الإهداء
مقدمة في اسم الديوان
في العالم
في النفس
في مصر
في عالم الذكرى
هنا ... وهناك
الإهداء
مقدمة في اسم الديوان
في العالم
في النفس
في مصر
في عالم الذكرى
هنا ... وهناك
أعاصير مغرب
أعاصير مغرب
تأليف
عباس محمود العقاد
الإهداء
إيه يا من أوحت الشعر وخانت شاعره
لك أهديه لوحيك •••
إيه يا من ليس يوحيه ويمسي ذاكره
لك أهديه لرعيك •••
هكذا أبرأ في الحالين من حمد خيانة
وأصون العهد ممن رام شعري بصيانة
وأداري حيرتي خافية أو ظاهرة!
مقدمة في اسم الديوان
شاعر نرجع إليه كما نرجع إلى الصديق الذي نأنس به، ونستطيب الكلام والصمت معه.
وشاعر نرجع إليه كما نرجع إلى الكتاب الذي نستمتع به ونحب القراءة فيه.
وبين الشاعرين فارق، فما هو؟ أيكون الأول أصدق في الشاعرية، وأجزل في العبارة وأجود في الصناعة، وأجمل في الأسلوب؟
قد يكون كذلك.
ولكنه كذلك قد لا يكون.
لأن الصديق الذي نأنس إليه، ونستطيب الكلام والصمت معه لا يلزم أن يكون خيرا من الغريب الذي لم نعرفه ولم نأنس إليه. فقد يكون بين الغرباء من هو أفضل من أصدقائنا خلقا، وأجمل سمتا وأطيب سيرة، وإنما يحبب الصديق إلينا أنه يشاركنا في الشعور، ويعيش معنا في عالم نفساني واحد، وتلك بعينها هي مزية الشاعر الصديق على الشاعر الذي نقرؤه ولا نشعر له بصداقة. فهو ينظر إلى الدنيا كما ننظر إليها ويحس بها كما نحس بها. وإن لم يكن كذلك واختلفت بيننا وبينه وجهة النظر ومذاهب التفكير، فلعله مع هذا أقرب إلى تعزيتنا، والنفاذ إلى ضمائرنا من شعراء آخرين لا يبثون في نفوسنا العزاء، ولا يعرفون إلى ضمائرنا طريق نفاذ، أما الشاعر الذي نقرؤه ولا نصادقه، فقد يجيد ويفضل غيره في الإجادة، ولكنه غريب نلقاه كما نلقى كل غريب.
من الشعراء الذين نرجع إليهم رجوعنا إلى الصديق في اللغة العربية أبو العلاء وابن الرومي والشريف.
ومنهم في اللغات الأوروبية ليوباردي، وهنريك هيني، وتوماس هاردي، وهذا فريد عندنا في هذه الخصلة بين المحدثين المعاصرين .
رجعت إليه وأنا أفكر في طبع ديواني الجديد، واختيار الاسم الذي يناسبه، فقرأت له الأبيات التي يقول فيها:
أنظر إلى المرآة، فأرى هذه البشرة الذابلة تنقبض، فأتوجه إلى الله مبتهلا إليه: أسألك يا رب إلا ما جعلت لي قلبا يذبل مثل هذا الذبول.
إنني إذن لأحس برد القلوب من حولي فلا آلم ولا أحزن، وإنني إذن لأظل في ارتقاب راحتي السرمدية بجأش ساكن وسمت وقور.
غير أن الزمن الذي يأبى لي إلا الأسى قد شاء أن يختلس، فلا يختلس كل شيء، ويترك فلا يترك كل شيء، ولا يزال يرجف هذه البنية الهزيلة في مسائها بأقوى ما في الظهيرة من خلجة واضطراب.
فما أتممت هذه الأبيات حتى خطر لي الاسم الذي اخترته لهذا الديوان، وهو «أعاصير مغرب»، وإن لم يرد في الأبيات ذكر للأعاصير.
أعاصير مغرب اسم صالح لجملة الشعر الذي احتوى هذا الديوان؛ لأنه نظم وعالم الدنيا مضطرب بأعاصيره، وعالم النفس مضطرب بأعاصيره، ومنه ما يشبه الأعاصير التي هزت كيان «الشيخ» هاردي، فتمنى من أجلها ذبولا في القلب كذبول إهابه.
ورأيي في الغزل الذي نظمه هاردي بين السبعين والثمانين ليس بالرأي الحديث، فلم أعجب به اليوم؛ لأنني صاحب ديوان بعد «وحي الأربعين»، بل أعجبت به؛ لأنني كنت أرى في زمن الفتوة أن الشعور والتعبير لا ينتهيان بانتهاء الشباب، ومتى بقي الشعور والتعبير، فما الذي فني من مادة الغزل والغناء؟
واتفق منذ بضع عشرة سنة أنني كتبت في هذا المعنى،
1
وأن كتابتي فيه كانت بصدد الكلام عن هاردي الذي أوحى إلي اليوم اسم ديواني الجديد، فأثنيت على غزله أجمل ثناء، وقلت أجيب الأديب الأستاذ سيد قطب الذي استغرب إجادة هاردي شعر الغزل في السبعين من عمره: «وإن المسألة بعد ليست مسألة نظريات يرجع فيها إلى تباين الآراء والأذواق، وإنما هي مسألة حقيقة لا ريب فيها ولا اختلاف عليها؛ إذ كل ما يجب علينا لنقول إن الشيخوخة تجيد الغزل أحيانا، هو أن نعلم أن توماس هاردي نظم شعر الغزل بعد السبعين، وأن ما نظمه بعد تلك السن كان جيدا مقبولا رضي عنه قراء الشعر واستزادوه، وأنه كان هو من أسباب تلك الشهرة الذائعة التي أحرزها في عالم الشعر بين قراء الأدب الرفيع بعد اشتهاره بالرواية وحدها في سن الشباب. فهل نظم توماس هاردي غزلا جيدا بعد السبعين! نعم. وإذا كانت نعم هي الجواب الذي لا بد منه، فلا حيلة للنظريات ولا لتعريفات الشباب والحب والغزل في نفي هذه الحقيقة المقررة.»
ثم قلت: «على أننا لو فرضنا أن توماس هاردي لم يخلق في هذه الدنيا، ولم يكن بين أيدينا هذا المثل القريب، ولا مثل غيره من الشعراء الشيوخ الذين ساهموا في المعاني الغزلية، وبلغوا فيها بعض الإجادة أو كلها؛ فهل تمنعنا النظريات ومراقبة الظواهر النفسية أن ننتظر المعاني الغزلية بعد انقضاء الشباب؟ أما نحن فنقول: لا؛ لأن الحب شيء والغزل شيء غيره، وإن كان الحب هو موضوع الغزل والمعنى الذي يدور عليه.» «فالحب» عاطفة شائعة بين الناس، بل شائعة بين من ينطق وما لا ينطق، ولسنا نعني الصلة الجسدية التي تنقضي بانقضاء دوافع الفطرة، فإن هذه لا تسمى حبا ولا هي من العلاقات القائمة بين فرد بعينه وفرد آخر بعينه؛ لأنها فوضى مشتركة بين جميع الذكور وجميع الإناث من فصيلة واحدة.
ولكننا نعني الصلة النفسية التي تجمع الفردين معا بعلاقة لا يغني فيها أي فرد آخر من الفصيلة. وقد ثبت للباحثين في طبائع الأحياء أن بعض الطيور والحيوانات تتزاوج مدى الحياة، وينتقل الذكر والأنثى منها آلاف الفراسخ بين أوروبا وإفريقيا، ثم يعودون من تلك الرحلة إلى حيث كانا سنة بعد سنة، حتى يموت أحدهما، أو يعتاقه عائق لا قدرة له عليه.
فالحب على هذا يستلزم الغزل لا في الإنسان ولا في غيره من الأحياء، وإذا قلنا: لكل حي غزله الذي ينطق بما في نفسه، فليس يسعنا أن نقول إن كل محب شاعر، وإن كل متغزل فنصيبه من الحب مثل نصيبه من الغزل على السواء.
إن الذين يقتلون أنفسهم حبا من غير الشعراء الغزليين أكثر جدا من الذين يبلغون في الحب هذا المبلغ بين أولئك الشعراء. فلا ريب أن الشاعر لا يحسن الغزل بغير حب، ولكن لا ريب كذلك في أن الحب قد يعلو حين يهبط الغزل، وأن الغزل قد يعلو حين يهبط الحب، على درجات لا تناسب بينها في العلو والهبوط ...
والشباب هو سن احتدام الشعور وهجوم الحياة، ولكن أي شباب وأي شعور؟ فقد يقضي الفتى أوائل شبابه، ولا معنى للحب عنده إلا أنه «وظيفة فزيولوجية» مبهمة يساق إليها بغير هداية ولا تمييز. وقد يطلب الشريك في الحب، وهو لا يعلم ما الذي يطلبه فيه، وما الذي يأخذه منه وما الذي يعطيه؟ لأن الحب عنده هو جوعة جسدية أو نفسية يشبعها أي شريك يصادقه، ويلفيه على مثل حاله من الرغبة والاشتياق. وقد يكون احتدام شوقه ناقصا من حبه، كما أن احتدام الجوع في الجائع يغنيه بكل طعام حاضر، ويجعل الأكل هو المقصود لذاته، لا الصنف، ولا الطعم الذي يميز ذلك الصنف من سواه.
والحب على أتمه وأعمه وأقواه هو تفاهم بين نفسين، وامتزاج بين قلبين وجسدين، وقبل أن يفهم الإنسان نفسه كيف ينشد التفاهم مع نفس حبيبه، وقبل أن ينكشف له قلبه كيف يعرف مواضع الكشف والحجاب من القلوب، وقبل أن يكمل بناء جسمه كيف تكمل فيه رغائب الأجسام، وقبل أن يعرف النساء كيف يعرف المرأة؟ بل قبل أن يزاول الحياة كيف يزاول لباب العاطفة التي تنضجها الحياة.
فليس الاحتدام هو الحب نفسه؛ لأن هذا الاحتدام قد ينقص من الحب، كما أن الحب قد يلهب الاحتدام فيمن لم يكن يعانيه ...
فللشباب حبه، وللرجولة حبها، وللكهولة بعد ذلك حب لا يشبه الحبين ...
وإذا تقضى الشباب وتقضت بعده الرجولة، وتقضت بعدهما الكهولة، فهل تنفد مؤنة الغزل وهل يبطل دواعيه؟ كلا! فهناك الحنين والتذكار، وكلاهما مؤنة للغزل لا تنفد وداعية حاضرة في كل حين. ولو سألنا الشعراء الذين عالجوا النظم في خوالج النفوس شيوخا وشبابا لعلمنا منهم أن خير ما نظموه في شوق أو حزن، أو ألم أو خالجه ثائرة أيا كان فحواها إنما كان كله من قبيل الحنين والتذكار؛ لأنهم ينظمون بعد فوات الثورة الداهمة واطمئنان اللوعة العارضة، فيسلس لهم المعنى ويصفو الشعور من كدر الدخان والضرام ...
فلا عجب أن يجيد هاردي الغزل أو يجيده سواه من الشيوخ، سواء أنظرنا إلى الحقيقة الواقعة التي لا ريب فيها أم نظرنا إلى المعهود من أطوار النفوس والقرائح. وقد يحسن أن نذكر بعد هذا أن إجادة هاردي في الغزل لم تكن إجادة مطلقة يطمع فيها كل شيخ ينظم القريض، وتثبت له العبقرية، ولكنها كانت إجادة هاردية عليها سمة الرجل، وفيها طبيعة مزاجه التي لم تفارقه في شباب أو شيخوخة.
ومضت الأيام والسنون بعد كتابة هذا المقال، فلم يكن فيما قرأت ولا فيما عرفت شيء يخالف ما بدا لي من هذا الرأي منذ نظرت في حقائق العاطفة والتعبير. وأحرى أن نعلم مع الزمن أن العاطفة ألزم للحياة الإنسانية، وألصق بها وأعمق فيها من أن تحصرها فترة واحدة، أو تحتويها صورة واحدة، أو يختمها عهد واحد. فهي - ككل شيء في الحياة - تزداد فهما على طول المصاحبة، وطول المراس والمساجلة، وعلى حسب ازدياد الفهم يزداد التعبير، ويزداد الاستكناه والتصوير، وبخاصة بين الذين يقضون حياتهم في عالم الشعور والجمال، وهو عالم الفنون والآداب، وهم الشعراء والموسيقيون والمصورون والممثلون.
ويصح على هذا أن يكون الشباب عهد ابتداء العاطفة وافتتاحها على صورتها الأولى، أو هو العهد الذي تفاجأ فيه البنية بشعور جديد لم تكن لها به خبرة من قبل، فيشاهد عليها ما يشاهد على كل بنية تفاجئها حالة طارئة. فإن المفاجأة إذا عرضت لإنسان بدا لك في حالة كحالة الشاب في أول عشقه: وجه ساهم، وفم مفغور، وطرف ذاهل، ولسان معقود، ونفس مطرود ... وهذه هي الحالة التي يخيل إلى من يراها أنها العشق دون غيره، مع أنها أحرى أن تدل على أن العشق مفاجأة لم تعهدها البنية ولم تألفها النفس، فلم تزل بها حاجة إلى التثبت منها والرياضة عليها. ثم تأتي هذه الرياضة شيئا فشيئا مع تعاقب الأيام وتعاقب ألوان الشعور.
في هذه الحالة - حالة المفاجأة - تتفتح النفس على عالم مسحور حافل بالصور والزخارف والأسرار، وتجود القريحة بالمعنى البكر والخيال الطريف، وتتسع للشاعر منادح للإحساس ولوصف الإحساس يركض فيها ركض السبق والتجلية إن كان من السابقين المجلين. ولكن سحر المفاجأة يمتنع بعد قليل أو كثير، فلا يمتنع عليه سبيل القول بامتناعه، كالذي تسحره المدينة لأول نظرة فيصفها على التو والساعة في الصورة المتوهجة التي أضفاها عليه سحرها، ثم يقيم فيها سنة وسنوات، فلا يجهلها بعد معرفة، ولا يعز عليه وصفها بعد قدرة. ولكنه يصفها غير مسحور ولا مبهور، فيخسر وصفه ذلك الوهج اللامع ثم يعوضه نفاذ النظر، وطول الخبرة وصدة المشاهدة، كأنما تغيرت المدينة وهي لم تتغير بين النظرتين، ولا أخطأ واصفها في إحدى الحالتين.
وإذا كان هذا شأن المدينة المحدودة، فكيف يكون شأن العالم النفساني الذي ليست له حدود؟ وكيف يستنقذ هذا العالم الرحيب في نظرة واحدة ولا سيما نظرة المفاجأة والمعرفة الأولى؟ وكيف يفهم العاطفة الإنسانية من يحسبها ضيفا يفارق الحياة بعد المصافحة الأولى، ولا يعلم أنها هي صاحبة الدار، وأنها هي هي الحياة؟
فالأعاصير الطاغية تعصف على العالم النفساني حيثما تشاء على اختلاف الأوقات والأجواء، وليست أعاصير المغارب بدعا في عالم الأكوان ولا في عالم الإنسان.
وقد أشار علي صاحبنا هاردي، فأحسن المشورة فيما اخترت لتسمية هذا الديوان، فقد نظمته بين ثوائر الأفكار، وثوائر الحروب وثوائر الصدور، فلو بحثت له عن عنوان أدل على ما فيه لانقطع عنان الاختيار دون المراد. •••
سألني صديق يرى أنني تشاءمت من حيث يتفاءل فقال: ولم استعجلت المغرب، وقد أجله صاحبك هاردي إلى ما بعد السبعين بل الثمانين؟
قلت: يا صديقي اقرأ أبيات بيرون إن شئت ولا تقرأ أبيات هاردي إن لم تشأ، فإنما هي حالة تلم بالرجل فيما قبل الأربعين، كما تلم فيما وراء السبعين.
وبيرون ماذا قال في السادسة والثلاثين؟ ماذا قال وهو في يقظة الحياة ومعترك النضال؟
نظم تلك الأبيات التي سماها بعضهم «عيد ميلاد أخير»، فقال:
آن لهذا القلب أن يسكن، مذ عز عليه أن يحرك سواه، ولكني وقد حرمت من يهوى إلي، حسبي نصيبا من الحب أن أهوى.
إن أيامي لمكتوبة على الورقة الذاوية، إن زهرات الحب وثماره ذهبت إلى غير رجعى، إنما السوس والديدان وحسرة الأسى، هي لي ... لي وحدها تحيا.
