افتتاح
مقدمة ومنهج
عصر أبي حنيفة
حياة أبي حنيفة وترجمته
طريقة أبي حنيفة وفقهه
اتجاهات فقه أبي حنيفة
صور من الخلاف بين أبي حنيفة وغيره
أثر أبي حنيفة ومآل مذهبه من بعده
خاتمة البحث ونتائجه
افتتاح
مقدمة ومنهج
عصر أبي حنيفة
حياة أبي حنيفة وترجمته
طريقة أبي حنيفة وفقهه
اتجاهات فقه أبي حنيفة
صور من الخلاف بين أبي حنيفة وغيره
أثر أبي حنيفة ومآل مذهبه من بعده
خاتمة البحث ونتائجه
أبو حنيفة والقيم الإنسانية في مذهبه
أبو حنيفة والقيم الإنسانية في مذهبه
تأليف
محمد يوسف موسى
افتتاح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفت.
1
وأخرت، استغفار من يقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو.
2
وأصلي وأسلم على من كان خيرته المصطفى لوحيه، المنتخب لرسالته، المفضل على جميع خلقه بفتح رحمته وختم نبوته، المرفوع ذكره مع ذكره في الأولى، والشافع المشفع في الأخرى؛ أفضل خلقه نفسا، وأجمعهم لكل خلق رضية في دين ودنيا، وخيرهم نسبا ودارا؛ محمد عبده ورسوله.
3
مقدمة ومنهج
ليس التاريخ، مهما كان موضوعه: رجلا أو دولة أو فنا أو علما، إلا صنعة شخص أو أشخاص في إطار من الزمن؛ فما من حدث من أحداث التاريخ إلا كان من ورائه شخص أو أشخاص، وما من دولة قامت أو سقطت إلا كان ذلك نتيجة عمل شخص أو أشخاص، وما من نظام زال ليحل مكانه نظام آخر إلا كان ذلك ثمرة أعمال رجال كانوا هم العامل الأول فيه، وهكذا إلى سائر الموضوعات والجوانب التي يتناولها التاريخ والمؤرخون.
ومن ثم، كانت الأهمية البالغة للتراجم والمترجمين؛ لأن هذه التراجم هي التي تفسر التاريخ تفسيرا صحيحا، وهي التي تعين على فهمه حقا، وهي أولا وأخيرا التي تبعث فيه الحياة، ما دام التاريخ ليس إلا وصفا صادقا لسير هذه الحياة بما تشمل من كائنات.
ومن ثم أيضا، كانت دقة المؤرخ أو المترجم، وكان عمله يقتضيه حذرا بالغا يقيه الوقوع في الخطأ، واعتماد كل ما يقع لديه من أقاصيص ومأثورات تتناول من يترجمه من هذه الناحية أو تلك.
كما تقتضيه بذل الجهد في فهم من يترجم له من كل نواحيه، بما في ذلك النواحي العقلية والنفسية والأخلاقية وما يتصل بها، والبصر بالعصر الذي نشأ فيه، والبيئة التي تقلب في أرجائها، والعوامل التي تأدت به إلى ما عرف به من أفكار وآراء تتمثل في المذهب الذي أثر عنه، والآثار التي كانت لهذا المذهب.
من أجل ذلك كله، رأينا أن نسير في هذا البحث طبقا لهذا النهج الذي نوجزه في هذه البحوث أو الفصول: (1)
دراسة العصر الذي عاش فيه. (2)
دراسته باعتباره إنسانا منذ نشأ حتى صار صاحب مذهب أصبح خالدا في الفقه. (3)
دراسة طريقته وفقهه. (4)
نزعاته أو اتجاهاته الفقهية، وبخاصة الإنسانية منها. (5)
صور من الخلاف بينه وبين الفقهاء الآخرين. (6)
وأخيرا، أثره ومآل مذهبه.
وفي كل هذه المباحث لن نألو - بفضل الله تعالى ومشيئته - جهدا في استقراء المراجع الأصلية، وتحري الأمارات والقرائن والدلائل، للوصول منها جميعا إلى الحقائق التي لا شك فيها، وسنحاول أن نكون منصفين طالبين الحق وحده، والله يهدي إلى سواء السبيل.
عصر أبي حنيفة
تمهيد
عاش أبو حنيفة الشطر الأكبر من حياته العلمية في ظل الدولة الأموية، كما عاش الشطر الآخر تحت كنف الدولة العباسية، وبذلك شهد ما كان من أحداث في كل من هذين العصرين من عصر الدولة الإسلامية، وصاحب أرباب النحل والآراء والمقالات فيهما، سواء في ذلك الناحية الدينية والناحية السياسية، وأحس ما كان من تفاعل الثقافة الإسلامية والثقافات الأجنبية التي تسربت إلى المحيط الإسلامي أو نقلت إليه، وكان لكل ذلك أثره فيه وفي غيره من رجال الفكر والرأي بلا ريب.
نعم! لقد رأى أبو حنيفة النور في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، ونشأ في ولاية الحجاج الثقفي على العراق، هذا الوالي الذي يعرفه التاريخ بالقسوة والشدة في معاملته للثائرين على سلطان سادته الأمويين، ثم عاصر وهو شاب الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز.
وأخيرا، رأى ما صار إليه الأمويون من سوء حال يؤذن بزوال دولتهم، وساير بدء الدعوة للعباسيين التي اتخذت العراق - وطن أبي حنيفة - مهدا لها، والتي انتهت بانتقال الخلافة إليهم على أيدي نفر من بني جلدته الفرس، ثم كان أن عاصر أيضا خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه إبراهيم على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، بعدما رأوا أن العباسيين أخذوا الأمر لأنفسهم، على حين كانت الدعوة باسم العلويين، ثم كانت خاتمة حياته في أيام المنصور عام 150ه بعد أن استقر الأمر تماما له ولذويه دون أبناء عمومتهم العلويين.
لا جرم إذن أن يتأثر أبو حنيفة تأثرا كبيرا بهذه الأحداث التي نشأ فيها، وعاش بينها، وأسهم في بعضها؛ وأن يعمل فيها فكره، وأن تكون عاملا هاما - بجانب العوامل الأخرى التي سنتكلم عنها فيما بعد - في طبع تفكيره بطابع خاص، وفي توجيهه الوجهة التي اتجه إليها، وجعلته إماما من أئمة الفقه الإسلامي.
وهذا العصر، الأموي والعباسي معا، الذي عاش فيه أبو حنيفة، كان مليئا بالحركات الفكرية وأرباب المقالات والمذاهب المختلفة - من سياسية ودينية وفلسفية وكلامية - من المسلمين الأصلاء، أو من غيرهم من أبناء الأمم المختلفة الذين دخلوا في الإسلام غير متناسين ما كان لهم من ديانات وتفكير، وكذلك من غير المسلمين الذين كانوا يعيشون في المملكة الإسلامية.
كما كانت هناك مراكز زاهرة للعلوم الإسلامية التي بلغت الذروة أيام العباسيين، وهذه المراكز نجد أعلاها شأنا في العراق، وفي الحجاز، وفي الشام، وفي مصر.
وكان العراق موطن أبي حنيفة، ومجاله الأول، من أوفر هذه الأقطار حظا من تلك الحركات والمقالات والأفكار المختلفة؛ وذلك لما كان يزخر به من أولئك الأقوام والأجناس الأجنبية الذين دخلوا في الإسلام، أو عاشوا حينا من الدهر تحت ظل الإسلام ولوائه، وكانت لهم مذاهبهم في الدين والفكر وطرقهم الخاصة في التفكير.
وكذلك أيضا؛ لأن العراق - على ما هو معروف - كان حلقة الوصل الكبرى بين الثقافة الإسلامية والثقافة الأجنبية، وذلك حين نقلت الفلسفة اليونانية وكثير من العلوم والآداب الأجنبية إلى العربية أيام العباسيين.
إلا أن الإسلام، وهو دين الأمة الغالبة الحاكمة، استطاع أن يجعل من كل هذه الثقافات العديدة المختلفة، ثقافة واحدة مشتركة، وهي ما سميت بعد وما نسميها اليوم الثقافة العربية الإسلامية؛ كما جعل من كل هذه العناصر التي يتكون منها جسم الدولة الإسلامية أمة واحدة، تسري فيها الروح العربية القوية الغالبة، ولها أدب واحد، وعلوم واحدة مشتركة ألفت بين الجميع؛ وبذلك صار الجميع يتكلمون لغة واحدة، هي اللغة العربية، ويتعاونون في إقامة صرح ثقافة واحدة، هي الثقافة الإسلامية بأوسع معانيها؛ أي بما تشتمل عليه من آداب وفلسفات وعلوم مختلفة.
وصف هذا العصر
ولكل عصر سماته وخصائصه التي تميزه من غيره من العصور، سواء في هذه الناحية السياسية والناحية الاجتماعية والناحية العقلية، وفي كل ناحية من هذه النواحي تعمل مؤثرات وعوامل مختلفة، ولكل من هذه المؤثرات والعوامل آثارها ونتائجها في النواحي التي ذكرناها.
ونحن هنا لا نحاول تأريخ ذلك العصر من جميع نواحيه؛ ولكن همنا هو وصفه من الناحية العقلية وحدها؛ ولهذا لن نتناول النواحي الأخرى إلا بقدر ما يكون لها من أثر في الناحية العقلية التي هي موضع العناية في هذا البحث؛ ولذلك لن نلم بالناحية السياسية والناحية الاجتماعية إلا بمقدار ما يعيننا على ما نحن بسبيله؛ نعني تجلية الناحية العقلية من جانبها الخاص بالفقه الذي نبغ فيه الإمام أبو حنيفة.
البيئة العامة
إذا كان للبيئة بمختلف نواحيها أثر كبير في الإنسان الذي يتناوله المؤرخ بالبحث، فإن هذا لا يصدق على رجل السياسة أو الأدب ونحوهما فحسب، بل يصدق أيضا على الفقيه؛ فإن الفقيه، وهو يعنى بالفقه والتشريع معا، يجب أن يكون عارفا بالبيئة التي يعيش فيها معرفة طيبة، متصلا بها اتصالا قويا، ما دام من أهم ما يعنيه أن يعمل على إيجاد حلول لمشاكلها وحوادثها بالتشريع.
ولذلك يكون من الواجب على من يؤرخ فقيها من الفقهاء، ويتصدى لبيان مذهبه الذي ذهب إليه في الفقه، أن يتناول هذه البيئة بالبحث بالقدر الذي لا ينبغي الاستغناء عنه في بحثه.
عاش أبو حنيفة - كما عرفنا - في عهد الأمويين وفي عهد العباسيين، وكانت الدولة الإسلامية في أيام هاتين الأسرتين تحكم الشرق كله من ضفاف المحيط الأطلنطي غربا إلى الصين شرقا والهند جنوبا، كما وصل سلطانها - أيام الأمويين بالأندلس - إلى جزء غير قليل من بلاد أوروبا.
وتبع هذا أن كانت رقعة البلاد الإسلامية المترامية الأطراف تضم خليطا من الشعوب المختلفة الأصول والتقاليد والعادات: فهناك العرب الفاتحون الأصلاء، وهناك الموالي من أبناء البلاد المفتوحة الذين أظلهم الإسلام، وعاشوا تحت لوائه وكنفه.
وهؤلاء الموالي كانوا فيما بينهم أخلاطا من عناصر شتى؛ ففيهم الفارسي، وفيهم الرومي، وفيهم التركي، وفيهم الهندي، وفيهم المصري ... وهكذا إلى سائر الأجناس التي دخلت في الإسلام، وصارت تحت حكمه.
ومن ثم نستطيع أن نقرر أن المجتمع الإسلامي في ذلك العهد لم يكن متجانسا، وإن جمع الإسلام بين أفراده وطبقاته وألف بينهم؛ فإنه ليس من الميسور، ولا مما يتفق وطبائع الأشياء أن ينسلخ الإنسان تماما من خصائص أصله ومواريثه العقلية والاجتماعية؛ لأنه دخل في دين جديد، وأصبح تابعا لحكومة جديدة تقوم على أسس من هذا الدين ومثله التي يدعو إليها.
وهؤلاء الموالي كانوا باعتبار مركزهم الشرعي، وهو أنهم أرقاء، مادة للفقه والفقهاء، ومن نراهم يتناولون بحث أحوالهم وأحكامهم المختلفة في أبواب معروفة من كتب الفقه الإسلامي.
فهناك باب العتق وأحكامه، والمكاتبة وأحكامها، والتدبير وأحكامه، ثم هناك بحوث تتعلق بالشهادة، وهل تجوز من العبد أو لا تجوز؟ باعتبارها من باب الولاية، والعبد لا يلي أمور نفسه، فبالأولى لا تكون له ولاية على غيره؛ إلى جانب بحوث أخرى تتعلق بالزواج والطلاق والعدة، وبالجنايات تكون من العبد أو عليه، وبالبيوع إذا كان موضوع العقد عبدا خالصا لصاحبه أو مشتركا بينه وبين غيره، وهكذا إلى سائر البحوث التي اشتدت عناية الفقهاء بها بسبب كثرة الرق والأرقاء في هذا العصر.
ومما يتصل بسبب قوي بهذه الناحية الاجتماعية من تلك البيئة العامة، ما كان من العناية بأحكام الغناء وما هو من هذا السبيل، وذلك بسبب كثرة المغنيين والمغنيات من العبيد والجواري الذين كثر اتخاذهم في هذا العصر، والذين فشا إعدادهم لهذه الحرفة وما يتصل بها.
ومن الناحية السياسية، نرى أبا حنيفة يعاصر الدولة الإسلامية، وهي دولة واحدة، عاصمتها دمشق تحت حكم أسرة الأمويين، ثم يشاهد هذه الدولة، وقد صارت دولتين: دولة العباسيين في الشرق وعاصمتها بغداد، ودولة الأمويين في الأندلس وعاصمتها قرطبة.
وهذه الدولة الإسلامية، في الشرق والغرب، قد اتسعت رقعتها وآفاقها، وتعددت وتباعدت البلاد والأقاليم التي تحكمها، وكان لها - بلا ريب - قواعد تقوم عليها في النواحي الإدارية والمالية؛ ولكن هذه القواعد لم تكن من الإحكام والإحاطة والشمول بدرجة تكفي لإقامة حكم على أساس ثابت دائم.
فكان لا بد إذا من النظر الجاد الشامل لهذه الناحية، ومن ثم نجد الحاجة تظهر شديدة لوضع تلك القواعد على أسس وطيدة قوية شاملة.
وكان من مظاهر هذه الحاجة، ما نعرفه من طلب الخليفة هارون الرشيد من الإمام أبي يوسف وضع كتاب يعتبر دستورا للدولة في الناحية المالية. كما كان من مظاهرها أيضا ما ظهر من بحوث منثورة، صارت فيما بعد موضوع كتب خاصة مستقلة، في النواحي الإدارية، ومن هذه النواحي بيان السلطات العامة وتوزيعها وعلاقات بعضها مع بعض.
1
ثم هذه الدولة، وقد بلغت من الامتداد ما عرفنا، كان لا بد لها أن تدخل في علاقات خارجية مع الممالك الأجنبية الغربية، وهذه العلاقات لا بد لها من تقاليد تقوم عليها، وقواعد تحكمها، سواء في ذلك حالة السلم وحالة الحرب.
وهذه القواعد كان الكثير منها موضع عناية القرآن الكريم وسنة الرسول
صلى الله عليه وسلم ؛ ولكن في العصر الذي نتكلم عنه، ظهرت الحاجة ماسة لتفصيل هذه القواعد، وإضافة قواعد وأصول أخرى يتطلبها الحال.
فكان لا بد إذا من عمل الفقهاء بقوة في هذه الناحية، على ما نجده في أبواب الجهاد والسير من كتب الفقه، وكان من ذلك أن أظهر فيما بعد كتاب «السير الكبير» لإمام محمد بن الحسن الشيباني، مؤسس القانون الدولي العام بحق في العالم كله، وبلغ من إعجاب الخليفة هارون الرشيد بهذا العمل المجيد أن أرسل أولاده إلى مجلس الشيباني ليسمعوا منه هذا الكتاب الخالد.
البيئة العقلية
قد لا يجد الباحث فروقا ذات بال من الناحية العقلية والعلمية ترجع فحسب إلى انتقال الحكم من الأمويين إلى العباسيين؛ اللهم إلا ما يستطاع رده إلى عامل الزمن واطراده، واستبحار العمران، والأخذ بأسباب الحضارة بنصيب أكثر، أيام العباسيين منه أيام الأمويين.
فإن من شأن هذا، أن يتيح للناس حياة أكثر استقرارا ودعة، ويوفر لهم من الزمن ما ينفقونه في الإقبال على العلوم وتدوينها والكتابة فيها، وهذه نقلة طبيعية كان لا بد منها.
أما أصل الميل إلى المعرفة والبحث، وتشجيع العلماء والباحثين، فهو أمر يسير مع الزمن، وهو يشتد متى استقر أمر الدولة، وفرغت من توطيد نفوذها وسلطانها.
ولعل من آيات هذا الذي نقول، أن الباحث في التاريخ الفكري للمسلمين في عهد هاتين الدولتين يجد الفرق والمذاهب والمقالات الدينية - من شيعة وخوارج ومعتزلة - هي هي، وأن تدوين العلوم بدأ يأخذ صورته العامة الشاملة في عهد الدولة الأموية نفسها، وأنه لما استقر الحكم للأمويين في الأندلس ازدهر البحث والعلم إلى درجة تكاد تكون منقطعة النظير.
ومهما يكن فقد نشأ أبو حنيفة في بيئة عقلية تموج بالعلم والعلماء، وتزخر بأصحاب المذاهب والمقالات الدينية المختلفة في الأسس والأهداف والغايات، وكان من الطبيعي أن يتأثر بهذا الجو، وأن تكون له مشاركة فيما يضطرب فيه من آراء وأفكار. وسنعرف بعض هذا عندما نتكلم عن ترجمته وحياته بصفة عامة.
على أن هذا لا يمنعنا الآن من الإشارة إلى ما كان يسود هذا العصر من نزعتين أو منهجين في الفقه والتشريع؛ وهما منهجان نرى لهما آثارا واضحة في غير الفقه؛ أي في التفسير والحديث واللغة والأدب مثلا.
هذان المنهجان هما: المنهج النقلي، والمنهج العقلي. ونستطيع أن نعبر عنهما، فيما يتصل بالفقه خاصة، بمنهج أهل الحديث ومنهج أهل الرأي.
وهما منهجان أو نزعتان قديمتان ظهرتا أيام الصحابة أنفسهم؛ بل إن لنا أن نقرر أنهما ظهرتا في السنوات الأولى من وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم .
2
لقد التقى هذان المنهجان في الفقه إذا، وكان كل منهما يعرف من الآخر وينكر، ويوافق ويخالف، ويؤثر ويتأثر، وكان لكل منهما أسباب تشد من أزره وتقويه، وكان من أسباب المنهج العقلي ما كان من تسرب التفكير اليوناني إلى البلاد الإسلامية في بطء وعلى استحياء زمن الأمويين، وفي انسياب وجرأة أيام العباسيين، بسبب ما كان من كثرة النقل والترجمة لفلسفات وتفكير القدامى، وبخاصة اليونان.
وفي هذا العصر إذا سرى في التفكير الإسلامي لقاح علمي جديد، وتفاعل المنهج النقلي والمنهج العقلي، وقوي شأن العقل ونظره ونفوذه، وكثر بحث الفقهاء عن العلل التي تقوم عليها الأحكام الشرعية؛ ومن ثم يكون من الممكن قياس المجهول على المعلوم، ويكثر فرض الفروض وترديدها، ولا يطمئن الفقيه إلا إلى ما يرضي عقله، ويقوم عليه الدليل من الأحكام، إن لم يجد نصا من القرآن المحكم، أو السنة الصحيحة.
والعراق وهو مهد أبي حنيفة ومجال حياته وتفكيره، كان أهم المراكز العلمية التي توزعتها الأمصار الإسلامية، ولا عجب! فهو وارث الحضارات القديمة التي توالت عليه، وإليه عندما فتحه العرب هرع كثير من المسلمين، واتخذوه لهم وطنا ومقاما، وبفضل غناه وثروته كان العيش فيه ميسورا والحياة رغدة، وكان لأهله من الوقت ما يسمح لهم بالإقبال على البحث والتفرغ للعلم.
ولما انتهت الدولة إلى العباسيين، واتخذوا بغداد عاصمة لهم، ونقلوا فلسفة القدامى وعلومهم وبخاصة اليونان، كان العراق طبعا هو المنبع الذي انسابت منه هذه الفلسفة والعلوم إلى العالم الإسلامي، وكان هو الإقليم الذي أخذ علماؤه منها بأوفر نصيب، وكان لذلك أثر في التفكير الإسلامي ومنه التفكير الفقهي والتشريعي.
وبجانب هذه الخاصة للعراق ، وعاصمته بغداد مقر سلطان العباسيين، نجد خاصة أخرى فيما يتعلق بالفقه والتشريع، ونعني بها أن العراق كان مهد أهل الرأي، أو أصحاب المنهج العقلي؛ وذلك لعوامل يسهل فهمها مما تقدم، فضلا عن بعد هذا الإقليم عن الحجاز، المركز الأول للسنة والحديث، وعن تعقد الحياة في ذلك الإقليم وكثرة النوازل والمسائل المتنوعة التي تحتاج إلى تشريع.
ويكفي أن نذكر أن من شيوخ «أهل الرأي» هؤلاء، ثلاثة، وكلهم من العراق: (1)
علقمة بن قيس النخعي الكوفي الفقيه، وقد توفي عام 62ه. (2)
إبراهيم بن يزيد النخعي «فقيه العراق بالاتفاق» كما يذكر العماد الحنبلي.
3
وقد كان يذهب إلى أن أحكام الشريعة لها معان معقولة، كما قامت على علل تفهم من الكتاب والسنة، وأن على الفقيه إدراك هذه العلل، ليجعل الأحكام تدور معها، وقد توفي عام 95، أو عام 96ه. (3)
حماد بن أبي سليمان الأشعري المتوفى عام 120، وعنه أخذ أبو حنيفة الفقه والحديث، وكان فقيه الكوفة مع حبيب بن أبي ثابت، كما يذكر ابن العماد.
4
الفقهاء وأصحاب السلطان
لم يكن الفقهاء في ذلك الزمن يعيشون على هامش الحياة، كما هو الغالب في فقهاء اليوم؛ بل كانوا - إلا قليلا - يخالطون أصحاب السلطان، كما كانوا يسهمون إلى حد كبير في توجيه هؤلاء إلى طريق الخير، ويشاركون في إقامة الدولة على أسس ودعائم من الدين وشريعة الله ورسوله؛ وبخاصة في العصر الذهبي للدولة العباسية الذي عاش فيه الأئمة الأربعة الكبار.
وكان ذلك كله لا بد منه، وكان مما تقتضيه الحياة وطبيعة الأمور في ذلك الزمن، فقد كانت الدولة دولة دينية، وكان لا بد لخلفائها وولاتها وأمرائها من الحفاظ على هذا الدين، والإفادة من حملة علومه وكسبهم بجانبهم؛ وكان لا بد لهؤلاء من الجهر بالحق، وتقويم العوج، وإرشاد من ينحرف أو يبتعد عن شريعة الله.
وكان الفقهاء يعرفون من الخلفاء والولاة وينكرون، وكان من هؤلاء من يقبل النصح ومن يصد عنه، ومن ثم كان من الفقهاء من أوذي في سبيل الجهر بما يراه حقا، ومن الميسور أن نأتي بمثل لهذا أو ذاك في عهد الدولة الأموية وفي عهد الدولة العباسية: (1)
هذا مروان بن الحكم، أحد الولاة من الأسرة الأموية ووالد الخليفة عبد الملك، يريد أن يقطع يد عبد سرق فصلة من النخل من حائط رجل، وغرسها في حائط سيده؛ ولكنه رجع عن رأيه وأمر بتخلية العبد حين سمع من رافع بن خديج أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «لا قطع في ثمر ولا كثر.» والكثر الجمار. وكان مروان نفسه فقيها.
5 (2)
ويروي الإمام مالك.
6
أنه بلغه أن صكوكا خرجت للناس من طعام الجار في زمن مروان بن الحكم، فتبايع الناس هذه الصكوك قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وقالا لمروان: أتحل بيع الربا يا مروان! فقال: أعوذ بالله! وما ذاك؟ فقالا: هذه الصكوك تبايعها الناس قبل أن يستوفوها. فبعث مروان الحرس ينزعونها من أيدي الناس، ويردونها إلى أهلها. (3)
اشترى مخلد بن خفاف غلاما، فاستغله ثم ظهر منه على عيب، فرفع أمره إلى عمر عبد العزيز، فقضى برد الغلام للبائع، ورد ما أفاده المشتري منه. ولكن عروة بن الزبير يذهب إلى عمر يخبره أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قضى بمثل ما قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان، وحينئذ أبطل عمر حكمه، وقضى بمثل ما قضى به الرسول،
7
ومن المعروف أن عمر بن عبد العزيز كان فقيها أيضا. (4)
ذكر الإمام النسائي في سننه في البيوع أن مروان بن الحكم (الذي تقدم ذكره آنفا) كتب لأسيد بن حضير الأنصاري، وكان عاملا على اليمامة، بأن معاوية كتب إليه أن من سرق منه متاع فهو أحق به حيث وجده. فكان جواب أسيد لمروان: أن النبي قضى بأن من ابتاع متاعا مسروقا وكان غير متهم كان لصاحبه أن يأخذه من المشتري بثمنه أو يرجع على السارق. وعرف مروان أن هذا الحكم هو الواجب اتباعه، لصدوره عن الرسول، ولعمل أبي بكر وعمر وعثمان به، فبعث بكتاب أسيد إلى معاوية، فكتب إليه: إنك لست أنت ولا أسيد تقضيان علي؛ ولكني أقضي عليكما. فأنكر ذلك أسيد حين علمه، وقال: لا أقضي ما وليت بما قال معاوية. (5)
وحين استلحق معاوية «زياد ابن أبيه» مقرا بأخوته له، مستجيبا في هذا لعوامل سياسية على حين أن الشريعة لا تبيحه، لم يستطع الفقهاء أن يتقبلوا هذا الصنيع منه، فكان أحدهم، وهو سعيد بن المسيب، يقول: قاتل الله فلانا - يريد معاوية - كان أول من غير قضاء الرسول، وقد قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر.» والحديث
8
معروف.
هذه المثل، ولو شئنا لأتينا بالكثير منها، ترينا كيف كان الفقهاء حفاظا على شريعة الله ورسوله، وكيف كانوا لهذا ينكرون كثيرا على الخلفاء والأمراء والولاة ما لا يرونه حقا، وكيف لم يكونوا يحيون على هامش الحياة والمجتمع الإسلامي كما قلنا.
وهناك عامل آخر سياسي كان من شأنه أن يثير تدخل الفقهاء في الشئون العامة للدولة، وكان سبب أذى غير قليل منهم؛ لأنعم وقفوا دون ما يريده لها الخليفة، أو لأن منهم من خرج مع من خرج عليهم، وسواء في ذلك الأمر أيام الأمويين أو أيام العباسيين، فهم جميعا يشتركون في جعلهم الخلافة ملكا عضوضا لهم ولأسرتهم، ونكتفي هنا بهذه المثل القليلة التي تغنينا عن الكثير: (1)
يأبى سعيد بن المسيب، وهو - كما يقول ابن خلكان وغيره من المؤرخين - «من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع.» أن يبايع الوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان بولاية العهد، فيأمر الخليفة بعرضه على السيف، وجلده خمسين جلدة، والتشهير به في أسواق المدينة، ومنع الناس أن يجالسوه.
ومع هذا فقد طلب منه الخليفة عبد الملك أن يزوج ابنته لابنه وولي عهده الوليد، فرفض، وآثر عليه أحد مريديه الفقراء، ونعتقد أن الغرض من هذا الزواج - لو رضي به ابن المسيب - أن يظهر للناس أن هذا الفقيه راض عن الخليفة وحكمه؛ ولكن، كيف يمكن أن يرضى، وهو يعد بني مروان ظلمة، وكان يقول: لا تملئوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم؛ لكيلا تحبط أعمالكم.
