مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن هذا الكتاب العظيم الذي نقدمه اليوم في نشرة علمية جديدة ضمن مشروع «آثار الإمام ابن القيم الجوزية» من الكتب الأصول للإمام ابن القيم، وهو في مرتبة «زاد المعاد»، و«الصواعق المرسلة»، و«مدارج السالكين»، و«طريق الهجرتين»، و«إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان»، ونحوها. فهذه كلها منظومة علمية واحدة، غايتهاالدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنةفي العقائد والأعمال، وإصلاح ما أصاب حياة المسلمين العلمية والعملية من زيغ أو فساد على أيدي الفلاسفة والمتكلمين ومقلدي الفقهاء والمتصوفة المنحرفين. وذلك عنوان مهمة التجديد والإصلاح التي قام بها شيخ الإسلام ابن تيمية، وآزره فيها وسار على خطاه تلاميذه، ومن أبرزهم تلميذُه الإمام ابن القيم.
وكتابنا هذا بما احتواه من مباحث الرأي والقياس والتقليد وحكمة التشريع وتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان وسدّ الذرائع وأدب المفتي والمستفتي وما إلى ذلك=يُعَدُّ من كتب أصول الفقه، ولكنه يختلف عنها في ترتيبه ومنهجه وأسلوبه، بل في مادته الغزيرة من الاحتجاجات والردود في أبواب من الكتاب لا تلقاها مجموعة في كتاب آخر، ومسائل فقهية كثيرة جدًّا جاءت للتمثيل والتدليل، وخصّ بعضها بإطالة البحث والتفصيل. ثم الكتاب معرض آراء شيخ الإسلام وترجيحاته، وقد سماه المؤلف فيه في أكثر من مائة موضع، وبنى كثيرًا من المباحث على قواعده، وساق في أثنائه فصولًا طويلة من كلامه. فأصبح
المقدمة / 3
الكتاب بذلك كلِّه فريدًا في بابه، ومنهلا عذبًا لورّاده. ولم يبالغ السيد رشيد رضا إذ قال في وصفه: «لم يؤلِّف مثلَه أحد من المسلمين في حكمة التشريع ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى وما يتعلق بذلك، كبيان الرأي الصحيح والفاسد، والقياس الصحيح والفاسد، ومسائل الحيل، وغير ذلك من الفوائد التي لا يستغني عن معرفتها عالم من علماء الإسلام» (^١).
وقد طبع الكتاب أول طبعة في دهلي (الهند) سنة ١٣١٣ - ١٣١٤ عن ثلاث نسخ خطية في مجلدين، ثم طبع في القاهرة سنة ١٣٢٥ في ثلاثة مجلدات على نفقة فخر التجار مقبل بن عبد الرحمن الذكير ﵀. وصدرت بعدهاعدّة طبعات أشهرها طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ﵀ سنة ١٣٧٤. ثم حقق الكتاب الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان، وصدرت نشرته سنة ١٤٢٣ في سبعة مجلدات عن دار ابن الجوزي بالدمام، وقد بذل جهدًا كبيرًا في إعداد هذه النشرة التي جمع فيهامقدمات الطبعات السابقة وقراءاتها وتعليقاتها، مع تصحيح أخطاء كثيرة من أخطائها. ولكن المحقق لم يوفَّق آنذاك للحصول على نسخ قديمة صحيحة، فاعتمد على نسخ متأخرة لا تصلح للاعتماد، ومن ثم لم يتمكن من إخراج نص الكتاب سليمًا من آفات التصحيف والتحريف. ويبدو للقارئ أحيانًا أن عناية المحقق بالتعليق والتخريج طغت على عنايته بتصحيح النص، فبقي المتن في مواطن كثيرة على خطئه مع وروده صحيحًا في نسخه الخطية أومصادرتخريجه. وبصرف النظر عما ذكرنا كانت خدمته للكتاب جيدة مشكورة، فجزاه الله خيرًا لقاء ما بذل واجتهد.
_________
(^١) مجلة «المنار» المجلد ١٢ (١٩٠٩) ص ٧٨٦.
المقدمة / 4
أما هذه النشرة التي بين أيديكم، فأخرجناها عن سبع نسخ قديمة مكتوبة في القرن الثامن أو التاسع، وعُنينا حسب منهجنا بتحرير النص عناية بالغة، واستفدنا في خدمة الكتاب من جهود من سبقنا، ونرجو أن تكون هذه النشرة أصح وأقرب إلى ما وضعه المؤلف ﵀. ونأمل من العلماء والباحثين إذا وقعوا على زلل في قراءة النص أو التعليق عليه أن لا يُسْبِلوا عليه ذيل العفو، بل حقُّ الكتاب عليهم التنبيه والتصحيح، وحقُّهم علينا الشكر والتقدير. والحمد لله الذي وفّق وأعان على إنجاز هذه النشرة، وهو المسؤول أن يتقبلها بقبول حسن، وأن ينفع بها. وقد قدّمنا بين يدي النص دراسة للكتاب تشتمل على الفصول الآتية:
- توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف
- تحرير عنوان الكتاب
- زمن التأليف
- بناء الكتاب وموضوعاته
- منهج المؤلف فيه
- أهمية الكتاب وقيمته العلمية
- موارد الكتاب
- أثره في الكتب اللاحقة
- مؤلفات ودراسات عن الكتاب
- النسخ المعتمدة في هذه النشرة
- الطبعات السابقة
- منهجنا في هذه النشرة
المقدمة / 5
توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف
كتابنا هذا من أشهر مؤلفات ابن القيم، ولم نر من دفع نسبته إليه أو شكّك فيها. وكيف يتطرق إليها الريب، وهي محفوفة بأدلة قاطعات وشواهد مؤكدات من داخل الكتاب وخارجه جميعًا؟ وإليك جملة منها:
١ - النسخ الخطية التي وصلت إلينا من الكتاب لم تختلف في اسم المؤلف، سواء ورد الاسم في صفحة عنوانها، أو في فاتحتها، أو خاتمتها.
