبغي لطلب العلم، ولا سيما لغير الجنس، وخصوصًا لمن كثر لعبه وقلت فكرته، فإن الطباع شر آفة، وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة، وذهاب المال والعرض إن كانت لغير أهل، وذهاب الدين إن كانت لغير أهله. والذي ينبغي لطالب العلم إن لا يخالط إلا من يفيد أو يستفيد منه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أغد عالمًا أو متعلمًا، ولا تكن الثالث فتهلك. فإن شرع أو تعرض لصحبة من يضيع عمره معه، فليتلطف في قطع عشرته في أوائل الأمر قبل تمكنها، فإن الأمور إذا تمكنت عسرت إزالتها، ومن الجاري على ألسنة الفقهاء الدفع اسهل من الرفع، فإن احتاج إلى من يصحبه فليكن صالحًا، دينًا، تقيًا، ورعأً، كثير الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، فإن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، أو ضجر صبره، ومما يروى عن علي ﵁:
لا تصحب أخا الجهل ... وإيَّاك وإيَّاه
فكم من جاهل أردى ... حليمًا حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه
ولبعضهم:
إن أخاك الصدق من كان معك ... ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمان صدعك ... شتت شمل نفسه ليجمعك
الفصل الخامس
في آداب المتعلم مع شيخه وقدوته
وما يجب عليه من عظيم حرمته وذلك ثلاثة عشر نوعًا: الأول: ينبغي للطالب إن يقدم النظر، ويستخير الله فيمن يأخذ عنه العلم، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه، ويتحرى في كونه ممن كملت أهليته وتحققت شفقته، وطهرت مروءته وعرفت عفته، واشتهرت صيالته، وكان احسن تعليمًا وأجور تفهيمًا، ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص ورع أو دين أو عدم خلق جميل، وعن السلف: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، وليحذر من التقيد بالمشهورين وترك الأخذ عن الخاملين، فقد عده الغزالي وغيره من الكبر في العلم، لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، ويغتنمها حيث ظفر بها، ويتقلد المنة لمن ساقها إليه، فإنه يهرب من مخافة الجهل كما يهرب من الأسد، والهارب من الأسد لا يأنف من دلالة من يدله على الخلاص، كائنًا من كان.
وذكر أبو نعيم في الحلية، إن زينَ العابدين علي بن الحسين ﵉ كان يذهب إلى زيد بن أسلم، فيجلس إليه، فقيل له: أنت سيد الناس وأفضلهم تذهب إلى هذا العبد فتجلس إليه، فقال: العلم يُتَبع حيث كان ومن كان. فإن كان الخامل ممن ترجى بركته، كان النفع به أعم والتحصيل من جهته أتم. وإذا سيرت أحوال السلف والخلف، لم تجد النفع يحصل غالبًا، والفلاح يدرك طالبًا إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيب وافر، وكذلك إذا اعتبرت المصنفات وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى الأزهد أوفر، والفلاح الاشتغال به أكثر. وليجتهد على إن يكون الشيخ ممن له في العلوم الشرعية تمام اطلاع، وله ممن يوثق به من مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع، لا ممن أخذ من بطون الأوراق. لمال الشافعي، من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام، وكان بعضهم يقول: من أعظم البلية مشيخة الصحيفة، أي الذين يتعلمون من الصحف.
الثاني: إن ينقاد لشيخه في أموره، ولا يخرج عن رأيه وتدبيره، بل يكون معه كالمريض مع الطبيب الماهر، فيشاوره فجما يقصده، ويتحرى رضاه فجما يعتمده، ويبالغ في حرمته ويتقرب إلى الله بخدمته، ويعلم إن ذله لشيخه عز، وخضوعه فخر، وتواضعه له رفعة. أخذ ابن عباس ﵁، مع جلالته وقرابته من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلو مرتبته، بركاب زيد بن ثابت الأنصاري، وهو ممن أخذ عنه ابن عباس العلم، وقال: هكذا أمرنا إن نفعل بعلمائنا، وقد سبق ما رواه الطبراني في الأوسط، عن أبي هريرة مرفوعًا، تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة وتواضعوا لمن تعلمون منه، ولا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، ومهما أشار عليه شيخه بطريق في التعليم فليقلده، وليدع رأيه، فخطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه.