9 (2)
وهناك بعد ابن المسيب، سعيد بن جبير المقرئ والفقيه وأحد الأعلام، رأى أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على حق في خروجه على عبد الملك بن مروان فأعانه، فما كان من الحجاج الثقفي عامل عبد الملك إلا أن قتله لما ظفر به، وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه، كما يذكر ابن العماد الحنبلي.
10 (3)
وسفيان الثوري راعه كثرة ما اقترفه أبو جعفر المنصور من ظلم، وكثرة ما أراقه من دماء في سبيل دولة أسرته العباسية، فجاهر بالنيل منه بكلامه، فهم به الخليفة وأراد قتله، فما أمهله الله.
وحدث أن دخل على الخليفة المهدي، بعد أن ولي الخلافة بعد أبي جعفر المنصور، فسلم عليه تسليم العامة (يظهر أنه لم يلقبه بخليفة المسلمين)، فأقبل عليه بوجه طلق، وقال: تفر ها هنا وها هنا، أتظن أن لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فما عسى أن نحكم الآن فيك؟ فقال سفيان: إن تحكم الآن في، يحكم فيك ملك قادر عادل يفرق بين الحق والباطل. فقال الربيع مولى الخليفة: ألهذا الجاهل أن يستقبلك بهذا؟ ايذن لي بضرب عنقه، فقال المهدي: ويلك! اسكت، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم، اكتبوا عهده على قضاء الكوفة؛ ولكن «سفيان» رفض هذا العمل لهذه الدولة، ورمى بالكتاب في دجلة وهرب. فطلب فلم يقدر عليه، وظل متواريا حتى مات بالبصرة عام 161ه.
11 (4)
وأبو حنيفة نفسه ناله أذى شديد في أيام الأمويين، ثم في أيام العباسيين، وربما كان السبب الحقيقي لذلك، أن ميله كان لأحد العلويين الذي خرج على العباسيين، وهو إبراهيم بن عبد الله، فإنهم ليذكرون أنه أعانه في خروجه.
ومن هذه الأمثلة الأخرى، نلمس أن الفقهاء، وبجانبهم المحدثون القوام على سنة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، كانوا في هذا العصر - الذي ينفرد فيه بالحكم أسرة معينة؛ بل فرد من أسرة - يشعرون بواجبهم في إقامة الحق، ويعملون على أن يقوموا بهذا الواجب مهما نالهم في هذا السبيل من أذى الخلفاء وعنت الأمراء والولاة أحيانا غير قليلة.
فمنهم من يخرج مع الخارجين عليهم، ومنهم من يعظهم فلا يبالي أيسخطون عليه أم يرضون عنه، ومنهم من يرفض أن يشاركهم في بعض أعمالهم مخافة أن يصيبه جانب من غضب الله لمخالطة الظلمة وعونه لهم.
وهكذا نرى القراء والمحدثين والفقهاء يحاولون أن يجعلوا لأنفسهم سلطة مقابل سلطة الخلفاء ومن إليهم، حينما رأوا منهم استبدادا لا يتفق والمنهج الإسلامي الرشيد في الحكم وولاية أمور المسلمين، وصار يجري على ألسنة الناس أحاديث تروى عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تؤكد هذه الروح وتقويها؛ وذلك مثل: «صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: الأمراء والفقهاء.» «العلماء أمناء الرسول على عباد الله، ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسول فاحذروهم واعتزلوهم.» ومن ثم أيضا، قيل: العلماء ورثة الأنبياء.
الموالي والفقه
تكلمنا، ونحن بصدد الحديث عن البيئة الاجتماعية في هذا العصر، عن أثر «الرق» ووجود الأرقاء في الفقه؛ إذا استتبع وجودهم أحكامهم في مختلف النواحي. والآن نشير إلى أثر هؤلاء الموالي في الفقه من ناحية أخرى، وهي ناحية جدهم في تحصيل العلم بعامة وبروزهم فيه، وذلك إلى درجة تجعلنا نحس أننا مدينون لهم في تأسيس كثير من العلوم الإسلامية وازدهارها.
وهذه ظاهرة نجد من الباحثين من اكتفى بتسجيلها، كما نجد من عني أيضا بتفسيرها، ومن هؤلاء ابن خلدون إذ يقول:
12
وهو يتكلم عن حملة العلم في الإسلام وأكثرهم العجم ما نذكره بتصرف يسير.
من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم إلا القليل النادر، وإن كان منهم العربي نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته؛ مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي.
والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة، بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف، ولا دفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة ، وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين ...
ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة، وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات والتنظير والقياس، واحتاجت إلى علوم أخرى هي وسائل لها ... فاندرجت في جملة الصنائع، وقد قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها، فصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد عنها العرب وعن سوقها.
والحضر في ذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي، وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف؛ لأنهم أقوم على ذلك؛ للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس ...
وذكر بعد ذلك أن حملة الحديث كان أكثرهم عجما أو متعجمين باللغة والمربى، وكذلك علماء أصول الفقه وعلم الكلام وأكثر المفسرين. ثم قال: وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة فقد شغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك، عن القيام بالعلم والنظر فيه ... فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم.
ومن الواضح أن مؤسس علم الاجتماع يتكلم هنا عن العصر العباسي الذي قام على أكتاف الموالي، فوصلوا فيه إلى الدرجات العلى في السياسة والوزارة وفي إدارة شئون الدولة؛ ولكنه يصدق بلا ريب على أواخر العصر الأموي؛ أي على التابعين ومن جاء بعدهم؛ وذلك أن أبا إسحاق الشيرازي المتوفى عام 476ه ينقل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال:
13 «لما مات العبادلة - عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهم - صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي؛ فقيه أهل مكة عطاء (ابن أبي رباح)، وفقيه أهل اليمن طاوس، وفقيه اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه البصرة الحسن (البصري)، وفقيه الكوفة إبراهيم النخعي،
14
وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراساني. إلا المدينة، فإن الله عز وجل من عليها بقرشي فقيه من غير مدافع، سعيد بن المسيب رضي الله عنه .»
15
وبعد ذلك جاء في العقد الفريد أن ابن أبي ليلى قال، قال لي عيسى بن موسى (توفي سنة 168 عن شذرات الذهب ج1: 266، وكان من الأمراء العباسيين المعروفين) وكان ديانا شديد العصبية: من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين. قال: فما هما؟ قلت: موليان. قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت عطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار. قال: فما هؤلاء؟ قلت موال. قال: فمن فقهاء المدينة؟ قلت: يزيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافع ابن أبي نجيح. قال: فما هؤلاء؟ قلت: موال. فتغير لونه ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟ قلت: ربيعة الرأي وابن أبي الزناد. قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي، فاربد وجهه، ثم قال: فمن فقيه اليمن؟ قلت طاوس، وابنه، وابن منبه. قال: فمن هؤلاء؟ قلت: من الموالي. فانتفخت أوداجه وانتصب قاعدا، وقال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني. قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى. فازداد وجهه تربدا واسودادا حتى خفته. ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول. قال: فما كان مكحول هذا؟ قلت: مولى، فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ فوالله لولا خوفي لقلت: الحكم بن عتبة وحماد بن أبي سليمان؛ ولكني رأيت فيه الشر فقلت: إبراهيم «النخعي» والشعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان، فقال: الله أكبر. وسكن جأشه.
16
وهكذا كان الأمر، سواء أكان ذلك للسبب الذي ذكره ابن خلدون، أو لسبب آخر يجب أن يضاف إلى ذلك السبب في رأينا؛ وهو أن العرب في ذلك الزمن لم يكن ينقصهم شيء من أسباب الجاه والمجد؛ فهم السادة، ومنهم الخلفاء والأمراء والولاة؛ أما الموالي فكان ينقصهم من هذه الأسباب كل شيء، وهم مع ذلك أبناء أمم لهم في الحضارة والسيادة عرق قديم أصيل؛ فكان طبيعيا أن يعملوا على تعويض ما يشعرون به من نقص، ووصلوا إلى ذلك عن طريق العلم الذي كانت أسبابه ميسرة لهم.
فقد كان الصحابي يخلط مواليه بنفسه، فكان هؤلاء يعينون سادتهم، ويأخذون عن المحدثين والمفسرين والفقهاء منهم علومهم. ومن هنا - مع حسن استعدادهم - كان نبوغهم؛ ومن أمثلة ذلك نافع مولى عبد الله بن عمر، وعكرمة مولى عبد الله بن عباس.
استحقاق درجة الفقه
وهؤلاء الذين عرفوا بالفقه من الموالي أو العرب، والذين أقر لهم هذا المصر أو ذاك بالإمامة فيه، كيف كانوا يصلون إلى هذه المنزلة لدى الناس، فيقرون لهم بالإمامة في الفقه؟
لم يكن في ذلك العصر معاهد علمية تمنح من الدرجات العلمية ما تمنح معاهد اليوم، وإنما كانت هناك المساجد وحلقات الدروس فيها، وكل حلقة يتصدرها أحد الشيوخ ويختلف من يحضرونها قلة وكثرة بحسب منزلة صاحب الحلقة.
إلا أن ما للعلم من جلالة، وما لمجلس التعليم من هيبة، يقتضينا القول بأن الأمر لم يكن متروكا بلا ضابط أو تقاليد؛ بل لعل نظام «الإجازة» يعطيها الشيخ لمن يراه أهلا لها، هذا النظام الذي كان معروفا في الأزهر - وأمثاله من المعاهد العلمية - قبل أن يعرف نظام الامتحانات والدرجات العلمية التي تمنح حسب نتائج هذا الامتحان، قد عرف في ذلك العصر بصورة عملية.
وهذا أبو حنيفة نفسه نراه يلازم حماد بن أبي سليمان طويلا، ثم يتشوق للرياسة في حياة شيخه؛ ولكنه وجد نفسه بعد الاختبار ليس بهذه المنزلة، فعزم ألا يفارق شيخه حتى يموت، وكان ذلك فعلا.
17
ويذكر حماد بن سلمة أن حماد بن أبي سليمان كان مفتي الكوفة والمنظور إليه في الفقه بعد موت إبراهيم النخعي، وكان الناس به أغنياء، فلما مات خاف أصحابه أن يموت ذكره، ويندرس العلم، وكان له ابن حسن المعرفة، فأجمعوا عليه وصاروا يختلفون إليه، إلا أنه لم يصبر على القعود لهم؛ لأن الغالب عليه كان النحو وكلام العرب.
فسألوا أخيرا أبا حنيفة فجلس لهم وصاروا يختلفون إليه، ثم صار يختلف إليه من بعدهم آخرون، منهم أبو يوسف وزفر بن الهذيل، فلم يزل كذلك حتى استحكم أمره، واحتاج إليه الأمراء وذكره الخلفاء.
18
ومن بعد أبي حنيفة نجد مالك بن أنس يقول: بعث إلي الأمير في الحداثة أن أحضر المجلس، فتأخرت حتى راح ربيعة (هو ربيعة الرأي ابن أبي عبد الرحمن فروخ المديني، وكان من شيوخ مالك) فأعلمته وقلت: لم أحضر حتى أستشيرك، فقال لي ربيعة: نعم، فقيل له: لو لم يقل لك احضر لم تحضر؟ قال: لم أحضر، ثم قال: لا خير فيمن يرى نفسه بحالة لا يراه الناس لها أهلا.
19
وبعد ذلك ينقل صاحب الديباج المذهب أن «مالكا» قال: ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للأحاديث والفتيا جلس حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد، فإن رأوه أهلا لذلك جلس. وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أني أهل لذلك.
من هذين المثالين، نفهم أن درجة الفقه والفتيا فيه كان لا يصل إليها المتفقه إلا إذا آنس من نفسه أنه أهل لها، ثم يحدث بعد هذا أن يشهد له طائفة من مشيخة العلم أنه جدير بالجلوس للتعليم وإقرار الناس وإفتائهم، وحينئذ يجوز له أن يقوم من الناس مقام الشيخ والمفتي.
ولعل مما يشهد لذلك أن صاحب الديباج المذهب أيضا يذكر أن رجلا سأل «مالكا» عن مسألة، فبادره ابن القاسم فأفتاه، فأقبل عليه مالك كالمغضب وقال له: جسرت علي أن تفتي يا عبد الرحمن! يكررها عليه، ثم قال، ما أفتيت حتى سألت: هل أنا للفتيا موضع؟ فلما سكن غضبه قيل له: من سألت؟ قال: الزهري وربيعة الرأي.
20
العباسيون والفقه
مهما كان، من الحق - كما قلنا من قبل - أنه لا فوارق ولا حدود فاصلة من الناحية العقلية في هذا العصر؛ أي بين الفترة التي عاشها أبو حنيفة في ظل الحكم الأموي، والأخرى التي عاشها في ظل الحكم العباسي، وأن العلوم الإسلامية كانت ستأخذ طريقها إلى النمو والتطور والازدهار تحت حكم الدولة الأموية لو طال بها الزمن ولم تقم الدولة العباسية - مهما كان ذلك - حقا، فإنه مما لا ريب فيه أن حالة الفقه والفقهاء في هذا الفترة من العصر العباسي تختلف عنها أيام الأمويين .
وقد عالجنا من قبل في كتابنا : «عصر نشأة المذاهب» أمر الفقه والفقهاء تحت الحكم الأموي، ثم تحت الحكم العباسي، وبينا هناك الأسباب التي أوقعت النفرة بين الفقهاء وبين الحكم الأموي، ثم ما كان من رعاية العباسيين للفقه والفقهاء، وأسباب ذلك ونتائجه؛ ولهذا وذاك لا نرى أن نكرر ما سبق أن قلناه، ونكتفي هنا أن نحيل عليه.
21
ومع ذلك نرى من الخير أن نشير إلى أن نمو الفقه وتطور التشريع في العصر العباسي الأول كانت له عوامله وأسبابه، كما كانت له نتائجه التي علينا تسجيلها.
ومن هذه العوامل ما يرجع إلى طبيعة الإقليم الذي اتخذته الدولة العباسية قاعدة لملكها، ومنها ما يرجع إلى الأسس التي قام عليها حكمها، ومنها ما يرجع إلى طبيعة الزمن نفسه وتطوره.
اتخذ العباسيون العراق مقرا لملكهم، والعراق إقليم يختلف عن الحجاز وعن الشام اللذين كانا مقرا للخلافة الراشدة وللدولة الأموية؛ فهو إقليم زراعي يرويه دجلة والفرات، ولأهله نظم في زراعاتهم درجوا عليها من قديم الزمان؛ فكان لا بد من قواعد شرعية قانونية تنظم ري الأرض، وتبين ما يجوز من المعاملات الشرعية فيما يتصل بالزراعة، وتحدد الخراج الذي من حق الدولة أن تأخذه على الناتج من الأرض، وهكذا.
وأهل هذا القطر الكبير كانوا مع ذلك أخلاطا من أمم مختلفة، كالفرس والروم وغيرهم، ولكل من هذه الأجناس عادات وتقاليد في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية وغيرهما، وفيه تركزت الحضارة الإسلامية بعد أن اشتدت وقويت أسبابها، وفيه المال والترف والتمتع بلذائذ الحياة وألوانها، بما في ذلك الشراب والغناء والسماع.
وكل هذا ألقي على الخلفاء واجبا ثقيلا، وهو النظر في هذه العادات والتقاليد، وفيما يكون عن الحضارة والترف من أحداث ومشاكل، وبيان حكم الشريعة فيها، وذلك ما يتطلب كثرة الاجتهاد في الأحكام والفتاوي؛ لعدم كفاية ما لديهم من أحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم
وسنته لذلك كله،
22
ومن ثم، رأينا اللجوء إلى القياس والرأي يشتد في هذه الفترة، والبحث فيه وفي مقوماته يزيد.
والعباسيون أسرة تنتسب إلى البيت النبوي الكريم ، ويعتزون بأن صاحب الشريعة الإسلامية كان منهم، فلا عجب إذا أن تقوم سياستهم في الحكم على أسس من الدين وشريعته، وأن يظهر خلفاؤهم بأنهم رجال حكم وسياسة ودين معا، ومن ثم، رأيناهم يزيدون عن الأمويين في الاتصال بالفقهاء ورجال الدين وحملة علومه، ويقربونهم ويصلونهم بالصلات السنية، على نحو ما نعرف عن أبي جعفر المنصور - على بخله المأثور - والرشيد.
وهنا نسجل أمرين جديرين بالتسجيل: الأول أن تقريب الخلفاء العباسيين للفقهاء نتيجة لطبيعة أسرتهم وحكمهم وعملا بسياستهم، تجعلهم حذرين من الميول السياسية للفقهاء الكبار، وذلك مخافة أن يكون لبعضها لدى الأمة ما لا يرضون من الأثر.
فهذا ابن جرير الطبري يذكر أن مالك بن أنس استفتى في الخروج مع محمد بن عبد الله الحسن، وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر. فقال: «إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين.» فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته.
23
وقد كان هذا الموقف العظيم سببا في أذى شديد له، مع إجلال الخليفة أبي جعفر المنصور له، وعرضه عليه حمل فقهاء الأمصار على كتابه «الموطأ» على ما هو معروف. فقد روى ابن خلكان أنه «سعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما، وهو عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له: إنه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء. فغضب أبو جعفر ودعا به، وجرده، وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمرا عظيما، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة.» ثم ذكر بعد ذلك أن ابن الجوزي، وهو يذكر أحداث سنة 147ه، قال: وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان.
وقد يعين على فهم هذا التصرف الشنيع؛ وهو إيذاء فقيه كبير هو موضع الإكرام والإجلال، كلمة موجزة محكمة لأبي جعفر المنصور نفسه، وهي: الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاث خلال: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح في الملك. وأي قدح في رأيهم أكبر من إفتاء إمام من أئمة الفقه بتجويز الخروج عليهم وتشجيعه!
والأمر الثاني، هو أن الصلات الطيبة الوثيقة بين كثير من الفقهاء وبين الخلفاء العباسيين ومن إليهم من الأمراء والوزراء، والرغبة في التوفيق بين القواعد الفقهية النظرية وبين الحياة العملية التي كانوا يحيونها حينذاك؛ هذا وذاك، كانا من الأسباب القوية التي جعلت فنا فقهيا يظهر ويزدهر؛ وهو «فن الحيل» لدى فقهاء مدرسة الكوفة بعامة، ثم مدرسة أبي حنيفة بخاصة.
ونسمي هذا فنا، ولا نسميه علما؛ لأنه يقوم على الصنعة والتعمل، وعلى تخريج للقواعد الفقهية المسلم بها حتى تتسع لكثير مما كانت تزخر به الحياة العملية في ذلك العصر. ولعل اشتهار الأحناف بهذا الفن، كان سببه شديد اتصالهم بأصحاب الدولة القائمة؛ ولذلك كان إليهم القضاء. وكان أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة هو قاضي القضاة أيام الرشيد، فهو أول من دعا بذلك.
ولا نريد هنا ذكر الكتب التي ألفت في هذا الفن، ولا بعض المثل التي استعملت فيها تحقيقا لرغبة خليفة أو وزير مثلا؛ ولكن نشير إلى شيء مما كان من ذلك من الإمام أبي يوسف للخليفة هارون الرشيد وزوجته السيدة زبيدة.
24
ونصل أخيرا للعامل الثالث، من العوامل التي عملت على نمو الفقه وتطوره وازدهاره أيام العباسيين، وهو عامل الزمن الذي ليس للباحث أن يغفل نصيبه عند تقدير الأمور، ووزنها الوزن الصحيح.
ذلك بأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرجعون في آرائهم وأحكامهم إلى كتاب الله المحكم وسنة رسوله الصحيحة، ثم ضم التابعون من بعدهم إلى هذين المرجعين الأصليين ما أثر لديهم من أقوال فقهاء الصحابة وآرائهم.
فلما جاء أتباع التابعين - ومنهم أبو حنيفة - وجدوا هذه الثروة تزيد بالمأثور من ذلك عن التابعين. وهكذا وجدوا بين أيديهم ثروة كبيرة يعملون فيها عقولهم، وتساعدهم على الاجتهاد بالرأي للوصول إلى حلول وأحكام للمسائل والمشاكل التي واجهوها أو واجهتهم في زمانهم.
هذه العوامل كانت تعمل إذا مجتمعة على نمو الفقه وازدهاره، وعلى ظهور تشريعات لم تكن موجودة من قبل؛ لأنه لم تكن ظهرت الحاجة إليها.
ولعل نظرة نافذة لما كان من الفقه في هذه الفترة، ومقارنة له بما كان موجودا من قبل، تظهرنا على ما كان لهذه العوامل والأسباب من آثار ضخمة في حياة الفقهاء والفقه نفسه، تجعلنا نرى كثيرا من الجديد الذي حدث في هذا العصر العباسي من ناحية التشريع.
هذا، ولنستكمل رسم صورة ذلك العصر نشير إلى أنه كان الاجتهاد طابعه، كما كان من ميزاته التدوين للسنة والفقه معا.
والآن، وقد فرغنا من الكلام عن عصر أبي حنيفة، ننتقل إلى البحث الثاني الخاص بترجمته.
حياة أبي حنيفة وترجمته
كلمة عامة
أبو حنيفة علم من أعلام المسلمين، وإمام من أكبر أئمة الفقه الإسلامي، ما في ذلك من ريب، فعلى هذا يجمع المؤرخون من تناولوا نواحي تفكيره وثقافته الواسعة بالبحث والتحليل والتمحيص، على أن القارئ لما كتبه المؤرخون عنه - وما أكثره! - لا يعدم أن يجد من يتناوله بشيء من التجريح والذم، وتلك سنة الزمن مع كل عظيم؛ فإنه ليوجد دائما حول العظماء من يفرطون في التعصب لهم، ومن يفرطون في التعصب عليهم؛ ولكن يظهر بين هذين الطرفين الغاليين وجه الصواب لعين الباحث المدقق المتثبت الذي ينشد الحقيقة وحدها.
ونلمس هذه الحقيقة بالنسبة لإمام أهل الرأي وفقيه العراق، في قول الإمام الشافعي فيه، على ما يرويه الذهبي: «الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة.» وقوله على ما يرويه الخطيب: «من أراد أن يعرف الفقه فليلزم أبا حنيفة وأصحابه؛ فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه.»
1
كما نلمس هذه الحقيقة أيضا من قول أحد معاصريه عنه، على ما يكون عادة بين المتعاصرين من تنافس، وهو عبد الله بن المبارك: إن كان الأثر قد عرف واحتيج إلى الرأي، فرأي مالك وسفيان «الثوري» وأبي حنيفة. وأبو حنيفة أحسنهم وأدقهم فطنة، وأغوصهم على الفقه، وهو أفقه الثلاثة. يقول: «إن كان أحد ينبغي أن يقول برأيه، فأبو حنيفة ينبغي له أن يقول برأيه.»
2
مولده ونشأته
ولد أبو حنيفة النعمان بن ثابت عام ثمانين من الهجرة، وتوفي عام مائة وخمسين. وفي رواية أنه ولد عام 61. ويقول الموفق المكي: وهذه الرواية تخالف ما تقدم (أي أن مولده كان سنة 80). والصحيح هي الرواية الأولى، وهي المجمع عليها.
3
وعلى كل، فقد عاش في ظل الدولة الأموية ثم في ظل الدولة العباسية، وشهد ما كان لانتقال الخلافة والسلطان من بيت إلى بيت من نتائج وآثار على الإسلام بعامة؛ وفي حياة كثير من الناس بخاصة. إلا أنه - كما سنعرف من سيرته - ثابت الخلق، قوي الشخصية، ماض قدما في سبيل تحقيق رسالته التي أعد نفسه لها، وكان في تحقيقها خير للإسلام والمسلمين وشريعة الله ورسوله.
ولذلك يحسن بنا - قبل التعرض لفقهه وآرائه في التشريع ومذهبه الذي عرف به - أن نستعرض سيرته ونشأته في إجمال، وأن نعرف بيئته الخاصة التي اضطرب في أرجائها، والعوامل التي كان لها أكبر الأثر في توجيهه الوجهة الطيبة التي اختارها.
كان النعمان بن ثابت بن زوطي من أصل فارسي؛ إذ كان جده من أهل «كابل» كما يروون،
4
وقد نشأ تاجرا في الخز، وله دكان معروف في دار عمر بن حريث،
5
وكان أمينا في تجارته، لا يغش ولا يخدع أحدا، حتى كان لا يبيع شيئا معيبا إلا بين ما فيه من عيب.
ويذكرون عنه (البغدادي ص358) أنه وكل إلى شريك له، وهو حفص بن عبد الرحمن، متاعا ليبيعه، وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا منه عيبا، وطلب منه أن يبين هذا العيب للمشتري؛ ولكن هذا الشريك نسي أن يظهر المشتري على العيب، ولم يعلم به من باعه، فما كان من أبي حنيفة إلا أن تصدق بثمن المتاع كله.
ويظهر أنه استمر على تجارته بعد أن علق بالعلم وبالفقه خاصة، وأقبل بهمته عليه؛ فهذا قيس بن الربيع يحدث - كما يروي الخطيب البغدادي
6 - أنه كان يبعثه بالبضائع إلى بغداد، فيشتري بها الأمتعة، ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة فيشتري بها حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم وكسواتهم وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الأرباح من الدنانير إليهم ويقول: أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله؛ فإني ما أعطيتكم من مالي شيئا؛ لكن من فضل الله علي فيكم، وهذه أرباح بضائعكم، فإنه والله مما يجريه الله لكم على يدي، فما في رزق الله حول لغيره.
اتجاهه للعلم
كان لا بد أن يتجه النعمان للعلم، ويأخذ منه بنصيب كبير؛ فقد نشأ بالكوفة وكانت ثاني المصرين العظيمين بالعراق في ذلك العصر، وكان العراق قطرا يموج موجا بأصحاب المقالات الدينية والفلسفية والآراء والنحل المختلفة، كما كان يزخر بالعلماء والفقهاء وأصحاب المعارف الإسلامية على اختلاف ضروبها.
وكان صاحبنا فتى طلعة متصلا بالناس، راغبا في المعرفة، يسعفه استعداد طيب، وطبع موات، فما لبث أن أخذ من تلك الثقافات بقدر محمود، ومال إلى مجالس العلماء يأخذ عنهم وينظر معهم ويجادل أحيانا.
وهنا، ينبغي أن نتساءل: ما العلم الذي اتجه إليه أول أمره بطلب العلم؟ وما العلم الذي أقبل عليه بكليته وقصر نفسه أخيرا عليه؟ يذكر بعض المؤرخين للفكر الإسلامي ورجالاته، أن النعمان بن ثابت طلب النحو أول أمره، ثم حملته نزعته للقول بالرأي أن يستعمل فيه القياس، فلم يتأت له؛ إذ أراد أن يجمع «كلب» على «كلوب» كما يجمع «قلب» على «قلوب»، فقيل له إنه يجب جمعه على «كلاب»، فترك النحو إلى الفقه الذي له أن يقيس فيه، بخلاف اللغة التي هي سماعية لا قياسية.
7
ويذكرون أيضا أنه «لم يكن يعاب بشيء سوى قلة العربية، ذلك ما روي أن أبا عمرو بن العلاء المقرئ النحوي سأله عن القتل بالمثقل: أيوجب القود أم لا؟ فقال: لا. كما هو قاعدة مذهبه خلافا للإمام الشافعي رضي الله عنه، فقال له أبو عمرو: ولو قتله بحجر المنجنيق؟ فقال: ولو قتله «بأبا قبيس»؛ يعني الجبل المطل على مكة حرسها الله تعالى.»
8
وسواء أصح هذا الذي يروونه فيما يتصل بأبي حنيفة والنحو أم لم يصح، وأنه لو كان صحيحا لكان السبب في إعراضه عن دراسة النحو الذي لا يتأتى القياس فيه؛ فإنه من المؤكد أنه اتجه فيما بعد لعلم الكلام، وأخذ منه بنصيب موفور، كما كانت له فيه كتب أثرت عنه، ومن هذه الكتب: الفقه الأكبر، الرد على القدرية، العالم والمتعلم، ورسالته إلى البستي.
9
اتجاهه للفقه
وقد أراد الله له أخيرا أن يقبل على علم الفقه، وأن يجعله همه من حياته، فكان أن انصرف إليه بكليته، واتصل بشيوخ الفقهاء يأخذ عنهم وبعض المؤرخين له يروون أنه قصد إلى اختيار الفقه عن علم بعظيم جدواه، وذلك بعد أن نظر فيما يمكن أن يكون من خير في دراسة العلوم الأخرى.