وهذه النار التي تأكل الحنايا، كأنها جزيرة بركان في عزلة قاصية، حممها لا توقد جذوة أخرى، وإنما هي نار تبيت على سرير الردى.
وتلك الأشواق والأوجال والهموم الغيرى، ذلك الحظ المقسوم من اللوعة العليا، تلك القدرة على الهيام والهوى، ليس لي منها حصة تبقى، فما لأغلالها في عنقي لا تنزع ولا تبلى؟ •••
نظم بيرون هذه القصيدة في عيد ميلاده السادس والثلاثين، ولم يكن يعلم أنه عيد ميلاده الأخير الذي لا حب بعده ولا حياة، ولكن هكذا كان على ما أراد أو على غير ما أراد. فماذا تغني السنون القصار أو السنون الطوال؟ إنما هي حالات تلم بالنفوس في كل حين، وإنما التفاؤل والتشاؤم لسانان يقولان، وللزمن وحده أن يصدقهما أو يكذبهما فيما يقولان.
فإن تشاءمت أيها الصديق بأعاصير الغروب، فاذكر متفائلا أن ساعات الغروب هنا بغير حساب. فمنذ سنين جمعت دواويني الشعرية فسميت الجزء الأول منها «يقظة الصباح»، وسميت الجزء الثاني «وهج الظهيرة»، وسميت الجزء الثالث «أشباح الأصيل»، وسميت الجزء الرابع «أشجان الليل»، ثم ظهرت لي بعد ذلك الليل وأشجانه ثلاثة دواوين هي: وحي الأربعين، وهدية الكروان، وعابر سبيل. ثم ها نحن أولاء في هذا المغرب وفي هذه الأعاصير. فهل نحن راجعون؟ وهل للشمس من «يوشع» يؤجل لها مواقيت الغروب؟ إن كان للشعر «يوشعه»، فليس نصيب هاردي من مغربه المديد أمنية أشتهيها، وليس نصيب بيرون في ضحاه القاتم نعمة أرتضيها، وإن كانت الكلمة في هذا للقضاء يفعل ما يشاء، ويتبع أسلوبه في الإطناب والاقتضاب حين يرتجل كل كتاب.
عباس محمود العقاد
هوامش
في العالم
يارب ... ويا خلق!
يارب!
يا رب أعطيناك أرواحنا
في هذه الحرب وفي الماضية
يا ربنا فاقض لنا مرة
بالسلم في أيامنا الباقية
يا خلق!
يا خلق ما أرواحكم سمحة
عندي، ولا إن سمحت كافية
أعطيتم إبليس أضعافها
من حيوات عندكم غالية
وبعتم في سوقه كل ما
وهبتكم من عيشة راضية
لم تشتروا السلم بأرواحكم
بل اشتريتم نقمة ثانية
عطاؤكم إبليس سمح بلا
أجر ولا أمنية خافية
وما بذلتم قط لي قربة
إلا رجاء العفو والعافية!
عباد الطغيان
كلكم، كلكم مع الغالب الظا
لم لا تعدموا من الظلم رغما
لو وقفتم يوما إلى جانب المغلو
ب ما فاز غالب قط ظلما
قريب قريب
عجبنا زمانا لهذي الحروب
وما في الحروب لعمري عجيب
أتعجب من أن قوما تمو
ت، ومن أن قوما قساة القلوب
وما قسوة الناس بدع ولا
أرى موتهم بالجديد المريب
فهذي هي الحرب يا صاحبي
كلا طرفيها قريب قريب
فصد!
قالوا: هي الحرب فصد
به الشفاء يؤمل
قلنا: نعم، فصد عرق
حي وإعفاء دمل
الخلود المزدرى
نفوس أعاف مقامي بها
أأخلد فيها؟ لبئس الخلود!
وسجن أعاف وجودي به
أليس كفيلا ببعض الوجود؟
فدع عنك يا صاحبي خالدي
ك، وقل من مزك لهم أو شهيد
فلا خير في عيشتهم سرمدا
إذا سرمدوا في ضمير القرود
فرب خلود كقيد السجي
ن، ونسيان قوم كفك القيود
سوء توزيع
دنياك فيها جمال
ورحمة وسرور
تلقى ولا تبتغيها
وتبتغى فتجور
1
هذا هو الشر عندي
ومنه تنمو شرور
بأس الطغاة
بأس الطغاة تقول؟!
مهلا، عداك الذهول
هيهات يطغى ابن أنثى
في أمة أو يصول
ما لم يعنه عليها
جهل وحقد دخيل
هما الأصيلان فاعلم
وكل طاغ وكيل
وما لطاغ سبيل
لولاهما أو دليل
الداء العالمي
أرثي له عالما شقيا
يقاد مستسلما زريا
ومن هم القائدون؟ رهط
من شرهم خسة وغيا
هذا هو الداء لا قتال
يطوي صفوف الجموع طيا
فالجهل يزري بكل حي
ولا تعيب المنون حيا
قلت للمريخ
2
قلت للمريخ: أعذله
وهو يذكي جمرة الغضب
ويك! ما هذا الخراب؟ وما
ذلك الإغراق في العطب؟
أمم تسطو على أمم
ولظى ثوارة اللهب
ودماء كالبحار على
عيلم
3
للدمع منسكب
وقبور كظها تخما
جثث الهلكى من السغب
4 •••
قال: مه يا صاح أين ترى
كل ما استهولت وا عجبي
أرضكم ما زلت أبصرها
نائيا حينا وعن كثب
5
هين ما قد تبدل من
سمتها في هذه الحقب
جزاه الله
جزى الله هتلر أوفى الجزاء
بما قد أجاد وما قد أساء
فما زال يقذف من حوله
مواعظ يلقفها من يشاء
ألم نر كيف يكون الحقير
حقيرا ويقضي بأيدي القضاء
وينهى ويأمر في قومه
ويبرم في أمرهم ما يشاء
ويغزو الممالك في عالم
تفدى ممالكه بالدماء
ويفتح باريس في وثبة
ويوصد لندن دون الهواء
فوالله ما الحرب في هولها
وفي كل ما خيبت من رجاء
بضائعة عبثا لو درى
بنو آدم كيف يزجي الثناء
فقد يضخم العمل المزدرى
فيضخم ضعفين في الازدراء
هوامش
في النفس
هذا هو الحب!
غريرة تسأل: ما الحب؟
بنيتي! هذا هو الحب!
الحب أن أبصر ما لا يرى
أو أغمض العين فلا أبصرا
وأن أسيغ الحق ما سرني
فإن أبى، فالكذب المفترى •••
الحب أن أسأل: ما بالهم
لم يعشقوا المنظر والمخبرا؟
ويسأل الخالون ما باله
هام بها بهرا وما فكرا؟ •••
الحب أن أفرق
1
من نملة
حينا، وقد أصرع ليث الشرى
وأن أراني تارة مقبلا
وخطوتي تمشي بي القهقرى •••
الحب كالخمر فإن قيل لي:
سكرت؟ هم القلب أن ينكرا
وكل عضو بعده قائل
نعم، ولا أحفل أن أسكرا •••
الحب أن يفرق أعمارنا
عهدان، والعهد وثيق العرى
أحسبني الأكبر حتى إذا
عانقني ألفيتني الأصغرا •••
الحب أن نصعد فوق الذرى
والحب أن نهبط تحت الثرى
والحب أن نؤثر لذاتنا
وأن نرى آلامنا آثرا •••
الحب أن أجمع في لحظة
جهنم الحمراء والكوثرا
2
وإنني أخطئ في لهفتي
من منهما روى ومن سعرا •••
الحب أن يمضي عام وما
هممت أن أنظم أو أشعرا
وربما علقت في ساعة
حواشي الدفتر والأسطرا
بنيتي! هذا هو الحب
فهمته، كلا، ولا عتب!
مسألة أسهلها صعب
لا الناس تدريها ولا الكتب
حسبك منها ، لو شفت حسب
إشارة دق لها القلب
عمر زهرة
فريدة في روضها
أخيرة في الموسم
عيشي وأهدي غيرها
في كل عيد، واسلمي
ألست أنت مثلها
علمت أو لم تعلمي
هدية الخلاق لي
وقد رأى تنسمي؟
3 •••
زهرتك البيضاء هل
لا تذكرين نشرها؟
4
حفظتها في خدرها
هل برحت مقرها؟
حفظتها، حفظتها
فهل حفظت سرها؟
قصصت منها عقدة
لكي أطيل عمرها •••
من يحفظ الزهرة أسبوعا إلى تمامه
قد يحفظ الحب إلى السابع من أعوامه
فانتظريه في غد يسأل عن غرامه
ولا يمسه إلا لكي يزيد في أيامه •••
وتسألين ما لنا
نقص منه يا ترى؟
نعم فكل ح
ي ناقص ما عمرا
كم ساعة نبترها
تزيد فيه أشهرا
فلا يزال مشتهى
ولا يزال أخضرا
كوبيد يتسلل
نفض النعاس فؤاده وصبا
وصحا، فمال، فهام، فاضطربا
ونفى السآمة بعدما بلغت
منه المشاش،
5
وعاود اللعبا
وجرى الذي ما كان يحسبه
يوما يكون، وطالما حسبا
في توبة الخمسين يشغله
وجه، ويملأ صدره رغبا
ويظل يسأله، وإن وهبا
ويبيت يسمعه، وإن كذبا
ويعد منه الزور مأثرة
أولا يريد بزوره سببا؟!
رجع الهوى، عجبا له، عجبا
لا طاغيا وافى ولا لجبا
لم أوله بابا ولا كنفا
عندي، فكيف أطل واقتربا
ناديته حينا فراوغني
فاليوم ناداني وما طلبا
بينا أقول صددته حذرا
طلع النهار إذا به انسربا
لذ يا بني بمن يلاذ به
ولك الحمى، ما لم تهج غضبا •••
هذا الصغير على غرارته
يدري النفاق ويحسن الأدبا
وتراه في العشرين مستبقا
وتراه في الخمسين مصطحبا
ويغيظ من كيد وعربدة
فإذا أغيظ شكا أو انتحبا
متمرسا بالدهر مختبرا
خيم
6
القلوب محاذرا دربا
سأضمه رفقا، وأوسعه
برا، وأملك قلبه حدبا
7
ويقيم لا أخشى كنانته
8
السهم أخطأ والحسام نبا •••
أكذاك أم هو خادعي أبدا
حتى إذا أمن الحمى انقلبا؟
سيان، ما أنا حاذر لغد
أغلبته بالكيد أم غلبا
حذري أشد علي من خدع
تشقى وتسعد بالمنى نوبا
في كل يقظة خائف هرم
ومع الخديعة لذة وصبا
مسرة واحدة
تم الكتاب وألقت باليراع
9
يدي
وضمن الطرس إحساسي وإدراكي
ما لي به غير مسرور ولا كلف
ألا يسر يمينا نبتها الزاكي
ضيعت فيك مسراتي فما بقيت
لي من مسرة شيء غير لقياك
لولا هواك لألهاني السرور به
عن عالم ضاحك أو عالم باك
دنيا مقلوبة
صوت النذير
10
الذي أبقاك خائفة
على ذراعي قولي كيف أخشاه؟
أو البشير الذي يدعوك ثانية
إلى الطريق لعمري كيف أرضاه
الحب والحرب وا ويلا قد اجتمعا
في القلب فانقلبت أحوال دنياه!
الحب
ما الحب روح واحد
في جسدي معتنقين
الحب روحان معا
كلاهما في الجسدين
ما انتهيا من فرقة
أو رجعة طرفة عين
الطير المهاجر
علمتني مواسم الروض أن ال
طير شتى: مهاجر ومقيم
أتراني لا أسمع الطير إلا
في رياضي معششا لا يريم؟
11
رب شاد في هجرة يتغنى
وعليه السلام والتسليم
من جنوب إلى شمال، وحينا
من شمال إلى جنوب يحوم
فله حين يستقل
12
وداع
وله حين يقبل التكريم
خذ من الطير كل يوم جديدا
فسواء جديده والقديم
كم مول وصفوه لا يولي
ومقيم وصفوه لا يقيم
الصدار الذي نسجته
هنا مكان صدارك
هنا هنا في جوارك •••
هنا هنا عند قلبي
يكاد يلمس حبي
وفيه منك دليل
على المودة حسبي •••
ألم أنل منك فكرة
في كل شكة إبرة
وكل عقدة خيط
وكل جرة بكرة! •••
هنا مكان صدارك
هنا هنا في جوارك
والقلب فيه أسير
مطوق بحصارك! •••
هذا الصدار رقيب
على الفؤاد قريب
سليه: هل مر منه
إلي طيف غريب؟ •••
نسجته بيديك
على هدى ناظريك
إذا احتواني فإني
ما زلت في إصبعيك
قولي مع السلامة
نعم مع السلامة
والحب والكرامة •••
حديثك الممتع لي
من ثغرك المقبل
وأنت لي في منزلي
وشيكة أن تخجلي
من قبلة حرى إلى
لغو إلى ابتسامة
ولا تقولي عندها
لا، لا، مع السلامة
حتى إلى القيامة •••
أما إذا مسرتي
13
نادتك يا حبيبتي
فاستمعي تحيتي
ثم «اسألي عن ليلتي»
ثم اضحكي وسلسلي
ضحكتك النغامة
فإذا أطلت بعدها
فهذه علامة
قولي مع السلامة
قولي مع السلامة
الغيرة
إذا رابك القلب الذي لا تنوشه
مخالب من وسواسه أو نواجذ
14
فلا تحسبي أني خلي من الهوى
ولا أنني سال هواك فنابذ
ولكنني راض بما تظهرينه
وما أنا في السر المغيب نافذ
فلست إلى ما فات منك براجع
ولا أنا معط فوق ما أنا آخذ
هبة لا تنقل
تريدين قلبي؟ خذيه خذيه!
رويدك، لا، بل دعيه دعيه!
دعيه إذا غبت عني أرى
محياك فيه وحبي فيه
وسر أبوح به خلسة
وإن كنت من قبل لم تسمعيه
أخاف على البعد أن تلعبي
به يا بنية أو تهمليه
فكم لعبة وقعت من يدي
ك وقوعا أرى القلب لا يشتهيه
إذا ما لعبت به ها هنا
فإني لآمن أن تكسريه
تريدين قلبي؟ خذيه خذيه
ولكن بربك لا تنقليه
بعض الزراية
بعض الزراية نافع
في حبهن فلا تغال
لولا الزراية لم تطق
منهن مشنوء
15
الخصال
ما حبهن من المها
نة في قرارته بخال
قبل السكر
لمع الشراب وراق منظره
فرشفت منه خلاصة الراح
حتى إذا غالبت سكرته
صفقته
16
فرددت أقداحي
شكرا: فما أقسى المغبة لو
أمسى يشاب ولست بالصاحي
قد حان أسلم لي، وإن فتنت
عيني لمعة حسنه الضاحي
لغير البيع!
جواهر الحب قالوا: غير زائفة
مهلا، فما أنا فيه بائع شار
كلا، ولا أنا من شك ولا ولع
بالسر عارض أحجاري على النار
خذ معدن الحب إن ألفيت معدنه
إني قنعت بومض منه غرار
ما للأناسي من حب يدوم ولا
حب يقوم على صدق وإيثار
جزاء التحدي
بنية ما صنعت؟ جزاك ربي
بحب في مشيبك مثل حبي
لقد غيرتني حتى لو اني
أرى قلبي إذن لجهلت قلبي •••
سليني كيف كنت وكيف صرت
وقولي ما صنعت وما صنعت
قدرت على الحوادث بعد لأي
17
وهأنذا كأني ما قدرت •••
أخاف وكان لي قلب قرير
فهأنذا إذا صفر النذير
18
أتوق إلى غد لتراك عيني
وأرجم من يغار بمن يغير •••
وكانت لي سلالم أرتقيها
فرادى لا أبالي ما يليها
فعدت مثنيا عجلا كأني
أخو العشرين مرتقيا سنيها •••
وكنت من السآمة لا أبالي
أذم الناس أم حمدوا فعالي
فهأنذا أسائل ما عساها
ستسمع في من قيل وقال •••
وكنت هزئت حتى بالجمال
وحتى بالفنون وبالمعالي
فما لي اليوم لا أرضى بحال
وكنت الأمس أرضى كل حال؟ •••
أعود إلى الحياة فتلك عندي
هموم المستعيد المستعد
تحديت الحياة فهل جزتني
بهذا الحب عن ذاك التحدي؟
إعفاء
أعفيك من حيلة الوفاء
إنك أحلى من الوفاء!
خوني! فما أسهل التقصي
عندي وما أسهل الجزاء
وليس بالسهل في حسابي
فقدك يا زينة النساء
الحب الضاحك
فرغت من الحب الذي يعقب الشكوى
فحبي من النعمى، وليس من البلوى
بذلت له ناري ثلاثين حجة
فلا نار بعد اليوم، اليوم للحلوى!