1 / 14
الثالث: إن ينظره بعين الإجلال ويعتقد فيه درجة الكمال، ويوقره وبعظمه، فإن ذلك أقرب إلى نفعه به، قال بعضهم حسن الأدب ترجمان العقل ومراعاة الأدب، فيما بين المحققين مقدم على غيره، ألا ترى كيف مدح الله أهله وشرف محلهم، بقوله: (إن الذين يغضون أصواتهم عن رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة واجر عظيم) . وينبغي إن لا يخاطب شيخه بتاء الخطاب وكافه، ولا يناديه من بعد، بل يقول: يا سيدنا ولا مولانا ونحو ذلك، وما تقولون في كذا، وما رأيكم في كذا، وشبه ذلك ولا يسميه في غيبته باسمه إلا مقرونًا بما يشعر بتعظيمه، نحوَ قال الشيخ الأستاذ، أو قال شيخنا، أو قال مولانا ونحو ذلك.
الرابع: إن يعرف له حقه ولا ينسى له فضله، فعن أبي إمامة الباهلي مرفوعًا: من علًم عبدًا آية من كتاب الله فهو مولاه. ومن ذلك، إن يعظم حضرته ويرد غيبته ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق ذلك المجلس، وينبغي أن يدعو له مدة حياته، ويرعى ذريته وأقاربه وأولاده بعد وفاته، ويتعاهد زيارة قبره، والاستغفار والصدقة عنه، ويسلك في الهدى والسمت مسلكه، ويتأدب بآدابه، ولا يدع الاقتداء به.
الخامس: إن يصبر على جفوة تصدر من شيخه، أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته وحسن عقيدته، ويتأول أفعاله التي يظهر إن الصواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جفوة الشيخ بالاعتذار، والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجب إليه، ويجعل العتب فيه إليه، فإن ذلك أبقى لمودة شيخه واحفظ لقلبه، وأنفع للطالب في دنياه وآخرته.
وعن بعض السلف: من لم، يصبر على ذل التعليم، بقي عمره في عملية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة. وعن ابن عِباس ﵄: ذللت طالبًا فعززت مطلوبًا. وقال أبو يوسف: خمسة يجب على الناس مداراتهم، وعد منهم العالم، ليقتبس من علمهْ ولبعضهم:
اصبر لدائك إن جفوت طبيبه ... وأصبر لجهلك إن جفوت معلما
السادس: إن يشكر الشيخ على توفيقه على ما فيه فضيلة، وعلى توبيخه على ما فيه نقيصة، أو على كسل يعتريه، أو قصور يعانيه، أو غير ذلك مما في إيقافه عليه وتوبيخه وإرشاده وإصلاحه، ويعد ذلك من الشيخ من نعم الله تعالى عليه، باعتناء الشيخ به ونظره إليه، فإن ذلك أميل لقلب الشيخ وأبعث على الاعتناء بمصالحه، وإذا أوقفه الشيخ على دقيقة من أدب، أو نقيصة صدرت منه، وكان يعرفه من قبل، فلا يظهر أنه كان له في ذلك عذر وكان إعلام الشيخ به أصلح فلا بأس به، وإلا تركه.