هذا هو الخطيب البغدادي يروي عن أبي يوسف أن أبا حنيفة قال: لما أردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم وأسأل عن عواقبها، فقيل لي: تعلم القرآن، فقلت: إذا تعلمت القرآن وحفظته فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد ويقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثم لا يلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو يساويك في الحفظ فتذهب رياستك. قلت: فإن سمعت الحديث وكتبته حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني؟ قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عليك الأحداث والصبيان، ثم لا تأمن أن تغلط فيرموك بالكذب فيصير عارا عليك في عقبك. فقلت: لا حاجة لي في هذا. ثم قلت أتعلم النحو. فقلت: إذا حفظت النحو والعربية ما يكون آخر أمري، قالوا: تقعد معلما، فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة. قلت: وهذا لا عاقبة له؛ قلت: فإن نظرت إلى الشعر فلم يكن أحد أشعر مني ما يكون من أمري؟ قالوا: تمدح هذا فيهب لك، أو يحملك على دابة، أو يخلع عليك خلعة، وإن حرمك هجوته فصرت تقذف المحصنات. قلت: لا حاجة لي في هذا. قلت: فإذا نظرت إلى الكلام ما يكون آخره؟ قالوا: لا يسلم من نظر في الكلام من مشنعات الكلام، فيرمى بالزندقة؛ فإما أن تؤخذ فتقتل، وإما أن تسلم فتكون مذموما ملوما. قلت: فإن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل وتفتي الناس، وتطلب للقضاء وإن كنت شابا. قلت: ليس في العلوم أنفع من هذا، فلزمته.
10
وأخيرا يذكر الخطيب أيضا بعد ذلك،
11
عن الحسن بن زيد، عن زفر بن الهذيل، أن أبا حنيفة كان ينظر في علم الكلام حتى بلغ فيه مبلغا يشار إليه فيه بالأصابع، وكان جلوسه قريبا من حلقة حماد بن سليمان الفقيه، وحدث أن جاءته امرأة سألته عن مسألة فقهية فلم يعرفها، فأمرها أن تسأل حمادا، ثم ترجع فتخبره برأيه، فلما علم إجابة حماد قال: لا حاجة لي بعلم الكلام، وأخذ نعله فجلس إلى حماد.
12
وهنا يقول أبو حنيفة: فكنت أسمع مسائله فأحفظ قوله، ثم يعيدها من الغد فأحفظها ويخطئ أصحابه، فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة. ثم تكلم بعد ذلك عن ملازمته لحماد حتى مات، وإن نازعته نفسه حينا لاعتزاله والاستقلال بحلقة لنفسه.
13
هكذا يروي أولئك المؤرخون. ونحن إن استطعنا أن نصدق هذا النقل الثاني، فإننا لا نستطيع أن نؤمن لما رووه أولا على النحو الذي نقلوه؛ وهذا لأمور تحيك في النفس وتقف دون اليقين به.
فإنه من المستبعد أن يكون أبو حنيفة نفعيا إلى هذه الدرجة، فيرفض الاشتغال بغير الفقه، كالقرآن والحديث والنحو؛ لأنه لا جدوى تعود عليه منها، ولأن لبعضها مغبة يخشاها كذهاب رياسته إن اشتغل بالقرآن وحفظه وخرج من تلاميذه من يفوقه في الحفظ أو يساويه فيه، مع أنهم قد أجمعوا على تقواه وورعه وزهده وانصرافه عن الرياسات.
ثم نراه يقرر في هذا الحديث الانصراف عن النحو وعلم الكلام، مع أنه قد اشتغل بالأول ولم يصرفه عنه - كما روينا في نقل سابق - إلا أنه لم ير القياس جائزا فيه، كما اشتغل بعلم الكلام حتى صار من أعلامه، وحتى بلغ فيه مبلغا يشار إليه فيه بالأصابع.
وبعد هذا وذاك، نرى أن ذلك الحديث الأول يفترض أن أبا حنيفة كان عنده استعداد لكل هذه العلوم حتى أخذ يختار لنفسه منها حتى الشعر، مع أنه لم يؤثر عنه مطلقا شيء منه مهما كان قليلا؛ والمعروف أن من كان شاعرا بطبعه واستعداده لا بد أن يقرض شيئا من الشعر مهما كانت حرفته، ومهما كان العلم الذي أخذ نفسه به.
نزعته الفقهية وشيوخه
عرف أبو حنيفة فيما بعد بأنه «إمام أهل الرأي» لكثرة اجتهاده وعمله بالقياس فيما لا نص ثابتا لديه فيه، ونعتقد أن هذه النزعة كانت أصيلة فيه؛ فقد رأيناه ينصرف، كما يقولون، عن الاشتغال بالنحو لما رآه من أن القياس لا يجري فيه.
ولذلك نراه يلازم من بين شيوخ الفقهاء الذين أخذ عنهم حماد بن أبي سليمان الذي انتهت إليه في عصره رياسة الفقه في العراق، وقد تلقى هذا فقهه عن إبراهيم النخعي، وكلاهما من مشيخة فقهاء الرأي في مقابل فقهاء الحديث والأثر.
وإن الذي يتصفح ما كتبه تلاميذ أبي حنيفة المباشرون. يرى أن الواحد يذكر رأي الإمام في المسائل التي يتناولها، وأنه يذكر مع ذلك شيوخه الذين أخذ عنهم، وكثيرا جدا ما يكون هؤلاء هم: حماد بن أبي سليمان، ثم شيخه إبراهيم النخعي اللذين ذكرناهما آنفا، واللذين يذكرهما محمد بن الحسن الشيباني في كتابه «الآثار» مثلا.
وليس معنى هذا وذاك، أنه لم يأخذ في الفقه إلا عن حماد بخاصة، أو عن فقهاء أهل الرأي بعامة، بل إنه من الثابت تاريخيا بلا ريب، أنه قد اتصل كثيرا بفقهاء ذوي نزعات مختلفة، وربما أفاد من غير قليل منهم في تكوين آرائه وبناء مذهبه.
فقد أخذ - مثلا - عن عطاء بن أبي رباح فقيه مكة، وعكرمة مولى عبد الله بن عباس ووارث علمه، ونافع مولى ابن عمر وحامل علمه، كما التقى بالمبرزين في الفقه والعلم من أئمة الشيعة ومن هؤلاء الإمام زيد بن علي الذي قتل شهيدا في عام مائة واثنين وعشرين، والذي ينسب إليه كتاب «المجموع» في الفقه. ومنهم أيضا الإمام جعفر الصادق الذي توفي قبل أبي حنيفة بعامين اثنين، وكان على جانب عظيم من الفقه والبصر به؛ حتى ليقول صاحبنا نفسه: والله ما رأيت أفقه من جعفر الصادق! ومن أجل ذلك نرى الخطيب البغدادي يقول في تاريخه.
14
محدثا عن الربيع بن يونس: دخل أبو حنيفة يوما على المنصور (يريد أبا جعفر الخليفة العباسي) وعنده عيسى بن موسى، فقال للمنصور: هذا عالم الدنيا اليوم. فقال له: يا نعمان! عمن أخذت العلم؟ قال: عن أصحاب عمر عن عمر، وعن أصحاب علي عن علي، وعن أصحاب عبد الله عن عبد الله (يريد عبد الله بن عباس) وما كان في وقت ابن عباس على وجه الأرض أعلم منه، قال: استوثقت لنفسك.
وفي رواية أخرى أنه أجاب عن سؤال المنصور: عمن أخذ الفقه؟ بقوله: عن حماد (بن أبي سليمان)، عن إبراهيم (النخعي)، عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس؛ وعندئذ قال له الخليفة: بخ بخ! استوثقت ما شئت يا أبا حنيفة، الطيبين الطاهرين المباركين، صلوات الله عليهم.
15
جلوسه للتعليم
هكذا اتجه أبو حنيفة للفقه، وهكذا جد في طلبه عن شيوخه المبرزين، فمتى رأى نفسه أهلا لأن يكون أستاذا له حلقة خاصة به؟ ومتى كان ذلك؟ ذكرنا من قبل ونحن نتكلم عن اتجاهه للفقه، أنه اتصل بحماد بن أبي سليمان يأخذ عنه الفقه، وأنه ظل مصاحبا له حتى مات. والآن نتكلم عن كيف جلس للتعليم بعد وفاة شيخه، وكيف خلفه حقا بعد أن لحق بربه.
يقول أبو حنيفة محدثا عن نفسه:
16 «فصحبته عشر سنين، ثم نازعتني نفسي الطلب للرياسة، فأردت أن أعتزله، وأجلس في حلقة لنفسي، فخرجت يوما بالعشي وعزمي أن أفعل، فلما دخلت المسجد فرأيته، لم تطب نفسي أن أعتزله، فجئت وجلست معه، فجاءه في تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة وترك مالا وليس له وارث غيره، فأمرني أجلس مكانه.
17
فما هو إلا أن خرج حتى وردت علي مسائل لم أسمعها منه، فكنت أجيب وأكتب جوابي، فغاب شهرين، ثم قدم، فعرضت عليه المسائل، وكانت نحوا من ستين مسألة، فوافقني في أربعين منها وخالفني في عشرين، فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت، فلم أفارقه حتى مات.»
ويروي الخطيب البغدادي أيضا بعد ذلك، أن أبا حنيفة قال: قدمت البصرة فظننت أني لا أسأل عن شيء إلا أجبت فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألا أفارق حمادا حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة.
هكذا، رأينا أبا حنيفة يرى حينا أنه صار أهلا للإجابة عن كل ما قد يوجه إليه من سؤال في شريعة الله ورسوله، وتنازعه نفسه حينا أن يعتزل شيخه، ويستقل بحلقة يكون شيخها وإمامها؛ ولكنه لا يلبث أن يعرف أنه لا زال في حاجة لشيخه، وأن من الخير أن يتأنى ولا يتعجل الأيام التي يكون فيها إماما بلا منازع.
ثم تمر الأيام، ويموت شيخه حماد رضي الله عنه عام 119ه، وحينئذ لا يرى أصحابه وتلاميذه غير أبي حنيفة أهلا للجلوس مكان الشيخ، فيقبل كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
وهنا نزيد المسألة تفصيلا بالرجوع إلى المناقب للمكي والمناقب للبزاز الكردي.
18
وهذه ليست إلا اختصارا للأولى في شيء من الدقة، وإن كانت تشاركها في الإسراف في تعداد «المناقب» إلى درجة توجب الحذر والفتنة من الباحثين، فيذكرون أنه لما مات حماد، وكان مفتي الناس بالكوفة، رأى أصحابه أن يجلس لهم ابنه إسماعيل مكانه، فكان ما أرادوا حتى لا يندرس العلم، ويموت ذكر الشيخ؛ ولكنهم لما اختلفوا إليه رأوا أن الغالب عليه النحو والشعر وأيام الناس: وحينئذ أجمعوا أن يجلس لهم مكان الشيخ أبو بكر النهشلي، وسألوه ذلك فأبى، وسألوا غيره ذلك أيضا فأبى. فما كان إلا أن ذكروا أبا حنيفة، وقالوا: إنه حسن المعرفة، وسألوه أن يتولى حلقة الشيخ؛ وكان أبو حنيفة رجلا موسرا سخيا ذكيا، فأجابهم وصبر نفسه عليهم، وأحسن مواساتهم وحباءهم، وأكرمه الحكام والأمراء وارتفع شأنه، فاختلفت إليه الطبقة العليا.
ثم جاء بعدهم كثير غيرهم، أمثال: أبو يوسف، وزفر بن الهذيل، وأبو بكر بن الهزلي، والوليد بن أبان، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وداود الطائي، ومحمد بن الحسن الشيباني، ثم كان أن جعل أمره يزداد علوا، وكثر أصحابه حتى كانت حلقته أعظم حلقة في المسجد، وصار هو أوسعهم في الجواب، ولم يزل كذلك حتى استحكم أمره، واحتاج إليه الأمراء، وذكره الخلفاء.
محنته
على أن هذه المنزلة الرفيعة التي بلغها أبو حنيفة في العلم، والتي جعلت منه إماما في الفقه، لم تشفع له عند الأمويين ، كما لم تشفع له من بعد عند العباسيين؛ فقد ناله من هاتين الأسرتين والدولتين أذى كثير. وهذا شأن العلماء ذوي الخلق والصلابة في الحق في كل عصر، العلماء الذين لا تلين قناتهم لكل غامز، ولا يسيرون في ركاب كل صاحب سلطان، كما نرى اليوم.
فقد أراده يزيد بن عمر بن هبيرة، وكان عامل مروان على العراق في دولة بني أمية، على أن يلي له قضاء الكوفة، فأبى، فضربه مائة وعشرة أسواط في كل يوم عشرة أسواط، وهو على الامتناع، فلما رأى تصميمه على الرفض خلى سبيله.
19
ويذكرون أيضا أن الربيع بن عاصم، وهو مولى لبني فزارة. قال: أرسلني يزيد بن عمر بن هبيرة فقدمت بأبي حنيفة، فأراده على بيت المال فأبى، فضربه أسواطا عشرين.
20
هذا في زمن بني أمية، وكذلك كان الأمر في زمن العباسيين، وفي أيام أبي جعفر المنصور نفسه، هذا الخليفة الذي أعجب - كما رأينا - بعلم الإمام وأظهر له عرفانه بقدره.
فقد أشخصه الخليفة من الكوفة إلى بغداد، وأراده على أن يلي القضاء، فأبى، فحلف عليه ليفعلن، فحلف أبو حنيفة ألا يفعل، فقال الربيع الحاجب: ألا ترى أمير المؤمنين يحلف! فقال أبو حنيفة: أمير المؤمنين على كفارة أيمانه أقدر مني على كفارة أيماني. وأبى أن يلي، فأمر به إلى الحبس في الوقت.
21
ويحدث سليمان بن الربيع عن خارجة بن مصعب بن خارجة، قال: سمعت مغيث بن بديل يقول: قال خارجة: دعا أبو جعفر أبا حنيفة إلى القضاء، فأبى عليه، فحبسه، ثم دعا به يوما فقال: أترغب عما نحن فيه؟! قال: أصلح الله أمير المؤمنين: لا أصلح للقضاء. فقال له: كذبت. قال: ثم عرض عليه الثانية، فقال أبو حنيفة: قد حكم علي أمير المؤمنين أني لا أصلح للقضاء؛ لأنه ينسبني إلى الكذب؛ فإن كنت كاذبا فلا أصلح، وإن كنت صادقا، فقد أخبرت أمير المؤمنين أني لا أصلح. قال: فردوه إلى الحبس.
22
وأخيرا يروي البغدادي بعد ما تقدم عن الربيع بن يونس أنه قال: رأيت أمير المؤمنين المنصور ينازل
23
أبا حنيفة في أمر القضاء وهو يقول: اتق الله ولا ترع أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب! ولو اتجه الحكم عليك، ثم هددتني أن تغرقني في الفرات، أو أن تلي الحكم.
24
لاخترت أن أغرق. ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك، فلا أصلح لذلك. فقال له: كذبت، أنت تصلح. فقال: قد حكمت لي على نفسك؛ كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك وهو كذاب!
25
المسألة كما يروون كانت مسألة طلب أن يتولى القضاء، وهو يأبى فيعاقب بالضرب والسجن على هذا الإباء؛ ولكننا نرى الأمر كأن شيئا وراء ذلك، وأن السبب الحقيقي لهذا الأذى الذي ناله الإمام، أيام الأمويين والعباسيين على السواء هو ما كان معروفا من ميله لآل البيت بعامة زمن الأمويين، ثم للعلويين بخاصة زمن أبناء عمومتهم العباسيين.
26
ولعل من دلائل هذا الذي نرى، قولة الخليفة أبي جعفر العباسي له، وهو يجادله أو ينازله: أترغب عما نحن فيه! هذا فضلا، عما عرف به من الورع ويسر الحال إلى درجة القدرة على صلة إخوانه وأصحابه بالمال الكثير، فلا حاجة له إذا لعون ذوي السلطان في أمر يلابسه كثير من الشبهات.
أخلاقه وسجاياه
تطيل كتب التاريخ وكتب «المناقب»، وبخاصة هذه الأخيرة، في الثناء على الإمام أبي حنيفة، وفي بيان ما فطر عليه من السجايا الفاضلة، وما أخذ به نفسه من الأخلاق الحميدة، فهو ورع عظيم الخشية لله، وهو صبور على ما يلقى من الأذى في ذات الله، وهو صلب في الحق يستهين بكل ما يلقى في سبيله، وهو عظيم البر بوالديه وأستاذه، وهو شديد العناية بأصحابه وتلاميذه، وعظيم في مواساتهم وصلتهم، وهو فطن وألمعي في ذكائه، وهو ... إلى آخر ما يذكرون، حتى لتكاد تتمثله أكمل الناس في زمنه أو غير زمنه، حاشا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رضوان الله عليهم.
ونحن هنا، لا نجد ضروريا أن نستقصي كل ما ذكره في هذه النواحي، ولا نجدنا في حاجة لتحقيق كل ما جاءوا به؛ لنعلم مداه من الصدق والدقة وتحري ما كان واقعا فعلا.
ومن أجل ذلك، نكتفي بأن نتكلم عن بعض أخلاقه وسجاياه الاجتماعية، والتي تتصل بأوثق الروابط بعلمه، نعني ما كان منها نابعا من تحققه بعلم الفقه وشريعة الله ورسوله، وبذلك يكون عالما عاملا وجامعا لفضيلة العلم والعمل به؛ ولهذا نتكلم عن: (1)
صلته بأصحابه وتلاميذه ومواساته لهم. (2)
ورعه وخشيته لله. (3)
صلابته في الحق، أو فيما يعتقد أنه حق.
فعن صلته بتلاميذه، نرى كل من كتبوا عنه يجمعون على أنه كان شديد الكرم، حسن المواساة لإخوانه، وقد قدمنا صنيعه في شراء حوائج الأشياخ المحدثين وأقواتهم وكسوتهم سنة بعد سنة. وأشرنا فيما سبق أيضا، ونحن نتحدث عن جلوسه للتعليم، إلى حسن مواساته لإخوانه، وفي هذا يقول المكي في مناقبه: «وأسبغ على كل ضعيف منهم، وأهدى إلى كل موسر.» كما يقول في موضع آخر: «وكان ... معروفا بالإفضال على كل من يطيف به.»
وهذ خلق يرجع، فيما نعتقد، إلى ما كان من صلة وثيقة بين علم أبي حنيفة وعمله؛ فالعالم الحق بدين الله وشريعته يرى في العلم لذة لا تدانيها لذة المال، كما يرى في بذله من جاهه وماله لإخوانه فضلا لا يدانيه أي فضل، وهكذا كان أبو حنيفة رضوان الله عليه.
وعن ورعه وخشيته الله تعالى، فلاحظ أولا أن الأصول التي لا بد للفقيه من الرجوع إليها معروفة؛ ومن هذه الأصول اثنان نقليان؛ وهما: الكتاب والسنة. ومع هذا لا بد للفقيه من استعمال عقله غاية الجهد، ليصح له أن يوصف بأنه فقيه من أهل الاجتهاد.
ثم هناك مسائل - وما أكثرها - تحير الفقيه في إيجاد حلول فقهية لها، ومن ثم، فهو في حاجة ماسة إلى عون الله وحسن توفيقه للحق.
ومما يجعل الإنسان حريا بهذا العون الإلهي، أن يكون قلبه عامرا بالله وخشيته وتقواه، بعيدا كل البعد عن المعاصي ومظانها، مراقبا لله في سره وعلنه؛ أي أن يكون ورعا؛ فإن القلب متى كان فارغا من الاشتغال بما لا ينبغي، كان مستعدا لقبول فيض الله وعلمه كما يقول المتصوفة؛ ولهذا نراهم يجعلون ذلك طريقا للوصول للمعرفة والعلم الحقيقيين.
وقد كان أبو حنيفة وافر الحظ من ذلك كله، حتى لو بالغنا في الحذر من إفراط أصحاب المناقب وأمثالهم؛ فإن المؤرخين يكادون يتفقون على أنه كان حسن الليل يقطعه بالصلاة وقراءة القرآن، حتى ليقول يحيى بن أيوب الزاهد: كان أبو حنيفة لا ينام الليل. كما يقول عنه أبو الجويرية: لقد صحبته أشهرا فما منها ليلة وضع فيها جنبه: وبلغ من خوفه لله تعالى وخشيته له أنه قام ليلة بهذه الآية:
بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر
يرددها ويبكي ويتضرع؛ ولهذا يقول عبد الله بن المبارك: «ما رأيت أحدا أورع من أبي حنيفة، وقد جرب بالسياط والأموال.»
وقدمنا أنه حين باع شريك له متاعا، ولم يبين للمشتري عيب ثوب معين منه نسيانا، ثم لم يعلم بعد لمن باعه، تصدق بالثمن كله، حتى لا يدخل شيء فيه شبهة في ذمته.
ونكتفي في ورع أبي حنيفة بهذه النقول؛ ففيها كفاية للتدليل على ما أجمعوا عليه من ورعه وخشيته لله تعالى؛ الأمر الذي لا بد منه للتفرغ للعلم في إخلاص، كما لا بد منه ليكون المرء أهلا لفيض الله تعالى وزيادته من علمه.
27
أما عن صلابته في الحق، أو فيما يرى أنه حق، فنرى هذا الخلق ينبع أيضا من العلم الحق الذي تحقق به الإمام، فالعالم الذي يطلب الحق لذاته. يرى نفسه سعيدا متى هدي إليه، ومن هنا يستمسك به استمساكا شديدا، ولا يبالي في ذلك غضب السلطان وأصحاب السلطان، ويتحمل في هذا السبيل كل ما يلقى من عنت وأذى وبلاء؛ لأنه يؤثر رضا الله عنه في كل ما يأتي ويذر.
وفي هذا يذكر مليح بن وكيع أنه سمع أباه يقول: «كان والله أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان الله في قلبه جليلا كبيرا عظيما، وكان يؤثر رضا ربه على كل شيء، ولو أخذته السيوف في الله لاحتمل.»
28
وقد ذكرنا آنفا ما كان من رفضه ولاية القضاء رفضا باتا، مستهينا بكل ما لقيه من أذى في سبيل ذلك.
ألمعيته وفطنته
وأخيرا كان أبو حنيفة ذكيا ألمعيا فطنا، وهذه سجية فطر عليها، لا خلق اكتسبه، وهي سجية كانت من العوامل الفعالة فيما بلغه من علم صار فيه إماما في عصره، وإلى يومنا هذا، بعكس الأخلاق التي ذكرناها من قبل؛ فقد كانت نتيجة لهذا العلم وتحققه به.
وليس من اليسير للباحث أن يستقصي أسباب هذه السجية ودلائلها؛ ولكن من اليسير علينا أن نسجل هنا بعض مظاهرها، نفعل ذلك أخذا من حوادث خمسة، وهي: (1)
الحادثة الأولى يرويها يحيى بن معين فيقول: دخل الخوارج مسجد الكوفة، وأبو حنيفة وأصحابه جلوس، فقال أبو حنيفة (لأصحابه): لا تبرحوا، فجاءوا حتى وقفوا عليهم، فقالوا لهم: ما أنتم؟ فقال أبو حنيفة: نحن مستجيرون: فقال أمير الخوارج: دعوهم وأبلغوهم مأمنهم.
29 (2)
والثانية: كانت مناظرة بين أبي حنيفة وبين الضحاك الشاري، وكان من الخوارج أيضا؛ فقد قدم الكوفة، ولقي أبا حنيفة وقال له: تب. فقال: مم أتوب؟ قال: من قولك بتجويز الحكمين. فدعاه للمناظرة؛ ولما أقبل الشاري، قال أبو حنيفة: فإن اختلفنا في شيء مما تناظرنا فيه، فمن بيني يحكم وبينك؟ قال الضحاك: اجعل أنت من شئت. فقال أبو حنيفة لرجل من أصحاب الضحاك: اقعد فاحكم بيننا فيما نختلف فيه إن اختلفنا. ثم قال للضحاك: أترضى بهذا بيني وبينك؟ قال: نعم. فقال أبو حنيفة: فأنت قد جوزت التحكيم! فانقطع الضحاك.
30 (3)
وأما الثالثة فقد دخلها عنصر السياسة، وبهذا العنصر الذي فطن له أبو حنيفة انتصر على خصمه، ويرويها أبو يوسف.
31
فيقول: دعا المنصور أبا حنيفة، فقال الربيع حاجب الخليفة وكان يعادي الإمام: يا أمير المؤمنين! هذا أبو حنيفة يخالف جدك؛ كان عبد الله بن عباس يقول: «إذا حلف على اليمين ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو يومين جاز الاستثناء.» وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء إلا متصلا باليمين! فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين! إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب جندك بيعة، قال: وكيف؟ قال: يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون، فتبطل أيمانهم. فضحك المنصور وقال: يا ربيع! لا تعرض لأبي حنيفة! (4)
والرابعة يرويها ابن شبرمة الفقيه.
32
فيقول: كنت شديد الإزراء على أبي حنيفة (وهذه حالة ترى كثيرا بين الزملاء المتعاصرين) فحضر الموسم وكنت حاجا يومئذ، فاجتمع عليه قوم يسألونه، فوقفت من حيث لا يعلم من أنا، فجاءه رجل خراساني، فقال: يا أبا حنيفة، قصدتك أسألك عن أمر قد أهمني وأعجزني. قال: ما هو؟ قال: لي ولد ليس لي غيره، فإن زوجته طلق وإن سريته أعتق، وقد عجزت عن هذا، فهل من حلة؟ فقال له للوقت: اشتر لنفسك الجارية التي يرضاها هو ثم زوجها منه؛ فإن طلق رجعت مملوكتك إليك، وإن أعتق أعتق ما لا يملك. وهنا يقول ابن شبرمة: فعلمت أن الرجل فقيه، فمن يومئذ كففت عن ذكره إلا بخير. (5)
وأخيرا، هذه حادثة تكشف لنا أيضا عن فطنته لما يراد منه، وسرعة خاطرة في التخلص، وقد وقعت بينه وبين فقيه معاصر، وكان بينهما ما يكون عادة بين المتعاصرين الزملاء في العمل، وهو محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الفقيه، قاضي الكوفة، المتوفى عام 148ه وهو على القضاء.
ويروي هذه الحادثة يوسف بن خالد السمتي في حديث طويل، يذكر فيه قدومه على أبي حنيفة من البصرة، إلى أن يقول:
33
خرجنا مع أبي حنيفة في نزهة إلى ناحية بالكوفة، وأمسينا فرجعنا، فإذا نحن بابن أبي ليلى راكبا على بغلته قد أقبل، فسلم علينا وساير أبا حنيفة، فمررنا ببستان فيه قوم متنزهون، ومعهم مغنيات وعوادات وغير ذلك، وهن مقبلات، حتى حاذيناهن فسكتن، فقال أبو حنيفة: قد أحسنتن، ومضينا إلى مفرق الطرق فتفرقنا.
فأضمر ابن أبي ليلى في نفسه أنه وجد فرصة في أبي حنيفة؛ يقول للمغنيات: أحسنتن! فبعث إليه في شهادة عنده، فأتاه وأقام الشهادة على ما ينبغي، فما كان من ابن أبي ليلى إلا أن قال له: شهادتك ساقطة، فقال أبو حنيفة: لم؟ قال: لقولك للمغنيات أحسنتن؛ لأن هذا رضا منك بمعاصي الله تعالى. فقال أبو حنيفة: متى قلت لهن: أحسنتن، حين غنين أو سكتن؟ فقال لا، بل حين سكتن. فقال: الله أكبر، إنما أردت بقولي: أحسنتن، في السكوت، لا في الغناء! فسكت ابن أبي ليلى وأثبت شهادته. ثم قرأ أبو حنيفة هذه الآية:
ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله .
قال: فكان ابن أبي ليلى يحذر أبا حنيفة بعد ذلك حذرا شديدا، وكان إذا وقعت له مسائل غلاظ شداد دس بها إلى أبي حنيفة، فكان يفطن لها ويقول:
وإذا تكون عظيمة أدعى لها
وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
هكذا كان أبو حنيفة في حياته وسيرته: ذكيا ألمعيا، وفقيها فطنا، ورعا عظيم الخشية لله تعالى، صلبا في الحق وعلى خلق عظيم ... ولا عجب في شيء مما نقوله؛ فهذا الفضيل بن عياض يقول عنه، كما يروي المكي في مناقبه:
34 «كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه، مشهورا بالورع، واسع المال، معروفا بالإفضال على كل من يطيف به، صبورا على تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت قليل الكلام، حتى ترد مسألة في حرام أو حلال، فكان يحسن أن يدل على الحق، هاربا من مال السلطان.»
وهذه الخلال التي اجتمعت له، كانت حرية حقا أن تجعل منه عالما فذا، ومفكرا سليم التفكير، وطالبا للحق لا يعدوه إلى غيره، وهكذا كان رضوان الله عليه. وقد بلغ من إخلاصه للعلم، ومن طلبه للحق فيما ينظر فيه، أنه لم يكن بالرجل الذي يفتن برأيه فلا يرى الحق إلا فيه، فيعمل على أن يفرضه على غيره فرضا. وقد عبر هو نفسه عن هذا المعنى، بهذه القولة المأثورة عنه، وهي: «قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا.»
علينا بعد ذلك أن نتكلم عن طريقته وفقهه، لنعرف إن كان له مذهب خاص واضح للعالم، وماذا يقوم عليه هذا المذهب إن كان.
طريقة أبي حنيفة وفقهه
هل له طريقة خاصة به؟
نعم! علينا أن نتساءل أولا قبل الكلام عن فقه أبي حنيفة: هل له طريقة خاصة في استنباط الأحكام الشرعية؛ أو بعبارة أخرى: هل كان التاريخ والمؤرخون على حق حين نسبوا لأبي حنيفة مذهبا خاصا صار يعرف به؟ وإذا كان هذا حقا، فما هذه الطريقة التي عرفت بأنها مذهبه؟ وإذا ما هذه الأسس والأصول التي يقوم عليها؟
وهنا نجد الآراء تختلف، ونرى لبعض المستشرقين رأيا في هذه المسألة، أخذه بعض من كتبوا من المسلمين في تاريخ الفقه وتبنوه وأخذوا يدافعون عنه، كما نرى آراء أخرى للمستشرقين وغيرهم تخالف ذلك الرأي تماما.
ها هو ذا «جوينبل» المستشرق الإنجليزي المعروف، يؤكد - فيما كتبه عن أبي حنيفة في دائرة المعارف الإسلامية - أنه لا أساس لما يراه كثير من الكتاب الأوروبيين من أنه اصطنع أصولا مبتكرة، وأنه أسس مذهبا اعتمد فيه كل الاعتماد على القياس. ثم نراه بعد ذلك يعمم الحكم على أئمة الفقه جميعا، فيقول: إنه لا يوجد بصفة عامة أي فارق بين المذاهب الفقهية المختلفة في الإسلام من ناحية الأصول التي تقوم عليها.
وإذا، فليس لأبي حنيفة مذهب خاص به يستحق أن ينسب إليه، على رأي هذا المستشرق؛ بل ليس لسائر الأئمة مذاهب فقهية يختلف الواحد منها عن الآخر، من ناحية الأصول التي تقوم عليها. وبذلك يكون من المبالغة في القول والتجني على تاريخ الفكر أن ننسب لكل منهم مذهبا فقهيا خاصا به!
وهذا الرأي نراه ماثلا بوضوح في كتابة أحد المسلمين المعاصرين، فقد تبناه دون إشارة إلى من ذهبوا إليه، وردده في بضع صفحات من كتابه عن تاريخ الفقه الإسلامي.
1
فإن القارئ لهذه الصفحات يجد هذا التعبير بعد أن تحدث عما هو حق من تطور الفقه الإسلامي، كما هو معروف من تاريخه: فهو - أي أبو حنيفة - لم يكون طريقة، وإن ما ارتبط باسمه من الآثار والمعارف - كما نراه في مثل كتاب الآثار والمبسوط للشيباني - يرجع إلى أصل قديم ... ولكن ما هي طريقة أبي حنيفة؟ فهل أوجد لنا حقيقة طريقة فقهية؟ الحق، أن هذا موضع بحث ونظر؛ ليس من أجل أن الإمامة في هذه المسألة يجب أن تكون لغير أبي حنيفة؛ ولكن من أجل أنه لا توجد في الفقه الإسلامي طريقة بالمعنى الحقيقي !
وقد كان من اليسير أن نفهم أن الطريقة التي ينكرها الأستاذ الكاتب هنا على أبي حنيفة، وعلى غيره من أئمة الفقه أيضا، هي ما يريده الغربيون بكلمة
Méthode
وما ترجمناه نحن العرب بكلمة «خطة».
نعم! كان فهم هذا سهلا ميسورا، وحينئذ لا يكون الأمر من الخطر بدرجة تدعو لمناقشته؛ ولكنه أفصح عن مراده ومراد من أخذ عنهم، وهو أن المراد بالإنكار هو «المذهب» لا خطة البحث والكتابة والتأليف، فقد ذكر بعد ذلك أنه: «تحت كلمة طريقة أبي حنيفة
Sysrème ، يترجم علميا بلفظ: مذهب أو نظام، على ما هو معروف.»
نعم لأبي حنيفة مذهب
وعلى الضد من ذلك الرأي الخاطئ قال آخرون من كبار المستشرقين الأعلام بأن أبا حنيفة جدير بأن ينسب إليه المذهب الذي عرف ولا يزال يعرف به، ونكتفي هنا بذكر آراء اثنين من هؤلاء الأعلام، وهما: إدوارد سخاو، وجولدتسهير.
2
فقد جاء عن الأول، في بحث نشر بمدينة «فيينا» عام 1780م عنوانه: «حول أقدم تاريخ للفقه الإسلامي» أن أبا حنيفة هو «إمام أصحاب الرأي» كما يسميه الخطيب في تهذيب النووي «صاحب الرأي» كما يذكر ابن قتيبة في كتابه «المعارف». وأشار بعد ذلك إلى أن ابن النديم ذكره على رأس العراقيين «أصحاب الرأي»، وأورد في هذا أبياتا لمسعود الوراق يمدح الإمام بها؛ وهي:
إذا ما الناس يوما قايسونا
بآبدة من الفتيا طريفة
أتيناهم بمقياس صحيح
تلاد من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه بها دعاها
وأثبتها بحبر في صحيفة
وإذا كان «سخاو» يرجع هنا إلى آراء مؤرخي الفكر الإسلامي ورجاله، فإن الذي يعنينا أنه يقر هذه الآراء فيما نحن بصدده؛ على أنه يصرح بعد ذلك بالرأي الذي نراه، وذلك إذ يقول ما نصه:
وهنالك ثلاثة رجال على وجه الخصوص هم الذين تناولوا بادئ ذي بدء ما جمع من المواد منذ تأسيس الإسلام، حتى أواسط النصف الأول من القرن الثاني الهجري، ووحدوه، وجعلوا منه نظما فقهية كاملة ... وقد انتشرت تعاليمهم عن طريق عدد كبير من التلاميذ في أقطار برمتها من دولة الخلافة، ولقيت اعتبارا شرعيا، وهؤلاء هم: أبو حنيفة في العراق، المتوفى عام 150ه. والأوزاعي (وهو أقلهم شهرة) في سوريا، المتوفى عام 157ه، ومالك بن أنس في الحجاز، المتوفى عام 159ه.
وبعد «إدوارد سخاو» نجد «جولدتسهير»، في بحث ضخم قيم له عن أهل الظاهر، نشر بمدينة «ليبزج» عام 1884م، يتحدث عن مدى نجاح استعمال القياس والاستحسان في عهد أبي حنيفة، وإنه من العسير تقدير مدى هذا النجاح تقديرا دقيقا، وذلك - كما يقول - لعدم المصادر المحايدة لتاريخ أقدم مراحل النمو في الفقه الإسلامي.
ثم يذكر بعد ذلك أن كل ما يمكن أن نعلمه هو أمران:
أولا:
أن الفقه المبني على الرأي، الذي لا يعترف بأهمية راجحة للمواد المأخوذة عن المصادر المأثورة، لم يصل إلى ازدهار قبل أبي حنيفة.
ثانيا:
أن أبا حنيفة قام بالمحاولة الأولى في البناء على الأعمال السابقة، لتقنين الشرع الإسلامي على أساس القياس، فذلك ما لم يحصل من قبل إلى زمنه، فقد ظهر في عهده عرض منهجي للفقه الإسلامي المبني على أساس القياس.
رأي الفقهاء والمعاصرين فيه
وبعد رأي هذين المستشرقين في أبي حنيفة، وفي أنه كان صاحب طريقة ومذهب في الفقه يقوم على الرأي والقياس، ينبغي أن نأتي على شيء من آراء الفقهاء والمعاصرين له في فقهه وأسسه، وحينئذ يتبين لنا بوضوح أن المذهب الذي عرف حري أن ينسب حقا إليه، وسنكتفي هنا بمرجع واحد، وهو الخطيب البغدادي؛
3
وذلك لأننا سنتكلم فيما بعد بتفصيل عن هذه الأسس والأصول لمذهب أبي حنيفة؛ ولأن الخطيب جمع لنا في كتابه ما قيل عن الإمام مدحا وذما في غير محاباة بطي إحدى الناحيتين.
ها هو ذا محمد بن سلمة يذكر أن خلف بن أيوب قال: «صار العلم من الله تعالى إلى محمد
صلى الله عليه وسلم ، ثم صار إلى أصحابه، ثم صار إلى التابعين، ثم صار إلى أبي حنيفة وأصحابه، فمن شاء فليرض، ومن شاء فليسخط.»
4
ثم نرى الإمام الشافعي يقول - كما يحدث عنه حرملة بن يحيى: «من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة.» ويذكر أبو عبيد أنه سمع الشافعي يقول: «من أراد أن يعرف الفقه فليلزم أبا حنيفة وأصحابه، فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه.» ويذكر عبد الله بن الزبير الحميدي أنه سمع سفيان بن عيينة يقول: «شيئان ما ظننت أنهما يجاوزان قنطرة الكوفة وقد بلغا الآفاق؛ قراءة حمزة، ورأي أبي حنيفة.»
ويحدث علي بن المديني أنه سمع عبد الرزاق يقول: «كنت عند معمر فأتاه ابن مبارك، فسمعنا معمرا يقول: ما أعرف رجلا يحسن أن يتكلم في الفقه، أو يسعه أن يقيس ويشرح لمخلوق طريق النجاة في الفقه، أحسن معرفة من أبي حنيفة ...» وكذلك يحدث عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه سمع أباه يقول: «ما رأيت أحدا أفقه من أبي حنيفة ...» وفي الموازنة بينه وبين معاصره سفيان الثوري يقول أبو مطيع الحكم بن عبد الله: «ما رأيت صاحب حديث أفقه من سفيان الثوري، وأبو حنيفة أفقه منه.» وقد سئل يزيد بن هارون: أيما أفقه، أبو حنيفة أو سفيان؟ فقال: «سفيان أحفظ للحديث، وأبو حنيفة أفقه.»
وبعد ذلك كله، آن لنا أن نأخذ مما نقله الخطيب من هذه الطعون في أبي حنيفة وذمه، وهو شيء كثير،
5
دليلا على أنه كان حقا صاحب طريقة ومذهب يعتبر جديدا في الفقه؛ فإن كثيرا من هذه الطعون يقوم على رفضه كثيرا من الأحاديث والآثار، وجنوحه إلى الرأي والقياس، وهذا ما اعتبره معاصروه ومن إليهم طريقة أو مذهبا جديدا في الفقه واستنباط أحكامه.
فإنه ليروى أنه خالف مائتي حديث، بل يذكر يوسف بن أسباط أنه رد على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أربعمائة حديث أو أكثر، ويصرح بعضهم بأن أمر الناس كان مستقيما حتى ظهر أبو حنيفة بالكوفة، وعثمان البتي بالبصرة، وربيعة بن عبد الرحمن بالمدينة، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. وسيجيء الرد عن هذه التهمة في موضعه إن شاء الله تعالى، وحينئذ يتبين أنه لا أساس لها.
على أنه من الأمانة في البحث أن نذكر أن «شاه ولي الله الدهلوي» يقول عن أبي حنيفة ومذهبه ما ننقله حرفيا عنه:
6 «كان أبو حنيفة رضي الله عنه ألزمهم بمذهب إبراهيم النخعي وأقرانه، لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه، دقيق النظر في وجوه التخريجات، مقبلا على الفروع أتم إقبال. وإن شئت أن تعلم حقيقة ما قلنا، فلخص أقوال إبراهيم وأقرانه من كتاب الآثار لمحمد رحمه الله، وجامع عبد الرزاق، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة، ثم قايسه بمذهبه تجده لا يفارق تلك الحجة إلا في مواضع يسيرة، وهو في تلك اليسيرة أيضا لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة.»
وإذا، فأبو حنيفة - في رأي ولي الله الدهلوي - ليس له من فضل في بناء المذهب الذي ينسب إليه إلا فيما يتصل بخريج المسائل ووجوه هذا التخريج، وذلك على أصول مذهب النخعي الذي عرفه عن شيخه حماد بن أبي سليمان، ثم بالمهارة في التفريع على هذه الأصول؛ وذلك كله ليكون مذهبا قابلا للتطبيق، ووافيا بحاجات الحياة العملية المتجددة دائما في كل زمان ومكان.
ونحن من جانبنا نرى أن في هذا القول غمطا كبيرا لقيمة أبي حنيفة في تشييد المذهب الذي عرف به، والأدلة على هذا نراها قاطعة وملموسة، إذا ما أجلنا النظر في كتب الإمام محمد بن الحسن التي دون فيها هذا المذهب، وهي كتب «ظاهر الرواية» المعروفة، والتي تسمى أيضا بكتب الأصول، وكتب أو مسائل النوادر.
فمن هذه الكتب التي تعتبر عمد المذهب، نرى الإمام لم يلتزم دائما رأي إبراهيم النخعي؛ بل كانت له آراء سرت إليه من غيره من الفقهاء السابقين، كما كانت له آراء مستقلة ذهب إليها، بناء على الأصول التي كان يرجع إليها والتي سنتحدث عنها بعد قليل.
ومن الأدلة على استقلاله بالرأي عن حماد وشيخه إبراهيم النخعي، هذه المثل التي نكتفي بذكرها، وكلها مأخوذة من كتاب الآثار لمحمد بن الحسن الذي أشار إليه الدهلوي نفسه:
7 (أ)
يرى النخعي أن من قال لامرأته: «أنت علي حرام .» ونوى بذلك الطلاق، كانت طلقة واحدة رجعية، على حين يرى أبو حنيفة: أن الأمر يكون على ما نوى واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، وإن نوى الكذب فليس بشيء. (ب)
وإذا قال الزوج لزوجته: «أمرك بيدك.» فاختارت زوجها، كان ذلك طلقة واحدة، على حين يرى أبو حنيفة أن الأمر يكون على ما نواه الزوج؛ فإن نوى واحدة أو اثنتين فهي واحدة بائن، وإن نوى ثلاثا فهي ثلاث. (ج)
ويرى النخعي أن من أقرض آخر شيئا من الورق ثم قضى المدين دينه بأفضل منه كان ذلك مكروها؛ لأن الورق بالورق فيه شبهة الربا. ويرى أبو حنيفة أنه لا بأس في هذا ما لم يكن شرطا اشترطه عليه، فإذا كان شرطا اشترطه فلا خير فيه. (د)
وإذا سرق رجل وقطعت يده جزاء ما اقترف، هل يضمن المال الذي سرقه؟ يرى النخعي أنه يضمن. ويرى أبو حنيفة أنه لا يضمن؛ إلا أن يوجد المسروق بعينه فيرد حينئذ لصاحبه.
ومع ذلك، نحن نؤمن بالتطور وبعامل الزمن في إنضاج الآراء والنظريات والمذاهب، وهذا ما نجده في الفقه وفي غيره من ضروب المعارف والعلوم؛ وإلا كان أمرا يتعذر تفسيره أن نرى الإمام مالك بن أنس مثلا يكتب موطأه المعروف.
لقد وقف الإمام أبو حنيفة على ما استطاع أن يقف عليه من سنة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وأقوال الصحابة ومن تلاهم من التابعين، وعني بالنظر في تعليل الأحكام التشريعية كما وردت في الكتاب والسنة، فكان له بعد ذلك أن ينظم هذه المادة الفقهية الضخمة، وأن يجعل من «الرأي» الذي عرف من قبل «القياس» الذي استخدمه وأجاد استخدامه في استنباط الأحكام بقياس المجهول حكمه على ما نص على حكمه.
وبهذا، كان له فضل وضع طريقة منظمة - أو مذهب منظم - لبناء جانب كبير من الفقه على أساس القياس، وصارت هذه الطريقة معترفا بها، وسار بها تلاميذه وأنصاره من بعده إلى آخر المدى. والأمر في ذلك طبيعي وبدهي؛ فكل جيل ينتفع بعمل الأجيال السابقة، كما يضم إلى ما ورثه من تراث، لبنات أخرى.
وبهذا أيضا يكون الفقه، قبل غيره من العلوم، يصور لنا سلسلة متصلة الحلقات من الجهود والتطور الدائم الذي يجب ألا ننساه أو ننسى أثره الكبير. وأخيرا، نذكر أن باحثا محدثا، هو المرحوم الأستاذ أحمد أمين، تناول أبا حنيفة وفقهه بإيجاز، وكان مما انتهى إليه قوله:
8
مما لا نشك فيه أن أبا حنيفة خرج على الناس بمذهب جديد، فيه حرية للعقل بكثرة استعمال الرأي والقياس، وبما استتبع ذلك من كثرة الفروع ورجوعها إلى أصول، وبمقدرة فائقة في الاستنباط، وبشجاعة في مواجهة المسائل - حتى الفرضية منها - والإفتاء بها، وبتعرف وجوه الحيل في المسائل في الحدود التي ذكرناها، وبتقريب الفقه إلى الأذهان.
أصول أبي حنيفة
والآن، وقد ثبت - كما رأينا - أن لأبي حنيفة طريقة في استنباط الأحكام لها ما يميزها، ومذهبا عرف به حقا، فما أسس هذه الطريقة، وما أصول هذا المذهب؟ ولعلنا نهتدي بفضل الله وعونه للجواب عن هذا السؤال، إذا بحثنا أولا رأي الإمام نفسه في فقهه وأصوله، ثم بحثنا آراء خصومه في بعض هذه الأصول؛ فبهذا وذاك، نصل إلى الحق الذي نرجوه.
فمن المسألة الأولى، ننقل عن ابن عبد البر صاحب الانتقاء (ص142 وما بعدها) هذه الروايات، التي نراها كلها أو بعضها عند غيره أيضا وهي: (أ)
سمع رجل أبا حنيفة يقول: آخذ بكتاب الله، فما لم أجد، فبسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فما لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله
صلى الله عليه وسلم
أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم. (ب)
ويذكر ابن المبارك أنه سمع سفيان الثوري يقول بأن أبا حنيفة كان شديد الأخذ للعلم، ذابا عن حرم الله أن تستحل، يأخذ بما صح عنده من الأحاديث التي كان يحملها الثقات، وبما صح عنده من فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وبما أدرك عليه علماء الكوفة، ثم شنع عليه قوم يغفر الله لنا ولهم. (ج)
ويروي يحيى بن خريس أن أبا حنيفة قال: إذا لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، نظرت في أقاويل الصحابة، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم. فإذا انتهى الأمر، أو جاء الأمر، إلى إبراهيم (النخعي) والشعبي وابن سيرين، والحسن، وعطاء، وسعيد ابن المسيب، وعدد رجالا؛ فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا. (د)
ويروي أبو حمزة أنه سمعه يقول: إذا جاءنا الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أخذنا به، وإذا جاءنا عن الصحابة تخيرنا، وإذا جاءنا عن التابعين زاحمناهم. (ه)
ويحدث أبو عصمة أنه سمعه يقول: ما جاءنا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبلناه على الرأس والعينين، وما جاءنا عن أصحابه رحمهم الله اخترنا منه، ولم نخرج عن قولهم (لعل الصحيح: أقوالهم)، وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال، ثم يختم الراوي حديثه بقوله: وأما غير ذلك فلا تسمع التشنيع.
وإذا أضفنا إلى هذه النقول ما هو مجمع عليه من المؤرخين من أن أبا حنيفة كان إمام أهل الرأي والقياس، يتبين لنا أن أصول مذهبه كانت القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، وما إليه من الاستحسان.
تهمته بالغلو في القول برأيه
ولكن، نراه يذهب في الاجتهاد بالرأي إلى حد بعيد في مسائل كثيرة تجاوز الحصر، وذلك لبيئته التي نشأ بها، وكثرة مسائلها ومشاكلها التي لا توجد في جميعها نصوص يرجع إليها في إيجاد حلول وأحكام لها، ومن ثم، نرى خصومه، يكثرون عليه من التشنيع، ويرمونه برفض كثير من الأحاديث والعمل برأيه، وهذه هي المسألة الثانية التي يجب بحثها.
وقد أشرنا آنفا إلى هذه التهمة، وهنا موضع الكلام عليها بشيء من التفصيل، ومرجعنا الأول فيها هو الخطيب البغدادي في كتابه المعروف «تاريخ بغداد»:
9 (أ)
يروي أبو إسحاق الفزاري أنه كان يأتي أبا حنيفة، فيسأله عن الشيء من الغزو، فسأله عن مسألة فأجاب فيها، فقال له إنه يروى فيها عن النبي
صلى الله عليه وسلم
كذا وكذا، فقال: دعنا من هذا. (ب)
ويقول سفيان بن عينية: «ما رأيت أجرأ على الله من أبي حنيفة: كان يضرب الأمثال لحديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيرده ، بلغه أني أروي: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا.»
10
فجعل يقول: أرأيت إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في سجن، أرأيت إن كانا في سفر، كيف يفترقان؟!» (ج)
ويذكر أبو صالح الفراء أنه سمع يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أربعمائة أو أكثر، فقلت له: يا أبا محمد، تعرفها؟ قال: نعم. قلت أخبرني بشيء منها، فقال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «للفرس سهمان وللرجل سهم.» قال أبو حنيفة: أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم مؤمن! وأشعر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
البدن، وقال أبو حنيفة: الإشعار مثلة ... وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، وقال أبو حنيفة: القرعة قمار. (د)
ويروون أن حماد بن سلمة قال، وقد ذكر أبا حنيفة: إن أبا حنيفة استقبل الآثار واستدبرها برأيه. وفي رواية أنه قال: إن أبا حنيفة استقبل الآثار والسنن فردها برأيه.
ونقف إلى هذا الحد في نقل هذه الطعون التي أطال فيها الخطيب، وذكر منها الكثير؛ لنلتمس الطريق إلى الحق فيما نقلناه أولا عن أبي حنيفة ومن وصفوا فقهه وأصوله كما سمعوا منه، وفيما نقلناه عن هؤلاء الطاعنين.
وهذا الطريق في رأينا هو أن ننظر أولا فيما يؤخذ من أقوال أبي حنيفة نفسه ردا على ما اتهم به من تجافيه عن السنن والآثار، لا لسبب إلا لجنوحه إلى اجتهاده ورأيه الخاص، ثم ننظر في دفاع القدامى عنه، ومنهم معاصرون له؛ وبعد هذا وذاك، ننظر فيما كتبه بعض المحدثين المعاصرين لنا في هذه المسألة، وأخيرا ننتهي ببيان الرأي الذي نعتبره الحق فيما اختلف فيه أولئك الناس من قدامى ومحدثين. تلك إذا، أربع نقط نتكلم عن كل منها بإيجاز، ثم نعقبها النتيجة التي نستخلصها منها.
رده هو نفسه على ذلك
لقد أحس أبو حنيفة بهذه التهمة في حياته التي لهج بها كثير من الناس، فلم ير بدا من أن يرد عن نفسه، وكان من ذلك ما سبق أن نقلناه من توضيح طريقته وأصول مذهبه، هذه الطريقة وتلك الأصول التي يمكن إيجازها في قوله نفسه: إذا جاء الحديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم نمل عنه إلى غيره وأخذنا به، وإذا جاء عن الصحابة تخيرنا، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم. ومن المفهوم أنه يريد «بالحديث» الذي يجيء عن الصحابة والتابعين، هو الآثار التي تحمل أقوالهم وآراءهم في الفقه، لا الأحاديث التي يروونها عن الرسول
صلى الله عليه وسلم .
ثم نرى بعد هذا نعيم بن عمرو يحدث أنه سمع أبا حنيفة يقول: «عجبا للناس! يقولون إني أفتي بالرأي، ما أفتى إلا بالأثر.»
11
أي متى صح عنده، وإلا اجتهد برأيه طبعا.
دفاع غيره عنه
وكان من الطبيعي أن يجد أبو حنيفة كثيرا من القدامى يدفعون عنه هذه التهمة، ومن هؤلاء معاصرون له، ومنهم متأخرون عنه، وهؤلاء وأولئك كثيرون، فنكتفي من ذلك بالقليل الذي له دلالته فيما نحن بصدده:
12 (أ)
يروي خالد بن صبيح أنه سمع زفر (تلميذ أبي حنيفة) يقول: لا تلتفتوا إلى كلام المخالفين؛ فإن أبا حنيفة وأصحابنا لم يقولوا في مسألة إلا من الكتاب والسنة والأقاويل الصحيحة، ثم قاسوا بعد عليها. (ب)
ويروي عبد العزيز بن أبي رزمة، وقد ذكر علم أبي حنيفة بالحديث، أنه قدم الكوفة أحد المحدثين، فقال أبو حنيفة لأصحابه: انظروا هل عنده من الحديث شيء ليس عندنا؟ قال: وقدم عليهم محدث آخر، فقال (أي أبو حنيفة) لأصحابه مثل ذلك. (ج)
ويقول الحسن بن صالح: كان أبو حنيفة شديد الفحص عن الناسخ من الحديث والمنسوخ، فيعمل بالحديث إذا ثبت عنده عن النبي
صلى الله عليه وسلم
وعن أصحابه، وكان عارفا بحديث أهل الكوفة وفقه أهل الكوفة، شديد الاتباع لما كان عليه الناس ببلده. (د)
ويحدث أحمد بن المفلس أنه سمع يحيى بن آدم، وكان من كبراء المحدثين بالعراق يقول: إن للحديث ناسخا ومنسوخا، كما في القرآن ناسخ ومنسوخ.
وكان النعمان جمع حديث أهل بلده كله، فنظر إلى آخر فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذي قبض عليه فأخذ به، فكان بذلك فقيها. (ه)
ويقول أبو يوسف أكبر أصحابه: ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الحديث ومواضع النكت التي فيه من الفقه من أبي حنيفة، كما يقول في مناسبة أخرى: وكان هو أبصر بالحديث الصحيح مني.
وقريب من هذا، ما روي عن إسرائيل إذ يقول: كان نعم الرجل نعمان! ما كان أحفظه لكل حديث فيه فقه، وأشد فحصه عنه، وأعلمه بما فيه من الفقه.
وبعد هؤلاء جميعا، نرى العلامة المحقق ابن خلدون يتناول مسألة إقلال بعض أئمة الفقه من رواية الحديث، وما يجري ذلك من التهمة لبعضهم، فقال في مقدمته متحدثا عن الأئمة المجتهدين بعامة:
13
اعلم أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة (يريد: علم الحديث) والإقلال ... وقد تقول بعض المبغضين المتعسفين: بأن منهم من كان قليل البضاعة؛ فلهذا قلت روايته. ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة؛ لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، ومن كان قليل البضاعة من الحديث يتعين عليه طلبه وروايته والجد والتشمير في ذلك، ليأخذ الدين عن أصول صحيحة، ويتلقى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها. وإنما قلل منهم من قلل من الرواية؛ لأجل المطاعن التي تعترضه فيها، والعلل التي تعرض في طريقها، لا سيما والحرج مقدم عند الأكثر، فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض من ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد.
والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل، وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي؛ وقلت من أجلها روايته فقل حديثه، لا أنه ترك رواية الحديث، فحاشاه من ذلك.
