البغتة
على أن جلنار تعبت من تلك الهواجس، مع ما كانت فيه، على أثر تلك الصدمة، فغلب عليها النعاس، فأغمضت عينيها لحظات قليلة رأت في أثنائها حلما طويلا ظهر فيه أبو مسلم بصورة الحبيب، كما شاهدته للمرة الأولى في بيت والدها، وأنه جاملها ولاطفها فتشاكيا وتعاتبا، وتذكرت وهو يلاطفها ما كان من جفائه بقتل والدها وخيانة عهدها، فتوهمت أن ذلك الجفاء كان في الحلم، وأنها عادت إلى اليقظة فرأت حبيبها على عهده، ثم ما لبثت أن استيقظت فرأت حلمها يقظة ويقظتها حلما، ولكن شبح أبي مسلم كان لا يزال مرسوما أمامها بصورة الحبيب، فجعلت تخاطبه وتعاتبه قائلة: «أهذه شروط المحبة عندك يا قاسي القلب؟ تقتل أبي وتخون عهدي، ثم تهددني بالقتل حتى أقنع بالفرار؟!»
وبينما هي تناجي نفسها على تلك الصورة إذ سمعت خشخشة وصوتا، ورأت شيئا يمر من بين يديها مرور السهم، فأجفلت ووقفت رغم إرادتها، ونظرت فإذا هو جرذ دخل الحجرة من ثقب في الحائط تحت الباب، وانصرف إلى ثقب تحت بعض الجدران، فوقف شعرها وأصبحت تخشى الجلوس على ذلك الحصير، فوقفت - وكان لوقوفها حركة عظيمة؛ لأنها أفزعت جرذا كان كامنا وراء الفرش، فنفر وكان لعدوه على الحصير خشخشة عظيمة شغلت جلنار عن هواجسها ومصائبها، وأصبح همها تجنب الجرذان وغيرها؛ مخافة أن تمس يدها أو قدمها - وحدثتها نفسها أن تخرج من الحجرة، ولكنها لم تتجرأ على ذلك لأنها لا تعرف أحدا في الخان، فاستبطأت صالحا وخشيت أن يكون لذلك سبب يبعث على القلق، فضاقت الدنيا في عينيها، وإذا هي بنحنحة صالح في فناء الدار، فخفق قلبها سرورا وتهيأت للقائه، وأصغت لتسمع وقع قدميه على السلم، وتتبع وصوله إلى تلك الحجرة، فلم تسمع شيئا فاستغربت ذلك، وتوهمت أنها سمعت هتاف بعض الأرواح من الجان، فاقشعر بدنها، وجمد الدم في عروقها، وظلت واقفة في مكانها لا تجرؤ على المشي ولا على الجلوس، وقد حبست تنفسها مبالغة في الإصغاء، فمضت بضع دقائق وهي لا تسمع غير صوت حوافر الدواب وأصوات شخيرها، ثم سمعت صوتا لم تظن أنه صوت صالح وهو يقول: «هيئ كل شيء ريثما أعود.» ثم سمعت خفق نعاله على السلم فاطمأن خاطرها وأسرعت نحو الباب وفتحته، فرأت صالحا وحده والبغتة ظاهرة على وجهه، فقالت: «أين ريحانة؟»
قال: «هي هنا. هيا بنا نسرع بالخروج من هذه المدينة قبل إغلاق أبوابها علينا، وهذه الخيول معدة في فناء الخان.» قال ذلك وأخذ يبحث عن جبة الحاجب وقلنسوته - وكان قد تركهما هناك عند ذهابه - فخلع قلنسوته وجبته ولبس تلك بأسرع من لمح البصر ثم مشي بين يدي جلنار.
فتبعته على السلم وهي تتعثر بأذيالها من البغتة، فضلا عن اختلال الدرجات وليس فيها درجة مثل الأخرى، ولما وصلا إلى فناء الخان رأت جلنار ثلاثة جياد مسرجة، وريحانة واقفة بجانب واحد منها، فقال صالح: «اركبي يا مولاتي هذا الجواد.» وأشار إلى ريحانة فركبت جوادا، وركب هو جواده، وأشار إلى صاحب الخان فأمر رجلا أن يسير في ركابهم ليعود بالخيول، فساق صالح فرسه أولا وهو يقول لجلنار: «اثبتي على فرسك يا مولاتي وأتبعينا.» وأوصى الرجل أن يبقى إلى جانبها ليساعدها عند الحاجة.
مشى الركب على هذه الصورة وكلهم سكوت، وجلنار تصبر نفسها عن استطلاع السبب الذي أوجب هذه العجلة. وبعد قليل، وصلوا إلى باب المدينة، فوجدوه موصدا على جاري العادة من إيصاده عند الغروب، فصاح صالح بالبواب صيحة رجل له سلطان: «ما بال بابك لا يزال مغلقا؟ لعلك كنت نائما عندما جاءتك الأوامر بفتحه منذ ساعة؟»
فلما رآه البواب يخاطبه بهذه الجرأة، وعليه ثياب الحجاب صدقه وخشي شكواه؛ لأنه - حقا - كان عند العشاء غائبا - وقد ذهب لتناول الطعام في منزله - ولم يخطر له أن الأمير سيرسل من يأمر بفتح الباب. فلما هدده صالح ظن أن الأمر جاءه في أثناء غيابه، فخشي الشكوى؛ لعلمه بشدة أبي مسلم، فهم بالاعتذار، فقطع صالح كلامه قائلا: «لا بأس الآن. أسرع وافتح الباب؛ مهمتنا عاجلة جدا، ولا وقت لنا لاستماع الأعذار.»
فأسرع الرجل وفتح الباب، وحين أصبحوا خارج المدينة ساقوا خيولهم وصالح دليلهم، وكلما قطع مسافة تفقد جلنار وريحانة والليل مظلم، ولكنه كان خبيرا بتلك الجهات يعرف الطرق السهلة والصعبة، والجهات المأهولة وغير المأهولة، فلما بعدوا عن مرو أمسك عنان جواده حتى حاذى جواد جلنار وسألها: «هل أحسست بالتعب؟» فقالت: «نعم، تعبت ولكنني لم أفهم سبب هذه العجلة.»
قال: «سأخبرك عند وصولنا إلى القصر.»
قالت: «وأي قصر؟»
অজানা পৃষ্ঠা