ومحضته ماء الشباب فما ارتوى
فهل في خريف العمر يطمع أن يروى
رضيت بما أعطى وأحسبه ارتضى
بما أنا معطيه على غير ما يهوى
فلا زال في عقباه ضحكا بلا بكا
ووصلا بلا هجر، وهجرا إلى سلوى
زهرة ديسمبر
خل أيار ونوارا له
ربما أعجب قوما، ربما
خير نواري الذي أهديته
زهر في شهر كانون
19
نما
عيد ميلادك من بستانه
يا ربيعا في الشتاء ابتسما
هات يا كانون زهرا كلما
سقط الزهر تعالى وسما
من تقليد «نشيد الأناشيد»
أجل تلك خباياها
وهاتيك خطاياها
فهل تدرين ما ذا
ك الذي يدعى مزاياها؟! •••
لما فيها من العيب
سننساه وننساها
وللحسن الذي فيها
سنحيي الآن ذكراها •••
سأحصي لك ما يعجب
منها، وهو كالشمس
كما أحصيت ما يغضب
بعد السعي والدس •••
ثناياها، ثناياها
وهل ذقت ثناياها؟
وعيناها، ويا للقل
ب، كم تسبيه عيناها؟! •••
وتلك الوجنة الخمري
ة السكران رائيها
أفي الجنة يا رضوا
ن تفاح يحاكيها؟! •••
وتلك القامة الهيفا
ء زانتها زواياها
إذا ما جار ردفاها
أقام الجور نهداها •••
وتلك النسمة الحلو
ة في ثوب الأناسي
هي الروح الفراشي
ة في النور السماوي! •••
دعيها تفسد الخمسي
ن إفساد ابن عشرينا
وحاشا، بل هي الإكسي
ر باسم الحب يحيينا •••
وعندي من حميا
20
الشع
ر إكسيري وترياقي
وهل كالشعر في الدنيا
ربيع دائم باق!
مزيج
ما الحب من محض الصدا
قة يا بني، ولا العداء
الحب فيه الخصلتا
ن، وفيه مزجهما سواء
أحلى الصداقة والعدا
وة يمزجان لمن يشاء
فيه العطاء والاغتصا
ب، وقل على الدنيا العفاء!
مسابقة
أغنيتها عن خدعتي زمنا
وخدعت نفسي في محبتها
فبلغت أقصى الظن ممتحنا
صبري، ولم ألحق بخطوتها
لا تخلفي!
لا تخلفي وعدي فأكبر لذتي
في الحب إعزازي لصاحب عهده
ويغض من إعزازه ودلاله
أني إذا وعد ازدريت بوعده
أخلفي
إن كان خلفك للوعود تدللا
بمكانك الغالي لدي فأخلفي
ما كنت أتبعه القطيعة آنة
هو منك وا عجبي يطيل تشوفي
بنت البحر
أبنية البحر التي ضربت لنا
بسكندرية موعدا لتلاق
إني مددت يدي لتلمس شاطئي
قدماك لا لتعجلي إغراقي
اكذبيني
اكذبيني مرة أو
فاكذبيني مرتين
ألف ألف من أعاجي
بك في غش ومين
لن تبيد الفارق الخا
لد يا قرة عيني
والسماوات التي بي
نك في اللب وبيني •••
اكذبيني واكذبيني
كلما شئت اكذبيني
ما غناء اللب عندي
إن أبى أن تخدعيني
أنا في ثروة وفر
منه مهما تسلبيني
أنقصيها، أي ضير؟
درهما أو درهمين!
تقويم هذا العام من
لحظاته الأولى لديك
قومي ارفعيه وارفعي
عنه الغطاء براحتيك
من يوم مطلعه إلى
رجعاه موقوف عليك •••
وإذا انتهت أيامه
ولكل عام منتهاه
فعليك أنت وداعه
وترحبين بما تلاه
ويحي إذا دار المدى
ورعيت وحدي ملتقاه! •••
هي قبلة ضمت عرى
عامين فاتصلا اتصالا
ومنى الخواطر في غد
عام كسابقه مآلا
لا نعجلن به فما
أقسى الحياة على العجالى •••
لا، لا، فهذا يومنا
وغد، وبعد غد، خفاء
أنا مغمض عيني ومس
تمع إلى حادي الرجاء
فإذا سمعت حداءه
فدعيه يمضي حيث شاء
وعام ثان
بشراي، ما أنا شاهد
يا عام وحدي ملتقاك
دارت بروجك والهوى
يخطو وتتبعه خطاك
وحمدت وجهك مقبلا
ومضى، فلم أذمم قفاك •••
هذي فتاتي هذه
هي لا خلاف ولا اشتباه
هي في بديع قوامها
هي في الصبا، هي في حلاه
هي في غوايتها وآ
ه من غوايتها وآه •••
ضمي ثغيرك يا بنية
وابعثي منه الأمل
لا بالعهود إلى مدى
عام، ولكن بالقبل
إن ساعفتني ليلة
فدعي العهود إلى أجل •••
عام تفتح بالرجا
ء وبالرجاء ختمته
ودعت ذاك العام في
قربي كما استقبلته
قولي، وقد ولى، أفي
شرع الوفاء قضيته؟ •••
لا تخدعيني يا بنية
بالوفاء من اللسان
خنا وخنت ولا أقو
ل: سلي فلانة أو فلان
ذهبت خيانتنا معا
والآن نحن الباقيان •••
ذهبت خيانتنا كما
ذهب الوفاء ومن يفون
لا ذمة تبقى ولا
يبقى الوفي ولا الخئون
كم ذمة ضيعتها
يا عام في تلك الغضون! •••
انظر ألست ترى فتا
تي حيث كنت ضممتها
في جلسة الأمس التي
حتى الصباح جلستها
فكأنها ما فارقت
صدري ولا فارقتها •••
وإذا سألت وربما
جاء السؤال بلا كلام «ماذا تقول مودعي
والليل يومئ بالسلام»
حيرتني يا عام فاس
تمع الجواب ولا ملام •••
ما كنت عندي أيه
ذا العام كلك بالسعيد
لكن سويعات مضت
لي فيك تنسي ألف عيد
غفرت ذنوبك كلها
وطغت على العام الجديد •••
حسبي من الدنيا الذي
أعطت ودنيانا غرور
حسبي قليل عطائها
وقليلها أبدا كثير
إن عاد يوم غد كأم
س فدر زمان كما تدور
وعام ثالث! ... والثالث الموصول أق
بل مرحبا بالثالث
رحبت منه بمقبل
إقبال لاه عابث
ما كان يكرثنا
21
شقا
قا لم يعد بالكارث
رضنا الغرام رياضة ال
فرس العصي فأذعنا
لا جامحا قلقا ولا
تعبا يئن من الونى
22
أنعم بذلك مركبا
بين العوائر لينا •••
ما للغرام يسومنا
بنعيمه وشقائه
إنا لمغتنمو جهن
مه اغتنام سمائه
لسنا على يده يجو
د لنا بمحض سخائه •••
ما شب من نار طبخ
نا فوقها حلوى الهوى
أو صب من غيث غمس
نا فيه آلام الجوى
أو زف من ريح وهب
ناها الشراع كما استوى •••
أهلا بعام ثالث
يتلوه عام رابع
بل خامس فيما عهد
ت وسادس أو سابع
ما ضاقت الدنيا وفي
جنبيك قلب واسع •••
قلب تفتح بعد ما اس
تعصى بباب واحد
أو قل تشقق بالجرا
ح فلم يضق بالوارد
ما حيلة الأعوام في
غير الزمان الفاسد •••
يا قلب إنك قد أرد
ت فأين ويحك ما تريد؟
عام سعيد! إي ورب
بك ... قل إذن عام سعيد!
هبك اعتزلت سروره
أتراه ينقص أو يزيد؟
بعد سنة
سنة مرت ولا كل السنين
بين صيف من هوانا وشتاء
وربيع كلما غام أضاء
والضحى والليل حينا بعد حين •••
سنة كان لها نجم فريد
غمر الشمس وغطى القمرا
ومشى في حسنه منتصرا
كل برج تحته برج سعيد •••
إن يكن لي في سناه رقباء
فالذي أرصده لم يرصدوه
والذي أنشده لم ينشدوه
والذي هاموا به عندي هباء •••
سنة مرت على روض الغرام
أنبتت فيه فنون الشجر
من رياحين وغرس مثمر
وسل الأرواح ما أزكى الطعام! •••
يومها الأول وافى ودنا
فانس أيامك في ساعاته
واجمع الصافي من لذاته
جرعة، واطرب عليها زمنا •••
جرعة تجمع فيها سكر عام
إن شربناها فقد تشربنا
أو سكبناها فقد تسكبنا
في الهوى روحين في كأس وئام •••
هات لي الذكرى وقرب لي العيان
فهما يا صاحبي بين يدي
حضر الساعة يا صاح لدي
ربة للذكرى وذكراها قران •••
هات لي الذكرى أراها وتراني
غضة ملموسة في راحتي
حلوة معسولة في شفتي
جنة تنبت في كل أوان •••
جنتي لا حية تخرجني
أبدا منها ولا أحياؤها
لا ولا إبليس أو حواؤها
أنا فيها خالد كالزمن •••
أنا منها وهي مني في الضمير
فإذا فارقتها بالنظر
لم يفارقها ضميري عمري
وله العصمة من مس السعير •••
سنة كان لها نجم فريد
هات منها أيها النجم وهات
سنة ثانية بل سنوات
ولنا منك مزيد المستزيد •••
أنت يا نجم معيد ما تشاء
لا السماوات ولا داراتها
غنية عنك ولا أوقاتها
أنت ميقات وشمس وسماء •••
أنت تدنيها سماء زلفا
23
تنسج الوقت لنا منفردين
لا مشاعا كنسيج النيرين
بل لنا طوع يدينا وكفى
المرأة والخداع
خل الملام فليس يثنيها،
حب الخداع طبيعة فيها
هو سترها، وطلاء زينتها،
ورياضة للنفس تحييها
وسلاحها فيما تكيد به
من يصطفيها أو يعاديها
وهو انتقام الضعف ينقذها
من طول ذل بات يشفيها
أنت الملوم إذا أردت لها
ما لم يرده قضاء باريها
خنها! ولا تخلص لها أبدا
تخلص إلى أغلى غواليها
رواية
ما غرني إقناعها
كلا ولا إمتاعها
ماذا تخبئ طفلة
رقت ورق قناعها
بل غرني علم الطبا
ع، وللنفوس طباعها
أوليس علما بالحيا
ة يهون فيه صراعها
إني أشاهد كيف يف
طم في القلوب رضاعها
أو كيف يسري في النفو
س الواعيات خداعها
أو كيف ينهض بعد طو
ل سباته دفاعها
24
أو كيف يومض بعدما
خفت السراج شعاعها
دعني فتلك رواية
شاقت وشاق سماعها
ألمي الوجيز رقاعها
إن قيل: أين رقاعها؟
وأنا العليم، وقد علم
ت متى يكون وداعها
لغيرك!
لغيرك غفران تلك الخطايا
وغض الجفون وستر الخفايا
لغيرك، لا لك، صبري على
مساوئ يحسبن عندي مزايا
لمن أرسلتك، ومن جملت
ك ومن حبها كامن في حشايا
ألست رسول الحياة الأمي
ن بأسنى الهبات وأغلى الهدايا
فهاتي الرسالة واستغنمي
ثنائي، ولا تعجبي من هوايا
إذا الرسل أفضت بما عندها
فما حيلتي في اختلاف الوصايا
سواء لدينا بريد الوجو
ه، إذا حسنت، أو بريد الطوايا
ما استفدت؟
برئت من غش نفسي
ولا أقول: انتبهت
قد كنت ساهر عين
مستيقظا ما غفوت
برئت من غش نفسي
وليتني ما برئت
ما العمر محض نهار!
في العمر للغمض وقت •••
ها أنت يا عين يقظى
وها أنا قد نظرت
ماذا استفدت لعمري
وما عساني استفدت؟!
تربصي
إذا احتواك قفصي
سرى الفتور في جنا
حيك وإن لم تنقصي
وغرد الطير وضا
عت في الغناء فرصي
وخفت في سجنك ألا ترقصي
وإن ملكت الأفقا
حيرني رحب الفضا
ء مهبطا ومرتقى
وأوشك الصدر لفر
ط الضيق ألا يخفقا
وطار في إثرك لبي قلقا •••
تربصي، تربصي!
ما حيلتي؟ ما مهربي؟ ما مخلصي؟
الموت قناص الأبابيل وحلال العصي
يقنصني ويحك إن لم تقنصي
فهمان
لما نفست بما أغا
لي في هواك وأطنب
لم تفهمي مني سوى
أن النفائس تطلب
وفهمت من نزغات طب
عك، والطبائع تغلب
أن النفائس كلما
عزت، تراد، فتوهب!
فرخصت من فرط الغلو
وخبت فيما أحسب
وخسرت فيك خسارتي
ن، وخلت أني أكسب
كيف
تحفة من بدائع الله تحمي
كنزها كف طفلة لا تقر
كيف لي بادخاره في يديها؟
كيف لي باحتقاره وهو ذخر
مصيبتان
قالوا: اسلها ودع البكاء فإنها
في حبها ليست بذات وفاء
ومصيبتي فيها اثنتان؛ لأنني
أبكي لمن لا يستحق بكائي
من كان يبكي الأوفياء، ففي الأسى
لمن استحق أساه بعض عزاء
ندم!
عشقتك مكذبا خلقي ورأيي
وعفتك صادقا لهما أمينا
وما أخطأت في لوميك يوما
وقد أخطأت في عذريك حينا
حلم الأبد
أأهواك جسما علا وانفرد
وفتنة حسنك هذا الجسد
وما فيه كم نزوة لا تحد؟
بنية كوني كما خلقت
فأنت كما شاءك الله أنت
وما شئته أنا حلم الأبد
عيوبك
عيوبك لم أحفل بها قبل فتنتي
وهيهات يثني العيب نظرة مفتون
فيا بؤس للعشاق لا علمهم حمى
ولا جهلهم إذ يجهلون بمأمون
مساومة
ما حيلتي إن جهلت حسنها
فسلمت بالبخس للمشتري
لو كنت في جهلها بعتها
ببعض ما هان على المزدري
إني على أغلالها في الهوى
أربح في الصفقة من منكري
ليس الذي يقدر ما ناله
كمن إذا أعطي لم يقدر
اللذات والويلات
غدا تنسين لذات
بلا عد ولذات
ولا تنسين ويلاتي
ولا زجري وإعناتي
فما في تيك من حب
ك بعض الحب في هاتي
وهيهات الهوى الطاغي
من العابث هيهات
عجائب القلب
تلك التي كنت أغليها وأذكرها
صبحا ومسيا وفي سر وإعلان
قد كنت أرحم نفسي من تذكرها
فاليوم أرحمها من فرط نسياني
عجائب القلب، ويلي من عجائبه!
عزت نظائرها في العالم الفاني
عدنا والتقينا
التقينا والتقينا!