ويدل على أنه كان من كبار المجتهدين في علم الحديث، اعتماد مذهبه بينهم، والتعويل عليه، واعتماده ردا وقبولا ... فلا تأخذك ريبة في ذلك؛ فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم، والتماس المخارج الصحيحة لهم. والله سبحانه وتعالى أعلم بما في حقائق الأمور .
دفاع بعض المحدثين
وقد تعرض أخيرا لهذه المسألة الهامة في تفصيل وبحث شامل عميق، المغفور له العلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري، وذلك في كتاب صدر عام 1365ه، سماه: «النكت الطريفة في التحدث عن ردود ابن أبي شيبة على أبي حنيفة». وقد جاء في صدر الكتاب هذه الكلمات: «ادعى ابن أبي شيبة مخالفة أبي حنيفة لأحاديث صحيحة في مائة وخمس وعشرين مسألة من أمهات المسائل الاجتهادية؛ فقام هذا الكتاب بتمحيص أدلة الطرفين، كاشفا عن كثير من الحقائق في تفاوت مدارك الفقهاء، وأطوار الفقه الإسلامي، مما له خطر عند الباحثين.»
ونعرف أن المرحوم الأستاذ الأجل الشيخ الكوثري كان شديد الإجلال للأحناف وإمامهم، ومن ثم كان شديد العصبية لأبي حنيفة، وكثيرا ما كان يقول لي ما معناه: إني أحب الإمام أبا حنيفة، فلا تؤاخذني إن رأيت عصبية مني له.
ولكني أعرف مع ذلك، أنه كان بحاثة حقا، وقد أمده الله تعالى بكل ما ينبغي أن يكون عليه الباحث حقا؛ من استعداد طيب جيد للعلم والمعرفة، وبصر بالمراجع الأصلية كان موضع العجب والإعجاب، وجلد على القراءة والبحث وتحري الحقيقة، وقدرة على الموازنة والنقد والترجيح والاستنباط، وكثرة الإنتاج الجيد المحمود.
وهذا الكتاب الذي بين أيدينا حقيق بالتقدير والبحث، وحري بالباحث أن يرجع إليه؛ ولذلك نعتمده في هذه المسألة، ونأخذ عنه ما يعيننا على الوصول إلى الحق، في غير عصبية إلا للحقيقة وحدها. ولن نستطيع هنا، والمجال محدود، أن نسايره في كل المسائل التي تناولها؛ ولذلك لا نجد بدا من تخير بعضها، فتكون نموذجا لسائرها: (1)
روى ابن أبي شيبة في مصنفه أن النبي
صلى الله عليه وسلم
رجم يهوديا ويهودية زنيا، ثم ذكر أن أبا حنيفة قال: ليس عليهما رجم. وهذا الحديث مع ما في أسانيده في رواياته المختلفة من كلام، لم يأخذ به أبو حنيفة لأنه حكاية فعل من الرسول، وقد عارض هذا الفعل قول ينص على اشتراط الإسلام في المحصن إذا زنى، والقول مقدم على الفعل عند التعارض، كما هو معروف، وهو قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «من أشرك بالله فهو غير محصن.»
على أن ابن حجر العسقلاني يقول في فتح الباري:
14
قال المالكية ومعظم الحنفية وربيعة شيخ مالك: شرط الإحصان الإسلام. ورأوا أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قد رجم هذين اليهوديين بحكم التوراة، وكان ذلك أول دخول المدينة، وكان مأمورا باتباع حكم التوراة، حتى ينسخ ذلك في حكم الإسلام. (2)
من المعروف أن الرجل إذا ارتد عن الإسلام يجب قتله شرعا، وفي هذا يقول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «من بدل دينه فاقتلوه.» وذلك بلفظه عام في الرجل والمرأة، كما يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.»
وبعد أن روى ابن أبي شيبة هذا، قال: وذكروا أن أبا حنيفة قال: لا تقتل إذا ارتدت.
وهنا نرى الشيخ الكوثري يجد أن ما رواه ابن أبي شيبة من أحاديث وآثار بقتل المرتدة لا غبار عليها؛ ولكنه يذكر ما رواه أبو هريرة من أن امرأة ارتدت على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلم يقتلها، وكذلك ما يرويه الطبراني في المعجم الكبير، من أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لمعاذ بن جبل: «أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه؛ فإن تاب فاقبل منه، وإن لم يتب فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها؛ فإن تابت فاقبل منها، وإن أبت فاستبقها.» ومعنى هذا، كما جاء عن ابن عباس وغيره، أنها تحبس في السجن حتى تموت أو تتوب.
وهنا، يرى أبو حنيفة أنه رويت أحاديث وآثار تدل على التسوية بين الرجل والمرأة في وجوب القتل إذا أصر أيهما على ردته، وأخرى تجعل الحكم في المرأة أن تستتاب، وإلا حبست حتى تموت أو تتوب؛ وأن في أسانيد بعض روايات الأولى من ترك حديثه أو اتهم بالوضع، فكان أن اعتمد الأحاديث والآثار الأخرى.
ذلك فضلا عن المجمع عليه من أن الحدود تدرأ بالشبهات، ومن أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
نهى عن قتل النساء والصبيان في الحروب؛ فإذا كانت الكافرة الأصلية موضع رفق، فالمرتدة الطارئة الكفر بدار الإسلام أولى بالرفق، كما يقول الشيخ الكوثري، تمكينا لها من العودة إلى حظيرة الإسلام. (3)
روى ابن أبي شيبة في مسألة حصة الفارس والراجل من غنيمة الحرب، وهي من مسائل القانون العام، بضعة أحاديث كل منها يدل على أن للفرس سهمين وللرجل سهما، ثم ذكر أن أبا حنيفة قال: «سهم للفرس وسهم لصاحبه»؛ فلو قاتل إنسان على فرسه كان له سهمان، سهم له وسهم لفرسه، ولو قاتل راجلا كان له سهم واحد. على حين أنه بحسب الأحاديث التي رواها ابن أبي شيبة يكون لمن قاتل فارسا ثلاثة أسهم؛ اثنان للفرس، وواحد له.
لكن أبا حنيفة لم يقل برأيه إزاء هذه الأحاديث؛ بل رأى أحاديث أخرى تدل على أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
أعطى في بعض الغزوات للفارس سهمين وللراجل سهما، وكذلك قال سيدنا عمرو رضي الله عنه حين بلغه من بعض عماله أنه فعل ذلك حين غنم في حرب قام بها.
نظر أبو حنيفة إذا إلى هذه الأحاديث والآثار من ناحية، وإلى تلك من ناحية أخرى، فقال: السهم الواحد - أي للفرس - متيقن به؛ لاتفاق الآثار، وما زاد عليه مشكوك فيه لاشتباه الآثار؛ فلا أعطيه إلا المتيقن، ولا أفضل بهيمة على مؤمن.
15 (4)
وهذه مسألة من مسائل القانون المدني، وهو أهم فروع قسم القانون الخاص، وهي مسألة خيار المجلس المختلف فيه بين الفقهاء، فقد روى فيها ابن أبي شيبة بضعة أحاديث، ومنها قوله
صلى الله عليه وسلم : «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا.» ثم ذكر بعدها أن أبا حنيفة قال: «يجوز البيع وإن لم يتفرقا»؛ أي يتم البيع ويصير لازما إلا إذا كان فيه خيار الشرط مثلا.
وقد بحثنا هذه المسألة في تفصيل عميق من كل نواحيها في كتاب ظهر لنا منذ أعوام.
16
وانتهينا من البحث إلى هذه النتائج: (أ)
أن أحاديث خيار المجلس متفق عليها بين الأئمة جميعا، حتى الإمام مالك بن أنس؛ فقد روى أحدها في موطئه وإن كان لم يعمل به، لدليل رآه أقوى منه. (ب)
أن الذين لا يرون خيار المجلس، ومنهم أبو حنيفة ومالك، يرون أن آية سورة النساء التي تقول:
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، تفيد أنه متى وقع البيع بالإيجاب والقبول عن تراض كان لكل من الطرفين الانتفاع بما أخذ: البائع بالثمن والمشتري بالمبيع؛ وإذا، فقد تم البيع وليس لأحدهما ما يسمى خيار المجلس؛ لأن ذلك لو كان مشروعا لمنع ملك البدل لكل من الطرفين وحل الانتفاع به. (ج)
أن أبا حنيفة يلجأ بعد ذلك إلى أن المراد بالافتراق في «الحديث» هو الافتراق بالقول، بمعنى أن للبائع أن يرجع في إيجابه قبل أن يصدر القبول عن المشتري، وهذا هو معنى الخيار، أما إذا تفرقا بالقول؛ أي رضيا بالبيع وصدر الإيجاب والقبول بلا رجوع من الموجب قبل القبول، فقد تم البيع. (د)
أن أصحاب هذا الرأي قد استدلوا لهذا التأويل مما ورد في القرآن من مثل قوله تعالى (سورة البينة 98: 4):
وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة . وقوله: (سورة آل عمران 3: 301):
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ؛ فإنه من الواضح أنه ليس المراد بالافتراق في ذلك ونحوه الافتراق بالأبدان؛ بل الأقوال.
وبعد هذه النتائج التي انتهينا إليها، لا نرى خيرا في إطالة الحديث عن هذه المسألة؛ فلنتركها إلى غيرها. (5)
وهذه مسألة تتعلق بشعيرة من شعائر الحج، وهي مسألة إشعار الهدي؛ فقد روى ابن أبي شيبة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
خرج عام الحديبية في بضع عشرة ومائة من أصحابه؛ فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم، وبعد هذا، ذكر ابن أبي شيبة أن أبا حنيفة قال: الإشعار مثلة.
17
والخطب هنا يسير؛ فإن الشيء أو العمل الواحد يتغير من حال إلى حال، أو من زمن إلى زمن، فيتغير لذلك حكمه، وقد رأينا كثيرا من هذا فيما كان من صنيع سيدنا عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة والتابعين.
18
والإشعار، وهو موضع الحديث هنا، قد يكون برفق كما كان يصنع الرسول
صلى الله عليه وسلم
الذي غرس الله في قلبه الكبير الرحمة بالإنسان والحيوان معا، فيكون إذا من سننه الشريفة، وقد يكون أحيانا بعنف، فيكون مثلة بالحيوان ينبغي أن ينهى عنها، فلعل أبا حنيفة قال عنه «إنه مثلة» ويريد به ما كان في زمنه.
على أن السيدة عائشة رضي الله عنها تركته، كما خير سيدنا ابن عباس رضي الله عنه بين فعله وتركه.
وكذلك، ليس للمجتهد أن يتسارع إلى قبول النقل والعمل به إلا بعد تصفح العلل والأسباب، وأقصى ما يرمى به المجتهد حين يخالف حديثا في مسألة ما، أن يقال: لم يبلغه الحديث، أو بلغه من طريق لم يرضه. (6)
وهذه مسألة من مسائل القانون المدني في القانون الوضعي، وتدرس في الفقه الإسلامي فيما يصح أن نسميه قانون المرافعات، وهذا هو موضعها في رأينا؛ لأنها مسألة الاكتفاء بشاهد واحد، ويمين المدعي لإثبات دعواه، ولا يطلب إثبات الدعاوى إلا بعد رفعها للقضاء.
وفيها يروي ابن أبي شيبة أحاديث وآثارا تدل على جواز إثبات دعوى المدعي بشاهد واحد ويمين الطالب، ثم ذكر بعدها أن أبا حنيفة قال: لا يجوز ذلك.
وقد عني الشيخ الكوثري في هذه المسألة، ببيان ما في هذه الأحاديث والآثار من علل في طرقها تجيز عدم الأخذ بها، وتجعلها لا حجية فيها.
ثم أشار إلى الآثار والأخبار التي تعارضها، وإلى الفقهاء الذين لم يأخذوا بها وأوجبوا أن يكون نصاب الشهادة رجلين أو رجلا وامرأتين.
ونحن من جانبنا، نرى من الخير أن نأتي ببعض ما ذكرناه في هذه المسألة في كتابنا «عصر نشأة المذاهب» من سلسلة تاريخ الفقه الإسلامي.
19
وذلك إذ نقول:
يقول الله تعالى (سورة البقرة 2: 282):
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء
وإلى هذا ذهب فقهاء العراق كأبي حنيفة والثوري، وآخرون غيرهم مثل عمر بن عبد العزيز بالشام، والليث بن سعد بمصر.
وهم يستدلون فضلا عن كتاب الله بسنة رسوله: فقد ثبت عن الأشعث بن قيس أنه كان بينه وبين رجل خصومة في شيء، فاختصما إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فقال: «شاهداك أو يمينه.» فقال الأشعث: إذا يحلف ولا يبالي، فقال النبي: «من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان.» وكذلك يحدث علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه، في أمر الحضرمي الذي خاصم الكندي في أرض في يده، ادعاها، وجحد الكندي: أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال للحضرمي: «شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك.»
لكن الإمام مالك بن أنس يرى غير ذلك، وأن شهادة واحد للمدعي مع يمينه يعتبر كافيا لإثبات دعواه، وهو يستدل بما رواه من أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قضى باليمين مع الشاهد، وأن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو عامل على الكوفة: أن اقض باليمين مع الشاهد؟ وأن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان ابن يسار سئلا: هل يقضى باليمين مع الشاهد؟ فقالا: نعم.
20
وفي مقابل هذا نرى - كما يقول الليث بن سعد في رسالته إلى مالك - أنه لم يقض بذلك أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالشام وحمص، ولا بمصر، ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز - وهو ما نعرف في إحياء السنن، والجد في إقامة الدين، وفي إصابة الحق، وفي العلم بما مضى من أمر الناس - كتب إليه زريق بن عبد الحكم: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق. فرد عليه بقوله: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة؛ فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين.
21 (7)
وهذه مسألة جواز الانتفاع بالشيء المرهون أو عدم جوازه، وهي مسألة تجري كثيرا في حياتنا العملية، وقد أتى فيها ابن أبي شيبة بحديثين؛ هما: حدثنا وكيع عن زكريا عن عامر عن أبي هريرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «الظهر يركب إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب نفقته.» والثاني رواه وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: «الرهن محلوب مركوب.» ثم ذكر أن أبا حنيفة قال: لا ينتفع به.
وجملة ما ذكره الشيخ الكوثري هنا، هو أن انتفاع المرتهن بما رهن لديه كان جائزا أولا، ثم نسخ بعد ذلك بتحريم الربا، وبتحريم كل قرض جر منفعة؛ ولهذا نجد كثيرا يخالفونه من الصحابة والتابعين.
فهذا الإمام البيهقي يروي في «السنن الكبرى» أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني أسلفت رجلا خمسمائة درهم، ورهنني فرسا ركبتها أو أركبتها، فقال له: «ما أصبت من ظهرها فهو ربا.» والشعبي؛ وقد روى عن أبي هريرة حديثا في جواز الانتفاع بالرهن، نراه يقول بعد: لا ينتفع من الرهن بشيء. وكذلك يقول في رجل ارتهن جارية فأرضعت له: يغرم لصاحب الجارية قيمة إرضاع اللبن. ومثل هذا كان من شريح القاضي، حين سئل عن رجل ارتهن بقرة فشرب من لبنها، فقال: ذلك شرب الربا.
22
إذا، يكون حديث جواز الانتفاع بالرهن منسوخا بما ذكرنا؛ وإلا لما خالفه في العمل والإفتاء هؤلاء وغيرهم. ثم هو - كما يقول الطحاوي وابن عبد البر - ترده أصول مجمع عليها، وآثار لا يختلف في صحتها.
23
ويدل على نسخه أيضا حديث ابن عمر (البخاري في أبواب المظالم) الذي فيه: لا تحلب ماشية امرئ بغير إذنه. (8)
هذا وننتهي من هذا الاستعراض بذكر المسألة المعروفة «ببيع المصراة» وهي البقرة (مثلا) التي يحبس البائع لبنها في ضرعها أياما ليظن المشتري أنها غزيرة اللبن. وقد روى ابن أبي شيبة فيها حديثين هما: (أ) «من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار، إن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر.» (ب) «من اشترى مصراة فهو فيها بخير النظرين، إن ردها رد معها صاعا من طعام أو صاعا من تمر.»
ثم ذكر بعد ذلك أن أبا حنيفة قال بخلافه.
وفي المسألة ، وهي مسألة خيار العيب، أحاديث أخرى، ونكتفي منها بحديث من الثلاثة التي ذكرها البيهقي (السنن الكبرى ج5: 320،318) وهو : «لا تصروا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر.»
ولا يعنينا هنا بحث المسألة من جميع نواحيها، وبيان وجه الحق فيها، فقد استوفينا ذلك في بحث آخر.
24
وإنما الذي يعنينا هو بيان وجهة نظر أبي حنيفة في عدم الأخذ بما ورد في هذه المسألة من أحاديث.
وفي هذه الناحية. يرى الشيخ الكوثري أن الحديث صحيح الإسناد بدون شك؛ ولكن أفق المجتهد أوسع، ونظره في الحديث غير قاصر على ناحية واحدة؛ فربما ظهر للبعض من علة تمنع الأخذ بظاهره ما لا يظهر للآخر، ويعتني هذا المجتهد بموافقة الحديث للأصول المجمع عليها فوق اعتناء ذاك المجتهد بهذا. وقد خالف أبو حنيفة وطائفة من الفقهاء غيرهم في الأخذ بهذا الحديث، وقالوا ليس للمشتري رد المصراة بخيار العيب؛ ولكنه يرجع بالنقصان لوجود ما يمنع الرد، إذ رأوا أن في الحديث اضطرابا واختلافا شديدا في مدة الخيار وفي ما يرده المشتري.
25
ثم لا بد من سلامة المتن من ألا يخالف ما هو أقوى منه من كتاب وسنة وأصل مجمع عليه؛ فالشذوذ والعلة يمنعان من الأخذ بالحديث، فيتوقف المجتهد عن العمل بظاهره. وهذا الحديث معلول لمخالفته لعموم كتاب الله في ضمان العدوان بالمثل، وهذا ما جاء في قوله تعالى (سورة البقرة 2: 194):
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، وفي قوله (سورة النحل 16: 126):
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به . والصاع من التمر ليس بمثل ولا قيمة لما أخذه المشتري من اللبن.
وكذلك، هذا الحديث مخالف لحديث: «الخراج بالضمان» وهو حديث صححه الترمذي وأخذ به جمهور الفقهاء، فلا يكون اللبن مضمونا حيث كانت المصراة تحت ضمان المشتري مدة بقائها عنده ينفق عليها ... إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
والآن نكتفي بهذه المسائل الثمانية؛ ففيها تعريف بوجهة نظر أبي حنيفة حين ترك الأخذ بما جاء فيها وفي أمثالها من أحاديث وآثار. وبعد ذلك نأخذ في بيان رأينا في موقفه هذا . والله يهدي إلى الحق الذي ننشده دائما.
رأينا الخاص
والآن، ما هو رأينا الخاص الذي خلص لنا من التنقيب والبحث والموازنة بين الأقوال والآراء التي اختلفت اختلافا شديدا في أبي حنيفة ومذهبه الذي خرج به على الناس؟ لقد كان من الطبيعي أن ينقسم الناس في أبي حنيفة، شأنه في هذا شأن كل عظيم من رجالات الفكر يأتي بجديد، فكان منهم في العراق نفسه، وهو وطنه الخاص - بله المدينة مثلا مهد الحديث والمحدثين - من يعرف له فضله ومنزلته، فهو يثني عليه ويجله، وربما كان منهم من يبالغ في هذه الناحية فهو يتزيد ويغمره بالمناقب، وكان منهم من يتطلب له العثرات، ويراه قد انحرف عن السبيل السوي، فهو يقدح فيه ويبالغ في ذمه، حتى لينال من دينه. ويرى منهجه ومذهبه في الفقه خطرا على الدين نفسه، وكان جمهرة هؤلاء من أهل الحديث وملتزمي المأثور.
إن تهمة رده للحديث والآثار وأخذه برأيه، وأن ذلك يعتبر تكذيبا للحديث والآثار، يردها كثير من الأقوال التي أثرت عنه، كما يردها كثير من الآراء التي ترك فيها رأيه، اتباعا لما صح عنده من حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، بل اتباعا لبعض الآثار التي رويت عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم: (أ)
فمن الناحية الأولى،
26
نجده يقول في كتاب «العالم والمتعلم» وهو ما رواه عنه أبو مقاتل، وعن أبي مقاتل رواه الموفق المكي في «المناقب».
27
لأحد سائليه من تلاميذه عن مسألة تتعلق بأصول الدين: «فردي على كل رجل يحدث عن النبي
صلى الله عليه وسلم
بخلاف القرآن، ليس ردا على النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولا تكذيبا له؛ ولكنه رد على من يحدث عن النبي
صلى الله عليه وسلم
بالباطل. والتهمة دخلت عليه ليس على نبي الله عليه السلام، وكذلك كل شيء تكلم به نبي الله عليه الصلاة والسلام، سمعناه أو لم نسمعه، فعلى الرأس والعينين، قد آمنا به ونشهد أنه كما قال نبي الله، ونشهد أيضا على النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه لم يأمر بشيء نهى الله عنه، ولم يقطع شيئا وصله الله، ولا وصف أمرا وصف الله ذلك الأمر بغير ما وصف النبي، ونشهد أنه كان موافقا لله في جميع الأمور، ولم يبتدع ولم يتقول على الله غير ما قال الله تعالى ولا كان من المتكلفين؛ ولذلك، قال الله تعالى:
من يطع الرسول فقد أطاع الله .»
ويذكر ابن عبد البر أنه قيل لأبي حنيفة: المحرم لا يجد الإزار يلبس السراويل؟ قال: لا؛ ولكن يلبس الإزار، قيل له: ليس له إزار؟ قال: يبيع السراويل ويشتري بها إزارا، قيل له: فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
خطب وقال: «المحرم يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار.» فقال أبو حنيفة: لم يصح في هذا عندي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
شيء فأفتي به، وينتهي كل امرئ إلى ما سمع، وقد صح عندنا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «لا يلبس السراويل» فننتهي إلى ما سمعناه. قيل له: أتخالف النبي
صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: لعن الله من يخالف رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، به أكرمنا الله، وبه استنقذنا.
28 (ب)
وليس هذا قولا يقوله بلسانه ولا يعمل به؛ بل نرى من آرائه ما يصدقه؛ فإن يحيى بن آدم، وكان من كبار فقهاء المحدثين بالعراق، وأعلم الناس بحديث أهل الكوفة بعد أبي بكر بن عياش، يقول: زعم بعض الطاعنين أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى قال بالقياس وترك الأثر، وهذا بهت منه وافتراء عليه، فإن كتبه وكتب أصحابه مملوءة من المسائل التي تركوا العمل فيها بالقياس، وأخذوا بالأثر الوارد فيها. ثم ذكر بعد هذا بعض هذه المسائل؛ ومنها انتقاض الطهارة بالضحك في الصلاة، وانتقاض الوضوء بالنوم مضطجعا، وبقاء الصوم مع الأكل ناسيا، وأشباه هذا مما يكثر تعداده.
29
ولنا أن نضيف إلى هذه المسائل أخرى يتضح فيها شدة حرص أبي حنيفة على الأخذ بالحديث متى صح عنده ، ومن هذه مسألة اختلف فيها في الرأي مع معاصريه: ابن أبي ليلى وابن شبرمة، وكان مستند كل من الثلاثة حديث مفرد اتصل به ولم يتصل به في المسألة سواه، وقد روى هذه المسألة وملابساتها ... ابن السيد البطليوسي المتوفى عام 521ه، فنكتفي بالإشارة إليها:
30
وهي أن رجلا سأل كلا من الثلاثة هذا السؤال: ما تقول في رجل باع بيعا وشرط (أي فيه) شرطا؟ وكانت إجابة أبي حنيفة: أن البيع باطل والشرط باطل، وإجابة ابن شبرمة أن كليهما جائز، وإجابة ابن أبي ليلى أن البيع جائز والشرط باطل. وكان من السائل أن عجب من هذا الاختلاف، وقال: سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة! وحين وقف كل من الثلاثة على رأي كل من صاحبيه، لم يجد لأحد منهما مستندا لرأيه إلا حديثا عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
يتمسك به إذ لم يعرف حديثا آخر مما اتصل بمعاصريه الاثنين.
وعلينا بعد هذه الناحية وتلك، لتقدير موقف أبي حنيفة من الحديث والآثار والرأي، أن نفطن لأمر فطن له المتقدمون، ويجب أن يضعه نصب عينيه كل من يتصدى للفقه وتاريخه وتقدير رجاله.
وهذا الأمر، هو أن من الحق أن معين الفقه الأول هو كتاب الله وسنة رسوله؛ ولكن هذه المواد الغزيرة لا يحسن استنباط الأحكام الفقهية منها إلا العارف بعلوم القرآن وعلوم الحديث؛ وذلك ليكون على بينة حين يستند إلى هذه الآية أو هذا الحديث، أو حين يتجاوز تلك الآية أو ذلك الحديث. وبهذا يكون الفقيه مثله مثل الطبيب الذي يجد أمامه كثيرا من العقاقير، فيفيد مما ينبغي الإفادة منها عن علم وبينة.
ولعل هذا الذي نقول هو ما جعل يزيد بن هارون، وقد جاءه مستفت، فسأله عن مسألة، وعنده يحيى بن معين وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وآخرون، فقال له: اذهب إلى أهل العلم، فقال له ابن المديني: أليس أهل العلم والحديث عندك! فقال: أهل العلم أصحاب أبي حنيفة، وأنتم صيادلة.
31
وفي هذا يذكر أبو رجاء الهروي أنه سمع أبا حنيفة يقول: مثل من يطلب الحديث ولا يتفقه، مثل الصيدلاني يجمع الأدوية ولا يدري لأي داء هو حتى يجيء الطبيب، هكذا طالب الحديث، لا يعرف وجه حديثه حتى يجيء الفقيه!
32
ومن ثم، يذكر سويد بن نصر أنه سمع ابن المبارك يقول: لا تقولوا رأي أبي حنيفة، ولكن قولوا تفسير الحديث.
33
وأخيرا فإن النتيجة التي استخلصناها من هذا التنقيب والبحث، أنه ليس لباحث منصف أن يرمي أبا حنيفة بأنه كان يترك عامدا بعض ما صح عنده من الحديث والآثار ليأخذ بالرأي والقياس، حاشاه أن يكون فعل شيئا من ذلك؛ وإلا لما كان مؤمنا حقا برسول الله صلى الله وما جاء عنه، بله أن يكون إماما من أئمة الشريعة الإسلامية الخالدين.
غاية ما في الأمر أنه كان بصيرا بالأحاديث والآثار، وكان له أصول وقواعد في «فقه الحديث» - إن صح هذا التعبير - وكان يرجع إليها فيما يأخذ ويدع. ولعل من الخير أن ننقل بعض ما ذكره هذا التعبير - وكان يرجع إليها فيما يأخذ ويدع، ولعل من الخير أن ننقل بعض ما ذكره العلامة الشيخ الكوثري في خاتمته لكتابه الذي ذكرناه فيما قبل وأفدنا كثيرا منه، وذلك إذ يقول:
34
قد تبين مما بسطناه في تحقيق أدلة ابن أبي شيبة في تلك المسائل أن أبا حنيفة كان يأخذ بالأحاديث الصحيحة المستجمعة لشروط الصحة المعتبرة عنده في بيان مجمل الكتاب والسنة، وفيما لا معارض له أقوى: كعمومات الكتاب أو ظواهره، أو الخبر الصحيح المحتف بالقرائن، أو الخبر المشهور أو التواتر.
وعند وجود معارض كهذه يأخذ بالمعارض الأقوى عملا بأقوى الدليلين، فيؤول الخبر الآخر بوجوه تأويل تظهر له مما يستسيغه أهل الفقه في الدين، ويحتم الأخذ بما يبرئ الذمة بيقين عند اختلاف الروايات، ويسعى جهده في عدم إهدار تصرف العاقل بقدر ما يمكن ... ويرعى جانب الفقراء والأرقاء وسائر الضعفاء في الأحكام المختلف فيها، جريا على الرفق بالضعيف المطلوب في الشرع، ويفسر الأدلة المحتملة بما هو في مصلحة من توقع عليه العقوبات أخذا بقاعدة درء الحدود بالشبهات ، ويعتمد على القواعد العامة، باعتبار أن القواعد العامة يقينية في الشرع، وخبر الآحاد الذي له معارض في أدنى درجات النظر. ويميل إلى الأخذ بالدليلين ما أمكن الأخذ بهما، ولا يحمل أحدهما على أنه منسوخ، ما لم يتعذر الجمع بينهما. وعند اضطراره إلى الحكم على أحد الدليلين بأنه منسوخ، يأبى أن يقول بما يستلزم تكرر النسخ حين يرى ذلك خلاف الأصل. وتلك أسس لا غبار عليها في فهم أهل الفقه في الدين.