٢ - الذين ذكروه في ثبت مؤلفات ابن القيم، بعضهم معدود من أصحابه وتلامذته، مثل صلاح الدين الصفدي الذي ذكره في كتابيه: «الوافي بالوفيات» (٢/ ٢٧١) و«أعيان العصر وأعوان النصر» (٤/ ٣٦٩)، ومثل شهاب الدين ابن رجب، وابنه زين الدين ابن رجب، ذكره أولهما في معجم شيوخه كما في «المنتقى» منه (ص ١٠١) والآخر في «ذيل طبقات الحنابلة» (٥/ ١٧٥). ومن أصحاب كتب التراجم الذين عدّوا الكتاب من مؤلفات ابن القيم غير تلامذته: الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة» (٣/ ٤٠٢)، والسيوطي في «بغية الوعاة» (١/ ٦٣) ومجير الدين العليمي في «المنهج الأحمد» (٥/ ٩٤) والداوودي في «طبقات المفسرين» (٢/ ٩٦) وابن العماد في «شذرات الذهب» (٨/ ٢٨٩).
٣ - أفاد من الكتاب علماء كثيرون من الحنابلة وغيرهم، وكلهم عزاه إلى ابن القيم، وسيأتي ذكر بعضهم في المبحث القادم ومبحث الصادرين عنه.
٤ - وقد أحال عليه ابن القيم نفسه في ثلاثة كتب من مؤلفاته، وهي «إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان» (١/ ٣٢)، و«التبيان في أيمان القرآن»
المقدمة / 7
(ص ٣٤٥)، و«الفوائد» (ص ١٠). أما «إغاثة اللهفان»، فذكر فيه قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [البقرة: ١٧ - ١٩]، ثم قال: «وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين وبعض ما تضمَّناه من الحكم فى كتاب (المعالم) وغيره». والمقصود بكتاب المعالم كتابنا هذا كما سيأتي في المبحث القادم، والكلام على المثلين المذكورين وارد فيه (١/ ٣١٦ - ٣٢١).
وأما كتاب «التبيان»، فجاء فيه قوله: «وقد بينا في كتابنا (المعالم) بطلان التحليل وغيره من الحيل الربوية بأسماء الرب وصفاته». وانظر هذا المبحث في كتابنا ه ذا (٣/ ٤٩١ - ٥٠٧، ٦٠٠ وما بعدها).
وأما كتاب «الفوائد»، فافتتحه ابن القيم بقاعدة جليلة تكلم فيها على تفسير سورة ق والقرآن المجيد، فلما انتهى إلى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ [١١] قال: «أي مثل هذا الإخراج من الأرض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب خروجكم من الأرض بعدما غُيِّبتم فيها. وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا (المعالم)، وبينّا بعض ما فيها من الأسرار والعبر». وستجد كلامه على القياس المذكور في كتابنا هذا في (١/ ٣٠٥) وما بعدها.
٥ - كما أحال ابن القيم على هذا الكتاب في كتبه الأخرى، أشار فيه أيضًا إلى كتابين من مؤلفاته، وهما: كتاب «الفروسية»، و«بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال»، وذلك في قوله (٤/ ٤٣٥، ٤٣٦): «إذا أخرجَ المتسابقان في النضال معا جاز في أصح القولين،
المقدمة / 8
والمشهور من مذهب مالك أنه لا يجوز. وعلى القول بجوازه فأصح القولين أنه لا يحتاج إلى محلل، كما هو مقتضى المنقول عن الصديق وأبي عبيدة بن الجراح، واختيار شيخنا وغيره. والمشهور من أقوال الأئمة الثلاثة أنه لا يجوز إلا بمحلل، على تفاصيل لهم في المحلل وحكمه. وقد ذكرناها في كتابنا الكبير في «الفروسية الشرعية»، وذكرنا فيه وفي كتاب «بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال» بيان بطلانه من أكثر من خمسين وجها، وبينّا ضعف الحديث الذي احتج به من اشترطه، وكلام الأئمة في ضعفه، وعدم الدلالة منه على تقدير صحته».