السابع: إن لا يدخل على الشيخ في غير المجلس العام إلا بالاستئذان، سواء كان الشيخ وحده أو كان معه غيره. ولا يكرر الاستئذان، وإن شك في علم الشيخ به، فلا يزيد في الاستئذان فوق ثلاث مرات أو ثلاث طرقات بالباب أو الحلقة، وليكن طرق الباب خفيفًا بآداب بأظفار الأصابع، ثم بالأصابع، ثم بالحلقة قليلًا، قليلًا، فإن كان الموضع بعيدًا عن الباب أو الحلقة، فلا بأس برفع ذلك بقدر ما يسمع لا غير، وإذا أذن وكانوا جماعة يقدم أفضلهم وأسنهم بالدخول والسلام عليه، ثم يسلم عليه الأفضل فالأفضل. وينبغي إن يدخل على الشيخ كامل الهيئة، متطهر البدن والثياب، نظيفهما، بعدما يحتاج إليه من أخذ ظفر وشعر، وقطع رائحة كريهة، لا سيما إن كان يقصد مجلس العلم فإنه مجلس ذكر واجتماع في عبادة٠ ومتى دخل على الشيخ في غير المجلس العام، وعنده من يتحدث معه فيسكتوا من الحديث، أو دخل والشيخ وحده يصلي، أو يذكر، أو يكتب أو يطالع، فترك ذلك أو سكت ولم يبدأه بكلام أو بسط حديث، فيسلم ويخرج سريعًا، إلا إن يحثه الشيخ على المكث، وإذا مكث فلا يطيل إلا إن يأمره بذلك. وينبغي إن يدخل على الشيخ أو يجلس عنده وقلبه فارغ من الشواغل له، وذهنه صاف لا في حال نعاس أو غضب أو جوع شديد أو عطش أو نحو ذلك، لينشرح صدره لما يقال، ويعي ما يسمع.
1 / 15
وإذا حضر مكان الشيخ فلم يجده جالسًا، انتظره كيلا يفوت على نفسه درسه، فإن كل درس يفوت لا عوض له. ولا يطلب من الشيخ قراءة في وقت يشق عليه فيه، أو لم تجر عادته بالإقراء فيه، ولا يخترع عليه وقتًا خاصًا به دون غيره، وإن كان رئيسًا أو كبيرًا، لما فيه من الترفع والحمق على الشيخ والطلبة والعلم، فإن بدأه الشيخ بوقت معين أو خاص لعذر عائق له عن الحضور مع الجماعة أو لمصلحة رآها الشيخ فلا بأس بذلك.
الثامن: إن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب، كما يجلس الصبي بين يدي المقرئ، أو متربعًا بتواضع وخضوع وسكون، وخشوع، ويصغي إلى الشيخ ناظرًا إليه، ويقبل بكليته عليه، متعقلًا لقوله، بحيث لا يحوجه إلى إعادة الكلام مرة ثانية، ولا يلتفت من غير ضرورة، ولا ينفض كمه ولا يحسر عن ذراعيه، ولا يعبث بيديه أو رجليه، ولا يضع يده على لحيته أو فمه، أو يعبث بها في أنفه، أو يستخرج بها منه شيئًا، ولا يفتح فاه ولا يقرع سنه، ولا يضرب الأرض براحته، أو يخط عليها بأصابعه، ولا يشبك يديه أو يعبث بإزاره. ولا يستند بحضرة الشيخ إلى حائط، أو مخدة أو يجعل يده عليها أو نحو ذلك، ولا يعطي الشيخ جنبه أو ظهره، ولا يكثر كلامه من غير حاجة، ولا يحكي ما يضحك منه وما فيه بذاءة، أو يتضمن سوء مخاطبة أو سوء أدب، ولا يضحك لغير عجب ولا لعجب دون الشيخ، فإن غلبه تبسم، تبسم من غير صوت، ولا يكثر التنحنح من غير حاجة ولا يبصق ولا يتنخع ما أمكنه، ولا يلفظ النخامة من فيه، بل يأخذها من فيه بمنديل أو خرقة أو طرف ثوب، ويتعاهد تغطية أقدامه وسكون يديه عند بحثه، أو مذاكرته، وإذا عطر خفض صوته جهده، وستر وجهه بمنديل أو نحوه، أو إذا تثاءب ستر فاه بعد رده جهده.
وعن علي ﵁ قال: " من حق العالم عليك إن تسلم على القوم عامة، وتخصه بالتحية وإن تجلس أمامه، ولا تشيرن بيدك، ولا تغمزن بعينك عنده، ولا تقولن: قال فلان: خلاف قولك، ولا تغتابن عنده أحدًا ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك إن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسار في مجلسه ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة ينتظر متى يسقط عليك منها شيء، وإن المؤمن العالم لأعظم أجرًا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله، وإذا مات العالم، انثلمت في الِإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يو م القيامة) . أخرجه الخطيب في الجامع، ولقد جمع ﵁ في هذه الوَصعية ما فيه مقنع.