عجبا كيف صحونا ذات يوم فالتقينا
بعد ما فرق قطران وجيشان يدينا
فتصافحنا بجسمينا وعدنا فالتقينا
25 •••
بعد عصر! أي عصر؟
والنوى تجري وسر الحب في الأكوان يجري
ثم نادانا تعالوا فاهبطوها أرض مصر
قضي الأمر كما شاء، وعدنا فالتقينا •••
كم بكيت واشتكيت
ثم ألهمت على الغيب فأصغينا وقلت
قلت في السابع والعاشر من شهر سيأتي
هاهنا سوف تراني، فرأينا والتقينا •••
يوم ذكرى ذاك أحرى
بالتقاء كلما دار به الحول وأسرى
في سماء تعبر الشعرى وتدني كل شعرى
كيف يلقانا وحيدين غد فيه التقينا •••
قبل عام ثم عام
كان يوم، أي يوم، في صفاء وابتسام
يوم لاقى الحب لحظينا على عهد الدوام
فتعاهدنا وقلنا: كلما عاد التقينا •••
وتدانى وكلانا
زائغ الطرف يناجي الأفق قلبا ولسانا
ثم ماذا؟ ثم كن يا بعد لي قربا، فكانا
واستعان الحب بالداء حليفا فالتقينا •••
كم غرام وسقام
عرفا الحلف على غير سلام ووئام
فإذا ما اجتمعا فانتزعاني من مقامي
فبحسبي منهما أنا شكونا فالتقينا •••
يا فتاتي يا حياتي
لا تراعي بعد هذا من فراق أو فوات
قدر الله كفيل لك في ماض وآت
كلما فرق شملينا دعانا فالتقينا
نذر مقبول
أرأيت حين نذرت
ودعا «النوى» فدعوت؟
من ذا الذي لباك؟
من ذا أجاب مناك؟
قديسة عطفت على ال
مكنون من نجواك
ووعدتها فوفيت •••
قديسة سمعت لنا
وسعت لتجمع بيننا
من ذا يلوم هواك
من ذا إذن يلحاك
والعذر عذر صبابتي
والحق حق صباك
كذبوا إذن وصدقت •••
بالشمع كم أغريتها
أتراك أنت خدعتها؟
كلا وما أقواك
في خدعة وشباك
فالنور لب غذائها
والنور صفو رضاك
شغفت به وشغفت
من الأستاذ عماد
26
يا حزين النفس أعطيت مناها
فاغنم الفرصة حتى منتهاها
لا تنغصها اختبارا واكتناها
إن من خاف من الجن يراها •••
النوى آتية لا شك يوما
وهي من حولكما لم تأل حوما
همها ألا يدوم الصفو دوما
فعلى رسلك لا تعجل خطاها •••
لا تقل: يا وردتي شوكك أينا
ما علينا منه فيها ما علينا؟
إنها أخفته عنا فانتهينا
حسبنا الوردة رفت في نداها •••
ليس شك، أن للوردة شوكا
وإذا أدنيت كفا منه شكا
فاحبك القفاز في كفيك حبكا
واخلس الوردة واستغرق شذاها •••
أنت في الجنة ألقيت يقينا
فدع الشك أو استمهله حينا
إنه الشيطان قد أخفى القرونا
إنه الحية فاحذر من أذاها •••
لا تسلها يوم تأتي أين كنت؟
فبحسب العين أن الحسن يأتي
ذاك وقت فيه يفنى كل وقت
ساعة دقت، وغابت عقرباها •••
ساعة دقت فأدت ما عليها
فعرفت الوقت لم تنظر إليها
ما الذي تطلبه من عقربيها
إن تغيبا خلف ستر قد حماها؟ •••
قلت: أنساها بأخرى حين تغرى
أترى أخراك لا تطلب أخرى؟
من يقول الجمر قد يطفئ جمرا
اللظى من غيرها مثل لظاها! •••
إنها منك دنت فلتدن منها
وإذا خانتك من بعد فخنها
أو فجرب هل تطيق الصبر عنها؟
لا، وشمس الحسن فيها، وضحاها •••
غصت في اللجة حتى أذنيكا
وحزام العوم لم يلق إليكا
رحمة الحسن إذن تترى عليكا
رحمة إن شاءها الحسن قضاها •••
وإذا شاء فلا رحمة تقضى
ودعا بعضك نحو القاع بعضا
تبتغي من تحت هذي الأرض أرضا
لا، فدنيا الحب لا دنيا سواها
إلى الأستاذ عماد
يا صديق النفس من عهد صباها
نصحك الصادق لو تشفى، شفاها
محنة تبلغ في يوم مداها
ما تراني صانعا، أو ما تراها؟ •••
ناصحي أنت بزهري أنتشيه
لا أبالي الشوك والغصة فيه
كل شوك يا صديقي أتقيه
يخرق الدرع وإن دقت عراها •••
وردتي يا صاحبي في الورد بدع!
بدعها طبع، وكل الورد طبع
طبعها كالفخ ينهاك ويدعو
وبلاء النفس في مس جناها •••
إن تقل: فز بالجنى قلت: رويدا
الجنى الكيد، فهل نأمن كيدا؟
الجنى القيد، فهل نحمد قيدا؟
الجنى، يا ويحها، أشهى أذاها! •••
وردتي آفتها فرط التحدي
جاوزت في كل شيء كل حد
حسنها هيهات منه حسن ورد
شوكها أنفذ من شوك واها •••
أتراني نافعي والقلب دام
وسعار الجرح يمشي في عظامي
لذة العين بوشي ونظام
وامتلاء الأنف من عطر شذاها •••
آه من برئي وآه من سقامي
آه من صلحي، وآه من خصامي
آه من شمسي، وآه من ظلامي
آه من لذعة آه في جواها •••
لذعة النيران ينفثن دخانا
ليضيء اللهب الخافي عيانا
لهبا صرفا تعالى وتدانى
من قرار النفس يرتاد ذراها •••
آه من آه لحاها الله جدا
لا تزال خالدة في النار خلدا
من قلوب تلتظي حبا وحقدا
حرقت آهاتها آها فآها •••
أنا لا أطلقها حتى تذوبا
في لظاها، كلما شبت شبوبا
وأراني يا صديقي لن أتوبا
فإذا تابت عرفنا منتهاها
طلاء النفس
زرقة عينيك لا صفاء
فيها، ولكنه فضاء!
حمرة خديك لا حياء
فيها، ولكنه اشتهاء!
قوامك الرمح لا اعتدال
فيه، ولكنه اعتداء!
يا حيرة القلب في هواه!
يا غاية العمر في مناه
وجهك سبحان من جلاه
ولوث النفس بالطلاء! •••
حبك لا نعمة أراها
فيه، ولكنه جزاء
من في الصبا جرت في هواها!
من تلك مقبولة الدعاء؟
أنت عقابي فهل كفاها
برح شقائي أو لا اكتفاء؟!
يا جنة حسنها عقاب
يا خمرة عذبها عذاب
متى متى ينطوي الكتاب؟
متى فراق بلا لقاء!
بنيته
بنيته، والعزم صخري المتين
ومعولي حد العذاب السنين
اسمع، ألا تسمع هذا الرنين
هذا فتات القلب، هذا أنين
في كل ركن قطعة من وتين
27 •••
بنيته في حفرة من شقاء
والدم والدمع عليه طلاء
هناك، ففي زاوية في الخفاء
تم بحمد الله، تم البناء!
ماذا بقي؟ لم يبق إلا الدفين! •••
بنيته، يا حسنه! يا سناه!
بنيته، قبر الهوى في صباه
قبر الهوى الغالي ووا حسرتاه!
قبر الهوى الذاهب في منتهاه
هل بعد «خمسين» هوى يا حزين؟ •••
هاتوا الدفين الغض، هاتوا الأمل
هاتوه أدمي جسمه بالقبل
أدميه؟ لا، لا دم بعد الأجل
جف وما جفت عليه المقل
هاتوه أحييه بذكرى السنين •••
دفنته، ويحك! هل تستريح؟
يا خارب القلب عمرت الضريح!
ذاك الثرى المنهال، ذاك الصفيح
يا ليته ركن الحراب الفسيح
أو ليتك الساعة فيه الدفين •••
آه من الحيرة آه وآه
أنافع قلبي، رجعي هواه؟
ولا خلا القبر، أهذا مناه؟
لو أقفر الساعة مما حواه
خلت من الحيرة أني الغبين
هنت والله
هونت خطبك جدا
وخلته لن يهونا
حمدا لكيدك حمدا
حمدا يفيض العيونا
بدلت بالنار بردا
وبالهيام سكونا
إني أمنت الفتونا
وأنت ماذا أمنت؟
قد هنت والله هنت •••
كم دار في الكون رأسي
حيران يطوي بقاعه
شكي يسائل حدسي
أين اختفت منذ ساعة؟
سفينتي اليوم ترسي
والركب يطوي شراعه
غيبي بغير شفاعة
ما أنت ويحك أنت؟
قد هنت والله هنت •••
لو قيل: «بنت الهواء»
صدقتهم في المقال
ورثنه في السخاء
وفي شيوخ النوال
لو كان فيك بقائي
لم تخطري لي ببال
من بالهواء يبالي
كوني إذن حيث كنت
قد هنت والله هنت •••
خذي عشيقين مثلي
لا بل خذي الناس طرا
يلقاك هذا بليل
وذاك يلقاك ظهرا
إن تخدعي رب نبل
يخدعك نذلان مكرا
وتشربي الجام مرا
حتى يقال: جننت
قد هنت والله هنت •••
يا فرحة القلب لما
رخصت بعد غلاء
خسري بذلك تما
وتم منك نجائي
ولو حسبتك غنما
لطال فيك شقائي
وغص قلبي بدائي
لكن رحمت فخنت
وهنت والله هنت
فراغ فراغ
فراغ بارد شات
بلا ماض ولا آت
أأموات؟ نعم لكن
نحس فناء أموات
ويا بؤس الفناء نحس
سه في كل ميقات
هوامش
في مصر
غيث الصحراء
ألقيت هذه القصيدة بين يدي صاحب الجلالة الملك «فاروق الأول» في رحلته إلى الصحراء الغربية (1938)، وكان صاحب الديوان يمثل دائرة الصحراء بمجلس النواب.
يا حادي البشرى دنا السفر
ناد القبائل حيثما انتشروا
فاروق في البيداء يصحبها
تيهوا بني البيداء وافتخروا
رفع الخيام على انسحاب فلا
أسس تطاولها ولا جدر •••
في طالع الأيام مرتقب
ولسابغ الأنعام مدخر
كالغيث لولا سبق أنعمه
والغيث يلحق بعده الثمر
كالنيل لولا أن موسمه
في كل يوم حاضر نضر
صلح الزمان لكم بمقدمه
وازدادت الآصال
1
والبكر
فاستبشروا بالخصب أجمعه
لا جدب حيث النيل والمطر •••
أحببتموه على السماع كما
شاء الولاء، وشاعت السير
وتشوف الوادي لرؤيته
وتساءل الركبان، وانتظروا
وتجاوبت فيكم مدائحه
نظما رواه البدو والحضر
والعرب أصدق ما سمعت إذا
غنوا على البيداء أو شعروا
فالآن فاكتحلوا بطلعته
وتيمنوا باليمن وابتدروا
ملك تعالى الله بارئه
سيان فيه السمع والبصر
لم يختلف قول ولا عمل
منه، ولا خبر ولا خبر •••
ملك تعالى الله بارئه
بالخير يأمرنا ويأتمر
مستعصم بالله معتزم
مستمسك بالحق مقتدر
سبق الشباب به مراحلنا
وأعانه الإلهام والنظر
وتفيأت بلوائه عصب
وتألفت بفنائه زمر
نعم الإمامة للشباب فلا
يأس ولا نكس ولا حذر
جيل لزين الجيل أسلمه
رب الكنانة، فهو منتصر
العزم والشورى إذا اجتمعا
فهما قضاء الله والقدر •••
يا مؤمنا بالله مهتديا
بك مسجد «العوام» مشتهر
يا نسج وحدك في مآثره
بيدك زين القطن والوبر
يا جاعل الملح الأجاج روى
2
بيديك طاب الملح والصبر
يا شافي المرضى وكافلهم
عيسى على كفيك مستتر
يا حصن مصر ويا دعامتها
أقوى الدفاع مراسك العسر
يا شاهد التاريخ في أثر
العين أنت، وما مضى أثر
ما كان منسيا فشهرته
بك بعد هذا اليوم تنتشر •••
إني إلى الصحراء ملتفت
وعلى فم الصحراء منتظر
أصغي فأسمع في جوانبها
هزجا يشيع بها، وينحصر
آلاء فاروق يرددها
نفر، وينصت حولها نفر
تنمو وتزهر حيث لا شجر
ينمو، وحيث نما بها الشجر
يهفو النزيل لها وينشدها
سارون فوق جمالهم سهروا
قوم سماء الله فوقهم
وملوكهم لسمائهم صور
إن يذكروا بالحمد راعيهم
فهم الرعاة، وهكذا فطروا
هم في صراحة أرضهم نشأوا
وعلى هدى لألائها ظهروا
بلغاء ما عرفوا السطور على
غير الرمال، وعاش ما سطروا
حرمتهم الأيام فاصطبروا
ومتى أصابوا نعمة شكروا
فاروق قبلتهم إذا رحلوا
وإليه موئلهم إذا حضروا
يا ملبسا أجسادهم حللا
شرفت أنفسهم بما ادثروا •••
الملك والآفاق والقمر
والبحر والبيداء والذكر
أمد تفوت العين غايته
وتموج في أنحائه الفكر
هي رحلة طالت مفاخرها
ويعد في أيامها قصر
لو فرقت في الدهر لاتسعت
لشعابها الأحقاب والعصر
في ساحة الفاروق يملأها
ذخر الحياة، ويحجم الخطر
تنقاد طائرة وسابحة
ويطيب منها الورد والصدر
3
تمثال سعد
نظمت تحية لتمثالي زعيم مصر الكبير سعد زغلول عند رفع الستار عنهما في القاهرة والأسكندرية (5 أغسطس سنة 1983).
الروح في وادي الكنانة حائم
وجلال شخصك في النواظر قائم
ما غاب منك سوى مثال عارض
يمضي، ويخلفه المثال الدائم
ملك البلاد المستقل وشعبها
فى محفليك مساهم ومساهم
أمل لعمرك لم تطاوله المنى
شرفا، وحلم ما رآه الحالم
تزهى به مصر ويزهى الشرق من
كثب، ويعجب من صداه العالم •••
فاروق مولده ومولد نهضة
تنمي إليك، كلامها متلازم
فإذا أظلك عرشه وجلاله
فالعدل قسمته، ونعم القاسم
شيم من الخطاب جمع شملها
العادل الفطن الكريم الحازم
من غير فاروق يصور أمة
أنت الزعيم لها، وأنت الخادم
من غير فاروق يبارك نهضة
منه الرجاء لها، ومنه العاصم
من غير فاروق يقلد رتبة
والصولجان بكفه والخاتم
من غير فاروق يجل رعية
حوليه سابق مجدها والقادم
من غير فاروق تنص يمينه
علما للاستقلال فيه علائم
حياك أو أحيا رجاءك عاهل
عهد البلاد به جديد باسم
ملك كما ترجو لمصر مصدق
بشراك، مرتسم لما هو راسم
غمر البلاد بحبه وولائه
فولاؤه فرض عليها لازم
ركنان للوطنية المثلى هما
عرش، وشعب حوله يتزاحم
فاهنأ بما بلغت من حبيهما
واغنم ولاءهما فأنت الغانم •••
تمثال سعد فى الجزيرة ساهرا
هيهات يغفل منك لحظ صارم
النيل حولك لا يغيب هنيهة
عن ناظريك، وأنت عنه صائم
شأن لربك فى الحياة حكيته
فالظل للغصن الوريف موائم
كم صام سعد عن مناهل حوضه
ويعب مغتصب وينهل غاشم
كم بات يرعاه، وليس بمرتع
من خيره ما يرتعيه الحاكم
كم غاب عنه ولم يغب عن همه
والبحر دون طريقه متلاطم
بك زادت الأهرام ركنا والتقت
منها على بعد الزمان دعائم
تلك الصروح على اختلاف بنائها
فى الجيزة الفيحاء هن توائم
نهضت على استقلال مصر دلائلا
يعيى بنقض بنائهن الهادم
اليوم آن لجانبي تاريخها
ألا يظللهما دخيل داهم
فى الضفة الأخرى بقية عسكر
قاومتهم جهد المطيق وقاوموا
مصر تضيق، على اتساع رحابها
بكما فأيكما المقيم القائم؟
لم تستقر على دعامك آخرا
إلا لأنك بانتصارك جازم
والنصر ردك للعدو مواليا
لا أنت راغمه ولا هم راغم
سعد على النيل الوفي ومثله
سعد على البحر القوي متاخم
ما أعجب الصنوين للفرد الذي
أعيى بصنويه المدى المتقادم
أمجاور الميناء إنك لم تزل
ميناء مصر، والخطوب خضارم
متمكنا من حيث يقبل قادم
كرمت وفادته، ويمنع فاحم
نعم اختيار الموقفين لحارس
وطنا يحارب دونه ويسالم •••
يا سعد هلا من لسانك قولة
يروى بها هذا الزحام الهائم؟
يمناك تومئ بالكلام فأين من
إيمائها الصوت القوي الناغم؟
عجبي لشيء فيه منك ملامح
أن ليس يسمع منه قول حاسم!
عجبي لشيء فيه منك ملامح
أن ليس يخفق فيه قلب عالم!
