قال: «لا ريب عندي أنكم ستلاقون من إخواننا الدهاقين كل رعاية، وسيكونون عونا لكم في هذه الدعوة؛ لأنكم إنما تدعون إلى نصرتهم، بل أنتم تسعون في إنشاء دولة سيكون لآل خراسان نفوذ عظيم فيها، فننسى تحكم العرب في شئوننا، واستئثارهم بالأموال دوننا؛ فقد كنا قبلهم - في أوائل دولتهم - نحن أهل السطوة وأصحاب الحكومة، فما زالوا ينازعوننا عليها حتى كادوا يحكمون فينا، ولا يمر يوم لا يأتوننا فيه بضريبة.»
فقال أبو مسلم: «وأظن هذا هو السبب في بقاء معظم الدهاقين على الزردشتية أو المجوسية.»
قال الدهقان: «نعم هذا هو السبب، وأنا أعرف جماعة من هؤلاء لولا ظلم هذه الدولة واستبدادها لاعتنقوا الإسلام، على أن بعضهم هم بالإسلام ثم عدل عنه. ولا ريب عندي أنهم إذا آنسوا من حكامهم رفقا فلن يتخلف أحد منهم عن الإسلام، وأنا أضمن ذلك إذا شئتم.»
قال خالد: «يكفينا من حضرة الدهقان أن يبعث بعض أتباعه إلى من والاه من الدهاقين داعيا لأن يحسنوا الظن بدعوتنا.»
الفصل الثالث والعشرون
الدهاء المتبادل
وكان أبو مسلم في أثناء كلام خالد ينظر إلى جلنار من طرف خفي وهي تسارقه النظر، وقد كاد قلبها يطير فرحا حين رأته يبتسم لها، وأصبحت لا تبالي بما قد يحول بينها وبينه من المشاق، واستغربت ترددها في أمره في أثناء النهار. ولا غرابة في ذلك؛ لأن الإنسان إذا هاجت عواطفه أصابه ضرب من الجنون لا يقدر معه عاقبة ولا يخاف خطرا. والحب سلطان مستبد إذا لم يعترضه العقل ساق صاحبه إلى أكبر الكبائر وهو لا يدري. فكم من أديب عاقل تغافل عقله في ساعة تغلبت فيها عواطفه، فارتكب أمرا جر عليه الخراب أو العار أبد الدهر! وقد كان في حل من ذلك لو استطاع أن يقاوم عواطفه ساعة أو بعض الساعة. ولو أعملت الفكرة في أكثر الجرائم التي يرتكبها البشر، ويشقون بسببها؛ لرأيتها إنما حدثت في مثل تلك الغفلة. فلا غرو إذا هان على جلنار ركوب ذلك المركب الخشن في سبيل إرضاء حبيبها. ولم يدفعها إلى التفاني في ذلك إلا ابتسامة خرقت أحشاءها، وأضاعت رشدها، وهي مع ذلك تتجلد وتتظاهر بخلو الذهن؛ مخافة أن يبدو ذلك لأحد من الحاضرين.
أما أبو مسلم فلما سمع كلام خالد قال: «نعم، يكفينا أن يحسن الدهاقين الظن في دعوتنا. وإذا رضي هؤلاء هان كل عسير، ولم يعد يهمنا جند العرب ولو كثروا، فإن دولتهم آخذة في الزوال.»
فتذكر الدهقان أن هذا التعميم يشمل جند الكرماني؛ لأن جنده من العرب، ولكنهم من عرب اليمن خلافا لجند نصر بن سيار؛ فإنهم من المضرية، فقال: «أظنك تعني عرب مضر؛ لأن عرب اليمن مخالفون لبني أمية.»
فأدرك أبو مسلم أنه يعرض بالكرماني، وتذكر ما سمعه من الضحاك عن خطبة الكرماني لجلنار، فقال: «إن اليمنية ينصرون دعوتنا، ويدعون لإبراهيم الإمام، فهم أعواننا ونحن أعوانهم، وأما إذا وقفوا في سبيلنا ودعوا لأنفسهم أو لرجل آخر، فهم أعداؤنا والسيف بيننا وبينهم.»
অজানা পৃষ্ঠা