قال بعضهم: ومن تعظيم الشيخ، إن لا يجلس إلى جانبه ولا على مصلاه أو وسادته، وإن أمره الشيخ بذلك فلا يفعله إلا إذا جزم عليه جزمًا يشق عليه مخالفته، فلا بأس بامتثال أمره في تلك الحال، ثم يعود إلى ما يقتضيه الأدب.
1 / 16
السابع: إن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان، ولا يقول له لم ولا نسلم، ولا من يقل هذا، ولا أين موضعه؟ وشبه ذلك، فإن أراد استفادته تلطف في الوصول إلى ذلك في مجلس آخر على سبيل الاستفادة، وإذا ذكرت شيئًا لا تقل هكذا قلت، أو خطر لي أو سمعت أو هكذا قال فلان. وهكذا لا تقول: قال فلان خلاف هذا، أو روى فلان خلافه، أو هذا غير صحيح أو نحو ذلك. وإذا أصر الشيخ على قول أو دليل، ولم يظهر له أو على خلاف صواب سهوًا، فلا يغير وجهه أو عينيه أو يشير إلى غيره كالمنكر عليه، لما قاله بل يأخذه ببشر ظاهر، وإن لم يكن الشيخ مصيبًا لغفلة، أو سهو، أو قصور نظر في تلك الحال، فليس بمعصوم وليتحفظ من مخاطبة الشيخ بما يعتاده بعض الناس في كلامه ولا يليق خطابه به، مثل إيش بك، وفهمت، وسمعت، وتدري، ويا إنسان ونحو ذلك. وكذلك لا يحكي له ما خوطب به غيره، مما لا يليق خطاب الشيخ به، وإن كان حاكيًا مثل قال فلان لفلان، أنت قليل البر وما عندك خير وشبه ذلك، بل يقول: إذا أراد الحكاية ما جرت العادة بالكناية به، مثل، قال فلان لفلان: إلا بعد قليل البر وما عند البعيد خير وشبه ذلك. ويتحفظ من مفاجأة الشيِخ بصورة رد عليه، فإنه يقع ممن لا يحسن الأدب من الناس كثيرًا مثل، إن يقول له الشيخ: مرادك في سؤالك كذا، أو خطر لك كذا، فيقول: لا، وما هذا مرادي أو ما خطر لي هذا وشبه ذلك. بل طريقه أن يعيد كلامه ولا يقول الذي قلته، والذي قصدته ليضمنه الرد عليه، وكذلك ينبغي أن يقول في موضع، لم ولا نعلم، فإن قيل لنا كذا أو فإن منعنا ذلك، أو فإن سئلنا عن كذا أو فإن أورد كذا وشبه ذلك ليكون سائلًا له بحسن أدب ولطف عبارة.
العاشر: إذا سمع الشيخ يذكر حكمًا في مسًالة أو فائدة مستغربة أو يحكي حكاية، أو ينشد شعرًا وهو يحفظ ذلك، أصغى إليه إصغاء مستفيد له في الحال كأنه لم يسمعه قط، قال عطا: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه، فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئًا، وعنه قال: إن الشاب ليتحدث فأسمع له كأن لم اسمعه، ولقد سمعته قبل إن يولد، فإن سأله الشيخ عند الشروع في ذلك عن حفظه له، فلا يجيب بنعم لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه، ولا يقل لا لما فيه من الكذب، بل يقول أحب إن أستفيده من الشيخ، أو إن اسمعه منه، أو هو من جهتكم أصح، ولا يكرر السؤال لما يعلمه ولا يشغل ذهنه بفكر أو حديث، ثم يستعيد الشيخ ما قاله لأن ذلك إساءة ادب، بل يكون مصغيًا لكلامه حاضر الذهن لما سمعه من أول مرة، فإن لم يسمع كلام الشيخ لبعده أو لم يفهمه مع الإصغاء والإقبال عليه، فله إن يسأل الشيخ الإعادة والتفهيم بعد بيان عذره.