أخذ الحديد الصلب منه عزيمة
والصخر بأسا يتقيه الصادم
وتشابهت ثم الأسارير التي
قد شابهتك بمثلهن ضياغم
وتحجبت تلك الأفانين التي
ضاق الصناع بها وعي الراسم
إن لم تصورها اليدان فربما
خفيت فصورها الضمير الراقم
إن لا تحدثنا فكل محدث
من فيض روحك ناثر أو ناظم
أو لا يكن لفظ فدون الوحي من
معناك كل اللافظين أعاجم
الناس حولك سامع أو ذاكر
ما كنت توشك أن تقول وفاهم
قف فوق منبرك الجديد فلم يزل
لك منبر عالي الذرى وقوائم
يصغي إليه العابرون فيقتدي
داع إلى الحسنى ويخجل آثم
هذا المثال الحي إما حامد
للعاملين غدا وإما لائم
هذا المثال الحي إما شاحذ
منا عزائمنا، وإما راحم
هذا المثال مؤيد من ثابروا
مزر بمن قصروا الخطى وتناوموا
خصم لكل مخالف آراءه
وفعاله، وهو القوي الخاصم
جدد لهاتيك الرءوس حياتها،
بعض الرءوس وإن حيين جماجم
ما كان تمثالا يماط ستاره
بل منسكا للحج فيه محارم
بل تلك جامعة يؤم دروسها
متعلم سنن الحياة وعالم
تلك الرياح مجاذبات غطائه
رسل من العرش العلي حوائم
4
فاروق أو مزجي الرياح كلاهما
للغيب، من خلف الحجاب، تراجم
والغيب يلهمه المليك إذا اتقى
ويفض من فحواه ما هو كاتم •••
يا أسبق الأعلام ربك سابق
في حيثما استبقت بمصر عظائم
ما قام للفلاح قبل مثاله
علم، ولا دعيت إليه معالم
صعدوا على أكتافه وتسنموا
أوج المنابر وهو جاث جاثم
فاليوم يبتدئ الزمان بخلقه
حتى كأنك أنت فيهم آدم
شرقا، أبا الفلاح ما استفتحت من
همم، وما استتلى بعزمك عازم
لك لا تزال ولن تزال رسالة
ما للعظائم إن بدأن خواتم
ثناء على ماهر
ثناء الكرام على ماهر
5
ثناء على الرجل القادر
على رجل زاهد في الثنا
ء إلا من الأثر العاطر
على من يسير بأعماله
فيقبل في جحفل زاخر
ومن كل أيامه صالحا
ت لحفل بتكريمه عامر
فلا حيرة فيه للمختفي
ولا حيرة فيه للشاعر
تجيء مدائحه الصادقا
ت عفو البديهة والخاطر
فسيان إحصاء أعماله
ونظم المقرظ والشاكر •••
بياناته مثل أرقامه
حقائق للحاسب الحاصر
وآراؤه في ثنايا غد
كرؤية عينيه للحاضر
وباطنه في مواعيده
كصفحة عنوانه الظاهر
له شدة الحق في بأسه
تمازجها رقة الساخر
وإنصافه مأمن للعدى
وإخلاصه عصمة الناصر
وإقدامه في قضاء الفرو
ض إقدام مستبسل صابر
إذا ما اطمأن إلى واجب
فليس بوان ولا قاصر •••
أولي الأمر طوبى لكم يومكم
وطوبى لكم ذكرة الذاكر
فسيروا بأوطانكم وانهجوا
بها نهج مبتكر باكر
وهاتوا مدى جهدكم تبلغوا
مدى الحمد من وطن قادر
لكم من بنيه ومن عرشه
معاونة العارف العاذر
عيد الجهاد
حييت يا عيد الجهاد
حييت يا يوم المعاد
يا يوم مصر وما لها
من ناصرين، ولا عتاد
عزلاء إلا من سلا
حيها: الرجاء والاتحاد
بهما تصد الظافري
ن ولا تصد ولا تصاد
وتقود أشتات الصعا
ب ولا يلين لها قياد
وتعاند الأسد الهصو
ر ولا يطاق له عناد
تلقاه يوم تزلزلت
من بأسه السبع الشداد
والأرض بين يديه طي
يعة الأعنة والوهاد •••
حييت يا يوم الجها
د ولا سؤال بم الجهاد؟
كلا، ولا من قائل:
أين الجحافل والجياد؟
جمعت بلاد أمرها
وكفى بما جمعت بلاد
وأراد سعد فانبرى
وطن يحقق ما أراد
ما السيف في اليد غالبا
إلا إذا غلب الفؤاد •••
حييت يا يوم الجهاد
يوم الجهود والاجتهاد
يوم الكرامة والجلا
د بل، السلامة والسداد
كم عاقل في الاقتحا
م وجاهل في الارتداد
ومحصل فيما أضا
ع، مضيع فيما استفاد •••
وطني سلمت من الغوا
ة ولا سلمت من الرشاد
ما في الجهاد غواية
إن الغواية في الرقاد
وطني خذلت الخادعي
ن ولا خذلت ذوي اعتقاد
ما في الصعاب خديعة
إن الخديعة في المهاد
وطني تبينت المصا
رح والمداجي في الوداد
ما في اللهيب خبيئة
إن الخبيئة في الرماد
وطني فررت من الهوا
ن ولا فررت من الجلاد
ما كل خطب يتقى
أو كل أمن يستزاد
وطني، وما وطني علي
بهين بين البلاد
يا ليته مما يهو
ن فأستريح «على الحياد»! •••
حاشا لمصر ولي ولل
سادات فيها والسواد
إني نذرت لها دمي
ومنى يضن بها الجواد
وشرعت في ميدانها
قلمي وإن نفد المداد
وعلمت أن لها غدا
يرجى، وأمس يستعاد •••
شبان مصر تزودوا
لغد، وبعد غد، بزاد
أنتم حماة عرينها
ولكم معاقلها تشاد
إن ذاد غيركم العدا
فردا فلا كان الذياد
أو سدتم في أمة
ذلت ففرحتها حداد
من ذا يسود وحوله
وطن على ضيم يساد
لا يخجلن غد إذا
ما حل من عيد الجهاد
إلى مهرجان السودان
يا جيرة المورد في الوادي
كونوا هناكم مورد الصادي
صاد إلى الماء وصاد إلى
علم لمن يطلبه هاد
هاد كما قد أفرت شمسكم
بساطع في الجو وقاد
لولا معاذيري لحياكم
مني مطيف رائح غاد
فإن أكن أوفدت شعري لكم
فذاك عندي خير إيفاد
إلى اللقاء المرتجى في غد
تحيتي للحفل والنادي
6
هوامش
في عالم الذكرى
ثلاث عشرة حجة
1
مرت بنا الأيام وثبا
سلما كما شاءت وحربا
لا أحسنت حربا، ولا
في السلم طاب السلم غبا
ضمنت لجيشيها معا
غصبا كما اشتهيا وغلبا
فإذا الحوادث أقبلت
أو أدبرت فالخلق نهبى
العام من أعوامنا
يحوي - جزاه الله - حقبا
وثلاث عشرة حجة
قلبت طباق الأرض قلبا
سلها عن الدنيا وما
صنعت به شرقا وغربا
سلها عن الوادي وما
صنعت به دفعا وجذبا
لا ضير بالماضي إذا
دار الزمان فطاب عقبى •••
فألا من الذكرى وكم
فأل طوى في الغيب حجبا
وهداية منها وقد
تهديك في الظلماء قطبا
2 •••
يا سعد يومك فاستجب
قلبا لمن يدعوك قلبا
جرد عزيمتك التي
أغنت عن الصمصام غربا
3
وابعث نصيحتك التي
أغنت عن الترياق طبا
وانشر فرائدك التي
أغنت عن العقيان كسبا
هذا نذير الشر هبا
وإلى حمى مصر اشرأبا
وسرت إلى إفريقيا
عدوى الجهالة من أوربا
طمعوا بحوزة أمة
ظنوا لها الغفلات دأبا
إن قيل: لا خطر غفت
عينا وناهت عنه لبا
أو قيل: لا طمع فلا
طمع وقرت مصر سربا
أو قيل: يا أمم انهضي
نهضت وراحت مصر تأبى
تجري المخاوف حولها
وتخاله الأمن استتبا
يا سعد أنت إمامها
فاهتف بها ملأ وشعبا
صدع الشقاق صفوفها
وجمعتها بالأمس حزبا
فاجمع جوانب رأيها
شعبا على الحسنى فشعبا
قل أنتمو أعلى يدا
من عابدي الإنسان رهبى
ذلوا فلما استرسلوا
تاهوا بقيد الذل عجبا
وإذا أتوا عدد الحصى
فرما لكم أوفى وأربى
جدب من الصحراء أغ
لى من جميم الروض تربا
ظمآن يشرب كل من
يغرى بكم أكلا وشربا •••
وقل: استعدوا واسلكوا
في مفرق الحدين دربا
لا تصغروا هولا ولا
تستكبروا الأهوال رعبا
وتبينوا أن الفري
ق الحر فاتخذوه صحبا
دار الذين سبتهم
حرية، هيهات تسبى
ضنوا بمصر على العدى
وعلى الذي يحتال خبا
وحذار دعوى معشر
لم يؤمنوا بالحق ربا
لا رحمة عرفوا ولا
عرفوا لغير الشر حبا
القدوة العليا لهم
وحش على العدوان شبا
عقدوا على البغي العرى
تبت يد الباغي وتبا •••
يا آل مصر تذكروا
سعدا ففي التذكار قربى
إني استعرت بيانه
فعلي إن قصرت عتبى
4
إلا اللباب فإنني
في الرأي ما أخطأت لبا
سعد إذا أمضى مضى
وإذا دعاه الهول لبى
تحية زعيم راحل
5
أكبرت في غيب الزعيم محمد
من كان يكبر حاضرا في المشهد
حجب الردى عنا بشاشته ولم
يحجب بشاشة ذكره المتجدد
هيهات ينتقص الزمان مجادة
للسيد بن السيد بن السيد
فخر الصعيد، وفخر مصر جميعها
بالرأي، والخلق القويم الأيد
من يرسل المثني عليه ثناءه
مسترسلا في القول غير مقيد
جمع القلوب على المديح وإن مضت
نهجين بين مصوب ومصعد
لم تقض في هذي الديار قضية
ومحمد مما قضوه بمبعد
ملء الندى وإن تطامن دفة
كم دقة شحذت مضاء مهند •••
في دارة الفلكي قبلة كوكب
يعلو على رصد المنايا الرصد
تطوي المغارب جرمه، وشعاعه
متألق في أوجه لم يخمد
أكبرت مطلعه، ولم يك طالعي
في كل حين عنده بالأسعد
ورأيته أقصى وأقرب رؤية
فإذا البروج لكوكب متوحد
مهما اختلفت حياله لم يختلف
سمت السماء ولا علو المقصد
متحرز مما يعاب كأنه
متقيد المسعى، ولم يتقيد
شفت سرائره، فكل سريرة
فيه تضيئك من سراج موقد
فإذا عهدت المحض من عاداته
لم تلق يوما منه ما لم تعهد •••
عز الكنانة فيه فهي فجيعة
تبلو الكنانة في الضمير وفي اليد
ما في مروءات الشعوب مروءة
إلا رعته بنظرة المتفقد
البر، والمشهود من آلائه
بين المحافل دون ما لم يشهد
ومعاهد التعليم بين مشجع
للعاملين بها، وبين مزود
وإغاثة الأدب اللهيف، وإن تشأ
ردا، فعدد ما بدا لك، واسرد
ونزاهة اليد واللسان هداية
للمهتدين، وقدوة للمقتدي
وصراحة الأخلاق ما اشتملت على
مستغلق فيها، ولا متأود
والعزة الشماء إلا أنها
كالشاهق المخضر لا كالجلمد
وسياسة الوادي، ولم يك رابحا
منها سوى الشجن المقيم المقعد
وعزيمة لا تكره الشورى وإن
كانت لتكره حيرة المتردد
شيم وآلاء إذا ما استفردت
كالقطب، عزت في ازدواج الفرقد •••
عز الكنانة والعزاء ليعرب
ما بين متهم قومه والمنجد
كم ذاد عنهم والخطوب بمرصد
والشمل بين مشرد ومبدد
للحق، لا لخبيئة مطوية
تلقى العداة الرابضين بموعد
ولنصرة الإسلام لا لعصابة
تسعى إلى الإسلام سعي المفسد
سمح على ما فيه من عصبية
سهل، وإن أعيى قوى المتشدد
لا يستطاع على الخصام عناده
وعليه تعويل الأخ المتودد
من أكسفورد، ولو نماه معشر
للأزهر المعمور لم تستبعد
فيه محافظة، وفيه طرافة
وأراه في الحالين غير مقلد
ورث الحميةض كابرا عن كابر
والأريحية منجدا عن منجد
غيث الفلاة ونيل مصر كلاهما
سقياه من أصليه أعذب مورد
فإذا بكت مصر فغير ملومة
وإذا الحجاز بكى، فغير مفند •••
رحم الإله محمدا وأثابه
في خلده الباقي ثواب مخلد
كان السبيل السرمدي سبيله
فعليه رضوان الإله السرمد
على قبر إبراهيم
6 «... إنا لمحزونون عليك يا إبراهيم، وإن ما أنا قائل لا يسر ما يقال في هذا الموقف الأليم»:
يا قبر إبراهيم ما
لي بالبيان هنا يدان
بل فيك تنطلق العيو
ن وفيك ينعقد اللسان
ما كنت أحسب أنني
ألقاك في هذا المكان
يا من حملت إليه أك
رم ما يعز، وما يصان
جثمانك العف الطهو
ر وقلبك الجم الحنان
وجبينك السمح الذي
ما هان قط، ولا أهان
وعزيمة لم يثنها
غير الأمانة من عنان
حزني عليك أبا خلي
ل ليس يمحوه الزمان
وجميل ذكرك في فمي
وجميل صنعك في الجنان
ماذا أقول ومن يعي
ن على رثائك، أو يعان
أغناك فضلك ناطقا
بالصدق عن نطق البيان
فعليك سابغ رحمة
ونعيم خلد راضيان
وسلام ربك عاطرا
وسلام قومك مجمعان
آه من التراب
7
أين في المحفل «مي» يا صحاب؟
عودتنا ها هنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب
مستجيب حين يدعى مستجاب
أين في المحفل «مي» يا صحاب؟ •••
سائلوا النخبة من رهط الندي
أين مي؟ هل علمتم أين مي؟
الحديث الحلو واللحن الشجي
والجبين الحر والوجه السني
أين ولى كوكباه؟ أين غاب؟ •••
أسف الفن على تلك الفنون
حصدتها، وهي خضراء، السنون
كل ما ضمته منهن المنون
غصص ما هان منها لا يهون
وجراحات، ويأس، وعذاب •••
شيم غر رضيات عذاب
وحجى ينفذ بالرأي الصواب
وذكاء ألمعي كالشهاب
وجمال قدسي لا يعاب
كل هذا في التراب، آه من هذا التراب •••
كل هذا خالد في صفحات
عطرات في رباها مثمرات
إن ذوت في الروض أوراق النبات
رفرفت أوراقها مزدهرات
وقطففنا من جناها المستطاب •••
من جناها كل حسن نشتهيه
متعة الألباب والأرواح فيه
سائغ ميز من كل شبيه
لم يزل يحسبه من يجتنيه
مفرد المنبت معزول السحاب •••
الأقاليم التي تنميه شتى
كل نبت يانع ينجب نبتا
من لغات طوفت في الأرض حتى
لم تدع في الشرق أو في الغرب سمتا
وحواها كلها اللب العجاب •••
يا لذاك اللب من ثروة خصب
نير يقبس من حس وقلب
بين مرعى من ذوي الألباب رحب
وغنى فيه وجود مستحب
كلما جاد ازدهي حسنا وطاب •••
طلعه الناضر من شعر ونثر
كرحيق النحل في مطلع فجر
قابل النور على شاطئ نهر
فله في العين سحر أي سحر
وصدى في كل نفس وجواب •••
حي «ميا» إن من شيع ميا
منصفا حيا اللسان العربيا
وجزى حواء حقا سرمديا
وجزى ميا جزاء أريحيا
للذي أسدت إلى أم الكتاب •••
للذي أسدت إلى الفصحى احتسابا
والذي صاغته طبعا واكتسابا
والذي خالته في الدنيا سرابا
والذي لاقت مصابا فمصابا
من خطوب قاسيات وصعاب •••
أتراها بعد فقد الأبوين
سلمت في الدهر من شجو وبين
وأسى يظلمها ظلم الحسين
ينطوي في الصمت عن سمع وعين
ويذيب القلب كالشمع المذاب •••
أتراها بعد صمت وإباء
سلمت من حسد أو من غباء
ووداد كل ما فيه رياء
وعداء كل ما فيه افتراء
وسكون كل ما فيه اضطراب •••
رحمة الله على «مي» خصالا
رحمة الله على «مي» فعالا
رحمة الله على «مي» جمالا
رحمة الله على «مي» سجالا
كلما سجل في الطرس كتاب •••
تلكم الطلعة ما زلت أراها
غضة تنشر ألوان حلاها
بين آراء أضاءت في سناها
وفروع تتهادى في دحاها
ثم شاب الفرع والأصل، وغاب •••
غاب والزهرة تؤتي الثمرات
ثمرات من تجاريب الحياة
خير ما يؤتي حصاد السنوات
بعثرتهن الرياح العاصفات
ورمتهن ترابا في خراب •••
رد ما عندك يا هذا التراب
كل لب عبقري أو شباب
في طواياك اغتصاب وانتهاب
خلقا للشمس أو شم القباب
خلقا لا لانزواء واحتجاب •••
ويك! ما أنت براد ما لديك
أضيع الآمال ما ضاع عليك
مجد «مي» غير موكول إليك
مجد «مي» خالص من قبضتيك
ولها من فضلها ألف ثواب
عام محمد
8
جدد العهد بعد عام محمد
تلك ذكرى على المدى تتجدد
خلق لا يزال قدوة جيل
بعد جيل، أخلق به أن يخلد
بل طراز من المكارم باق
كلما عده الكرام تعدد
ومعان غراء هيهات تحصى
كثمار الفردوس هيهات تنفد
إنما يذهب الزمان فقيدا
إن تقضى الزمان لم يتفقد
ليس يفني الزمان من كلما عس
عس ليل سمعت: أين محمد؟
أين من كان رحمة وهو بأس
أين من كان أمة وهو مفرد
أين من كان للمساكين عونا
وله في ذؤابة المجد مسند
أين من كان منية المتمني
في مغيب من الوداد ومشهد
أين من عود الإباء صبيا
ولكل من دهره ما تعود
أين من كلما تقلد أمرا
صان في جيده عرى ما تقلد
أين من كان مرجع القوم فيما
صدع العزم أيديا فتبدد
أين من كان قولهم فيه شتى
والطوايا في وصفه تتوحد
أين من كان قائدا وهو فيما
نتقيه جندي مصر المجند
سألوا أين أين؟ وهو قريب
منهم في جواره غير مبعد
هو في كل معهد يتراءى
هو في كل مسمع يتردد
هو فيهم وقد تغيب عاما
لا يرى قاصدا، وإن كان يقصد
رب دان مجسد لا نراه
وبعيد نراه غير مجسد •••
مصر يا أمة الخلود المشيد
والوفاء الذي رسا وتوطد
أنت في نعمة وخير عميم
ما تعهدت خير ما يتعهد
لك في الذكريات كنز رجاء
أبد الدهر بابه ليس يوصد
فاذكري الغابرين وادخريهم
لغرار ينضى وعزم يشدد
إنهم مهدوا الطريق ولولا
خطوهم فيه لم يكن بالممهد
اذكري كلما بلغت زهيدا
من أمانيك أنه كان أزهد
واذكري كلما بلغت عظيما
أن جهد المصري في المجد أجهد
إن ما ضاء كان بالأمس ظلما
ء وما ابيض كان بالأمس أسود
والذي في يديك كان سرابا
زمنا ثم صار يجنى ويحصد
وارقبي العالم المطل علينا
من غد، إنه جنين سيولد
الحروب التي تضج وغاها
هي نجوى مخاضة تتصعد
إننا في يديه لعبة لاه
إن جحدناه أو حسبناه يجحد
ما مضى من زماننا أو سيأتي
في يدي ذلك الجنين سيحشد
الجنين الموعود لا تجهلوه
يا بني مصر فهو للجهل مرصد
هو حي، إن لم يكن قد تسمى
باسمه في قرابه فكأن قد
فاجمعوا عدة من الأمس ترضى
واجمعوا عدة من الغد تحمد
أنتم في كنانة الله أهل
إن تصدوا السهام وهي تسدد
ولكم من صيانة الله شروى
ما تصونون من فخار وسؤدد
كل حق لكم فغير مضاع
ما رعيتم حقا لمثل محمد
الشهيد معاوية
احتفل أدباء السودان بتأبين الأديب السوداني النابغ معاوية محمد نور، وقد لقي نصبا من سقامه، وعوجل - رحمه الله - في ريعان صباه دون الثلاثين، بعد أن بشر العالم العربي بأمل كبير لم تنجزه المقادير.