قلت: كتاب «الفروسية» معروف ومطبوع، والبحث المشار إليه استغرق منه نحو مائتي صفحة (٨٨ - ٢٨٤). أما الكتاب الآخر فذكره الصفدي بهذا الاسم في كتابيه: «الوافي بالوفيات» (٢/ ١٩٦) و«أعيان العصر» (٤/ ٣٧٠). وسماه ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (٥/ ١٧٥) «بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل»، وأبوه من قبل في معجم شيوخه، كما في «المنتقى» (ص ١٠١).
وقد أحال ابن القيم في موضع (٥/ ٤١٧) على كتاب لم يسمه، فقال: «وأبعد الناس من الأخذ بذلك الشافعي رحمه الله تعالى مع أنه اعتبر قرائن الأحوال في أكثر من مائة موضع. وقد ذكرنا منها كثيرا في غير هذا الكتاب». ويظهر أن المقصود به كتابه «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية» (١/ ٤٨ - ٦٣).
٦ - سمّى المؤلف فيه شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ أكثر من مائة مرة، ونقل من أقواله وأخباره وأحواله، وأشار إلى بعض مصنفاته، بل ساق
المقدمة / 9
بعض قواعده وأجوبته بنصها، وسيأتي تفصيلها في مبحث موارد الكتاب.
٧ - تضمن الكتاب مباحث كثيرة وآراء واجتهادات للمؤلف ذكرها في كتبه الأخرى أيضا وبلفظ قريب مما جاء هنا بعض الأحيان؛ وقد نبهنا عليها في تعليقاتنا، فنكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها:
- التعليل في كتاب الله العزيز: ذكر المؤلف في (١/ ٣٩٠ - ٣٩٢) الأدوات والطرق التي استعملت في القرآن الكريم لبيان الأسباب والعلل مع أمثلتها. وترى هذا البحث في «الداء والدواء» (ص ٣١ - ٣٤) و«مفتاح دار السعادة» (٢/ ٩١٣ - ٩١٥) و«مدارج السالكين» (٣/ ٤٦١) و«شفاء العليل» (ص ١٨٨ - ١٩٨).
- كلام المؤلف في حكومة داود وسليمان ﵉ في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، وأقوال العلماء في المسألة وترجيح الحكم السليماني في ضمان النفش والمثل، تراه بلفظ مقارب في كتابنا هذا (٢/ ١٣٣ - ١٣٦) و«تهذيب السنن» (٣/ ١٣٦ - ١٣٨). وانظر أيضا: «مفتاح دار السعادة» (١/ ١٥٥).
- ذهب في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٣] إلى أن الله سبحانه رتب فيها المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها، فالقول على الله بغير علم أشد المحرمات (١/ ٨٠ - ٨١) ونجد هذا التفسير نفسه في «مدارج السالكين» (١/ ٣٧٨).
- كثير من أمثال القرآن الكريم التي فسرها في كتابنا هذا، تكلم عليها في مؤلفاته الأخرى أيضا بنحو ما جاء هنا، كالمثلين المائي والناري في قول
المقدمة / 10
الله تعالى في سورة الرعد [١٧]: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ فسرهما في هذا الكتاب (١/ ٣١١ - ٣١٣) و«طريق الهجرتين» (١/ ٢٢٢ - ٢٢٣) و«مفتاح دار السعادة» (١/ ١٦٤ - ١٦٦) و«الوابل الصيب» (ص ١٣٣ - ١٣٤) و«إغاثة اللهفان» (١/ ٣١).
وكذلك تكلم في (١/ ٢٩٤ - ٢٩٧) على الآيات الأخيرة (٧٨ - ٨٣) من سورة يس، فقال: «فتضمنت هذه الآيات عشرة أدلة»، ثم فصّلها. وفسّر هذه الآيات في «الصواعق المرسلة» (٢/ ٤٧٣ - ٤٧٧) أيضا، وذكر سبعة أدلة من هذه دون تصريح بعددها.
وقول الله سبحانه في سورة النور [٣٩ - ٤٠]: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ فيه مثلان لأعمال الكفار، وقد شرحهما المؤلف في كتابِنا (١/ ٣١٦ - ٣٢١) و«اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص ٢٧ - ٣٩)، ولا فرق بين الموضعين إلا في الإجمال والتفصيل، أما التفسير فهو هو.
ونكتفي بهذا القدر، والحق أن إفاضة القول في باب النسبة تحصيل حاصل، فإن الكتاب بمقاصده ومباحثه ومنهجه وأسلوبه ينادي باسم مؤلفه، ولا يخطئ في ذلك من له شيء من الأنسة بكتبه.