الحادي عشر: إن لا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة أو جواب سؤال منه، أو من غيره ولا يساوقه فيه ولا يظهر معرفته به أو إدراكه قبل الشيخ، وينبغي إن لا يقطع على الشيخ كلامه أي كلام كان، ولا يسابقه فيه ولا يساوقه، بل يصبر حتى يفرغ الشيخ من كلامه ثم يتكلم ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه، أو مع جماعة المجلس.
وفي حديث هند بن أبي هالة، في وصفه للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأن على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا.
1 / 17
الثاني عشر: إذا ناوله الشيخ شيئًا تناوله باليمين، وإن ناوله شيئًا ناوله باليمين، فإن كان ورقة يقرؤها كفتيا، أو قصة، أو مكتوب شرعي، ونحو ذلك، نشرها ثم دفعها إليه. ولا يدفعها مطوية إلا إذا علم أو ظن إيثار الشيخ لذلك، وإذا ناوله الشيخ كتابًا ناوله إياه مهيئًا لفتحه والقراءة فيه من غير احتياج إلى إدارته، فإن كان النظر في موضع معين فليكن مفتوحًا، كذلك ويعين له المكان، ولا يحذف إليه الشيء حذفًا من كتاب أو ورقة أو غير ذلك، ولا يمد يديه إلا إذا كان بعيدًا ولا يحوج الشيخ إلى مد يده أيضًا لأخذ منه، أو إعطاء، بل يقوم إليه قائمًا ولا يزحف زحفًا، وإذا جلس بين يديه الناس لذلك فلا يقرب منه قربًا كثيرًا ينسب فيه إلى سوء أدب ولا يضع رجله أو يده أو شيئًا من بدنه أو ثيابه على ثياب الشيخ أو وسادته أو سجادته، ولا يشير إليه بيده أو يقربها من وجهه أو صدره أو يمس بها شيئًا من بدنه أو ثيابه، وإذا ناوله قلمًا ليكتب به فليمده قبل إعطائه إياه وإن وضع بين يديه دواة فلتكن مفتوحة الأغطية مهيأة للكتابة منها، وإن ناوله سكينًا كانت عرضًا وحد شفرتها إلى جهته، قابضًا على طرف النصاب مما يلي النصل، جاعلًا نصابها على يمين الآخذ، ولا يأنف من خدمته. وقد قيل: أربعة لا يأنف الشريف منهم وإن كان أميرًا، قيامه من مجلسه لأبيه وخدمته للعالم يتعلم منه والسؤال عما لا يعلمه وخدمته للضيف.
الثالث عشر: إذا مشى مع الشيخ فليكن أمامه بالليل ووراءه بالنهار، إلا إن يقتضي الحال خلاف ذلك، ويتقدم عليه في المواطن المجهولة الحال لوحل أو نحوه، ويعرف الشيخ بمن قرب منه أو قصده من الأعيان إن لم يعلم الشيخ به، وإذا صادف الشيخ بدأه بالسلام، ويقصده إن كان بعيدًا ولا يناديه، ولا يسلم عليه من بعيد ولا من ورائه، بل يقرب ويتقدم ثم يسلم عليه، ولا يقول لما رآه الشيخ وكان خطأ، هذا خطأ ولا هذا ليس برأي، بل يحسن خطاه في الرد إلى الصواب، كقوله: يظهر إن المصلحة في كذا، ولا يقول الرأي عندي كذا، وشبه ذلك.