هذا، وقد بحث الحافظ محمد بن يوسف الصالحي هذا الأمر في كتابه «عقود الجمان في مناقب أبي حنيفة النعمان» ودفع بحق ما اتهم به أبو حنيفة من تركه الأخذ ببعض الأحاديث والآثار، وبين أصوله في ذلك، وهو بحث جيد للصالحي، فيحسن الرجوع إليه والإفادة منه.
وبعد، لقد طال الكلام على طريقة أبي حنيفة وفقهه، وقد تشعب البحث فيه كما رأينا، ثم انتهى بنا إلى النتيجة التي نعتقد فيها أنها الحق. وعلينا بعد ذلك، أن ننتقل إلى البحث الذي يليه، وهو عرض بعض آرائه ومسائله الفقهية، وذلك حتى نتعرف النزعات أو الاتجاهات التي سادت تفكيره الفقهي.
اتجاهات فقه أبي حنيفة
اتجاهاته العامة
نقلنا عن العالم الأجل المرحوم الشيخ الكوثري، من ختام كتابه «النكت الطريفة في التحدث عن رد أبي شيبة على أبي حنيفة»، أن هذا الإمام الأعظم كان يحتم الأخذ بما يبرئ الذمة بيقين عند اختلاف الروايات، ويسعى جهده في عدم إهدار تصرف العاقل بقدر ما يمكن، ويرعى جانب الفقراء والأرقاء وسائر الضعفاء في الأحكام المختلف فيها، ويفسر الأدلة المحتملة بما هو في مصلحة من توقع عليه العقوبات أخذا بقاعدة درء الحدود بالشبهات.
فهل هذه النزعات، إلى أخرى بجانبها، كانت تقوده في اجتهاده؟ أو أن اجتهاده قاد إليها، من غير أن يكون الإمام قد نظر إليها وصدر عنها؟
نحن نرى أن ترجيح هذا الجانب أو ذاك غير ميسور لنا الآن، ولن يكون ميسورا إلا إذا استقصينا آراءه في المسائل التي عني ببيان وجه الحق فيها، وهيهات أن يصل باحث إلى هذا الاستقصاء! فهذه المسائل بلغت من الكثرة حدا يكاد يتعذر معه الوقوف عليها جميعها، وحسبنا أن نشير إلى أنها بلغت في رأي بعض من كتبوا عنه مئات الآلاف!
1
وذلك فضلا عن أنها منثورة هنا أو هناك في تضاعيف الكتب التي ليست بين أيدي الباحثين اليوم.
ومع هذا، فإن بين أيدينا من المراجع المعتبرة ما يمدنا بكثير من آراء أبي حنيفة في كثير من الوقائع والمسائل: ومن هذه الآراء ما يجعلنا قادرين على معرفة كيف كان يجتهد، وعلى معرفة ما طبع آراءه من نزعات مختلفة، نكاد نراها جميعها نزعات اجتماعية تدعو إلى هذه المعاني وما إليها: (أ)
التيسير في العبادات والمعاملات، وذلك من أسس الشريعة الإسلامية. (ب)
رعاية جانب الفقير والضعيف، وهذا ما يوصي به القرآن. (ج)
تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان. (د)
رعاية حرية الإنسان وإنسانيته. (ه)
رعاية سيادة الدولة ممثلة في الإمام.
على أنه يجب ألا ننسى أن المسألة الواحدة من تلك المسائل قد تتحقق فيها نزعة واحدة أو أكثر، وذلك أمر نراه طبيعيا، وحينئذ نضعها في الجانب الأظهر فيها.
التيسير في العبادات والمعاملات
من الدعائم التي قام عليها التشريع الإسلامي التيسير، برفع الحرج ودفع المشقة، سواء في هذا ما أتى به من عقائد وعبادات وتشريعات. وفي هذا جاء في القرآن العظيم قوله تعالى (سورة البقرة آية 185):
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
وقوله (سورة الحج آية 78):
وما جعل عليكم في الدين من حرج ، كما جاء في الحديث أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قال: «يسروا ولا تعسروا.»
2
لا جرم إذا، أن يراعي الفقهاء هذا الأساس فيما يذهبون إليه من آراء، وإن كانوا يتفاوتون في التطبيق؛ وذلك بحسب ما يذهب إليه كل منهم من الأدلة والأصول، وبحسب ما يظهر لكل منهم من وجوه التخريج والترجيح.
وهذا الأساس لم يفت طبعا أبا حنيفة، ونراه واضحا في كثير من آرائه التي ذهب إليها في مسائل عديدة مختلفة، ونكتفي هنا بذكر بعض المسائل من العبادات، والبعض من المعاملات: (1)
ففي باب الطهارة من قسم العبادات. يرى أبو حنيفة أنه إذا أصاب البدن أو الثوب نجاسة جاز غسله بكل مائع طاهر يزيلها، ولا يتعين في ذلك الماء وحده؛ على حين ذهب الشافعي إلى أن الطهارة لا تجوز إلا بالماء، وهذا هو قول محمد بن الحسن أيضا.
ومما احتج به أبو حنيفة في هذا، قوله تعالى:
وثيابك فطهر ، وهذا نص مطلق لا يجوز تقييده من غير دليل، وكذلك أمر الرسول
صلى الله عليه وسلم
بغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب، والغسل غير مختص بالماء، ثم إن المطلوب هو إزالة ما يعلق بالجسم أو الثوب من نجاسة، وهذا كما يكون بالماء يكون بغير الماء كالخل وماء الورد ونحوه؛ بل قد تكون إزالة النجاسة بهذين ونحوهما أبلغ وأتم على ما هو معروف.
3 (2)
ويحدث علي بن مسهر أنهم كانوا عند أبي حنيفة فأتاه عبد الله بن المبارك، فقال له: ما تقول في رجل كان يطبخ قدرا فوقع فيها طائر فمات؟ فقال أبو حنيفة لأصحابه: ما تقولون فيها؟ فرووا له عن ابن عباس أنه قال: يهراق المرق ويؤكل اللحم بعد غسله. فقال أبو حنيفة: هكذا يقول؛ إلا أن فيه شريطة، إن كان وقع فيها في حال غليانها، ألقي اللحم وأريق المرق، وإن كان وقع فيها في حال سكونها، غسل اللحم وأكل ولم يؤكل المرق.
وهنا، يقول له ابن المبارك: من أين قلت هذا؟ فيجيء أبو حنيفة بهذا التعليل المقبول المعقول؛ وهو أن اللحم والمرق سيداخلها طبعا شيء من الطائر متى وقع في القدر، وهي تغلي، ولم يكن اللحم قد نضج بعد، على حين أن الأمر لا يكون كذلك إن وقع الطائر في القدر حال سكونها، وقد نضج اللحم.
4 (3)
وفي الصلاة، يرى أن من صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة أو حالة اشتباه الأمر عليه بعد أن تحرى جهده، ثم ظهر أنه أخطأ في اجتهاده، صحت صلاته وليس عليه أن يعيدها؛ على حين يرى الإمام الشافعي أن عليه أن يعيد صلاته متى تبين له بعد أن استدبر القبلة فيها.
ويستدل أبو حنيفة لما ذهب إليه هو وأصحابه بقوله تعالى:
فأينما تولوا فثم وجه الله ، وهذه الآية نزلت إثر حادث يرويه الترمذي عن عامر بن ربيعة إذ يقول: كنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة؟ فصلى كل رجل على حياله، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى:
أينما تولوا فثم وجه الله ؛ أي قبلته.
والمراد بهذا الحكم الذي جاء به هذا النص حالة الاشتباه، وهو نص مطلق فلا يجوز تقييده بغير من صلى مستدبرا القبلة بغير دليل. ثم إنه في مثل هذه الحالة ليس على الإنسان إلا التحري جهده، فهذا كل ما يستطيعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فلا يجب عليه الإعادة، كما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء.
5 (4)
وهناك هذه المسألة، وهي فيمن له حق استعمال رخصة السفر والإفادة منها في قصر الصلاة وفي الفطر إذا كان صائما؛ أهو المسافر في طاعة أو في معصية، أو الأول فقط؟
يرى أبو حنيفة وأصحابه أن المطيع والعاصي في رخصة السفر سواء. ويرى الشافعي هذه الرخصة لا تكون للمسافر في معصية، كمن سافر لقطع الطريق مثلا.
وحجة أبي حنيفة النصوص المطلقة في هذا؛ أي التي لا تفرق في الرخصة بين سفر المطيع وسفر العاصي؛ وهي قوله تعالى:
فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر
وقوله
صلى الله عليه وسلم : «فرض المسافر ركعتان.»
ومن ناحية أخرى، فإن الله لطيف بعباده جميعا، حتى إنه ليمتع الكافر بكثير من طيبات هذه الحياة، فكيف يمنع الفاسق المسافر لمعصية هذه الرخصة؛ وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب أن يؤتى برخصه كما يجب أن يؤتى بعزائمه، وهذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.» (5)
وفي باب الصوم. يرى أبو حنيفة أن من صام يوما من شهر رمضان وهو شاك أنه منه أو من شعبان، ثم علم بعد ذلك أنه من رمضان، أجزاه.
وبهذا الرأي أخذ أصحاب الإمام، على حين رأى ابن أبي ليلى أنه لا يجزيه ذلك، وعليه قضاء يوم مكانه.
6 (6)
وفي الزكاة يذكر أبو يوسف أنه إذا كان على رجل ألف درهم، وله على الناس دين ألف درهم، وفي يده ألف درهم، فإن أبا حنيفة كان يقول: ليس عليه زكاة فيما بين يديه حتى يخرج دينه فيزكيه، وكان ابن أبي ليلى يقول: عليه فيما بين يديه زكاة.
7
وكذلك. يرى ابن أبي ليلى أن زكاة الدين تجب على الذي هو عليه؛ لأنه هو الذي يستعمله وينتفع به. على حين يرى أبو حنيفة أنها على صاحب الدين متى وصل إلى يديه، وحينئذ عليه أن يزكيه لما مضى. وبعد أن ذكر أبو يوسف هذين الرأيين قال: كذلك بلغنا عن علي بن أبي طالب، وبه نأخذ.
8 (7)
وفي الزكاة، يجيز أبو حنيفة إخراج القيمة مكان ما نص عليه من الشياه والإبل والغنم؛ وذلك لما روي عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
من جواز ذلك، ولأن سيدنا معاذ بن جبل قال لأهل اليمن حين ذهب إليهم لأخذ صدقاتهم المفروضة: «ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم في الصدقة؛ فإنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين والأنصار بالمدينة.»
9
ثم إن المقصود - كما يقول صاحب الغرة المنيفة الإمام سراج الدين أبو حفص عمر الغزنوي المتوفى عام 773ه - من أخذه الزكاة هو إغناء الفقير، استجابة لقوله
صلى الله عليه وسلم «أغنوهم عن المسألة.» وذلك يكون بدفع القيمة، أو إخراج المنصوص عليه، كما قد يكون دفع القيمة أنفع للمحتاج أحيانا كثيرة. (8)
ويتصل بهذا، أن أبا حنيفة رأى أنه إذا كانت أرض خراجية (أي مما فتح عنوة) في يد مسلم، فإنه ليس عليه فيها عشر؛ إذ لا يجتمع العشر والخراج في أرض رجل مسلم، وهذا ما روي عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم ، على ما يقوله الإمام السرخسي في مبسوطه.
10 (9)
وفي المعاملات، إذا اشترى رجل شيئا لغيره بأمره فوجد به عيبا، كان للمشتري أن يخاصم البائع في ذلك، ولا يكلف أن يحضر الآمر الذي اشترى له، كما ليس عليه أن يحلف أن من اشترى له رضي بهذا العيب، إن زعم البائع ذلك.
هذا رأي أبي حنيفة، ويقول أبو يوسف: «وبه نأخذ.» أما معاصره محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، فكان يقول: لا يستطيع المشتري أن يرد السلعة التي بها العيب حتى يحضر الآمر فيحلف ما رضي بالعيب، ولو كان غائبا بغير ذلك البلد.
11 (10)
يجوز شراء أي نوع من الثمر قبل أن يبلغ نضجه، إذا لم يشترط على البائع تركه حتى يبلغ؛ وحينئذ عليه أن يقطعه إلا إذا أذن له البائع في تركه حتى يدرك. وكان ابن أبي ليلى يقول: لا خير في بيع شيء من ذلك حتى يبلغ.
12 (11)
ويجيز أبو حنيفة وأصحابه شراء شيء لم يره المشتري، ويكون له حينئذ الخيار في إمضاء البيع أو فسخه. ولا يرى الشافعي وغيره من الفقهاء الآخرين صحة هذا العقد أصلا.
والأحناف يروون في هذا: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه؛ إن شاء أخذه، وإن شاء تركه.»
كما يحتجون أيضا بما روي في ذلك من أن عثمان بن عفان باع أرضا له بالبصرة من طلحة بن عبيد الله، فقيل لطلحة: إنك قد غبنت. فقال: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره. وقيل لعثمان: إنك قد غبنت. فقال: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره. فحكما بينهما جبير بن مطعم، فقضى بالخيار لطلحة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير، فكان إجماعا.
13 (12)
والفقهاء على اتفاق في عدم جواز أن يبيع من اشترى شيئا منقولا ذلك الشيء قبل أن يقبضه ممن اشتراه منه؛ ولكنهم اختلفوا في جواز بيع العقار قبل قبضه من بائعه الأول، فيرى أبو حنيفة جوازه. ويرى الشافعي عدم جوازه.
والشافعي ومن معه يستدلون بأحاديث وردت في المسألة، ومنها ما وري أن حكيم بن حزام قال للنبي
صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها، وما يحرم علي؟ قال: «إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه.»
14
وهنا يرى الأحناف أن المراد بهذا الحديث هو السلعة المنقولة لا العقار، بدليل أن ذلك جاء صريحا في الأحاديث الأخرى التي وردت في المسألة، ومن هذه الأحاديث ما جاء في الصحيحين أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله.» وما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن عمر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه.» وفي رواية أخرى: «حتى يقبضه.»
ثم إن النهي عن بيع المنقول قبل قبضه، سببه خوف الهلاك قبل تسليمه للمشتري الثاني فينفسخ العقد، والهلاك فيه مقصور في العقار فلا معنى للنهي عن بيعه قبل قبضه. (13)
وأبو حنيفة وأصحابه يجيزون تصرف الفضولي إذا باع شيئا مملوكا لغيره، ناظرا في هذا إلى مصلحة المالك، ثم يكون العقد موقوفا على إجازة صاحب الشأن، ويرى الشافعي أن تصرفات الفضولي باطلة؛ لأنه لا ولاية له تجيز الإقدام على هذه التصرفات. ويرى أبو حنيفة أن عقده صحيح؛ لأنه صدر ممن له أهلية عقده، وأضيف إلى محله القابل له، وهو موضوع العقد كالمبيع مثلا.
والحاجة قد تدعو إلى مثل هذه التصرفات، التي تكون فيها مصلحة يعرفها العاقد الفضولي للمالك، وليس في ذلك أي ضرر بأحد؛ لأن المالك له أن يجيز العقد إن كان في هذا مصلحته، وله أن يبطله إن كان الأمر بخلافه، فلا معنى للتعسير بالذهاب إلى بطلان تصرفات الفضولي من أول الأمر، كما يرى الشافعي وغيره من الفقهاء.
15 (14)
يرى أبو حنيفة أن الوكيل في البيع يجوز بيعه بالقليل والكثير، على حين يرى الشافعي أنه لا يجوز بيعه بنقصان فاحش عن ثمن المثل.
ويحتج أبو حنيفة بأن التوكيل صدر مطلقا من الموكل؛ أي لم يقيد الوكيل بالبيع بثمن المثل أو بنقصان يسير، وإذا فله أن يبيع بما يرى في غير موضع التهمة، فضلا عن أن البيع بالغبن الفاحش قد يضطر إليه المالك أحيانا، في حالة حاجته إلى الثمن مهما كان، فيدخل ذلك تحت التوكيل. (15)
وأخيرا، يجيز أبو حنيفة الكفالة بدين غير مسمى، كأن يقول الرجل للرجل: أضمن ما قضى لك به القاضي على فلان من شيء، وما كان لك عليه من حق، وما شهد لك به الشهود، وما أشبه هذا. ويرى بعض الفقهاء الذين كانوا معاصرين له أن ضمان هذا لا يجوز؛ لأنه ضمان شيء مجهول (الاختلاف 55).
وهنا نلاحظ أن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة، فلا تمنع من صحة العقد؛ لأن الطالب المكفول له لن يطالب الكفيل إلا بما ثبت من حق قبل خصمه المكفول عنه.
رعاية الفقير والضعيف
في هذه الناحية نجد مسائل كثيرة كان في رأي أبي حنيفة في كل منها رعاية لجانب الفقير والضعيف على اختلاف أنواعه، سواء أراد الإمام هذه الرعاية أو لم يردها، والمهم أن أدلته قادته إلى الآراء التي فيها هذه الرعاية، وها نحن أولاء نذكر بعضها: (1)
اختلف الفقهاء في وجوب الزكاة أو عدم وجوبها في الحلي من الذهب والفضة، فذهب الإمام وأصحابه إلى الوجوب، وهو مذهب كثير من الصحابة مثل: عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري، وهو أيضا مذهب جمهور التابعين. ويرى الشافعي في أحد قوليه عدم وجوبها. ومما استدل به أبو حنيفة ما رواه أبو داود والنسائي، وما قال عنه الإمام النووي إن إسناده حسن، من أن امرأة أتت النبي
صلى الله عليه وسلم
وفي يد ابنتها سواران غليظان من ذهب، فقال الرسول
صلى الله عليه وسلم : «أتعطين زكاة هذا؟» قالت: لا. قال: «أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار!» فخلعتهما وألقتهما إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وقالت: هما لله ورسوله.
وروى الدارقطني عن علقمة بن مسعود رضي الله عنه أن امرأة أتت الرسول فقالت: إن لي حليا، وإن لي ابني أخ، أفيجزي عني أن أجعل زكاة الحلي فيهم؟ قال : «نعم.» (2)
والمدين إذا كان دينه يستغرق ماله لا زكاة عليه عند أبي حنيفة وأصحابه. وفي هذا، بلا ريب، نظر لحاله ؛ إذ يعتبر حينئذ فقيرا. وعند الشافعي الدين لا يمنع الزكاة؛ مستدلا بقول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «هاتوا ربع عشر أموالكم.» وهو خطاب عام يتناول المدين وغيره.
والأحناف يستدلون بأن المدين بدين يستغرق ماله يعتبر فقيرا، ويحل له أخذ الصدقة، فكيف تجب عليه الزكاة! ثم إن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قال: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى.» وسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قال في خطبة له في رمضان: «ألا إن شهر زكاتكم حضر، فمن كان له مال وعليه دين فليحتسب ماله بما عليه، ثم ليزك بقية ماله.» ولما قال هذا لم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعا منهم على أنه لا زكاة في المال المشغول بالدين.
16 (3)
ويقول الطحاوي بأن من سرق سرقات مختلفة، فرفعه أحد المسروق منهم، فقطع له، كان ذلك القطع للسرقات كلها، ولم يتضمن شيئا منها. وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما. وقد روي عن أبي يوسف رضي الله عنه أنه قال: لا ضمان عليه فيما سرق للذي رفعه خاصة حتى قطع له، وعليه الضمان للآخرين. ثم قال: وبه نأخذ؛ أي برأي أبي يوسف.
17
ومن الواضح أن في رأي الإمام رعاية لجانب السارق، وهو حين يسرق وتقام عليه الدعوى يكون ضعيفا بلا ريب، وضعفه آت من قبل نفسه، ومن أنه صار تحت رحمة المسروق منه والقضاء. (4)
وفي باب السرقة أيضا، أن من سرق شيئا يجب فيه القطع، وحكم عليه القاضي بقطع يده؛ ولكن المسروق منه وهب له ما سرق وسلمه إليه، يسقط عنه القطع عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف في رواية عنه، وفي رواية أخرى أن القطع لا يسقط عنه ما دام قد قضى عليه، وهذا قول الشافعي.
يرى أبو حنيفة أن القضاء يحتاج إلى الإمضاء والتنفيذ، وهذا في الحدود من الإنصاف، فيكون ما حدث قبله كالحادث قبل القضاء، ولو أن السارق ملك قبل القضاء بالقطع ما سرق، لا يمكن قطع يده؛ لأن المرء لا يقطع طبعا بأخذ ما يملك ، وكذلك الأمر إذا ملكه بعد القضاء وقبل التنفيذ.
ويحتج الشافعي بما روى من أن صفوان كان نائما في المسجد متوسدا رداءه فجاءه سارق بسرقة، فأتى به النبي
صلى الله عليه وسلم ، فأمر بقطع يده، فأخرج ليقطعها فتغير وجه النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال له صفوان: كأنه شق عليك يا رسول الله؟ هو له صدقة. وفي رواية: وهبته منه. فقال
صلى الله عليه وسلم : «هلا قبل أن تأتيني به.» وأمر بقطعه.
18
وهنا يجيب الأحناف بأن الموهوب له لا يملك الشيء الموهوب إلا بعد قبوله وقبضه، وهذا ما لم يحصل في هذه الحادثة. ثم إنها حكاية جدل فليس حتما أن يعمم الحكم فيها. (5)
وقد يحدث أن يسرق إنسان فتقطع يده اليمنى، ثم يعود فتقطع رجله اليسرى، ثم يعود مرة ثالثة فما الحكم؟ يرى أبو حنيفة أنه لا يقطع منه شيء، بل يعزر ويظل في الحبس حتى يتوب. على حين يرى الشافعي أنه تقطع يده اليسرى في المرة الثالثة، ثم رجله اليمنى في المرة الرابعة.
بل إن أبا حنيفة ذهب في الرأفة بالسارق إلى القول بأن الرجل اليسرى لو كانت مقطوعة قبل سرقته ثانيا لم يقطع منه شيء، ويكون جزاؤه ضمان المسروق والسجن حتى يتوب، وإن كان أشل اليد اليمنى صحيح اليسرى، قطعت اليد الشلاء، وإن كانت اليمنى صحيحة واليسرى هي الشلاء، لم يقطع (أي للمرة الأولى فيما نرى)؛ لأنه لو قطع صار ذاهب اليدين جميعا.
والشافعي يقول بعموم قوله تعالى:
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما
وقد أمكن قطع اليد اليسرى في المرة الثالثة فيكون واجبا، وبقوله
صلى الله عليه وسلم : «من سرق فاقطعوه، فإن عاد فاقطعوه، وإن عاد فاقطعوه، فإن عاد فاقتلوه.» ويجيبون عن ذلك بأن الأمر في الآية لا يقتضي التكرار، وبأن الحديث طعن فيه الطحاوي وغيره من رجال الحديث ونقلته، وبأنه على تقدير صحته يكون محمولا على العقوبة من باب السياسة؛ لأن القتل غير مشروع في السرقة.
وأما استدلال أبي حنيفة لمذهبه، فهو بما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه في مثل ذلك، وفيه يقول: «إني لأستحي من الله ألا أدع له يدا يأكل بها ويستنجي بها، ولا رجلا يمشي عليها.» وبذلك حاج بقية الصحابة فدرأ عنه الحد؛ كي لا تنقلب العقوبة إهلاكا بذهاب أطرافه التي يبطش بها ويمشي عليها.
19 (6)
من المتفق عليه بين الفقهاء جميعا أن المرء إذا ملك أباه أو أمه أو ابنه أو بنته يعتق عليه بمجرد ملكه إياه، رعاية لحق الولادة بينهما، فهل الأمر كذلك إذا ملك أخاه أو أي ذي رحم محرم منه؟
يرى الإمام الشافعي أن الأمر مختلف، وأن الأخ الرقيق ونحوه إذا ملكه أخوه أو قريبه لا يعتق عليه بمجرد دخوله في ملكه؛ وذلك لقوله تعالى:
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، وهذا الأخ من كسبه فيكون ملكا له.
على حين يرى أبو حنيفة أن في استرقاق الأخ ونحوه لأخيه أو قريبه قطعا للرحم الجامعة بينهما، هذه الرحم التي يجب وصلها لا قطعها. ثم قد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله: وجدت أخي يباع في السوق فاشتريته لأعتقه، فقال
صلى الله عليه وسلم : «قد أعتقه الله عليك.» وقد روي هذا عن عمر وابن مسعود وغيرهما، وهو قول الحسن البصري، والشعبي وغيرهما أيضا.
أما الآية التي يستند إليها الشافعي، فمعناها أن للنفس جزاء ما كسبت من أعمال الخير، وعليها ما اكتسبت من سيئ الأعمال، فهي واردة في الأعمال التكليفية بدليل صدرها، وهي هكذا بتمامها:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
الآية. (7)
إذا كان لإنسان غلام مملوك، وكان من ناحية السن يولد لمثله وقال عنه: هذا ابني. عتق عليه، بلا خلاف بين الفقهاء؛ لأنه يصدق في إثبات أبوته له، وليس للأب أن يملك ابنه كما هو معروف.
ولكن إذا كان الغلام في سن لا تجعل مثله يولد لمثله. يرى الشافعي وأبو يوسف ومحمد رضي الله عنهم أنه لا يعتق عليه؛ لأن ثبوت البنوة عنا غير ممكن، والملكية ثابتة، والأصل في كل ثابت بقاؤه على ما هو عليه، إلا حين يوجد ما يزيله. وكلام المالك هنا يحتمل أن يكون المراد منه الحنو والشفقة على الغلام، فيكون في الإعتاق شك، وهو لا يعارض الملكية الثابتة بيقين.
ويرى أبو حنيفة أن الغلام يعتق على مالكه في هذه الحالة؛ لأن العمل بالحقيقة متعذر؛ لأن السن لا تسمح أن يولد مثله لمثله، فوجب العمل بالمجاز المتعين، وهو إرادته تحريره؛ إذ إعمال الكلام أولى من إهماله. وغير محتمل - أو على الأقل هو احتمال بعيد - أن يكون مراده إظهار حنوه وشفقته؛ لأنه أورد كلامه في صورة خبر؛ ولهذا لو ناداه بقوله: يا بني! لا يعتق عليه. (8)
وإذا قال إنسان لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر، فولدت ولدا حيا صار حرا بلا خلاف، وكذلك إذا ولدت ولدا ميتا ثم آخر حيا عتق الحي عند أبي حنيفة؛ وذلك لأن الحرية لا تصلح إلا في الحي فيتقيد كلامه به، وكأنه قال: أول ولد حي تلدينه فهو حر.
على حين يرى الشافعي أنه جعل العتق جزاء أول ولد، والذي ولد حيا هو مولود ثان، فلا يعتق حينئذ.
20 (9)
وأخيرا، في باب العتق ونحوه، لو أن مملوكا شركة بين اثنين فدبره أحدهما، لم يكن عند أبي حنيفة للشريك الثاني أن يبيعه؛ لأنه دخله نصيب من العتق، وصار له نصيب من الحرية.
ويرى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن للشريك أن يبيع حصته من هذا العبد؛ لأنه لم يصدر منه أي شيء يدل على رغبته في تحرير نصيبه؛ ولكن الأحناف يرون أن التدبير يعتبر سببا لاستحقاق العبد العتق، حتى إنه ليس للمدبر حينئذ أن يبيع العبد الذي دبره، فيمتنع ذلك على الشريك أيضا، وبخاصة والإسلام يعمل بكل وسيلة لتحرير العبيد.
21 (10)
إذا زنى رجل مجنون بامرأة عاقلة فلا حد عليه ولا عليها عند أبي حنيفة. وعند الشافعي على المرأة الحد؛ لأنها عاقلة مكلفة بالأوامر والنواهي فلا يسقط عنها.