* * * *
المقدمة / 11
تحرير عنوان الكتاب
لم ينص المؤلف على عنوان كتابه في مقدمته، ولكنه أحال عليه في ثلاثة كتب من مؤلفاته باسم «المعالم» يعني: «معالم الموقعين عن ربِّ العالمين»، كما سبق في المبحث السابق. أما كتب التراجم ومخطوطات الكتاب فورد فيها هذا العنوان وعنوان آخر اشتهر به الكتاب، ولا فرق بينهما إلا في الكلمة الأولى، ولا شك أن كليهما من تسمية المؤلف. ولكن قبل أن نتكلم على العنوان المشهور، نبدأ بالجزء الثاني منه الذي لا خلاف فيه، فمن الموقِّعون عن رب العالمين؟
للإجابة عن هذا السؤال نرجع إلى كتاب المؤلف: «التبيان في أيمان القرآن» الذي يقول فيه، وهو يذكر أنواع الأقلام (ص ٣٠٦، ٣٠٧): «والقلم الثالث: قلم التوقيع عن الله ورسوله، وهو قلم الفقهاء والمفتين. وهذا القلم أيضًا حاكم غير محكوم عليه، فإليه التحاكم في الدماء والأموال والفروج والحقوق. وأصحابُه مخبِرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده». والقلم السابع عنده: «قلم الحكم الذي تثبت به الحقوق، وتنفَّذ به القضايا، وتراق به الدماء، وتؤخذ به الأموال والحقوق من اليد العادية، فتُرَدُّ إلى اليد المحقّة، وتثبت به الأنساب، وتنقطع به الخصومات». فهذا قلم القضاة. ثم يذكر النسبة بين القلمين، فيقول: «وبين هذا القلم وقلم التوقيع عن الله عموم وخصوص: فهذا له النفوذ واللزوم، وذاك له العموم والشمول».
وفي مقدمة كتابنا هذا قسم المؤلف علماء الأمة إلى ضربين: أحدهما حفاظ الحديث وجهابذته، والثاني: فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام. ثم قال في علو منزلتهم وما يشترط وصفهم به (١/ ١٧):
المقدمة / 13
«ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلمَ بما يبلغ والصدقَ فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالمًا بما يبلِّغ، صادقًا فيه. ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضيَّ السيرة، عدلًا في أقواله وأفعاله، متشابه السرِّ والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله. وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحلِّ الذي لا يُنكَر فضله، ولا يُجهَل قدرُه، وهو من أعلى المراتب السنيَّات، فكيف بمنصب التوقيع عن ربِّ الأرض والسماوات؟ ... وَلْيعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وَلْيوقن أنه مسؤول غدًا وموقوف بين يدي الله».
وقال في آخر الكتاب في الفائدة الثامنة عشرة من الفوائد المتعلقة بالفتوى (٥/ ٥٩): «فخطرُ المفتي عظيم، فإنه موقِّع عن الله ورسوله، زاعم أن الله أمر بكذا، وحرّم كذا، وأوجب كذا».
نصوص المؤلف هذه صريحة في أن المقصود بالموقِّعين عن ربِّ العالمين في عنوان الكتاب: الفقهاء والمفتون. وإذا دخل فيهم القضاة، فإنما يدخلون للنسبة المذكورة بين قلمهم وقلم المفتين.
فإذا ألقينا نظرة خاطفة على المطالب العظيمة التي دار عليها الكتاب، مثل تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وبالرأي المخالف للنص، وأقسام الرأي والاستصحاب والقياس، وبيان أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس، وشمول النصوص للأحكام، وشرح كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري، وتفصيل القول في التقليد، وتغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة وغيرها، وسدّ الذرائع، والكلام على الحيل وغيرذلك، ثم ختم الكتاب بفوائد بلغ عددها تسعين فائدة تتعلق بالفتوى والمفتي، ثم أورد
المقدمة / 14
فصولا مرتبة من فتاوى النبي ﷺ = ظهر لنا أن تلك المطالب العظيمة بمنزلة صُوى ومعالم ومنارات نصبها المؤلف ﵀ للموقعين عن ربِّ العالمين، ليهتدوا بها إذا عميت عليهم المسالك، ويستنيروا بها إذا أظلمت عليهم السبل. ومن هنا سمّى كتابه «معالم الموقعين عن رب العالمين»، فكان الاسم مطابقًا لمسمّاه.
وبهذا العنوان ذكرالكتاب صلاح الدين الصفدي (ت ٧٦٤) في كتابيه «الوافي بالوفيات» (٢/ ٢٧١) و«أعيان العصر» (٤/ ٣٦٩)، وعنه ابن تغري بردي (ت ٨٧٤) في «المنهل الصافي» (٩/ ٢٤٢). وكذا سماه «معالم الموقعين» أبوذر أحمد بن برهان الدين سبط ابن العجمي (ت ٨٨٤) في «تنبيه المعلم» (ص ١٠٧)، وابن العماد الحنبلي (ت ١٠٨٩) لما نقل منه في «شذرات الذهب» (١/ ٢٥٩) نصًّا في ترجمة أم المؤمنين عائشة ﵂. وبهذا الاسم سمِّي الكتاب في نسخ من النسخ الخطية القديمة والمتأخرة، كما سيأتي.