الفصل السادس
في آداب المتعلم في درسه
وقراءته في الحلقة وما يعتمد فيها الشيخ والرفقة
وهو ثلاثة عشر نوعًا: الأول: إن يبتدئ أولا بكتاب الله العزيز فيتقنه حفظًا ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها. ثم يحفظ في كل فن مختصرًا، يجمع فيه بين طرفيه من الفقه والحديث وعلومه والأصولين والنحو والتصريف ولا يشتغل بذلك كله عن دراسة القرآن وتعهده وملازمة وردٍ منه كل يوم أو أيام أو جمعة. وليحذر من نسيانه بعد حفظه، فقد ورد حديث يزجر عنه، ويشتغل بشرح تلك المحفوظات على المشايخ، وليحذر من الاعتماد في ذلك على الكتب ابتداء، بل يعتمد في كل فن ما هو احسن تعليمًا له، واكثر تحقيقًا فيه، وتحصيلًا منه، واخبرهم بالكتاب الذي قراه، وذلك بعد مراعاة الصفات المتقدمة من الدين، والصلاح والشفقة وغيرها، فإن كان شيخه لا يجد من قرابته على غيره، فلا بأس بذلك، وإلا راعى قلب شيخه، إن كأن أرجأهم نفعًا، لأنه أنفع له وأجمع لقلبه عليه، وليأخذ من الحفظ ما يمكنه ويطيقه حاله، من غير إكثار يمل ولا تقصير يخل بجودة التحصيل.
الثاني: إن يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف بين العلماء، وبين الناس مطلقًا في العقليات والسممعيات، فإنه يحير الذهن ويدهش العقل، بل يتقن أولًا كتابًا واحدًا في فن واحد، أو كتبًا في فنون إن احتمل ذلك على طريقة واحدة يرتضيها له شيخه، فإن كانت طريقة شيخه نقل المذاهب والاختلاف، ولم يكن له رأي واحد. قال الغزالي، فليحذر منه فإن ضرره أكثر من النفع به، وكذلك يحذر في ابتداء طلبه من المطالعات في تفاريق المصنفات، فإنه يضيع زمانه ويفرق ذهنه، بل يعطي الكتاب الذي يقرأه أو الفن الذي يأخذه كليته حتى يتقنه، وكذلك يحذر من النقل من كتاب إلى كتاب، من غير موجب، فإنه علامة الضجر وعدم الفلاح.
1 / 18
وروى البيهقي إن الشافعي ﵀ أقبل على مؤدب فقال له: " ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح من تؤدبهم إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عِندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تتركه، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روِهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة ". انتهىِ. أما إذا تحققت أهلية المتعلم وتأكدت معرفته، فالأولى إن لا يدع فنًا من العلوم الشرعية إلا نظر فيه، فإن ساعده طول العمر على التبحر فيه فذاك، وإلا فقد استفاد منه ما يخرج به من عداوة الجهل بذلك العلم، ويعتني من كل علم بالأهم فالأهم، ولا يغفلن عن العمل الذي هو المقصود بالعلم.
الثالث: إن يصحح ما يقرأه قبل حفظه تصحيحًا متقنًا، إما على الشيخ وإما على غيره ممن يعينه، ثم يحفظه بعد ذلك حفظًا محكمًا ثم يكرر عليه بعد حفظه تكرارًا جيدًا، ثم يتعاهده بعد ذلك ولا يحفظ شيئًا قبل تصحيحه، لأنه يقع في التحريف والتصحيف، وقد تقدم إن العلم لا يؤخذ من الكتب فإنه من أضر المفاسد، وينبغي إن يحضر معه الدواة والقلم والسكين للتصحيح، أي في مجلس التصحيح، وأما التصحيح حال الدرس، فكان بعضهم يمنع منه لما فيه من الاشتغال عن تقرير الشيخ، وإنما يجعل عليه علامة بظفره أو نحوه ليصلحه بعد فراغه وبضبط ما يصححه لغةً وإعرابًا. وإذا رد الشيخ عليه لفظُة، وظن إن رده خلاف الصواب أو علمه، كرر اللفظة مع ما قبلها لينتبه لها الشيخ، أو يأتي بلفظ الصواب على سبيل الاستفهام، فربما وقع ذلك سهوًا أو سبق لسان لغفلة، ولا يقل بل هي كذا، بل يتلطف في تنبيه الشيخ له، فإن لم ينتبه قال: فهل يجوز فيها كذا؟ فإن رجع الشيخ إلى الصواب فلا كلام، وإلا ترك تحقيقها إلى مجلس آخر يتلطف لاحتمال إن يكون الصواب مع الشيخ، وذلك أنه إذا تحقق خطأ الشيخ في جواب مسألة لا يفوت تحقيقه، ولا يعسر تداركه، فإن كان كذلك كالكتابة في رقاع الاستفتاء وكون السائل غريبًا، أو بعيد الدار، تعين تنبيه الشيخ على ذلك في الحال بإشارة أو تصريح، فإن ترك ذلك خيانة للشيخ فيجب نصحه بما أمكن من تلطف أو غيره، وإذا وقف على مكان كتب قبالته بلغ العرض والتصحيح.