وقد أرسل صاحب الديوان هذه القصيدة لتلقى في يوم تأبينه، عوض الله الأدب فيه خير العوض، وعزى الأدباء أحسن العزاء:
أجل هذه ذكرى الشهيد معاوية
فيا لك من ذكرى على النفس قاسية
أجل هذه ذكراه لا يوم عرسه
ولا يوم تكريم، ودنياه باقية
فما أقصر الدنيا التي طول الضنى
أصائله فيها، وأشقى لياليه
وما أضيع الآمال آمال من رأوا
مطالعه في مشرق النور عالية
ومن أيقنوا أن الهلال الذي بدا
على الأفق أحرى أن يعم نواحيه
بكائي عليه من فؤاد مفجع
ومن مقلة ما شوهدت قط باكية
بكائي على ذاك الشباب الذي ذوى
وأغصانه تختال في الروض نامية
بكائي على ما أثمرت وهي غضة
وما وعدتنا، وهي في الغيب ماضية
فضائل منها نخبة أزهرت لنا
لماما، وأخرى لم تزل فيه خافية •••
تبينت فيه الخلد يوم رأيته
وما بان لي أن المنية آتية
وما بان لي أني أطالع سيرة
خواتيمها من بدئها جد دانية
وأن اسمه الموعود في كل مقول
سيسمعه الناعون من فم ناعية
أجل هذه ذكراه يا نفس فاذكري
فجيعتنا فيه، وما أنت ناسية
أجل هذه ذكراه يا عين فاذرفي
عليه شآبيب
9
المدامع دامية
إذا قصرت أيام من نرتجيهم
فيا طول حزن النفس والنفس راجية
ويا طول حزن النفس وهو منيبة
إلى اليأس من عجز بها، وهي آبية
فيا يوم ذكراه سنلقاك كلما
رجعت إلينا، والضمائر صاغية
ويا عارفيه لا تضنوا بذكره
ففي الذكر رجعى من يد الموت ناجية
أعيروه بالتذكار ما ضن دهره
به عيشة في مقبل العمر راضية
وزيدوا النفيس النزر من ثمراته
بتكرارها في القلب أولى وثانية
فإن لم تكن في العد كثرا فباركوا
معانيها حبا، ووفوا معانيه
عليه سلام لا يزال يعيده
ويبديه شاد في الديار وشادية
عبد القادر
جل المصاب بفقد عبد القادر
10
ويح البيان على المبين الساحر
الباحث المنطيق في تاريخه،
الملبس الماضي لباس الحاضر
الناقد الأنباء نقد صيارف،
الوازن الآراء وزن جواهر
المستعين على السياسة بالحجى
والعلم، والقلم القوي القاهر
والحجة العليا ما طأطأت
يوما لمنتقم ولا لمناظر
الدارس الأيام درس مجرب
يلقاه باطن سرها كالظاهر
الصابر المزجي الخطوب بصبره
حتى يزلن، ونعم أجر الصابر
الباذل الدنيا على علم بها
في اليسر والإعسار، بذل مسافر
المستعز بوحدة الأسد الذي
يأبى التجمع في القطيع النافر
الراسخ الجم الوقار، بغير ما
عنت يصيب ملالة من زائر
الصامت النزر الكلام بغير ما
حصر يعيب، ولا كلالة خاطر
الوداع السهل الطباع بغير ما
سلس لباغ، أو مهابة آمر
الصاحب المبقي على أصحابه
ما بين واف منهم أو غادر
الوالد البر الرفيق بولده
وبآله رفق العليم الشاعر
الثائر الوطني في ميدانه
عجبي له من مستقر ثائر
الصارم الماضي السلاح وعنده
بعد ارتداد السيف عتبى عاذر
عرف الحقائق فاستراح جنانه
من سرعة الشاكي وبطء الشاكر
ووعي عواقبها فلم يع صدره
بغضا لمعتقد ولا لمكابر •••
علمي به علم المطالع زاده
علم على بعد، وعلم معاشر
كم مر من يوم ضحوك بيننا
أو مر من يوم عبوس كاشر
خضنا الحياة معا على علاتها
متلاحقين مع الشباب الباكر
وجرى يراعانا معا في حلبة
عزت على غير الطمر الضامر
ذكراه والأيام عابرة بنا
نعم العتاد لذاكر ولعابر
ذكرى القشيب من الشباب تزينها
ذكرى المشيب من الجهاد الظافر
عهدان من عمرين لو نسجا معا
لم تدر أيهما مكان الآخر •••
يا يوم منعاه سبقت بمنذر
في الصدر من وحي الهواجس صادر
يوم لمست النحس قبل صباحه
وطويت فيه على الهموم ضمائري
ومشى النهار إلي منقبض الضحى
كالليل، مشية مستكين عاثر
حيرت فيه، فحين زالت حيرتي
زالت بأفدح من ظنون الحائر
بذهاب نابغة ومصرع غالب
وختام عهد بالعظائم عامر
وفجيعة لا كالفجائع في أخ
وزميل أقلام وصنو منابر
تمضي السنون وفي الصحائف صفحة
تبيض فخرا، وافتقاد محابر
ما كان خط مداده في طرسها
إلا بياض جبينها المتباشر
أسفي عليها وهي لابسة له
ثوب الحداد من البياض الشاغر
وعزيزة للنابغين نظائر
في الشرق تتلى بعدهم بنظائر
فإذا بكى الباكي عليه فإنما
يذري الدموع على عزيز نادر
وإذا جزيناه الوفا فبعض ما
وفى الحقوق لحاضر ولغابر
إن الذي حفظ العصور بذكره
حق له ذكرى الثناء العاطر
وتراث عبد القادر الباقي لنا
فيه «البلاغ» لقارئ ولذاكر
هوامش
هنا ... وهناك
تفسير حلم
1
تفسير حلمي بالجزي
رة
2
وقفتي في المقرن
حلمان حظهما خيا
لا دون حظ الأعين
ما دمت بينهما فما
أنا سائل عن مسكني
وإذا التذكر عاد بي
عطف الجديد فردني
يا جيرة «النيل» المبا
رك: كل نيل موطني
وله سمي في الصحا
فة معرب لم يلحن
حييت فيه سميه
وحمدت فيه مأمني
صوت السودان
صوت
3
من السودان أس
معني بمصر فسرني
تهفو له الأسماع صا
غية ولم يستأذن
فيه بشاشة وامق
ومبشر ومؤمن
لولا حفاوته الكري
مة ما علمت بأنني
4
فارقت من مصر الجدي
دة ذات يوم مسكني
شكرا له صوتا تبي
ين من لسان بين
مستلهم لغة القلو
ب مترجم بالأعين
شمل العروبة كلها
وسرى إلي فخصني
ماذا أقوله وقد سبق
ت بكل قول ممكن
قدم العهود أحب لي
من بدعة المتفنن
من كان ديدنه الصنا
عة فالسليقة ديدني
شعر الأسود
كم هازل بالشعر جهده
يهذي به ويعاف جده
ما الشعر للنسناس وحده
كم ألهم التبيان أسده
القمر والظلام
لا أوثر القمراء في حسنها
على الدجى، والطرف فيه يحوم
سناك يا بدر يريني الثرى
وظلمة الليل تريني النجوم
صداح الأثير
5
ملأ الآفاق صداح الأثير
لا فضاء اليوم، بل صوت ونور
لك من كل فضاء شاسع
حيثما يممت، داع وبشير
ما صفاء الجو إن فتشته
غير أصداء حواليك تمور
لجب لكنه مستأذن
يطرق السمع بسلطان قدير
أوهى الأرواح إن قلت: احضري
حضرت، أو شئت أعياها الحضور
قيل: أمواج، فقلنا: وبحور
من معان وبيان وشعور
تركب الألباب فيها سفنا
سبقا بين طويل وقصير
حملت من كل زاد، وقرت
كل غاد، ووعت كل أثير
6
ولها في كل يوم مدد
يلتقي الأول فيه والأخير •••
كان فرعون له مجلسه
وهو ذو الصرح المعلى والسرير
ولنا في كل دار مجلس
يسع العالم أيان يدور
هو ناد لك، أو مدرسة
أو مجال السبق، أو ملهى السرور
غلب الوهم الذي زينه
في الأساطير خيال مستطير
دعوة المارد إن قيست إلى
دعوة المذياع ظن وغرور
بورك العلم لعمري إنه
من صفات الله، والله قدير
ربما أسمعنا في غده
نغم الأفلاك، أو صوت الضمير •••
مسمع العلم في عاصمة
تسبح الدنيا إليها وتطير
لا يقر الدهر إن مادت، فإن
سكنت فالدهر حوليها قرير
بنيت حينا على اليأس وما
رصدته اليوم إلا لمغير
جمعت أوصالها حرية
يستوي فيها قليل وكثير
وخصيم الأمس من أعدائها
هو في معمعة اليوم نصير
كلهم، والأمر شورى بينهم
مستجير في حماه ومجير •••
عامك الثالث أم شرخ الصبا؟
أنت في مهدك جبار جسور
لست بالحبو خبيرا إنما
أنت بالوثب على الأفق خبير
راكب الريح إذا قيس إلى
خطوك الواني سلحفاة كسير
حدث الدنيا حديث الضاد من
ساحة رتل فيها شكسبير
وأعده ساريا حيث سرى
زمنا في مغرب الشمس المنير
طالما رنت على آفاقه
نغمات من نظيم ونثير
من ربى أندلس حينا ومن
قمم الأطلس حينا والثغور
هاتها في نسق موصولة
يلتقي «بيرن» فيها وجرير •••
ناقل السر وما أعجبه
في رحاب الكون من سر جهير
تسمع القطبين ضدين كما
يسمع النجوى سمير من سمير
عصب الأنساب يا هذا الأثير
أنت في الأرض، وفي الكون الكبير
كلنا في رحبه عائلة
حين تسري أنت أو حين تسير
تنظم القربى على طول المدى
من ذرى الشعرى إلى قاع البحور
عجبي من عالم تجمعه
أذن. كم فيه من قلب نفور!
قل حديث الحرب والسلم معا
رب حرب هي للسلم عبور
أنت بالصدق كفيل أن ترى
أمم الأرض إلى الحق تصير
يملك اللب حليفا راضيا
من له في دولة السمع سفير
إلى المستمع العربي بلندن
7
دعوت إلى حق وأسمعت واعيا
فحييت مدعوا، وحييت داعيا
وآثرت للعرب اللسان الذي به
تنزل وحي الله للعرب هاديا
وناديتهم من جانب الغرب مثلهم
فتى عربيا واضح الصوت عاليا
أصاخوا فلم يستنكروا القول عجمة
ولم يسمعوا منه لسانا مداجيا
إذا الحر ناجى الحر فليلق قوله
صريحا، ولا يومئ إليه مواريا
على ذاك يمضير «اللندني» محدثا
فيصغي إليه «القاهري» مواليا
ويصغي ابن بغداد إليه محدثا
وينقل عنه شعب مكة راويا
وفي جلق
8
واع، وفي القدس شاخص
وفي برقة شاد يجاوب شاديا
حقائق في شرق البلاد وغربها
يساجل فيها الحاضرون البواديا
يؤلف شمليهم على البعد أنهم
أبوا أن يطيعوا في سوى الحق راعيا
وأنهم للظالمين بمرصد
طغاة على من يحكم الناس طاغيا
وأن الذي أوصى به الشرق بادئا
تواصى به الأحرار في الغرب تاليا
فيا لك من حرية جمعتهما
إلى نسب عال عليه تلاقيا
وما عصبة الأحرار إلا أخوة
إذا اشترك القطبان فيها تآخيا
فلا جاور الشرق امرؤ يصطفي له
عدوا لآمال الشعوب معاديا
ولا زال هذا الشرق بالحق آمرا
ولا زال هذا الشرق بالحق ناهيا •••
إلى «مسمع العرب» الكرام تحية
أحيى بها عاما من العمر ثانيا
أرى لك في سن الفطام شبيبة
تسابق في العام القرون الخواليا
وألمح من بشراك طالع مولد
تلاقيه أبراج السعود حوانيا
سبقت ركاب النصر حتى كأنما
خففت لتلقاه على القرب آتيا
وأتممت حولا واحدا فتحولت
مخاوف أقوام فلاحت أمانيا
9
فإن شئت كن فألا، وإن شئت هاتفا
إذا أسمع الضليل أقبل ناجيا
تبلبلت الأسماع حينا، وأطبقت
صروف قضاء ظنه القوم قاضيا
وهيهات ما كان الرجاء مغيبا
لمن رامه، كلا ولا الأمر خافيا
يقيني الذي لم يطرق الشك سمعه
سحابة يوم أن للحق واقيا
وأن الذي خالوه صرعة هالك
نذير إذا ما اشتد أيقظ غافيا
وقد هجر الغافي المضاجع فانظروا
على الساهر الجهد المكتم باديا
توثب للعدوان فليمض واثبا
على غرة منه لينقض هاويا •••
إلى مسمع العرب الكرام نبوءتي
فسلني غدا عنها، وما أنت ناسيا
سيدبر شر كان بالأمس مقبلا
ويقبل خير كان بالأمس نائيا
ويصعد نجم العرب في الشرق ساطعا
ونجم حليف العرب في الغرب ساطيا
كفيلي بما أنبأت صدق روية
ترى الغد من مستقبل الدهر ماضيا
فلا انخدعت، والحمد لله، ضلة
ولا خدعت يوما وفيا موافيا
غدا، فانتظرني باليقين إلى غد
وهاك التحايا قبله والتهانيا
بين التعب والراحة
قال المعري:
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
ويقول صاحب الديوان:
راحة كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
ما ابتغاء المزيد من يوم أمن
عاطل لا يزاد بالتعداد
فالزمان المريح تكرار شيء
واحد واطراد حال معاد
هذا هو التاريخ
من جانب القبر لسان بدا
يكذب ما شاء ولا يستحي
هذا هو التاريخ لو أنني
صورته يوما على المسرح!