ولكن يظهر أن المؤلف ﵀ آثر فيما بعد تركيب «أعلام الموقِّعين» لكونه أخفَّ على اللسان من تركيب «معالم الموقِّعين»، ثم لأنه لا فرق بينهما في المعنى، إذ لفظ الأعلام مرادف للفظ المعالم، فكلاهما يؤدي الغرض المقصود بعينه. وهذا الإمام الخطابي سمَّى شرحه لسنن أبي داود «معالم السنن»، ولما توخَّى المعنى نفسه في شرحه لصحيح البخاري سماه «أعلام الحديث». ثم انظر إلى قول المؤلف في «الصواعق المرسلة» (٤/ ١٥٧٢) عن الكواكب: «وجُعلت زينةَ السماء، ومعالمَ يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر ...». وقوله عنها في الصفحة التالية:» ... وجُعِل بعضُها
المقدمة / 15
ظاهرًا لا يحتجب أصلا، بمنزلة الأعلام المنصوبة التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر، فهم ينظرون إليها متى أرادوا، ويهتدون بها حيث شاؤوا».
وما ذكرنا من طلب الخفّة والسلاسة في العنوان يظهر جليًّا في تغيير المؤلف عنوان كتاب آخر له أيضا، سمّاه أولا «بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلّل السباق والنضال». وهذا العنوان مثل عنوان كتابنا «معالم الموقعين عن رب العالمين» ذكره الصفدي في كتابيه. ولا يخفى ما فيه من ثقل لتوالي الإضافات في السجعة الثانية مع العطف في الإضافة الأخيرة، فاستطال التركيب، فاختار المؤلف فيما بعد عنوانًا آخر فكّ فيه الإضافات، وانتقى كلمات أخرى أخفّ وألطف، وهو «بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل». وهذا العنوان الجديد مثل عنوان كتابنا «أعلام الموقعين عن رب العالمين» ذكرهما شهاب الدين ابن رجب (ت ٧٧٤) في معجم شيوخه (المنتقى:١٠١) وابنه زين الدين ابن رجب (ت ٧٩٥) في «الذيل على طبقات الحنابلة» (٥/ ١٧٥)، والأب والابن كلاهما من تلامذة المؤلف.
ومما يدل على أن العنوان الأول وهو «معالم الموقعين عن رب العالمين» الذي ذكره الصفدي أقدم من هذا الذي ذكره ابن رجب: حجمه الذي نص عليه الصفدي، وهو «سفر كبير»، مثل حجم طريق الهجرتين، لا كحجم زاد المعاد الذي في «أربعة أسفار». أما عند ابن رجب فزاد المعاد في «أربعة مجلدات» كما قال الصفدي، وطريق الهجرتين في «مجلد ضخم» كما قال الصفدي أيضا؛ ولكن أعلام الموقعين في «ثلاثة مجلدات»
المقدمة / 16
خلافًا للصفدي، وهذا هو حجم الكتاب في جميع نسخه التي وصلت إلينا. فدلّ ذلك على أن المؤلف قد أضاف إلى كتابه الذي كان في سفر كبير ــ عند ما قيَّد الصفدي اسمه وحجمه نقلا عن المؤلف، وقد يكون وقف على مسودة الكتاب عنده ــ زيادات كثيرة تبلغ نحو الثلثين، فجاءت النسخة النهائية منه في ثلاثة أسفار. ولكن لا يعني ذلك أنه لما أنجز الكتاب في صورته الأخيرة سمّاه «أعلام الموقعين عن رب العالمين»، بل الظاهر أنه أخرجه بعنوان «معالم الموقعين عن رب العالمين»، وانتسخت منه النسخ، ثم بدا له أن يستبدل بالمعالم لفظ الأعلام، فسمِّي الكتاب في نسخ أخرى بالعنوان الجديد. وهذا العنوان هو المذكور في المصادر الآتية:
- «الدرر الكامنة» (٣/ ٤٠٢) لابن حجر (ت ٨٥٢).
- «بغية الوعاة» (١/ ٥٨) للسيوطي (ت ٩١١).
- «طبقات المفسرين» (٢/ ٩٦) للداوودي (ت ٩٤٥).
- «كشف الظنون» (١/ ٨١) لحاجي خليفة (ت ١٠٦٧).
- «شذرات الذهب» (٨/ ٢٨٩) لابن العماد (ت ١٠٨٩).
- «البدر الطالع» (٢/ ١٤٤) للشوكاني (ت ١٢٥٠).
الجدير بالذكر أن السيوطي اعتمد في ترجمة ابن القيم وأسماء مؤلفاته على الصفدي، لكنه لم يتابعه في عنوان كتابنا. هذا إن كان ما ورد في النسخ المطبوعة من بغية الوعاة سالمًا من تغيير الناشرين.
أما ابن العماد، فقد نقل جريدة مؤلفات ابن القيم عن ذيل ابن رجب، فسماه «أعلام الموقعين»، ثم نقل في ترجمة عمرو بن شعيب (٢/ ٨٤) من
المقدمة / 17
كتابنا كلامًا لابن القيم عن صحيفته عن أبيه عن جده، فسماه كذلك. ولكن لما نقل منه في ترجمة أم المؤمنين عائشة (١/ ٢٥٩) سماه «معالم الموقعين» كما سبق. ولا غرابة في هذا، فلعله استفاد في الموضعين من نسختين مختلفتين من الكتاب، سمي في إحداهما بالمعالم وفي الأخرى بالأعلام، غير أن من الأصول التي اعتمدنا عليها في إخراج نشرتنا هذه نسخةً وقف عليها ابن العماد، وطالعها «مطالعة تفهّم»، كما ذكر في آخر المجلد الأول منها. وكان العنوان المكتوب في أول هذه النسخة وخاتمتها: «معالم الموقعين»، ولكن غيّر بعضهم كلمة المعالم إلى الأعلام! فالظاهر أن مصدر ابن العماد فيما نقل وسمّى نسختنا هذه.