الرابع: إن يبكر بسماع الحديث، ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه، والنظر في إسناده ورجاله ومعانيه وأحكامه وفوائده ولغته وتواريخه، ويعتني بمعرفة أنواعه صحيحها وحسنها وغيرها، فإن الحديث أحد جناحي العلم بالشريعة، والمبين لكثير من الجناح الآخر وهو القرآن، ولا يقنع بمجرد السماع كغالب محدثي هذا الزمان، بل يعتني بالدراية أشد من اعتنائه بالرواية، لأن الدراية هي المقصود بنقل الحديث وتبليغه.
الخامس: إذا شرح محفوظاته المختصرات وضبط ما فيها من الاشكالات والفوائد المهمات، أنتقل إلى بحث المبسوطات مع المطالعة الدائمة، وتعليق ما يمر به أو يسمعه من الفوائد النفيسة، والمسائل الدقيقة، والفروع الغريبة، وحل المشكلات والفروق بين أحكام المتشابهات من جميع أنواع العلوم، ولا يستقل فائدة يسمعها أو يتهاون بقاعدة يضبطها، بل يبادر إلى تعليقها وحفظها، ولتكن همته في طلب العلم عالية، فلا يكتفي بقليل العلم مع إمكان كثيرة ولا يقنع من إرث الأنبياء بيسيرة، ولا يؤخر تحصيل فائدة تمكن منها أو يشغله الأمل والتسويف عنها، فإن للتأخير آفات، ولأنه إذا حصلها في الزمن الحاضر، حصل في الزمن الثاني غيرها ويغتنم وقت فراغه ونشاطه، وزمن عافيته وشرخ شبابه، ونباهة خاطره، وقلة شواغله، قبل عوارض البطالة، أو موانع الرياسة.
قال عمر: تفقهوا قيل إن تسودوا. وقال الشافعي: تفقه قبل إن ترأس، فإذا ترأست فلا سبيل إلى الفقه، وليحذر من مضرة نظره نفسه بعين الكمال، والاستغناء عن المشايخ، فإن ذلك عين الجهل وقلة المعرفة وما يفوته أكثر مما حصله، قال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالمًا ما تعلم، فإذا ترك التعلم وطن أنه قد استغنى فهو اجهل ما يكون، وإذا كملت أهليته وظهرت فضيلته، ومر على أكثر كتب الفن، أو المشهورة منها، بحثًا ومراجعة ومطالعة، اشتغل بالتصنيف وبالنظر في مذاهب العلماء، سالكًا طريق الإِنصاف فيما يقع له من الخلاف؛ كما تقدم في آداب العالم.
1 / 19
السادس: إن يلزم حلقة شيخه في التدريسِ والاقراء، وجميع مجالسه، إذا أمكن؛ فإنه لا يزيده إلا خيرًا وتحصيلًا وأدبًا وتفضيلًا، كما قال علي ﵁ في حديثه المتقدم: ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة ينتظر متى يسقط عليك منها شيء. ويحضر موضع الدرس قبل حضور الشيخ، ولا يتأخر إلى بعد جلوسه وجلوس الجماعة، فيكلفهم المعتاد من القيام ورد السلام.
وقد قال السلف. من الأدب مع المدرس إن ينتظره الفقهاء ولا ينتظرهم، ويحفظ النوم والنعاس والحديث والضحك، ولا يتكلم في مسألة أخذ الشيخ يتكلم في غيرها، ويجتهد على مواظبة خدمته والمسارعة إليها، فإن ذلك يكسبه شرفًا وتجليلًا، ولا يقتصر في الحلقة على سماع درسه فقط، إذا أمكنه، فإن ذلك علامة قصور الهمة وعدم الفلاح وبطء التنبه، بل يعتني بسائر الدروس المشروحة ضبطًا وتعليقًا ونقلًا، إن احتمل ذهنه ذلك، ويشارك أصحابها حتى كأن كل درس منها له.