النقد
أعطيتهم لؤلؤا حرا فحين رأوا
صغيرة منه صاحوا: أي إفلاس!
وجادهم بالحصى غيري فحين رأوا
خريزة فيه قالوا: أكرم الناس
الظن
إذا خفت ظن الناس ظنوا وأكثروا
وإن لم تخفه أكرموك عن الظن
فإن شئت هبهم ألف عين، وإن تشأ
فدعهم بلا عين تراك ولا أذن
رأي الناس
من عود الناس خيرا طالبوه به
كأنه الدين يلوى بالمعاذير
ومن تعقبهم شرا فأمهلهم
يوما تقبل منهم أجر مشكور
لا رأي للناس في نفع ولا ضرر
وما لهم قط من حكم وتقدير
بين هم وسآمة
أتهتم بالدنيا؟ فتلك حبيبة
إليك فما تخليك يوما من الهم
ألي لها هم؟ فهاتيك خلة
10
صداقتها أضنى من الهم للجسم
وما بين هم دائم أو سآمة
خيار لمختار وحكم لذي حكم
فخذها على علاتها والق عيشها
شقيا بعلم، أو شقيا بلا علم
الطيش والحزم
الطيش أن تعمل ما تشتهي
وقد يساوي النفع فيه الضرر
والحزم أن تحذر ما تتقي
وقلما يغنيك فيه الحذر
كفئان إن وازنت حظيهما
يا صاح فاختر منهما ما حضر
يا كتبي
في ختام الجزء الأول من الأجزاء الأربعة المجموعة في مجلد واحد قصيدة بهذا العنوان، جاء منها هذه الأبيات:
يا كتبي أشكو ولا أغضب
ما أنت من يسمع أو يعتب
يا كتبي أورثتني حسرة
هيهات لا تنسى ولا تذهب
يا كتبي ألبست جلدي الضنى
لم يغن عني جلدك المذهب
كم ليلة سوداء قضيتها
سهران حتى أدبر الكوكب
كأنني ألمح تحت الدجى
جماجم الموتى بدت تخطب
11
والناس إما غارق في الكرى
أو غارق في كأسه يشرب
أو عاشق وافاه معشوقه
فنال من دنياه ما يرغب
أو سادر يحلم في ليله
بيومه الماضي وما يعقب
ينتفع المرء بما يقتني
وأنت لا جدوى ولا مأرب
إلا الأحاديث وإلا المنى
وخبرة صاحبها متعب
وختمت القصيدة بهذا البيت:
لا رحم الرحمن فيمن مضى
من علم العالم أن يكتبوا
والقصيدة الجديدة في هذا الديوان تشير إلى تلك الأبيات بما ورد فيها من المقابلة، وهذه هي:
شكوتها والعمر في فجره
فكيف بي لما دنا المغرب؟
لما دنا المغرب صالحتها
تلك التي تشكي ولا تغضب
تلك التي قلت لها مرة
والقلب دام والحشا ملهب «يا كتبي أورثتني حسرة
هيهات لا تنسى ولا تذهب» «يا كتبي ألبست جلدي الضنى
لم يغن عني جلدك المذهب»
فالآن يا كتبي تعالي لمن
أخبث شيء عنده طيب
ما أنت شر من عناء المنى
وهي التي في صدقها تكذب
ما أنت أقسى من شقاء الهوى
وهو الذي في لهوه يتعب
ما أنت أغلى ثمنا إن غلا
من جوهر يكنز أو يعطب
ما أنت في سكر وفي متعة
أخلى من السم الذي يشرب
ويحك! إنا نحن من معشر
يسبق فينا «الدور» أو يعقب
غدا سنمسي كلنا ما لنا
في العيش إلا رفك المترب
فليت لي إذ أنا تحت الثرى
جمجمة ثرثارة تخطب
رهطا من القراء يرضونني
رضاي عن بلواك إذ أغضب
يا كتبي ما شئت فلتحسبي
أو شاء قرائي فليحسبوا
عجز أو قدرة
علميني كيف لم تضطربي
بين أسماء الأقاصي والأداني
أنا لو لاقيت أخرى مرة
خفت أن يخلط باسمين لساني
الغواني في حجاب دائم
عبث كل سفور للغواني
قدرة فيهن أم عجز طغى
أم هما في لحظة مجتمعان؟
من فناء الغيد في حاضرها
نسيها من غاب عنها كل آن
جواب جميل
قال جميل بن معمر صاحب بثينة:
ألا أيها النوم ويحكم هبوا
أسائلكم هل يقتل الرجل الحب؟
وأجيب بلسان أحد النوام:
بربك دعنا راقدين فلو درى
بنا الحب لم يرقد لنا أبدا جنب
وسل راقدي الأجداث عنه، فإنهم
مجيبوك عن علم بمن قتل الحب!
وقد سأل جميل بلسان الحال:
ألا أيها الأموات ويحكم هبوا
أسائلكم هل يقتل الرجل الحب؟
وقد أجيب بذلك اللسان:
أفق مزعج الموتى، فلو كنت قادرا
على أن تهب اليوم من صرعة هبوا
ولست إلى أن يسمع الصور سامعا
هنا سر مقتول يبوح به صب!
الفقير
ثروة المرء بما يطلبه
لا بما يملكه بين يديه
مالك الأرض فقير إن رعى
مطلبا يطمح بالعين إليه
والذي أفقر منه طالب
ود قلب ما له ود لديه
ويلنا
من غلا عنده السرور رخيص
كاسد السوق في كبار الأمور
والذي يستحق كل سرور
عجبا يزدري بكل سرور!
إن غلا عندنا النعيم رخصنا
ويلنا ويلنا بدار الغرور
سيان
إن قيل بالحق أو البهتان
دعهم يقولون، وقل: سيان!
سيان مهما افترق الضدان
سيان مهما اختلف الخصمان
سيان ألف هي أو ألفان
سيان بيد هي أو مغان
سيان نور أو ظلام فان
سيان من يلهو ومن يعاني
قلها ببرهان ولا برهان
وأنت أنت أحكم الزمان
وإن تصدوا لك بالنكران
أو ضحكوا سخرا فقل: سيان!
أتمنى
أتمنى يوما لو ان حياتي
تنقضي كلها ولا أتمنى
أتمنى وقد أطلت التمني
لو تعلمت كيف أن أتمنى
أتمنى لو علمتني الليالي
باطل الأمر قبل أن أتمنى
منية لو تحققت لتساوى
ما تملكته وما أتمنى
الصرف والمزيج
رب ما بالنا نغص بأحلى
ما شربنا وفيم يا رب يحلو؟
رب والعيش فيه حلو ومر
لم لا يمحضان والأمر سهل؟
لم لا يصفوان فالشهد شهد
حين يعطي العباد والخل خل
إن خلا يشوب شهدا ضلال
ولشهد يشوب خلا أضل!
خداع النفس
يقول وما قضى عجبا
فتى يخبط في حدسه
أيخدع نفسه رجل
له عينان في رأسه؟
أجل يا صاح: عينان!
وزد ما شئت من حسه
وهل أخدع للإنسا
ن بين الناس من نفسه
خداع النفس معهود
وقاك الله من دسه
كيمياء وصيرفي
قال ابن الرومي:
إن للحظ كيمياء إذا ما
مس كلبا أحاله إنسانا
ولم يقل:
إن للحظ صيرفيا أريبا
يقتفي كيمياءه أحيانا
جنة الخيام
رغيف خبز ووجه
حلو، وكأس مدام
وتلك جنة عدن
في مذهب الخيام
12 •••
قالوا: ونودي يوما
ما تشتهي في يديكا
دع مطلبا منه فردا
والباقيان لديكا •••
فحار بين رغيف
إن فاته مات جوعا
وبين وجه منير
إن غاب غابت جميعا •••
وبين كأس مدام
على الشقاء تعين
لولا خداع مناها
أفاق وهو غبين •••
طال التردد فيها
فمال عنها كظيما
سألت جنة خلد
وما سألت جحيما •••
قالوا: فناداه صوت
يقول في غير رفق
كصوت إبليس لولا
ما فيه من فرط صدق ••• «أتلك جنة خلد
تهذي بها يا حكيم
بمطلب إن عداها
ترتد وهي جحيم؟»
بيجو «... صور كثيرة بقيت في خلدي من الإسكندرية، كأنها صفحات مقسمة من معارض الفن والحياة والتاريخ.
وستبقى ما قدر لها البقاء.
وسيكون من أبقاها وأولاها بالبقاء صورة واحدة لمخلوق ضعيف أليف، يعرف الوفاء ويحق له الوفاء، وذلك هو صديقي «بيجو» الذي فقدناه هناك.
وإني لأدعوه صديقي ولا أذكره باسم فصيلته التي ألصق بها الناس ما ألصقوا من مسبة وهوان، فإن الناس قد أثبتوا في تاريخهم أنهم أجهل المخلوقات بصناعة التبجيل، وأجهلها كذلك بصناعة التحقير. فكم من مبجل بينهم ولا حق له في أكثر من العصا، وكم من محقر بينهم، ولا ظلم في الدنيا كظلمه بالازدراء والاحتقار.
وكنت أقدر أنني سأخلو من العمل في مجلس النواب ثلاثة أشهر الصيف الجديد، فأخلو بنفسي وبالبحر والصحراء في مرسى مطروح أو في السلوم، وأفرغ هناك لتأليف كتابي الذي جمعت له ما جمعت من الأخبار والوقائع عن الصحراء وأبنائها الأقدمين والمحدثين. فلما تواصلت الجلسات أزمعت أن أقضي أياما في القاهرة، وأياما في الأسكندرية من كل أسبوع، ولم أصطحب بيجو في الرحلة الأولى ولا في الرحلة الثانية ، ولا عزمت على اصطحابه بقية أشهر الصيف؛ اكتفاء بأن أراه أيام مقامي في القاهرة، وأن أعود إليه كل أسبوع، ولكن المخلوق الأمين الوفي أرغمني على مصاحبته كلما ذهبت إلى الإسكندرية وكلما رجعت منها؛ لأنه صام عن الطعام صومة واحدة في المرحلة الثانية، وزاده إصرارا على الصيام أننا كنا نتركه في كفالة الشيخ أحمد طاهينا القديم، الذي يعرفه قراء كتابي «في عالم السدود والقيود».
والشيخ أحمد حمزة كما علم أولئك القراء رجل يكثر الصلاة والوضوء، ويعتقد نجاسة الكلاب فلا يقربها إلا على مسافة أشبار. وبيجو مخلوق حساس مفرط الإحساس ما هو إلا أن تبين النفور من الشيخ أحمد حتى قابله بنفور مثله أو أشد وأقسى، فكنا إذا تعمدنا تخويفه وزجره نادينا «يا شيخ أحمد»، فإذا بيجو تحت أقرب كرسي أو سرير، ثم لا يخرج من مكمنه إلا إذا أيقن أن الشيخ أحمد حمزة بعيد، جد بعيد.
فلما استحال التوفيق بينهما، واستحال إقناعه بالعدول عن الصيام في غيابنا أصبح بيجو من ركاب السكة الحديد المعروفين في الذهاب والإياب، وأصبح يزاملنا من القاهرة إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى القاهرة كل أسبوع، وشاعت له نوادر في معاكسته للموظفين ومعاكسة الموظفين له يتألف منها تاريخ وجيز، ثم أصابه في الإسكندرية ذلك المرض الأليم، الذي كان فاشيا فيها، واستعصى علاجه على أطباء الحيوان، فلزمته في مرضه مخافة عليه من مشقة السفر، وعلمت أن الأمل في شفائه ضعيف، ولكني لم أجد مكانا أولى بإيوائه من المكان الذي أراه ويراني فيه.
وإني لفي ظهيرة يوم بين اليقظة والتهويم إذا بهمهمة على باب حجرتي، وخدش يكاد لا يبين. ففتحت الباب فرأيت المخلوق المسكين قابعا في ركنه يرفع إلي رأسه بجهد ثقيل، وينظر إلي نظرة قد جمع فيها كل ما تجمعه نظرة عين حيوانية أو إنسانية من معاني الاستعطاف والاستنجاد والاستغفار، أحس المسكين وطأة الموت، فتحامل على نفسه وخطا من حجرته، وجلس هناك يخدش الباب حتى سمعته، وفتحت له وهو لا يزيد على النظر والسكوت.
كان اليوم يوم أحد، ولكنا بحثنا عن الطبيب في كل مظنة لوجوده حتى وجد، وشاءت له مروءته الإنسانية أن يفارق صحبه وآله في ساعة الرياضة؛ ليعمل ما يستطيع من ترفيه وتخفيف عن مريضه الذي تعلق به، وعطف عليه لفرط ما آنسه أثناء علاجه من ذكائه وألاعيبه ومداعباته. ولكنه وصل إلى المنزل وبيجو يفارق هذه الدنيا التي لم يصحبها أكثر من سنتين.
سيبقى من صور الإسكندرية ما يبقى وسيزول منها ما يزول، ولكني لا أحسبني ناسيا ما حييت نظرة ذلك المخلوق المتخاذل، يقول بها كل ما تقوله عين خلقها الله ويودعها كل ما ينطق به فم بليغ من استنجاد واستغفار، كأنه يعلم أنه أقلقني ولا يحسب ما كان فيه عذرا كافيا لإقلاق صديقه.
ومن شهد هذا المنظر مرة في حياته علم أنه لا ينسى، فإن لم يعلم ذلك فهو أقل الناس حظا من الخلائق الإنسانية؛ لأن البعد من العطف على الحيوان لا يجعل المرء بعيدا من الحيوان، بل يقربه منه غاية التقريب ...» •••
هذه كلمة من مقال نشر بمجلة الرسالة الغراء (3 أكتوبر سنة 1938)، وفيها ما يصلح أن يكون مقدمة للقصيدة التالية. ولكنها مقدمة تفتقر إلى تتمة من مقال آخر نشر في الرسالة أيضا بعنوان «كلبي بيجو» قبل ذلك بنحو عام، وهذا هو المقال: ... أنا أكتب هذا المقال عن «بيجو»، وهو ينظر إلي ثم يذهب ويعود ليطل مرة أخرى، ولا يدري أنني أكتب عنه وأشيد بذكره. وكل ما يدريه أنني جالس في هذا المكان الملعون الذي يحب كل مكان في البيت غيره، وهو كرسي المكتب.
ففي كل مكان في البيت يراني مستعدا لملاعبته واستجابة نظراته، والتفرج على فنونه وألاعيبه وقفزاته. أو يراني مستعدا للإشارة إليه واستدعائه، فإذا هو واثب وثبة واحدة إلى حيث يستوي على مكانه بجانبي، ويغريني بملاطفته ومجاملته أن أبذل له الملاطفة والمجاملة، وأحييه بعبارات التودد والمساجلة ... ينتظر مني ذلك في كل مكان إلا كرسي المكتب، فإذا جلست إليه لأكتب أو لأقرأ فهو حائر لا يدري ما يصنع: يدنو من الكرسي إلى مسافة قصيرة ثم يرفع رأسه وينظر، ثم يعيد النظر كرة أخرى، ولعله يسائل نفسه: ما بال صاحبي لا يناديني ولا يجيبني؟ وما بال عينيه تتجهان أمامه وقلما تتجهان ناحيتي؟ فإذا طال عليه التساؤل والترقب رجع أدراجه، وغاب هنيهة، ثم عاد إلى المكتب يترقب كلمة النداء أو نظرة الاستدعاء، أو لمسة التربيت والاحتفاء، ولا يزال كذلك حتى ييأس ويسأم فيولي وجهه شطر ألعوبة يتلهى بها، أو شغلة أخرى من الشواغل البديعة التي يفرضها على نفسه، ولا يفرضها أحد عليه، وأولها حراسة الباب والعواء على من يصعدون السلم أو يهبطونه.
