فارتبك الدهقان في أمره وأخذ يتشاغل بإصلاح قلنسوته ومطرفه، ويبلع ريقه ويتنحنح وقد امتقع لونه، ولم يسعه السكوت فقال: «أعني أننا عقدنا قبل تلك الليلة، ورأيت من الفتاة رغبة إلى ابن الكرماني، فسايرتها فيما ترضاه؛ لأنها وحيدتي.»
فقال أبو مسلم: «أصحيح ما تقوله.»
قال: «هذا هو الصحيح ورأس الأمير.»
فقال أبو مسلم: «وإذا كنت كاذبا؟»
فلما سمع الدهقان ذلك زاد رعدة حتى صار ينتفض، والتفت إلى من حوله من القواد والنقباء لعله يجد بينهم من ينصره، فرآهم مطرقين لا يستطيع أحد منهم أن يتفوه بكلمة، فلم ير بدا من الجواب؛ لأن السكوت إقرار بالكذب - ولم يكن يخطر له أن أبا مسلم مطلع على سر ابنته - فقال: «حاشا لي أن أكذب بين يدي الأمير.»
فقال أبو مسلم: «إن العقد لم يتم إلا بعد زيارتنا، وابنتك لم تكن راضية بذلك العربي، وإنما أنت رضيته لها؛ استخفافا منك بدعوتنا، وتزلفا إلى العرب، وقد جادلتك هي في شأنه في الليلة التي كنا فيها عندك وأنت عازم على زواجها منه.»
فلم يبق أحد من الحضور حتى خالد بن برمك إلا وقد دهش لاطلاع أبي مسلم على هذه التفاصيل مع اشتغاله بمهام القيادة العامة، وتدبير شئون تلك الدعوة، وجعلوا يتلفتون بعضهم إلى بعض والدهقان يكاد يموت خوفا، وقد جمد الدم في عروقه، وود لو خسفت الأرض وابتلعته في تلك اللحظة ولم يحر جوابا.
وساد الصمت على تلك الجلسة هنيهة والجميع هادئون لا يتحركون كأن على رءوسهم الطير، لو داهم أحدهم السعال لبلع ريقه تسكينا لما يحتك في أعلى الصدر، ثم قطع أبو مسلم السكوت وقال وقد وجه خطابه إلى النقباء: «فما قولكم في هذا الخراساني الذي سمع وصية الإمام بإبادة العرب فنصرهم وصاهرهم، ثم يقول إنه ينصرنا؟»
فلم يجب أحد منهم بكلمة؛ لعلمهم أنه لا يستشيرهم، وإنما هو يهدد الدهقان، ثم قال له: «فأنت إذن لم تحفظ وصية الإمام، فبدلا من أن تنصر الخراسانيين نصرت العرب، وقد نصرتهم وهم أعداؤنا. أما أنا فلا يمكنني إلا حفظ تلك الوصية، وخاصة آخر فقرة منها. أتعلم ما هي؟»
فأدرك الجميع مراد أبي مسلم حتى الدهقان نفسه، وفهموا أنه يشير إلى قول الإمام: «من شككت فيه فاقتله.» فنظر الدهقان إلى أبي مسلم نظر المستغيث، فقال أبو مسلم: «إن طاعة الإمام أولى من طاعة كل إنسان، وهو أوصاني أن أقتل كل من أشك فيه، وقد شككت فيك؛ فلا يمكنني سوى قتلك.» ثم نظر نحو الباب فدخل أربعة ، على كل منهم درع من الجلد إلى أسفل الركبة عليها رشاش من الدم، وعلى رأسه قلنسوة طويلة ذات شعبتين عليها شيء من آثار الدماء، وحول الدرع منطقة من جلد علق فيها سيف.
অজানা পৃষ্ঠা