ولعمري إن الأمر لكذلك للحريص، فإن عجز عن ضبط جميعها، اعتنى بالأهم فالأهم منها، وينبغي إن يتذاكر مواظبو مجلس الشيخ ما وقع فيه من الفوائد والضوابط والقواعد وغير ذلك، وأن يعيدوا كلام الشيخ فيما بينهم، فإن في المذاكرة نفعًا عظيمًا، وينبغي المذاكرة في ذلك عند القيام من مجلسه قبل تفرق أذهانهم، وتشتت، خواطرهم، وشذوذ بعض ما سمعوه عن إفهامهم، ثم يتذاكرونه في بعض الأوقات، وافضل المذاكرة في الليل. وكان جماعة من السلف يمدون المذاكرة من العشاء، فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح، فإن لم يجد الطالب من يذاكره، ذاكر نفسه بنفسه، وكرر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه ليعلق ذلك على خاطره، فإن تكرار المعنى على القلب كتكرار اللفظ على اللسان سواء سواء، وقل إن يفلح من اقتصر على الفكر والنقل بحضرة الشيخ خاصة، ثم يتركه ويقوم ولا يعاوده.
السابع: إذا حفر مجلس الشيخ، سلم على الحاضرين بصوت يسمع جميعهم، وخص الشيخ بزيادة تحية وإكرام، وكذلك يسلم إذا انصرف، وإذا سلم، فلا يتخطى رقاب الحاضرين إلى قرب الشيخ، من لم يكن منزلته كذلك، بل يجلس حيث انتهى به المجلس، كما ورد في الحديث، فإن صرح له الشيخ والحاضرون بالتقدم أو كانت منزلته، أو كان يعلم إيثار الشيخ والجماعة لذلك فلا بأس، ولا يقيم أحدًا من مجلسه، أو يزاحمه قصدًا فإن آثره بمجلسه لم يقبله إلا إن يكون في ذلك مصلحة يعرفها القوم، وينتفعون بها من بحثه مع الشيخ لقربه منه أو لكونه كبير السن، أو كثير الفضيلة والصلاح، ولا ينبغي لأحد إن يؤثر بقربه من الشيخ إلا لمن هو أولى بذلك، لسن أو علم أو صلاح أو نسب أهل البيت النبوي، بل يحرص على القرب من الشيخ إذا لم يرتفع. في المجلس على من هو افضل منه، وإذا كان الشيخ في صدر مكان فافضل الجماعة أحق بما على يمينه ويساره، وإن كان على طرف صفه أو نحوها، فالمبجلون مع الحائط ومع طرفها قباله، وينبغي للرفقاء في درس واحد، أو دروس، إن يجتمعوا إلى جهة واحدة ليكون نظر الشيخ إليهم جميعًا عند الشرح، ولا يخص بعضهم في ذلك دون بعض.
الثامن: إن يتأدب مع حاضري مجلس الشيخ، فإنه أدب معه واحترام لمجلسه، وهم رفقاؤه فيوقر أصحابه ويحترم كبراءه وأقرانه، ولا يجلس وسط الحلقة، ولا قدام أحد، إلا لضرورة، كما في مجلس التحديث. ولا يفرق بين رفيقين، ولا بين متصاحبين، إلا برضاهما معأَ، فقد جاء النهي عن الجلوس بين الرجلين إلا بإذنهما، فإذا وسعوا جلس وجمع نفسه، ولا يجلس فوق من هو أولى منه.
قال أبو محمد اليزيدي: " أتيت الخليل بن أحمد في حاجة فقال لي: ههنا يا أبا محمد، فقلت: أضيق عليك، فقال إن الدنيا بحذافيرها تضيق عن متباغضين، وإن شبرًا في شبر لا يضيق على متحابين ".
1 / 20