وذكّرنا هذا التغيير بما فعله محققُ «شذرات الذهب» في هذا الموضع، إذ تصرَّف في متن الكتاب، فأثبت «إعلام الموقعين» مكان «معالم الموقعين» خلافًا لما جاء في نسخته المنقولة من خط ابن العماد وفي الطبعة السابقة، وقال في تعليقه: «في الأصل والمطبوع: «معالم الموقعين» وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه»!
ولعلك تنكرهذا التسرُّعَ في تغيير المتن، وهذا الجزمَ في التخطئة والتصحيح، وتُنحي باللائمة على المحقق؛ ولكنه عندنا غير ملوم، فإنه صرّح في مقدمته (١/ ٩٥) بأن والده ــ غفر الله له ــ علّمه أن «التحقيق يعني محاكمة النص ... وذلك لتقويم ما قد يقع فيه من الخطأ، واستدراك السّقط، لأن العلماء المتقدمين الذين خلَّفوا لنا هذا التراث العظيم هم مثلنا من بني البشر، وبنو البشر عرضة للخطأ والنسيان، مهما كان موقع أحدهم من أهل عصره». فلم يذكر المحقق ــ كما ترى ــ أن والده علّمه «احترام النص»،
المقدمة / 18
وأنت خبير بأن احترام النص هوالذي يحمل المحققَ ــ إذا خالجه شكٌّ في شيء منه ــ على التثبت والتأني والمبالغة في التفتيش والتقصّي. على أننا إن فرضنا أن تحقيق النص يعني محاكمته كما زعم، فإن المحاكمة أيضا تحتاج إلى آلات أخرى كثيرة غير كرسي الحكم!
وهذا التصرف من محقق الكتاب جعلنا نشك في الموضع الآخر الذي نقل فيه ابن العماد من الكتاب باسم «أعلام الموقعين»، ولاسيما لأن الموضعين متقاربان، وكلاهما منقول من المجلد الأول، الذي أكمل مطالعته مطالعةَ تفهُّم سنة ١٠٧٦، قبل الفراغ من تأليف «شذرات الذهب» سنة ١٠٨٠؛ وإن لم يكن ذلك يهمّنا من جهة التسمية نفسها، إذ كان ابن القيم هوالذي سمَّى كتابه بالاسمين، وكلاهما يؤدي المعنى نفسه كما سبق.
أما الذين أفادوا من هذا الكتاب مثل برهان الدين ابن مفلح (ت ٨٨٤)، وعلاء الدين المرداوي (ت ٨٨٥)، وشهاب الدين الشويكي (ت ٩٣٩)، وشرف الدين الحجاوي (ت ٩٦٨)، والبهوتي (ت ١٠٥١) وشمس الدين السفاريني (ت ١١٨٨) وغيرهم ــ وسيأتي تفصيل نقولهم ــ فجُلُّهم أحالوا عليه بعنوان «أعلام الموقعين».
تبيَّن من هذا العرض أن العنوان الأخير وهو «أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين» صار أشهر من العنوان الأول، وزاد في شيوعه وانتشاره أنه طبع الكتاب بهذا الاسم. ولكن حدث إشكال في ضبط كلمة الأعلام. يقول الشيخ بكر أبو زيد ﵀ في كتابه «ابن قيم الجوزية» (ص ٢١١): «وهذا (يعني «إعلام الموقعين» بكسر الهمزة) هو الضبط المشتهر على ألسنة علماء قطرنا، أعني في الديار النجدية. ولم أر من ضبطه بالحرف من قدماء النقلة
المقدمة / 19
ومتأخريهم». ثم قال عن «أعلام الموقعين» بفتح الهمزة (ص ٢١٢): «وهذا الضبط منتشر عند بعض علماء الأقطار من غير نجد». ونقل من حاشية للشيخ عبد الفتاح أبوغدة على كتاب «قواعد في علوم الحديث» للشيخ ظفر أحمد التهانوي (ص ٩٧) أنه سمع هكذا بكسر الهمزة من غير واحد من شيوخه، ومنهم الشيخ راغب الطباخ (١٢٩٣ - ١٣٧٠) والشيخ زاهد الكوثري (١٢٩٦ - ١٣٧١).