وعند أبي حنيفة أن الزنا يكون من الرجل والمرأة فعلا، إلا أنه يكون حقيقة من الرجل؛ لأنه الأصل، والمرأة ليست إلا محلا لفعله؛ فيسقط الحد عنه؛ لأنه غير مخاطب بالتكاليف لجنونه، ويسقط عنها لأنها تبع له.
22
تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان (1) نبدأ هذه الناحية بذكر مسألة طريفة حقا وهي إسلام الصبي العاقل قبل بلوغه الرشد؛ هل يصح ويعتبر إسلاما صحيحا، أو لا يصح منه هذا الإسلام؟ يرى أبو حنيفة أن إسلامه يصح منه، على حين يرى الشافعي عدم صحته؛ وذلك لأنه إن صح منه إسلامه لكان واجبا عليه، ولو كان واجبا عليه لم يكن الشرع يجيز تركه؛ لأن ترك من وجب الإسلام عليه كفر، والشارع لا يجيز تقرير أحد على الكفر.
أما أبو حنيفة فيرى أن الصبي العاقل حين يصدق بالله ورسوله وشريعته، يكون قد أتى فعلا بحقيقة لا يمكن ردها؛ وإذا يكون إسلامه صحيحا. ثم إننا نجيز تصرف الصبي المميز إذا كان هذا التصرف نافعا نفعا محضا له، مثل قبوله الهبة، فبالأولى نجيز تصرفه الذي يحقق له السعادة في الدنيا والأخرى. على أنه من الثابت أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أسلم وهو في سن الثامنة أو العاشرة من عمره؛ أي وهو صبي لم يبلغ، وقد صحح النبي
صلى الله عليه وسلم
إسلامه، وكان علي نفسه يفتخر به، حتى روي عنه أنه قال:
سبقتكمو إلى الإسلام طرا
صغيرا ما بلغت أوان حلمي
23 (2) يذكر الإمام أبو يوسف أنه إذا أوصى رجل لآخر بسكنى دار، أو غلة أرض أو بستان، وذلك ثلث تركته أو أقل، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه يقول: ذلك جائز. ثم يقول أبو يوسف: وبه نأخذ. وكان «محمد بن عبد الرحمن» ابن أبي ليلى يقول: لا يجوز ذلك. ويحتج السرخسي في المبسوط لابن أبي ليلى بأن الموصي يملك ذلك بإيجابه للموصى له، وذلك لا يصح فيما لم يكن مملوكا له، والمنفعة أو الغلة الموصى بها تحدث بعد موته فلا تكون حينئذ مملوكة له، فتكون الوصية بها إذا باطلة.
24
ولكن الأحناف يرون أن هذا يجوز في الوصية؛ لأن العين تبقى بعد وفاة المالك مشغولة بما يكون عليه من ديون والتزامات، ومنها الوصية. والأمر في هذا كالإجارة والعارية، فهما عقدان لتمليك المنفعة التي لم تكن موجودة وقت العقد؛ لأنها تحدث آنا فآنا، فكما جاز هذان العقدان تجوز الوصية بالمنفعة أو الغلة بعد الموت. (3) ويذكر أبو يوسف أيضا أن أبا حنيفة يجيز للوصي أن يتجر بمال الأيتام الذين تحت وصايته، أو يدفعها مضاربة لمن يرى فيه الخير. وأن ابن أبي ليلى يرى أن ذلك لا يجوز عليهم، والوصي ضامن لذلك. وقد أخرج هذا الرأي عن أبي حنيفة محمد بن الحسن في كتاب الآثار، ثم قال: وبه نأخذ.
25
ويذكر السرخسي في المبسوط.
26
أن ابن أبي ليلى ذهب إلى ما رأى؛ لأن الموصي (أبو الأولاد اليتامى) جعل الوصي قائما مقامه في التصرف في أموالهم حفظا لها، وذلك يحصل إذا كان هو الذي يتصرف فيها، وإذا ليس له دفعها لغيره ليتصرف فيها.
ثم يقول: ولكننا نذهب إلى ما رأينا؛ لأن الوصي قائم مقام الموصي في ولايته في مال الولد، وقد كان للموصي أن يفعل هذا كله في ماله، فكذلك الوصي. وهذا لأن المأمور به هو ما يكون أصلح لليتيم وأحسن، فالله تعالى يقول:
ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ، وقد يكون الأحسن في تفويض التصرف إلى غيره، إما لعجزه عن مباشرة ذلك بنفسه، وإما لقلة هدايته في التجارة ونحوها. (4) وفي التصرف الوصي أيضا يذكر أبو يوسف أن الوصي يجوز أن يبيع عقارا مما تركه المتوفى الذي لا دين عليه، وفي ورثته صغار وكبار، ويكون بيعه عند أبي حنيفة نافذا على الصغار والكبار جميعا، وهذا استحسان منه؛ لأنه كما يذكر صاحب المبسوط لما ثبتت له الولاية في بيع البعض الذي يخص الصغار تثبت في الكل؛ لأن الولاية بسبب الوصاية لا تحتمل التجزؤ، ولأن في بيع البعض إضرارا بالصغير والكبير معا؛ إذ الثمن يكون أعلى في هذه الحالة، بخلاف حالة التجزئة وبيع البعض. ومع هذا، فللوصي ولاية في مال الكبار فيما فيه منفعة لهم، ألا ترى أنه يملك الحفظ وبيع المنقولات حال غيبة الكبير لما فيه من المنفعة له؟ لكن ابن أبي ليلى يرى أن بيع الوصي العقار في هذه الحالة يجوز على الصغار والكبار إذا كان ذلك مما لا بد منه. ويرى أبو يوسف ومحمد أن بيعه على الصغار جائز في كل شيء، ولو لم يكن منه بد، ولا يجوز على الكبار إلا إذا كان الموصي أوصى ببيعه، أو كان عليه دين يباع العقار فيه.
27 (5 و6) وهاتان مسألتان تقدمتا عند الكلام على نزعة التيسير، وهما: جواز تصرفات الفضولي، وجواز بيع الوكيل بالثمن القليل والكثير، خلافا لكثير من الفقهاء، وهما مسألتان تظهر فيهما نزعة تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان أيضا. (7) وهذه مسألة أخرى تظهر فيها أيضا هاتان النزعتان، وهي مسألة إجازة أبي حنيفة وأصحابه عقد الزواج بلفظ تزويج ونكاح وغيرهما مما يشتق من هاتين المادتين، وبكل لفظ آخر وضع لتمليك العين في الحال كلفظ الهبة والعطية والبيع والشراء، بشرط نية وقرينة تعين أن المراد هو الزواج؛ وبشرط فهم الشروط المقصودة.
28 (8) وأخيرا في هذه الناحية يرى أبو حنيفة أن الرجل إذا اشترى متاعا، ثم أفلس وأصبح عاجزا عن دفع الثمن لا ينفسخ العقد، بل يصبر البائع أسوة الغرماء لآخرين فيه، على حين يرى الشافعي أن العقد يفسخ، ويأخذ البائع المتاع الذي باعه؛ لأنه أحق به. وأبو حنيفة يرجع إلى قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «إذا مات المشتري مفلسا فوجد البائع متاعه بعينه فهو أسوة الغرماء.» وقوله: «أيما رجل باع سلعة فأدركها عند رجل قد أفلس فهو ماله بين غرمائه.» على حين يستند الشافعي إلى حديث آخر لا يسكت الأحناف عن الإجابة عنه، وإن كانت إجابة لا ترضي الباحث تماما، لكن مهمتنا هنا ليست الترجيح بين الآراء، ولكن بيان النزعات والاتجاهات، وهذا يكفي فيه ذكر الآراء حتى ولو كانت مجردة من الأدلة.
29
رعاية حرية الإنسان وإنسانيته
وأخيرا في هذا البحث الخاص بآراء أبي حنيفة واتجاهاته ونزعاته التي تؤخذ من هذه الآراء، نعرض لصور من تفكيره تجمعها رابطة واحدة، وهي احترامه لحرية الإنسان وإنسانيته: (1)
يحترم أبو حنيفة في المرأة البالغة إرادتها وحريتها في الزواج بمن ترى الخير في أن تتزوج به، فلا يجعل لوليها سلطانا عليها، فلها أن تباشر بنفسها عقد زواجها، ما دامت أهليتها كاملة، وما دام من تتزوجه كفئا لها ولأسرتها، وما دام المهر مهر مثلها. على حين يرى جمهرة الفقهاء الآخرين أن لها أن تتزوج بمن ترى في زواجه خيرا لها، ولكن يتولى عنها العقد أقرب أوليائها إليها. وهم يستندون فيما ذهبوا إليه إلى مثل قوله تعالى في سورة النور:
وأنكحوا الأيامى منكم ، فقد أضيف العقد إلى الأولياء لا إلى نفسها، وإلى مثل قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «أيما امرأة زوجت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل.» وإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها، وإن اشتجروا (الأولياء) فالسلطان ولي من لا ولي له.
ولكن أبا حنيفة الذي يقدس الحرية يرى أن ولاية إنسان على آخر لا يصح أن تفرض إلا لضرورة؛ لأنها تنافي الحرية وهي حق إنساني للناس جميعا؛ ولذلك يثبت للفتى متى بلغ عاقلا حق تزويج نفسه بنفسه؛ فلا معنى للتفريق بينه وبين المرأة، وبخاصة أن لها مثله الولاية كاملة على مالها. إن الإمام إذا يستعمل هنا القياس، ولكنه مع هذا يجد له سندا من القرآن الكريم الذي يضيف عقد الزواج إلى المرأة حين يقول في سورة البقرة:
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون
كما يجد سندا من الحديث أيضا، إذ يقول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «ليس للولي مع السيد أمر.» هذا والمسألة حرية بالبيان وتفصيل القول؛ ولهذا، نرى أن نأتي بما ورد فيها عن الإمامين أبي يوسف والسرخسي.
30
يذكر قاضي القضاة أن الرجل إذا تزوج المرأة بشاهدين من غير أن يزوجها ولي، والزوج كفء لها فإن أبا حنيفة كان يقول: النكاح جائز؛ ألا ترى أنها لو رفعت أمرها إلى الحاكم، وأبى وليها أن يزوجها كان للحاكم أن يزوجها، ولا يسعه إلا ذلك ولا ينبغي له غيره، فكيف يكون ذلك من الحاكم والولي جائزا، ولا يجوز منها وهي قد وضعت نفسها في الكفاءة! بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن امرأة زوجت بنتها فجاء أولياؤها فخاصموا الزوج إلى علي رضي الله عنه، فأجاز علي النكاح.
وكان ابن أبي ليلى (محمد بن عبد الرحمن) لا يجيز ذلك ويرى أبو يوسف أن الزواج يعتبر صحيحا موقوفا على إجازة المولى أو القاضي إن رفع إليه الأمر، وكان الزوج كفئا، كأن القاضي هنا ولي بلغه أن ابنته قد تزوجت فأجاز ذلك. ويقول صاحب المبسوط، بعدما ذكر حديث علي رضي الله عنه الآنف الذكر، إن في هذا دليلا على أن المرأة إذا زوجت نفسها، أو أمرت غير الولي أن يزوجها فزوجها، جاز النكاح في ظاهر الرواية سواء كان الزوج كفئا لها أو غير كفء، إلا أنه إذا لم يكن كفئا فللأولياء حق الاعتراض.
ثم ذكر صاحب المبسوط أقوالا عدة مختلفة لأبي يوسف، ومنها ما رواه الطحاوي من أن الزوج إن كان كفئا أمر القاضي الولي بإجازة العقد، فإن أجازه جاز، وإن أبى لم يفسخ، ولكن القاضي يجيزه. وعلى قول محمد يتوقف نكاحها على إجازة الولي سواء زوجت نفسها من كفء أو من غير كفء، فإن أجازه الولي جاز؛ وإن أبطله بطل، إلا أنه إذا كان الزوج كفئا لها ينبغي للقاضي أن يجدد العقد إذا أبى الولي أن يزوجها منه.
وأخيرا يذكر صاحب المبسوط أن من جوز النكاح بغير ولي استدل بقوله تعالى:
فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف
وبقوله:
حتى تنكح زوجا غيره
وقوله تعالى:
أن ينكحن أزواجهن
فقد أضاف العقد إليهن في هذه الآيات فدل على أنها مباشرته بنفسها، وأيضا يستدل بالأخبار ومنها قوله
صلى الله عليه وسلم : «الأيم أحق بنفسها من وليها.» والأيم المرأة التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا، وقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس للولي مع الثيب أمرا.» وقد ورد عن عمر وعلي وابن عمر جواز النكاح بغير ولي، وإن كان المستحب ألا تباشر المرأة العقد، ولكن الولي الذي يزوجها. (2)
ويتصل بذلك أن الرجل إذا زوج ابنته وقد بلغت، فإن أبا حنيفة كان يقول إذا كرهت ذلك لم يجز النكاح عليها؛ لأنها قد أدركت وملكت أمرها فلا تكره على ذلك. وكان ابن أبي ليلى يقول: النكاح جائز عليها وإن كرهت، ومما استدل به أبو حنيفة قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «البكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها.» وقوله: «لا تنكح البكر حتى تستأمر، ورضاها سكوتها ولا تنكح الثيب حتى تستأذن.»
31
وذكر صاحب المبسوط في ذلك حديثا عن أبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وفيه: أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
رد نكاح بكر زوجها أبوها وهي كارهة. وفي حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال في البكر: «يزوجها وليها، فإن سكتت فقد رضيت، وإن أبت لم تكره.» وفي رواية أخرى: «فلا يجوز عليها.»
32 (3)
ومما هو متصل بذلك أيضا، أن الأمة إذا كانت متزوجة من رجل حر، ثم أعتقت، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يجعل لها الخيار، إن شاءت اختارت نفسها وإن شاءت اختارت زوجها، وكان ابن أبي ليلى يقول: لا خيار لها.
33
ويحتج أبو حنيفة لما ذهب إليه بأن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، خير «بريرة» حين أعتقتها السيدة عائشة رضي الله عنها وكان زوجها حرا، لكن ابن أبي ليلى يقول بأن زوجها كان عبدا، على حين يظهر أن الصحيح أنه كان حرا؛ فقد سئلت السيدة عائشة عن ذلك فقالت: كان حرا، على ما أخرجه البخاري وغيره من الأئمة.
ونرى الإمام السرخسي يزيد المسألة وضوحا، فيذكر أنه إذا أعتقت الأمة ولها زوج فلها الخيار؛ إن شاءت أقامت معه، وإن شاءت فارقته؛ وذلك لأن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قال لبريرة بعد أن أعتقتها عائشة رضي الله عنها: «ملكت بضعك فاختاري.» وكان زوجها مغيث يمشي خلفها ويبكي، وهي تأباه. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم
لأصحابه: «أما تعجبون من شدة حبه لها وبغضها له!» ثم قال لها: «اتق الله! فإنه زوجك وأبو ولدك.» فقالت: أتأمرني؟ فقال: «لا، إنما أنا شافع.» فقالت: إذا لا حاجة بي إليه.
ثم بين السرخسي الحكم في إجازة الخيار لها، فيقول بأن ملك الزوج يزداد عليها بالعتق؛ فقد كان قبل العتق يملك عليها تطليقتين، ويملك مراجعتها في قرأين، وعدتها حيضتين فقط، وذلك كله يزداد بالعتق إلى ثلاث، فأثبت الشرع لها الخيار لتتوصل إلى دفع هذه الزيادة عنها برفع العقد من أصله؛ ولهذا حين تختار نفسها يكون ذلك منها فسخا لا طلاقا.
وأخيرا يذكر أن الأمر هكذا إذا أعتقت الزوجة، وكانت رقيقة، ويستوي إن كان الزوج حرا أو عبدا؛ لأن الرسول
صلى الله عليه وسلم
قال لبريرة: «ملكت بضعك فاختاري» فيكون سبب الخيار معنى في جانبها وهو ملكها أمر نفسها، وهذا التعليل لا يجعل فرقا بأن يكون الزوج حرا أو عبدا. (4)
ولا بد في عقد الزواج من الإسلام، وهو يكون بالشهادة عليه، وهذا أمر متفق عليه؛ ولكن هل لا بد أن يكون الشهود رجلين، أو يكفي أن يكونا رجلا وامرأتين؟ قال بالأول الشافعي، وقال أبو حنيفة بالثاني.
ويحتج أبو حنيفة لمذهبه بقوله تعالى: «واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان»؛ فقد جاءت هذه الآية مطلقة، فتشمل الأموال والزواج. كما يحتج أيضا بما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أجاز شهادة امرأتين مع شهادة رجل في الزواج والفرقة.
34 (5)
وهذه مسألة، وهي من باب الشهادة أيضا، ترينا كذلك مقدار احترام أبي حنيفة لغير المسلمين وحقوقهم، وتقدير ما فيهم من إنسانية، ونعني بها شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض؛ إنه يقبل شهادتهم بعضهم على بعض، سواء اتفقت مللهم أو اختلفت، ما داموا عدولا في دينهم، ولم يقبلها الشافعي أصلا. (6)
والأصل أن الإنسان، بما هو إنسان ، حر في تصرفاته في حدود شريعة الله ورسوله، فلا يمنع من شيء منها إلا بسبب مشروع، وأسباب الحجر عند أبي حنيفة ثلاثة لا رابع لها، وهي: الجنون والصغر والرق، وهذا قول زفر أيضا. على حين يرى أبو يوسف ومحمد والشافعي وعامة أهل العلم، أن للحجر أسبابا مشروعة أخرى، منها «السفه»؛ ولهذا يجوز عندهم الحجر على السفيه.
يرى أبو حنيفة أن أهلية السفيه أهلية كاملة متى كان قد بلغ عاقلا، إلا أنه لا يسير حسب العقل في تصرفاته المالية مكابرة منه، ثم إن السفيه - باعتباره إنسانا - حر في تصرفاته، والحجر ينافي الحرية، وفيه إهدار لإنسانيته، وهي أجل خطرا من المال الذي يراد حفظه له بالحجر عليه. والنتيجة، أنه لا يصح تضييع حريته وإهدار إنسانيته بالحجر عليه، ولتذهب أمواله كلها أو بعضها إلى من يحسن تدبيرها والتصرف فيها، وفي هذا خير للجماعة بعامة. (7)
والأمر كذلك بالنسبة للحجر على المدين بسبب الدين، فهو مع الفقهاء الآخرين في جواز حبسه متى كان قادرا على أداء ما عليه من دين؛ ولكنه يمتنع عن الوفاء مطلا منه وظلما للدائن، إلا أن أبا حنيفة يخالفهم فيما ذهبوا إليه من جواز الحجر على المدين دينا مستغرقا، ومن جواز بيع ماله جبرا عنه، وفاء لما عليه من دين وإن لم يكن مستغرقا.
35
هذا وقد بحثنا هذه المسألة بحثا أوفى على الغاية في كتابنا «فقه الكتاب والسنة، البيوع والمعاملات المالية المعاصرة»، وبينا وجهة نظر كل فريق من المختلفين فيها ومستنده من الكتاب والسنة، فلا نزيد في هذه الناحية على ما كتبناه هناك.
36
ولكن يبقى أن نقول هنا: إن الإمام أبا حنيفة في هذه المسألة كما في سابقتها، يقدر الحرية الإنسانية ويرفعها فوق كل اعتبار؛ لأن ذهابها لا يمكن تعويضه بحال، والأمر ليس كذلك في المال وما إليه من عروض هذه الحياة. (8)
ونذكر أخيرا مسألة أخرى نرى فيها بوضوح تقدير أبي حنيفة للإنسان، بما هو إنسان؛ وهي مسألة نصيب الفارس وفرسه من الغنيمة؛ ففي هذه المسألة نجد الخلاف يشتد بين الفقهاء ، والكل يعتمد على أحاديث عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
وآثار عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جميعا، ولكل وجهة هو موليها.
فالإمام مالك بن أنس فقيه دار الهجرة، والإمام الليث بن سعد معاصره وفقيه مصر، يريان أن للفرس سهمين ولصاحبه سهما، وللراجل سهما واحدا لنفسه، وفي هذا روى الإمام مالك أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: للفرس سهمان وللراجل سهم.
37
ومعنى هذا أن من قاتل فارسا يكون له سهمان لفرسه، وآخر لنفسه. وكذلك يقول فقهاء آخرون، ومنهم الأوزاعي، والثوري، وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي.
وهنا يذكر الإمام الشافعي أن الصحيح ما قال الأوزاعي من أن للفارس ثلاثة أسهم، ثم يقول: وأخبرنا عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ضرب للفارس بثلاثة أسهم وللراجل بسهم.
38
أما أبو حنيفة فيقول: إن للفارس سهمين فقط؛ سهم له، وآخر لفرسه.
وقد ذهب إلى هذا الرأي، مخالفا لغيره ولما رووه من أحاديث وآثار؛ لأنه رأى أن من الآثار ما يشهد لكلا الرأيين، وقال في ذلك: السهم الواحد متيقن به لاتفاق الآثار، وما زاد عليه مشكوك فيه لاشتباه الآثار، فلا أعطينه إلا المتيقن، ولا أفضل بهيمة على آدمي.
39
وهذا الصنيع من الإمام يرينا وجها من طريقته في استنباط الأحكام؛ فقد رأى الأحاديث والآثار متعارضة، فلم يستطع أن يرجح بعضها ويجعله أولى بالأخذ به من البعض الآخر. ومن ناحية أخرى نراه لا يجد من الكرامة أن يفضل بهيمة على آدمي؛ لأنه - بإعطاء الفارس ثلاثة أسهم منها اثنان لفرسه وآخر له، على حين لا يعطى من قاتل راجلا إلا سهما واحدا - يكون الحيوان قد فضل في العطاء على الإنسان، مع أن الإنسان هو الذي يقاتل ويحوز الغنيمة! ونعتقد أن تلك طريقة حكيمة في استنباط الأحكام، وأن هذا منطق مقبول مستقيم.
رعاية سيادة الدولة ممثلة في الإمام
يقوم الإسلام على الشورى، وعلى التساوي بين أبنائه في الحقوق والواجبات؛ ومن ثم جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
ومع هذا فللخليفة أو السلطان باعتباره «الإمام» حقوق يتولاها هو بنفسه أو بمن ينيبه عنه، وهي حقوق يجب على المسلمين رعايتها، وعدم التعدي على شيء منها، وللفقهاء الذين كتبوا في «الأحكام السلطانية» أو في «الفقه الدستوري» حسب التعبير الحديث، كلام طويل في هذه الحقوق وتعيينها وتعدادها، وكذلك للعلماء في الفروع أو في الفقه الإسلامي آراء يختلف بعضها عن بعض في مواطن كثيرة اختلافا قليلا أو كثيرا، فيما هو من حق الإمام، وفيما هو من حق غيره من سواء المسلمين أو خاصتهم.
وقد رأينا بشيء من الاستقراء أن آراء أبي حنيفة في غير قليل من المسائل تتجه إلى تأكيد سيادة الأمة ممثلة في الإمام، وها هي ذي بعض المسائل التي رأينا ذكرها من كثير مما وقفنا عليه:
40 (1)
إذا كان لرجل أرض خراج وعجز لسبب ما عن زراعتها، ولم يستطع أداء خراجها، كان للإمام أن يدفع هذا الضرر عن بيت المال بوسيلة من هذه الوسائل؛ أن يدفعها لغيره مزارعة ليأخذ الخراج من نصيب المالك ويمسك الباقي له، أو يؤجرها للغير ويأخذ الخراج من الأجرة، أو يزرعها لحساب بيت المال، فإن لم يتمكن من شيء من ذلك، باعها وأخذ الخراج من ثمنها.
وقال غير أبي حنيفة: ليس للإمام ذلك. وعن أبي يوسف أنه يجب أن يدفع للعاجز عن زراعة هذه الأرض الخراجية كفايته من بيت المال قرضا؛ ليستطيع أن يعمل فيها ويستغلها ويؤدي خراجها.
41 (2)
وللإمام وحده التصرف فيما يغنمه المسلمون من الأرضين، وقد جاء في مختصر الطحاوي وشرحه أنه إذا فتح للإمام أرضا من أراضي الحرب كان الرأي فيها إليه، يفعل ما فيه خير للمسلمين؛ إن شاء قسمها كسائر الغنائم، وإن شاء أبقاها للمسلمين وقفا عليهم، ويجعلها أرض خراج فيصرف خراجها إلى المقاتلة ... وإن شاء من على أهلها بالحرية، وترك أموالهم وأراضيهم ملكا لهم، على أن يدفعوا الجزية عن أنفسهم، والخراج عن الأرض .
42
وهذا ما فعله عمر بن الخطاب بأرض السواد. فإن أسلموا سقطت الجزية عنهم، ولا يسقط خراج الأرض.
43 (3)
وللإمام أن يحرض المقاتلين على القتال بكل وسيلة، فالله تعالى يقول:
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال
ومن ذلك أن يقول مثلا: من أصاب شيئا فله ربعه أو ثلثه، أو من أصاب شيئا فهو له، أو من قتل قتيلا فله سلبه.
44
وهذا كله ما يسمى «التفضيل».
فإن لم ينفل الإمام شيئا فقتل رجل من الغزاة آخر من الأعداء، لم يختص بسلبه عند الأحناف، وكان سلبه له عند الشافعي إن قتله وهو (أي العدو) مقبل عليه مقاتل له؛ لأنه حينئذ يكون قد قتله بقوته وحده، فيختص بسلبه، أما لو قتله مدبرا منهزما عنه، فيكون قد قتله بقوة الجماعة، فيكون سلبه من جملة الغنيمة فلا يختص به.
45 (4)
وإذا أحيا رجل أرضا مواتا، هل يملكها ولو لم يأذن له الإمام، أو لا بد من إذنه؟ هنا يختلف رأي أبي حنيفة عن رأي صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن. يرى هذان أن من أحيا مواتا من الأرض فقد ملكه بذلك، أذن له الإمام أو لم يأذن؛ على حين يرى أبو حنيفة أنه لا بد في الإحياء من إذن الإمام، فلو فعل ذلك بلا إذنه لم يملك ما أحياه.
46 (5)
والولاية على الطفل اللقيط، في ماله ونفسه، للإمام عند أبي حنيفة؛ لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «السلطان ولي من لا ولي له»؛ فهو الذي يزوج اللقيط، ويتصرف في ماله؛ كما له استيفاء القصاص من قاتله. ويرى غيره أنه ليس له هذا، أما الملتقط فليس له شيء من ذلك؛ لأنه لا ولاية له عليه لانعدام سببها وهو القرابة والسلطنة.
47 (6)
والإمام هو أولى الناس بالصلاة على الميت، ويليه في ذلك القاضي ثم إمام الحي، وبعد الثلاثة إن لم يحضر أحد منهم يكون الحق في الصلاة لولي المتوفى؛ وذلك لأن الإمام نائب عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما جاء في القرآن الكريم، فكذلك نائبه يكون أولى من غيره فيما تجب الولاية فيه.
وتقديم الإمام أو الأمير أو النائب من قبله على الأقارب هو رأي أكثر أهل العلم، وفي رأي آخرين أن أحق الناس بالصلاة على الميت هو من أوصى له أن يصلي عليه.
48 (7)
وفي الحج نرى أن الحاج يصلي بعرفات الظهر والعصر معا؛ أي جمع تقديم في وقت الظهر، جماعة عند أبي حنيفة، وهنا يشترط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه، وعند الصاحبين لا يشترط الجماعة لصحة الجمع بين هاتين الصلاتين، وفي الجماعة لا يشترط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه.
49
وفي صلاة الجمعة نجد أن أبا حنيفة يشترط لصحتها أن يقوم بها الخليفة، أو من يأذن له بإقامتها من أمير أو وال ونحوهما، حتى إن من ينصبه العامة في بلد من البلاد لإقامة الجمعة مع وجود أحد ممن ذكرنا ليس له أن يصلي بهم الجمعة إلا لضرورة، وكذلك الأمر في إقامة الجمعة بمنى أيام الحج، فالخليفة أو نائبه هو الذي له إقامتها، وليس ذلك لأمير الحج، إلا لو كان ذلك مما أذن له فيه من قبل الإمام.