وقد تبعني اليوم إلى المكتب ونظر إلي قليلا، ثم غادر المكان الملعون يائسا عابسا دون أن يلح في الانتظار والمناورة؛ لأنه تعلم بالمرانة الطويلة أن الانتظار في هذا المكان لا يفيد، وأن الكلب العاقل الرشيد هو الذي يغادر مكان الكتب والأوراق بغير تدبر ولا تأمل ولا إطالة، والحق معه حتى في آراء الأناسي العقلاء الراشدين.
وقد أردت اليوم أن أدهشه وأخلف عادته، فرفعت رأسي من الورق في بعض جيئاته وصحت به مناديا: بيجو بيجو تعال! إن كتابتي اليوم تعنيك، ألا تريد أن تقرأ ما كتبت؟ فوجم ولم يكد يصدق أذنيه. وتردد لحظة ثم قفز إلى الكرسي فالمكتب حيث الورق الذي أخط عليه هذا المقال، كأنه يريد حقا أن يقرأه ويستطلع ما فيه، وكأنه لا يفضل بالعقل والرشد أولئك الآدميين الذي يعنيهم ما يكتب عنهم الكاتبون، كما ظننته لأول وهلة.
ولكنه ما لبث أن أخافني من أسلوبه في القراءة والمطالعة؛ لأنه هو والتمزيق في عرفه شيء واحد، وهل هو بدع في أسلوبه وهذا شأن كثير من الآدميين الذين أكتب عنهم؟ فنحيته برفق وحملته إلى الباب، وأرسلته في الدهليز وعدت إلى المكتب فأقفلته، ولا أزال أسمع نباحه يلاحقني بلهجات تتراوح بين الاستغراب والشكاية والسباب.
ويجب أن أعترف للقراء بأن كلبي «بيجو» ليس بكلبي على التحقيق، ولكنه كلبي في شريعة الدعوى والاغتصاب، أو كلب صديقي العزيز «فيفي» الذي لا يجاوز السنتين إلا منذ شهرين. ولا إخاله إلا مطالبي به قريبا بعد أن زال الموجب لإقصائه، وهو انحراف صحته في موعد التسنين، وفيما أصابه على أثر ذلك من مصاب أنقذه الله من خطره الشديد.
والأصل في المصائب أن تجمع بين الأصدقاء لا أن تفرق بينهما، كما افترق فيفي وصديقه بيجو. ولكن اللوم في هذا الافتراق على صداقة بيجو دون غيرها - أي على إفراطه في الصداقة لا على تقصيره فيها - فمعاذ الله أن يتهم كلب بخيانة الأصدقاء.
كان بيجو يرى «فيفي» على سريره ساكنا من التعب والإعياء، فلا يحسب أن شيئا تغير بينه وبين مولاه. ويقفز إلى السرير ليعرض خدماته التي لا يكل عنها ولا يتوانى فيها، وهي المواثبة والملاعبة واصطناع العض والمصارعة ومولاه في شاغل عن ذلك، ولكنه هو لن يقبل العذر ولن يعرف شاغلا أهم من تلك الخدمات المرفوضات.
وإذا أقبل الطبيب وصرخ «فيفي» من مقاربته وجسه وفحصه، كما يصرخ جميع الأطفال من جميع الأطباء، فما هي إلا لمحة كأسرع ما يكون لمح البصر، وإذا بأنياب «بيجو» توشك أن تنغرس في ساق الطبيب الذي يعتدي على مولاه بما يبكيه، أما إذا ربطوه اتقاء لهذه المفاجآت فلا راحة ولا قرار في البيت كله، لا لمولاه العزيز ولا للنائمين حوله أو الساهرين عليه.
لهذا عوقب «بيجو» على إفراط صداقته بالنفي من جوار مولاه أثناء توعكه وانحراف مزاجه، ورضيت أنا أن أتولى مؤاساته وحراسته أيام منفاه حتى تنجلي الغاشية فيعود إلى مأواه.
وما انقضت فترة وجيزة حتى أصبح «بيجو» شخصية من شخصيات البيت المعدودة، وحتى فرض على نفسه واجبات وأعمالا لم يفرضها عليه أحد، ولكنه يغضب ويتذمر إذا قاطعته فيها أو عوقته عنها، كأنك تحسبه مخلوقا عاطلا لا يصلح لعمل، ولا يؤمن على واجب ... عرف عرف الفرق بين جرس التليفون وجرس الباب، فلا يدق هذا أو ذاك إلا أسرع إلى الإجابة، وغضب من الخادم كلما سبقه إلى غرضه، فتظاهر بعضه والوثوب عليه.
ومن عجائب ذكائه إذا سمع جرس الباب أسرع إلى الباب، ولم يفعل كما تعود أن يفعل حين يسمع جرس التليفون . مع أن جرس الباب يدق في المطبخ، حيث يكون الخادم ولا يدق في المكان الذي يجري إليه، ولعله عرف أن فتح الباب المقصود بدق الجرس في المطبخ كلما جرى الخادم لفتحه على إثر سماع دقاته، ولكن تفريقه بين الجرسين براعة تشهد له بالقدرة على مزاولة الأعمال والواجبات.
ومن الأعمال والواجبات التي فرضها على نفسه ولم يفرضها عليه أحد أنه لا يدع إنسانا، ولا حيوانا يصعد السلم إلا أدركه بنباح الاحتجاج من وراء الباب، فيعدو أمامي ويعود إلي ولا يزال يرقص، ويتوثب حتى أجزيه على استقباله بالتحية الواجبة والتربيت المحبب إليه. ألأجل الطعام يهش لي «بيجو» هذه الهشاشة ويرعاني هذه الرعاية؟ أنا أود من الباحثين في طبائع الحيوان أن يراجعوا ملاحظاتهم وأحكامهم في أسباب التأليف والمودة بين الحيوان والإنسان، فإن إطعام الكلب ولا شك سبب من أسباب وفائه وتعلقه بأصحابه، ولكن لا شك أيضا في أن الكلاب تفهم للمودة أسبابا غير الطعام، وتدرك معنى من معاني الصلة النفسية ليس مما يرتبط بالمنافع.
وأوضح دليل على ذلك أن «بيجو» يعتبر نفسه تابعا لمولاه «فيفي»، ولا يعتبر نفسه تبعا لأبيه أو خادم أبيه، وكلاهما يطعمه ويلاطفه ويسقيه. أما «فيفي» فهو لا يطعمه ولا يسقيه ولا يتورع عن خطف طعامه إذا ساغ في مذاقه، وقد يتبرم به فيضربه أو يقبض على لسانه، أو يضع أصبعه في عينيه، وبيجو في كل ذلك لا يقابل الأذى بمثله، ولا يفتأ متعلقا بالطفل أشد من تعلقه بآله وذويه.
فلما زارني «فيفي» مع أبيه بعد شفائه ونجاته من خطره كان المعقول المنظور أن يخف «بيجو» إلى الأب الكبير، الذي يعنى بإطعامه وإيوائه ويشمله بمودته. غير أنه التفت أول ما التفت إلى «فيفي» العزيز دون غيره، وتهافت عليه يعانقه، ويلحس وجهه بلسانه ويئن أنينا من فرط حنينه وفرحه، وجهدنا جهدا شديدا في التنحية بينه وبين مولاه الصغير؛ لفرط ما أرهقه بتحياته ومجاملاته، وكنا سبعة منا أستاذ في علم الزراعة والحيوان، وأخ له أديب جم الاطلاع، وصديق مهذب من أدباء الموظفين ، وسيدة إنجليزية وابنها اليافع، ووالد فيفي وكاتب هذه السطور. فأتعبنا الكلب الأمين الودود جد التعب، ونحن نبعده من هنا فيرجع من هناك على حال من اللهفة والاشتياق تجلب الدمع إلى الآماق. فماذا بين بيجو ومولاه فيفي من البر والمجاراة غير الصلة النفسية التي لا شأن لها بالطعام والشراب؟ ولماذا يحسب نفسه تابعا للطفل، ولا يحسب نفسه تابعا لأبيه؟ إنه لا يفقه أنهم أهدوه إلى فيفي الصغير؛ ليكون لعبته وحارسه وعشيره، ولكنه قد يفقه أنه نده وقرينه بواشجة الطفولة، والملاعبة الصبيانية، وهي على كل حال واشجة غير وشائج المنافع والطعام والشراب.
ويشبه هذا في الدلالة على إدراك الخلائق العجماء للصلات النفسية أن «بيجو» لا يطيق «الطاهي» أحمد حمزة، ولا يرتاح إلى رؤيته ولا يسمع النداء على اسمه حتى يحسبه تهديدا له بالعقوبة والإقصاء ... وهو مع هذا يألف فراش المنزل «محمدا»، ويهش له ويستريح إلى مصاحبته في المنزل وفي الطريق. فلم كانت هذه التفرقة عنده بين هذا وذاك؟ كلاهما يقدم له الطعام، ويزيد صديقه «محمد» بتجريعه الدواء الذي يتعاطاه لعلاج السعال أحيانا، وهو يمقته وينفر منه أشد النفور. غير أن الطاهي «أحمد حمزة» يتحاشى «بيجو» خوفا من النجاسة، فيشعر «بيجو» بجفائه ويلقاه بمثله، ويحتمل التجريع والغصص من زميله لأنه يحتفي به ويأنس إليه.
ومن إدراكه «للمعاني» الفكريه أنك إذا لمسته بالعصا وهو غافل عن رؤيتها، فهو لا يبالي ولا يحفل ولا يحسبك غاضبا أو قاصدا لعقابه. ولكنه إذا التفت إليك ورأى أن العصا هي عصا التأديب التي تخوفه بها ظهر عليه الرعب، أو ظهر عليه الأسف والتوسل، كأنه يقرن بالعقاب معنى غير الضرب وألمه، وهو استياء سيده وإعداده له عدة العقاب.
والخلاصة أن «بيجو» مخلوق أنيس، وهو أفيد ما يكون في المكتبة التي يمقتها ويستثقل ظلها؛ لأنني استفدت على يديه فوائد جليلة، وأنا أقرأ بعض الكتب الحديثة في علم النفس وعلم الاجتماع.
يقول علم النفس إن التعاطف في التربية والتعليم أنفع وأنجح من تبادل الأفكار، وبيجو يؤكد لي ذلك؛ لأنني أرى منه أن الكلاب أسرع تعلما من القردة، وهي أرفع في مرتبة التكوين والإدراك. وإنما فاقت الكلاب القردة بسرعة التعليم؛ لأنها عاشرت الإنسان طويلا فاتصلت بينه وبينها العاطفة، وإن لم يتقارب بينه وبينها تركيب الأعصاب والدماغ.
ويقول علماء الاجتماع من أنصار «الفاشية» إن الغرائز لا تتبدل وإن الحرب والعدوان غريزة الإنسان، فلا فائدة لوعظ الواعظين بالسلام، ونصح الناصحين بالإخاء والعدل والمساواة، وبيجو يدحض ذلك أيما إدحاض؛ لأنه قد تحدر من سلالة الذئاب، فما زالت به التربية والمصانعة حتى أصبح حارس الأطفال والحملان، وقد كان قبل ذلك آفة كل طفل من بني الإنسان، وكل صغير أو كبير من أبناء الضأن.
ويعد «بيجو» بحق من أحسن الشراح للعالم الروسي «بافلوف» صاحب التجارب المشهورة في إخوان بيجو من الكلاب الروسية، فإنه جرب أن الكلب يسيل لعابه إذا شاهد الطعام، فقرن بين تحضير الطعام له ودق الجرس على مقربة منه، فإذا بفمه يتحلب كذلك كلما دق الجرس، ولو لم تصحبه رؤية طعام.
فبنى على ذلك مذهبه في مقارنات العواطف، ومصاحبات الشعور وظواهره الجسدية.
وجاء علماء النفس والتربية، فاستفادوا من ذلك فوائد شتى في علاج الخوف والجشع والعادات الذميمة التي يصعب علاجها في بعض الأطفال، فجعلوا يقرنون الشيء المخيف بالشيء المحبوب؛ ليعودوا الطفل أن يسكن إليه ولا يخشاه، ويقرنون الشيء المرذول الذي يحبه الطفل بالشيء المزعج الذي يقصيه عنه وينفره من إتيانه؛ ليقلع عن ذميم الخلال بداهة وعفوا بغير أمر ولا إلحاح.
بيجو خير مفسر لهذا المذهب النافع الذي كان الفضل الأول فيه لواحد من أبناء جنسه، فقد عهدته في منزله الأول، وليس أبغض إليه من السلسلة والطوق؛ لأنهم كانوا يقيدونه بهما في حديقة الدار كلما أضجرهم بعبثه وفضوله.
فلما جاء عندي وليس للمنزل حديقة واسعة أطلقه فيها أصبحت السلسلة والطوق من أحب الأشياء إليه، وأدعاهما إلى طربه وابتهاجه؛ لأنه تعود كلما ربط بالسلسلة والطوق أن يخرج مع الخادم لغشيان الطريق، وقضاء ساعته المنذورة للمرح والرياضة في الخلاء.
ولبيجو فنون أخرى يشارك في تفسيرها وتفهمها، وفضائل شتى يتبرع بهداياها ومزاياها، وإن في بعض هذا لما هو حسبنا من تقدير للأستاذ بيجو، والصديق بيجو والزائر الكريم بيجو الذي نخشى أن نسطو عليه لفرط ما نستفيد منه ونأنس إليه.
والآن وقد عرف القارئ من هو «بيجو» لا أراني بحاجة إلى اعتذار من الحزن عليه، والوفاء لذكراه، فإنه لم يخطئ في وفائه ولم يخطئ في خلقته. ولم يخلق إنسانا فدنس الإنسانية بالغدر، ولكنه خلق كلبا فشرف الحيوانية بالوفاء.
بيجو
حزنا على بيجو تفيض الدموع
حزنا على بيجو تثور الضلوع
حزنا عليه جهد ما أستطيع
وإن حزنا بعد ذاك الولوع
والله - يا بيجو - لحزن وجيع •••
حزنا عليه كلما لاح لي
بالليل في ناحية المنزل
مسامري حينا ومستقبلي
وسابقي حينا إلى مدخلي
كأنه يعلم وقت الرجوع •••
وكلما داريت إحدى التحف
أخشى عليها من يديه التلف
ثم تنبهت وبي من أسف
ألا يصيب اليوم منها الهدف
ذلك خير من فؤاد صديع •••
حزني عليه كلما عزني
صدق ذوي الألباب والألسن
وكلما فوجئت في مأمني
وكلما اطمأننت في مسكني
مستغنيا أو غانيا بالقنوع •••
وكلما ناديته ناسيا:
بيجو! ولم أبصر به آتيا
مداعبا مبتهجا صاغيا
قد أصبح البيت إذن خاويا
لا من صدى فيه ولا من سميع •••
نسيت؟ لا، بل ليتني قد نسيت
أحسبني ذاكره ما حييت
لو جاءني نسيانه ما رضيت
بيجو معزي إذ ما أسيت
بيجو مناجي الأمين الوديع •••
بيجو الذي أسمع قبل الصباح
بيجو الذي أرقب عند الرواح
بيجو الذي يزعجني بالصياح
أو نبحة منه، وأين النباح؟
ضيعت فيها اليوم ما لا يضيع •••
خطوته يا برحها من ألم
يخدش بابي وهو ذاوي القدم
مستنجدا بي، ويح ذاك البكم!
بنظرة أنطق من كل فم
يا طول ما ينظر! هذا فظيع •••
ثم، لا أرى النوم لعيني يطيب
أنتم خبيرون بنهش القلوب
يا آل قطمير هواكم عجيب
غاب سنا عينيك عند الغروب
وتنقضي الدنيا ولا من طلوع •••
نم واترك الأفواج يوم الأحد
والبحر طاغ والمدى لا يحد
عيناي في ذاك وهذا الجسد
بوحشة القلب الحزين انفرد
والليل والنجم وشعب خليع •••
أبكيك أبكيك وقل الجزاء
يا واهب الود بمحض السخاء
يكذب من قال طعام وماء
لو صح هذا ما محضت الوفاء
لغائب عنك وطفل رضيع
هوامش
অজানা পৃষ্ঠা