ولا شك أن الناطقين بالكسر لم يكن لديهم مستند في ذلك، وإنما جرى على ألسنتهم دون نظر وتحقيق. ولعل من أسباب الوهم شيوع لفظ «الإعلام» في أسماء كتب كثيرة مشهورة، مثل «إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء» لابن الجوزي، و«إعلام الساجد بأحكام المساجد» للزركشي، و«إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب» للسيوطي، و«إعلام الناسك بأحكام المناسك» لنور الدين الشافعي، و«إعلام النبيه بما زاد على المنهاج من الحاوي والبهجة والتنبيه» لابن قاضي عجلون، و«إعلام الأعلام بمن ولي قضاء الشام» لابن اللبودي، و«إعلام الورى بمن ولي نائبًا من الأتراك بدمشق الكبرى» لابن طولون وغيرها.
ويضاف إلى هذا الشيوع للفظ الإعلام في عنوان الكتاب قربُ معناه وكثرةُ دورانه على ألسنة الناس في عموم كلامهم. ونخشى أن يكون سجع العنوان (الموقعين + العالمين) أيضًا ساعد على الوهم، إذ خيَّل إلى الناس أنه عنوان تامّ، فخفي عليهم ما فيه من نقص وقصور لعدم ذكر ما يتعلق به لفظ الإعلام. فلو فسّرت العنوان كاملًا على وجه الكسر، فقلت: «إخبار المفتين» = لظهر ما كان خافيًا من النقص والضعف، بل تبيَّن عجزُ واضع
المقدمة / 20
العنوان أيضًا إذ أعياه تكملة عنوانه بسجعة ملائمة تُتِمّ معناه! ولذلك قلّما تجد عنوانًا ورد فيه لفظ الإعلام إلا ومتعلقه مذكور فيه، كما رأيت في العناوين التي ذكرناها آنفا. أما عنوان كتاب ابن طولون: «إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين»، فإنما حُذف فيه متعلّقُ لفظ الإعلام لدلالة متعلّق «السائلين» المذكور عليه، فالسؤال والجواب كلاهما عن «كتب سيد المرسلين».
وقد ذكر الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في حاشيته المذكورة أنه كتب إلى الشيخ مصطفى الزرقاء يستطلع رأيه في ترجيح الفتح أو الكسر في عنوان كتابنا، فأجاب: «لا يوجد ــ فيما أعلم ــ دليل يصلح للقطع بأن مؤلفه رحمه الله تعالى وضعه هكذا أو هكذا، لأني أتذكر أنني تتبعت الدلائل كثيرًا، فلم أصل إلى نتيجة قطعية. ولكلٍّ دليل». ثم ذكر دليل الفتح، فقال: «فذكرُه كبارَ أهل الفتيا والقضاء من الصحابة والتابعين على نطاق واسع يوحي بالفتح جمعًا لعَلَم. أما دليل الكسر فهو كون الكتاب «يتضمن كثيرًا من الفقه والتوجيه والتأصيل الشرعي من رأيه وفهمه واجتهاده، كأنما هو خطاب للمتصدّين للفتوى والقضاء، الموقّعين عن الله، فهو إعلام لهم». فالقضية عنده قضية ترجيح واستحسان، لا قضية خطأ وصواب. قال الشيخ عبد الفتاح: «وهي كلمة فصل». كذا قال! وإنما هي ــ كما ترى ــ كلمة تردّد، إذ لم يصل الشيخ مصطفى الزرقاء إلى نتيجة قطعية، كما اعترف بصراحة في أول الجواب.
أما ما ذكره من توجيه الفتح، فإنه «ليس بالقائم، وسبيله الرفض» كما يقول الشيخ بكر أبو زيد في كتابه «ابن القيم» (ص ٢١٣)، لأن ذكر أعلام الفتيا والقضاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ليس إلا جزأ من مقدمة
المقدمة / 21
المؤلف، واستغرق نحو عشرين صفحة فحسب من الكتاب الزائدة صفحاته على ١٦٠٠ صفحة (من طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ﵀). وأما توجيه الكسر فقد تقدم ما فيه.
وبعد، فإن اسم الكتاب في نسخة المكتبة الأزهرية التي وقفنا على المجلد الثاني منها كتب هكذا: «أَعلام الموقعين ...»، فوضعت علامة الهمزة فوق الألف مع ضبطها بالفتح. وهذه النسخة أصل جليل متقن مكتوب سنة ٧٩٠، ولكن عنوان الكتاب فيها ليس بخط ناسخها. وبين أيدينا نسخة أخرى من الكتاب محفوظة في مكتبة مديرية الأوقاف العامة ببغداد، وهي نسخة قديمة أيضًا وصل إلينا منها المجلد الأول، ولعل صفحة العنوان منها ضاعت، غير أن أحد مالكيها سنة ٩٩٥ كتب اسم الكتاب «اَعلام الموقعين ...»، وضبط أوله بالفتح.
