فلما مات الوليد بن يزيد بن عبد الملك وخلا كرسي الخلافة، واختلف عليها بنو مروان، وحدثت الفتنة، ونهض كل ذي سلطان يسعى إلى نفسه؛ اغتنم الكرماني هذه الفرصة، وأظهر الخلاف لنصر بن سيار. ولا يخفى على مولاي أن الرجل إذا قام يطلب سلطة اعتمد على حزب من الأحزاب، والكرماني وإن كان اسمه يدل على أنه فارسي من كرمان، إلا أنه لقب بذلك لأنه ولد في كرمان، ولكنه عربي من بني أزد؛ وهم يمنية، فاستنصرهم فنصروه على ابن سيار؛ لأن رجاله كلهم مضرية من عرب الحجاز، والخلاف بين العرب اليمنية والمضرية قديم، ولا يزال شديدا، وسيكون من أكبر أسباب سقوط العرب على الإجمال.
وكان أهل خراسان أنفسهم منقسمين فيما بينهم؛ لأن بعضهم يمنية، والبعض الآخر مضرية (أو نزارية)، فلما مات الخليفة، كما قدمت لكم، نهض من هذين الحزبين من يطلب الخلافة لبعض بني مروان غير مروان بن محمد، وفي جملتهم عرب خراسان؛ فقد اختلفوا فيما بينهم لهذا السبب. فاهتم نصر بن سيار بالتوفيق بينهم، فلما أعياه ذلك منع عنهم العطاء. فلما كان في بعض الأيام - وقد وقف في المسجد يخطب - نهض الناس وطلبوا منه أعطياتهم، فصاح فيهم: «إياكم والمعصية، وعليكم بالطاعة والجماعة.» فوثب أهل السوق إلى أسواقهم، وثارت الأفكار، فغضب نصر فألقى عليهم خطابا لا يزالون يتناقلونه إلى اليوم، قال في جملته: «ما لكم عندي من عطاء. كأني بكم وقد نبع من تحت أرجلكم شر لا يطاق، وكأني بكم مطروحين في الأسواق كالجزر المنحورة. إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملوها، وأنتم يا أهل خراسان مسلحة في نحور العدو؛ فإياكم أن يختلف فيكم سيفان. إنكم ترشون أمرا تريدون به الفتنة، ولا أبقى الله عليكم. لقد نشرتكم وطويتكم فما عندي منكم إلا عشرة، وإني وإياكم كما قيل:
استمسكوا أصحابنا بحذركم
فقد عرفنا خيركم وشركم
فاتقوا الله؛ فوالله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنين أحدكم أنه ينخلع من ماله وولده. يا أهل خراسان، إنكم قد غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة، ثم تمثل بقول النابغة الذبياني:
فإن يغلب شقاؤكمو عليكم
فإني في صلاحكمو سعيت»
فعلم الكرماني بذلك الخلاف - وكان نصر قد عزله من منصب كان فيه من قبل - فشاور الكرماني أصحابه في القيام فوافقوه على أن يكاتبوا من في مرو من اليمنية ويستنجدوهم. وقد أخبرني رجل من خاصة ابن سيار أن المضرية أشاروا على نصر أن يقتل الكرماني، وقالوا له: «إن هذا الرجل يفسد عليك أمرك، فأرسل إليه فاقتله أو احبسه.» فلم يصغ لرأيهم وقال: «لا، ولكن لي أولادا ذكورا وإناثا، فأزوج بني من بناته، وبناتي من بنيه.» قالوا: «لا.» فقال: «فأبعث إليه بمائة ألف درهم، وهو بخيل؛ فلا يعطي أصحابه منها فيتفرقون عنه.» قالوا: «لا، هذه قوة له.»
وطال الجدال بينهم حتى قالوا له أخيرا: «إن الكرماني لو لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لاعتنقهما.» فلما رأى نصر إلحاحهم عزم على حبسه، فأرسل صاحب حرسه ليأتيه به، فأرادت الأزد أن تخلصه من يده، فمنعهم الكرماني من ذلك وسار مع صاحب الحرس إلى نصر وهو يضحك، فلما دخل عليه قال نصر: «يا كرماني، ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر بقتلك فراجعته، وقلت شيخ خراسان وفارسها، فحقنت دمك؟» قال: «بلى.» قال: «ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس؟» قال: «بلى.» قال: «ألم أرتش ابنك عليا على كره من قومك؟» قال: «بلى.» قال: «فبدلت ذلك إجماعا على الفتنة.» فقال الكرماني: «لم يقل الأمير شيئا إلا وقد كان أكثر منه، وأنا لذلك شاكر، وقد كان مني أيام أسد ما قد علمت، فليتأن الأمير؛ فلست أحب الفتنة.» ثم أمر نصر بضربه وحبسه في القهندز (قلعة مرو) سنة 126ه. وتكلمت الأزد بشأنه فقال نصر: «إني حلفت أن أحبسه ولا يناله سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلا يكون معه.» فاختاروا رجلا اسمه يزيد النحوي أقام معه، ولكن ذلك الحبس لم يطل وقته؛ فإن رجلا من أهل نسف فاوض أهل الكرماني على إخراجه بحيلة لطيفة. وذلك أنه أتى مجرى الماء في القهندز فوسعه، وأدخل الكرماني في السرب فخرج بكل جهد وركب فرسه والقيد في قدميه، فأصبح الكرماني بعد ذلك من ألد أعداء نصر، وندم هذا على استبقائه حيا. وتوسط الناس بينهما، وطلبوا إلى نصر أن يؤمنه ولا يحبسه فأمنه، ولكنه لم يكن يأمنه، فكان يدخل الكرماني الجامع للصلاة ومعه 1500 رجل وأكثر، فيصلي خارج المقصورة، ثم يدخل على نصر في المقصورة فيسلم عليه ولا يجلس، ثم ترك زيارة نصر وأظهر الخلاف، فبعث إليه نصر من يستقدمه ويعتذر إليه عن حبسه، فأبى وأظهر الجفاء، فأصبح وجوده بلية على نصر.»
الفصل الثامن عشر
অজানা পৃষ্ঠা