أما طبعات الكتاب، فإن طبعته الأولى التي صدرت في الهند سنة ١٣١٣ - ١٣١٤ لم يضبط فيها أول كلمة «اعلام» بالفتح أو الكسر، على طريقتهم في تجريد الألف من علامة الهمزة في الخط الفارسي وخط النسخ كليهما، كما ترى في الكتب العربية المطبوعة قديمًا طباعة حجرية أو بتنضيد الحروف في الهند وتركيا وإيران، بل في بعض مطبوعات مصر أيضا، وكان ذلك امتدادًا لطريقة ناسخي المخطوطات العربية عمومًا. ولما طبع الكتاب أول مرة في مصر سنة ١٣٢٥ كتب عنوانه أيضًا «اعلام الموقعين» دون ضبط أوله كالطبعة الهندية. نعم، وضعوا في خاتمة الكتاب علامةً على الألف تشبه نقطتين، ولكنها ليست بهما ولا علامة الهمزة. وتابعتها في عدم الضبط الطبعة المنيرية غير المؤرخة. أما طبعة الشيخ محمد محيي الدين
المقدمة / 22
عبد الحميد الصادرة سنة ١٣٧٤ (١٩٥٥ م)، فإنها أيضًا أثبتت في صفحة العنوان «اعلام الموقعين» دون ضبط غير أنها التزمت في خاتمة كلِّ مجلد وبداية فهرسه ونهايته بوضع علامة الهمزة فوق الألف: «أعلام الموقعين». وكأنها بصنيعها هذا قد مهدت لصدور ثلاث طبعات: طبعة الشيخ عبد الرحمن الوكيل سنة ١٣٨٩ (١٩٦٩ م)، وطبعة الشيخ طه عبد الرؤوف سعد سنة ١٩٧٣ م، وطبعة الشيخ عصام الحرستاني سنة ١٤١٩ باسم «أعلام الموقعين» دون تردد. ولكن الشيخ مشهور بن حسن لما أصدر الكتاب بتحقيقه سنة ١٤٢٣ كانت نشرته أول نشرة، في تاريخ الكتاب مخطوطِه ومطبوعِه، أُثبِت فيها العنوانُ بكسر الهمز «إعلام الموقعين»!
هذا، وقد ذكر الأمير صديق حسن خان في حاشية كتابه «سلسلة العسجد في ذكر مشايخ السند» (ص ٨٤) وهو مطبوع في الهند سنة ١٢٩٣ أن في كشف الظنون: «الموفَّقين» يعني: في موضع «الموقِّعين»، والإحالة هنا على نسخة خطية من الكشف، فإن هذا التصحيف لم يقع في نشرة فلوجل من الكتاب (١/ ٣٦٠ - ٣٦١)، التي صدر المجلد الأول منها سنة ١٨٣٧ م (١٢٥٣ هـ) قبل طباعة كتاب الأمير. والجدير بالذكر أن الطبعة التركية من الكشف أيضا بريئة من هذا الخطأ. ولكن الغريب حقًّا أن الشيخ أنور شاه الكشميري (١٢٩٢ - ١٣٥٢) نقل في كتابه «فيض الباري على صحيح البخاري» (٢/ ٢٦٧) من كتابنا هذا، وقال: «ومرّ عليه ابن القيم في أعلام الموقَّعين، والصواب: أعلام الموفَّقين ...». قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بعد ما نقل كلامه في حاشيته المذكورة: «وأثبته بفتح الهمزة، وبلفظ الموفقين بالفاء ثم القاف من التوفيق. وهو شيء غريب يعدّ من سبق القلم وتغيير الاسم
المقدمة / 23
العلَم، وهو ليس بجائز إلا عن نصٍّ من صاحبه». قلنا: وبصرف النظر عن تصحيحه الجازم من غير حجة، هل ذهب على الشيخ أنور شاه أن بعده في العنوان «عن رب العالمين»، فكيف يكون تأويل «الموفقين عن رب العالمين» عنده؟ نعم، لوقال: إن الصواب «... الموفقين عند رب العالمين»، كما ذكر البغدادي في «هدية العارفين» (٢/ ١٥٨)، لكان له وجه من التأويل، مع بُعده عن الصواب أكثر من الأول لتصحيف الكلمتين.
ولم ينته شقاء هذا العنوان بعدُ، إذ قرأ المستشرق الألماني غوستاف فلوجل ــ وهوالذي أخرج الطبعة الأولى من «كشف الظنون» مع ترجمته اللاتينية ــ لفظ «الموقعين» بفتح القاف، وفسره بمعنى المنكوبين الذين ابتلاهم الله بالمصائب!
وهكذا أصيب ثلاثة أخماس هذا العنوان بتصحيف أو تحريف أو سوء تأويل! ولو علم المؤلف ﵀ أن كلمة «الأعلام» المشتركة ستجلب إلى عنوانه الجديد كلّ هذا التخليط لصرَف النظرَ عنه بالكلية، وأبقى على العنوان الأول الصريح الدلالة على ما ضمّن كتابه العظيم من صُوى وأعلام يهتدي بها الفقهاء والمفتون والقضاة. ألا، وهو: «معالم الموقعين عن ربِّ العالمين»، وبه سمِّي الكتاب في ثلاث نسخ من النسخ التي بين أيدينا.
وقد اخترنا عنوان «أعلام الموقعين» لأنه الذي أقرَّه المؤلف أخيرًا لخفته على اللسان، وهو مرادف للفظ «المعالم» الذي ذكره المؤلف في بعض كتبه، ولا فرقَ بينهما في المعنى. أما «إعلام الموقعين» بكسر أوله فبعيد كما سبق تفصيله.
* * * *
المقدمة / 24