50 (8)
وأخيرا، على المسلم زكاة أمواله على اختلاف صنوفها من باطنة وظاهرة، والأموال الباطنة هي النقود وأموال التجارة إذا كانت في مواضعها، والظاهرة هي المواشي وغيرها من السلع التجارية إذا خرج بها من بلده إلى بلد آخر.
وله أن يدفع زكاة الأموال الباطنة إلى الفقراء والمستحقين لها بنفسه، ويصدق بيمينه إن ادعى ذلك، أما في الأموال الظاهرة، فلا يصدق قوله: أديت زكاتها للفقراء؛ لأن حق المطالبة بزكاتها وأخذها - لتوزيعها على مصارفها - للسلطان أو من ينيبه عنه لذلك، وإذا فللإمام أخذها ثانيا، عند أبي حنيفة، خلافا لبعض الفقهاء.
51
وبعد، فتلك هي الاتجاهات الكبرى التي رأيناها تسود تفكير أبي حنيفة الفقهي، ولا نزعم أنها كل ما كان له من اتجاهات، ولا أنه كان يقصد عامدا إليها؛ ولكن رأينا ظهور كل منها بوضوح في كثير من آرائه وتفكيره، وبذلك فتحنا الباب لأبحاث تظهر منا أو غيرنا في هذه الناحية الهامة التي تساعد إلى حد كبير في تجلية أبي حنيفة ومذهبه الفقهي.
وإذا كان الاستثناء يؤكد القاعدة كما يقولون ، فإننا نذكر أن الباحث لا يعسر عليه أن يجد من آراء الإمام ما لا يتفق مع هذا أو ذاك من الاتجاهات التي ذكرناها، وحسبنا هنا أن نشير إلى هذه المسائل: (1)
يرى أبو حنيفة أن المجنون إذا أفاق من جنونه في بعض شهر رمضان فعليه قضاء ما مضى منه، وليس هذا من التيسير في شيء، وإنما التيسير فيما روي عن الشافعي وغيره من أنه لا قضاء عليه؛ لأنه لم يكن عليه أداؤه وهو مجنون، والإنسان يقضي ما كان عليه أداؤه. (2)
وكذلك ليس من التيسير في المعاملات ما ذهب إليه من عدم جواز «السلم» في الحيوان، ولا في منقطع الجنس من السلع وقت العقد، ومن عدم جوازه إلا مؤجلا؛ ولكن التيسير فيما ذهب إليه الشافعي وغيره من الجواز في هذه المسائل الثلاث.
52
ومثل هذا عدم إجازته رهن المشاع، على حين يرى غيره جوازه، وإن كان لأبي حنيفة ما يستدل به، كما لمخالفيه أدلتهم أيضا. (3)
وليس من رعاية الفقير ما يراه أبو حنيفة وأصحابه من أنه لا زكاة في مال الصبي والمجنون؛ لأن كلا منهما ليس مخاطبا بأحكام الشريعة لانعدام الأهلية فيهما، بل تتحقق رعاية الفقير فيما ذهب إليه الفقهاء الآخرون من وجوب الزكاة في مال كل منهما، ثم على الوصي أو الولي والقيم الأداء، وبذلك يصل للفقير حقه من الزكاة، وبخاصة أن كلا من الصبي والمجنون ينتفع بماله، والدولة تحمي هذا المال وتعين على استغلاله، فمن الواجب أداء الزكاة عنه.
هذا وقد آن أن ننتقل إلى البحث التالي، وهو عرض صور من الخلاف بين أبي حنيفة ومخالفيه؛ لنعرف فيم كانوا يختلفون، ومناهج كل منهم في الاستدلال لما يذهب إليه؛ ولنلمس أيضا مقدار ما كان للفقه والفقهاء من حيوية قوية في ذلك الزمان المجيد.
صور من الخلاف بين أبي حنيفة وغيره
كان لا بد أن يختلف الفقهاء في ذلك العصر، عصر الاجتهاد لبيان أحكام الله، فيما يجد من نوازل ومشاكل، وفيما يظهر من معاملات جديدة. وليس من قصدنا هنا الاستكثار من صور هذه الاختلافات؛ ففي كتب «اختلاف الفقهاء» بخاصة، وكتب الفقه الأصيلة بعامة، من ذلك الشيء الكثير الذي يعز على الإحصاء، والذي يرينا ما كان للفقه والفقهاء من حيوية وحياة خصبة دائبة الحركة والنمو والإنتاج في ذلك الزمن.
وإذا، لنا أن نكتفي بذكر هذه الصورة الآتية لتلك الاختلافات، على أن نوجز في الحديث عنها. وفي المراجع التي نأخذ عنها غنية لمن يريد الإطالة والاستقصاء.
في الحدود
إذا قذف رجل رجلا بالزنا فقال يا ابن الزانيين، فليس على القاذف إلا حد واحد. ثم لا تقام الحدود في المساجد. ويرى ابن أبي ليلى (محمد بن عبد الرحمن) أن عليه حدين، وأنه يصح إقامة الحدود في المساجد، وقد أقامها فعلا في المسجد.
1
والأصل أن المغلب في حد القذف عند أبي حنيفة هو حق الله تعالى، فعند الاجتماع تتداخل الحدود، والمقصود وهو الزجر للقاذف ودفع العار عن المقذوف يحصل بحد واحد، فوجب الاكتفاء به، على حين أن الغالب في القذف عند ابن أبي ليلى هو حق العبد، وهنا المقذوف حقيقة اثنان هما الأبوان، فوجب على القاذف حدان.
وأما أمر عدم إقامة الحد في المسجد، فقد رجع فيه أبو حنيفة إلى قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «لا تقام الحدود في المساجد.» ولأن تلويث المسجد حرام، وإليه أشار الرسول في قوله: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم.» وقد يؤدي إقامة الحد في المسجد إلى تلويثه، وعلى القاضي إذا أراد أن يقام الحد بين يديه أن يخرج من المسجد، وإلا بعث أمينا ليقام الحد بحضرته خارج المسجد أيضا، وبهذا وذاك ورد الأثر عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
2
وقد وقع الخلاف فعلا في هذه المسألة بناحيتيها أيام أبي حنيفة؛ فقد روي أن امرأة معتوهة كانت بالكوفة فآذاها رجل، فقالت له يا ابن الزانيين فأتي بها إلى القاضي ابن أبي ليلى فاعترفت بما كان منها من القذف، فأقام عليها حدين في المسجد، فذكر ذلك لأبي حنيفة فقال: أخطأ في سبعة مواضع؛ بنى الحكم على إقرار المعتوهة، وإقرارها هدر. وألزمها الحد، والمعتوهة ليست من أهل العقوبة. وأقام عليها حدين، ومن قذف جماعة لا يقام عليه إلا حد واحد. وأقام حدين معا، ومن اجتمع عليه حدان لا يوالى بينهما، ولكن يضرب أحدهما، ثم يترك حتى يبرأ ثم يقام الآخر. وأقام الحد في المسجد، وليس للإمام أن يقيم الحد في المسجد. وضربها قائمة، وإنما تضرب المرأة قاعدة. وضربها لا بحضرة وليها، وإنما يقام الحد على المرأة بحضرة وليها، حتى إذا انكشف شيء من بدنها في اضطرابها ستر الولي ذلك عليها.
في الشهادة
ويذكر الإمام أبو يوسف أن الرجل إذا شهد لامرأته فإن أبا حنيفة كان يقول: لا تجوز شهادته لها، وكذلك بلغنا عن شريح، وبهذا نأخذ، وكان ابن أبي ليلى يقول: شهادته لها جائزة.
3
وفي هذه المسألة يبين بوضوح رعاية كثير من الفقهاء لعامل الزمن وأثره في تطور الفقه وأحكامه، وذلك، بأن الله تعالى يقول في سورة البقرة:
واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء
ويقول في سورة الطلاق:
وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله . ومن هاتين الآيتين نرى أن القرآن لم يشترط لقبول الشهادة إلا أن يكون الشاهد ممن ترضى حاله وأمانته، ومعنى هذا أن يكون عدلا يؤمن على قول الحق ولا يتبع الهوى.
4
ولهذا - كما قلنا في بحث سابق لنا،
5
يذكر ابن القيم عن عبد الرزاق الصنعاني أن عمر بن الخطاب قال بجواز شهادة الوالد لولده، والولد لوالده، كما يقول الزهري: «لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده، ولا الأخ لأخيه، ولا الزوج لامرأته، ثم دخل الناس بعد ذلك، فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم إذا كان من قرابة، وهم الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة، ولم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان.»
6
على أن فكرة تطور الفقه في هذه المسألة التي قلنا بأننا نلمسها فيما ذهب إليه أبو حنيفة فيها حين لم يجز شهادة الرجل لزوجته، قد يعارضها أمران: (أ)
هذا الحديث الذي يروى عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وهو: «لا تقبل شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا المولى لعبده، ولا الأجير لمن استأجره.» (ب)
وما رواه محمد بن الحسن الشيباني عن شريح أنه قال: «أربعة لا تجوز شهادة بعضهم لبعض؛ المرأة لزوجها، والزوج لامرأته، والأب لابنه، والابن لأبيه» ... إلى آخر ما قال.
7
فإن معنى هذا وذاك أن عدم إجازة شهادة أحد الزوجين للآخر أمر ثابت عن الرسول نفسه
صلى الله عليه وسلم ، «ولهذا رد شريح نفسه أيضا شهادة سيدنا الحسن لأبيه سيدنا علي رضي الله عنهما؛ وذلك في قضية كانت منه ضد يهودي، وطلب أن يزيده شاهدا مكان الحسن. إن من المعروف، كما يذكر ابن القيم، أنه قد أجاز في قضية رفعت أمامه لامرأة شهادة أبيها وزوجها، ولما قال له الخصم: هذا أبوها وهذا زوجها! قال له: أتعلم شيئا تجرح به شهادتهما؟ كل مسلم شهادته جائزة.»
ونقول إن صاحب فتح القدير، يقول عن هذا الحديث: «وهذا الحديث غريب، وإنما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من قول شريح.»
8
وقد يعزز ما يقال من أن هذا ليس حديثا ثابتا عن الرسول، أنه لو كان كذلك حقا ما وسع من قبلوا هذه الضروب من الشهادة أن يقبلوها، ومنهم عمر وغيره من سلف المسلمين.
وفيما يختص بالقاضي شريح نفسه، ومخالفة قوله لقضائه، ينبغي أن نلاحظ أنه كان من المعمرين؛ فقد عاش - كما يذكر ابن قتيبة في كتابه «المعارف» - مائة وعشرين عاما، كما ظل قاضيا للكوفة لعمر بن الخطاب ومن بعده أكثر من سبعين عاما. وهذه مدة طويلة يتغير فيها الرأي والحكم بتغير الزمن والناس، فيكون هو نفسه قد استجاب أيضا لعامل التطور، فلم يجز شهادة أحد من الزوجين للآخر وإن خالف بذلك قضاءه السابق بقبولها.
وقد عرض الإمام شمس الدين السرخسي هذه المسألة عرضا وافيا بين فيه رأي الإمام أبي حنيفة، واحتج لهذا الرأي بالحديث الذي رويناه آنفا عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وبالنقل الذي نقلناه أيضا عن القاضي شريح.
كما قرر أن سبب عدم إجازة هذا النوع من الشهادة هو ما في شهادة أحد الزوجين للآخر من التهمة، وكذلك الأب لابنه أو الابن لأبيه، مستشهدا بالعادة وما عرف من إيثار منفعة المشهود له في هذه الحالات على منفعة المشهود عليه الأجنبي.
وتكلم أيضا عن مخالفة الإمام مالك في الولد والوالد، إذ يجيز شهادة كل واحد منهما لصاحبه، وذلك «لأن دليل رجحان الصدق في خبره، انزجاره عما يعتقد حرمته، ولا فرق في هذا بين الأجانب والأقارب؛ ولهذا قبلت شهادة الأخ لأخيه، فكذلك شهادة الوالد لولده، ولا معتبر بالميل إليه طبعا بعدما قام دليل الزجر شرعا.»
9
والسرخسي لا يرضى بحق قياس أمر الأب والابن على أمر الأخ وأخيه؛ لأن بين الأولين «بعضية» قد تكون سببا كافيا للتهمة، ولأن المنافع بين الأب والابن متصلة مشتركة؛ ولذلك قال الله تعالى:
آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا
بخلاف الإخوة وسائر القرابات.
وإذا كان مالك يخالف أبا حنيفة في شهادة الأب لابنه أو العكس، فإن الإمام الشافعي يخالف في شهادة أحد الزوجين للآخر، فيقول: «تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه؛ لأنه ليس بينهما بعضية، والزوجية قد تكون سببا للتنافر والعداوة، وقد تكون سببا للإيثار، فهي نظير الأخوة أو دون الأخوة، فإنها تحتمل القطع، والأخوة لا تحتمل.»
والسرخسي لا يرضى بحق أيضا هذا الاستدلال، بشهادة العرف والعادة والمشاهدة؛ ولهذا يرد عليه ببيان أن صلة الزوجية تعتبر حقا تهمة في شهادة كل واحد من الزوجين لصاحبه ... وذلك لأن «الظاهر ميل كل واحد منهما لصاحبه وإيثاره على غيره، كما في الآباء والأولاد، بل أظهر، فإن الإنسان قد يعادي والديه لترضى زوجته، وقد تأخذ المرأة من مال أبيها فتدفعه إلى زوجها، والدليل عليه أن كل واحد منهما يعد منفعة صاحبه منفعته، ويعد الزوج غنيا بمال الزوجة؛ ولهذا قيل في تأويل قوله تعالى (في شأن الرسول
صلى الله عليه وسلم ):
ووجدك عائلا فأغنى ؛ أي غني بمال خديجة رضي الله عنها.»
في المرافعات والقضاء
وهي مسألة في نطاق قانون المرافعات حسب تقسيمات القانون الوضعي، وهي مسألة ذات شعبتين، وفي كل منهما اختلف أبو حنيفة وابن أبي ليلى، وقد ذكرها أبو يوسف هكذا:
إذا أثبت القاضي في ديوانه الإقرار وشهادة الشهود ثم رفع إليه ذلك ولا يذكره، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: لا ينبغي له أن يجيزه. وكان ابن أبي ليلى يجيز ذلك. «ثم» قال أبو حنيفة: إن كان يذكره ولم يثبته عنده أجازه، وبه نأخذ. وكان ابن أبي ليلى يقول: لا يجيره حتى يثبته عنده وإن ذكره.
10
وهنا، ينبغي أن نلاحظ من أول الأمر: أن أبا حنيفة لم يل القضاء، وأن ابن أبي ليلى كان قاضيا، وكذلك كان أبو يوسف، بل كان قاضي القضاة، والقاضي تعرض عليه المشاكل العملية التي تتطلب حلولا قد يفطن لها الفقيه الذي يطبق الفقه عمليا، على حين لا يفطن لها الفقيه نظريا فقط.
وفي الحق، أنه من العسير عمليا أن يتذكر القاضي كل ما مر به من الخصومات والقضايا وما حصل من الإجراءات في كل منها. وما اتخذت السجلات في المحاكم إلا لإثبات ما يجري في القضايا، فيجب لذلك أن تكون بهذا الاعتبار أوراقا رسمية يعتمد عليها ويؤخذ بما يثبت فيها، وإلا لخلت هذه الأوراق الرسمية من الفائدة، وذهب الغرض الذي جعلت من أجله، وعجز القاضي عن البت في أكثر ما يعرض عليه ويطلب منه الحكم فيه؛ لإنهاء الخصومات قضائيا.
ومن ثم، كان نظر القاضيين (ابن أبي ليلى، وأبو يوسف) أدق وأنجح عمليا، ومن هنا نرى كيف يستفيد الفقه من القضاء إلى حد كبير، ومن ثم أيضا، كان رأي ابن أبي ليلى أدق في الناحية الثانية من المسألة، وهي أن القاضي لا يجيز الإقرار والشهادة ونحو ذلك، إلا إذا كان ثابتا عنده في أوراقه الرسمية، ولا يجيز شيئا من هذا إن كان يتذكره ولم يثبته؛ فالإنسان عرضة للنسيان، وذاكرته عرضة للخطأ، كما هو مشاهد وملموس.
وكأن شمس الدين السرخسي رأى الأمر بحاجة إلى تبرير رأي الإمام أبي حنيفة، مع ميله لرأي أبي يوسف الذي هو رأي محمد أيضا، فقال:
11
وهذا منهما (أي من الصاحبين) نوع رخصة؛ فالقاضي لكثرة اشتغاله يعجز أن يحفظ كل حادثة؛ ولهذا يكتب، وإنما يحصل المقصود بالكتاب إذا جاز له أن يعتمد على الكتاب عند النسيان، فإن الآدمي ليس في وسعه التحرز عن النسيان، ألا ترى إلى ما ذكر الله تعالى في حق من هو معصوم فقال:
سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله ! وفي تخصيصه بذلك بيان أن غيره ينسى، وسمي الإنسان إنسانا لأنه ينسى، قال الله تعالى:
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما
فلو لم يجز له الاعتماد على كتابة عند نسيانه، لأدى إلى الحرج، والحرج مرفوع، ثم ما كان في قمطره تحت خاتمه، فالظاهر أنه حق ... والقاضي مأمور باتباع الظاهر.
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله هو العزيمة، فالمقصود من الكتاب أن يتذكر إذا نظر فيه ... فإذا لم يتذكر كان وجوده كعدمه، وهذا؛ لأن الكتاب قد يزور ويفتعل به، والخط يشبه الخط، والخاتم يشبه الخاتم، وليس للقاضي أن يقضي إلا بعلم، وبوجود الكتاب لا يستفيد العلم مع احتمال التزوير والافتعال فيه.
هكذا يرى السرخسي، وهكذا يحاول تبرير رأي الإمام أبي حنيفة، ولكن هيهات! إن هذا رأي يوقع في الحرج، والحرج مرفوع بنص القرآن، فرأي ابن أبي ليلى والصاحبين أجدر بالاتباع، وبخاصة في هذا العصر الذي نظمت فيه سجلات المحاكم وأوراقها، واتخذ لذلك الضمانات الكافية التي توجب الاعتماد عليها، سواء تذكر القاضي ما ثبت فيها أو لم يتذكر شيئا منه.
إفلاس المشتري
وهذه مسألة من مسائل القانون التجاري، وهي ما الحكم فيمن اشترى سلعة وقبضها، ثم أفلس أو مات قبل دفع الثمن للبائع، أو بعدما دفع بعضه فقط، وهو مدين لآخرين؟ أيكون البائع أحق بالسلعة التي باعها إذا وجدها لدى المشتري؟ أم هو أسوة بالغرماء الآخرين، فيدخل المبيع ضمن ما يوجد لدى المشتري، ويباع ويقسم ثمنه بالحصص بين الدائنين؟
يرى أبو حنيفة وأصحابه أن البائع ليس له استرداد ما باع لنفسه خاصة، بل هو والدائنون الآخرون أسوة فيه، وحينئذ تباع ويأخذ كل من ثمنها بنسبة دينه من مجموع الديون.
ويرى الشافعي أن البائع أحق بما باع، وإذا، له أن يسترده ويختص به، وذلك لقول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «إذا أفلس المشتري فوجد البائع متاعه عنده فهو أحق به.» ولأن البائع لو عجز عن تسليم المبيع كان للمشتري حق فسخ العقد، فكذلك عجز المشتري عن دفع الثمن يجعل للبائع الحق في فسخ العقد أيضا؛ لأن البيع عقد معاوضة، ومعنى المعاوضات على المساواة في الالتزامات والحقوق.
ويحتج الكاساني لرأي أبي حنيفة بما روي عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، قال: «من باع بيعا فوجده وقد أفلس الرجل، فهو ماله بين غرمائه.»
ومن ناحية أخرى فإنه ليس للبائع حق حبس المبيع عن المشتري حتى ينقده الثمن إذا كان مليئا قادرا على دفعه، فلا يكون أحق بثمنه بعد موته أو إفلاسه؛ لأن الثمن بدل المبيع فيقوم مقامه. ثم يذكر الكاساني أن الحديث الذي يستدل به الشافعي على ما ذهب إليه من أن البائع أحق باسترداد ما باع لنفسه، محمول على ما إذا كان المشتري قد قبض المبيع بغير إذن البائع، فإنه في هذه الحالة يكون البائع أحق بما باع عند الأحناف أيضا.
12
وهنا، نجد من الخير الرجوع إلى بحث سابق لنا - وهو «محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي، عصر نشأة المذاهب»
13 - تعرضنا فيه للخلاف الذي ثار بين مالك والليث بن سعد فقيه مصر، في مسألة ما إذا باع رجل لآخر سلعة، ثم أفلس وقد دفع بعض ثمنها أو تصرف فيها بأن أنفق شيئا منها مثلا، ومن هذا البحث نعلم أن الإمام مالكا يذهب إلى ما ذهب إليه الإمام الشافعي من بعده، على حين يميل الإمام الليث إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة.
البيع مع البراءة
ولو باع رجل سلعة لرجل آخر على أنه بريء من كل عيب، وقبل المشتري هذا الشرط، فما حكم هذا العقد المقترن بهذا الشرط؟ يرى أبو حنيفة أن هذا العقد جائز، ولا يستطيع المشتري أن يرد المبيع بأي عيب، كائنا ما كان، وكان ابن أبي ليلى يقول: لا يبرأ من ذلك حتى يسمي العيوب كلها بأسمائها.
14
ويرى الشافعي أن شرط البراءة من العيوب المجهولة باطل، إلا أن يكون عيبا في باطن الحيوان فله في ذلك قولان، وله في البيع بشرط البراءة من كل عيب قولان أيضا: أحدهما أن العقد فاسد، والثاني أنه صحيح والشرط باطل.
15
وقد أطال صاحب المبسوط في الاحتجاج أولا للإمام الشافعي، ثم عقب عليه بالاحتجاج لما يراه أبو حنيفة وأصحابه.
16
وذلك أن الشافعي يحتج بنهي النبي
صلى الله عليه وسلم
عن بيع الغرر، وهذا بيع غرر؛ لأن المشتري لا يدري حال المعقود عليه، وأيضا فإن موجب العقد أن يستحق المشتري المعقود عليه سليما، وهذا الشرط يمنع من ذلك، فيكون مثله مثل شرط يمنع الملك للمشتري؛ ولأن البائع من ناحية ثالثة، يكون قد التزم بهذا الشرط تسليم المجهول بالتزامه تسليم المبيع على الصفة التي هو عليها حال العقد، وهذا ما لا يعلمه المشتري؛ ومن كل ذلك يكون العقد غير صحيح، بخلاف ما إذا سمى البائع العيب، فإن ما يلتزم تسليمه بالعقد حينئذ يكون معلوما، فيكون العقد صحيحا.
وهكذا نرى الشافعي لا يجيز العقد بهذا الشرط، استنادا إلى قواعد الفقه العامة؛ ومنها النهي عن بيع الغرر، وعدم صحة الإبراء من الحقوق المجهولة، وهذا وذاك يمنع صحة العقد.
أما أبو حنيفة، فيستند إلى أمرين: قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا.» والثاني اتفاقهم
17
على صحة البيع بشرط البراءة من كل عيب. فهذا يزيد بن ثابت قد ابتاع مملوكا من عبد الله بن عمر، بشرط البراءة من كل عيب، ثم طعن فيه بعيب، فاختصما إلى سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فطلب أن يحلف البائع بالله أنه باعه وما به عيب يعلمه وكتمه عنه، فنكل عن اليمين، فرده عليه، ومعنى هذا أنه لو كان قد حلف على صحة الواقعة ، للزم البيع ولم يستطع المشتري أن يفسخه، فيدل على أن البيع بهذا الشرط إن هذا صح يكون جائزا.
ثم الإبراء عن الحقوق المجهولة يصح، بدليل أن النبي
صلى الله عليه وسلم
بعث علي بن أبي طالب ليصالح بني جذيمة، فأعطاهم دية ما فقدوا من دماء وأموال ثم بقي في يديه بعض المال، فأعطاه لهم، وقال هذا لكم عما لا تعلمونه ولا يعلمه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك الرسول فسر منه، فهذا دليل جواز الصلح عن الحقوق المجهولة، فضلا، عن أن الإبراء عن الحقوق المجهولة هو إسقاط لها، فيصح عن المعلوم والمجهول منها؛ لأنه لا يحتاج إلى التسليم، فتكون الجهالة هنا غير مؤدية إلى المنازعة.
والقول بأن الشرط يمنع موجب العقد أو مقتضاه، وهو تسليم المبيع سليما - وهذا ما لا يقدر عليه البائع ما دام المبيع معيبا، وكل شرط كذلك لا يصح ويفسد العقد به - قول غير صحيح؛ لأن مقتضى العقد هو لزومه، والبائع بهذا الشرط قد التزم تسليم المبيع على ما هو عليه، وذلك مقدور عليه بلا ريب، والقدرة على التسليم شرط جواز العقد، فكيف يقال إنه يكون هنا موجبا لفساده؟
هكذا يستدل أبو حنيفة وأصحابه، ولكننا نلاحظ أن الاستدلال بما كان من سيدنا علي رضي الله عنه مع بني جذيمة غير صحيح، فإن صاحب المبسوط أشار إلى الحادثة بإيجاز شديد، على حين أننا حين نرجع إليها مبسوطة كما رواها ابن هشام في سيرته، يظهر لنا أنه ليس فيها إبراء عن حقوق مجهولة.
18
والأمر أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
أرسل بعد فتح مكة السرايا فيما حولها يدعو إلى الله عز وجل، ولم يأمرهم بقتال، وكان من بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا، ولم يبعثه مقاتلا؛ لكنه وطئ بني جذيمة فأصاب منهم، بعد أن سلموا السلاح بناء على طلبه، وبناء على قوله لهم: قد وضعت الحرب وأمن الناس.
فلما بلغ ذلك الرسول
صلى الله عليه وسلم
رفع يديه إلى السماء، ثم قال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.» وهنا، نترك ابن هشام يتم القصة كما رواها عن ابن إسحاق، فيقول: ثم دعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وقال: «يا علي! اخرج إلى هؤلاء فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك.» فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى إنه ليدي لهم ميلغة الكلب.
19
حتى إذا لم يبق لهم شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من مال، فقال لهم على حين فرغ منهم: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا. قال: فإني أعطيكم هذه البقية من المال احتياطا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل، ثم رجع إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأخبره، فقال: «أحسنت وأصبت.»
إذا، ليس في الأمر - كما نرى - إبراء عن حقوق مجهولة، فإنه قد أدى إلى بني جذيمة ديات كل ما أصيبوا من دماء وأموال، حتى لم تبق له حقوق مجهولة أو معلومة بإقرارهم، وإنما أعطاهم ما بقي لديه من المال زيادة في تطييب خاطرهم بعدما أصيبوا به.
ومع هذا، لنا أن نقرر أننا نميل إلى رأي أبي حنيفة بصفة عامة من جواز عقد البيع مثلا بشرط البراءة من كل عيب، ما دام المشتري قد قبل ذلك، والله تعالى يقول:
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم . فضلا عما في إجازة هذا من تيسير في المعاملات حيث لا ضرر ولا ضرار؛ ونحن قد تعارفنا أن نبيع ونشتري في كثير من الحالات على هذا الشرط، ولا نجد في ذلك ضررا، ولم يحدث عنه نزاع أو خصومة .
في الشفعة
وهذه مسألة في الشفعة ذهب فيها أبو حنيفة مذهبا يكاد يكون قد تفرد به، وذهب فيها الجمهور الأعظم من الفقهاء مذهبا آخر يعارضه؛ نعني من هو الشفيع؟ وهل تثبت الشفعة للشريك ثم للجار، أو للشريك وحده؟
وقد أثارت هذه المسألة خلافا شديدا بين الفقهاء من ناحية، وبينهم وبين رجال القانون المدني عندنا من ناحية أخرى. ولكل من أصحاب المذاهب الفقهية أدلته التي يلجأ إليها ويستدل بها، وغالب هذه الأدلة أحاديث وآثار يرويها ويجدها صحيحة، ثم يتبعها بما يراه من ناحية النظر العقلي، وبعد هذا يلتفت إلى ما يستدل به معارضوه من أحاديث فيؤول ما يراه صحيحا منها بما يؤيد وجهة نظره، ومن نظر عقلي فيقابله بنظر عقلي آخر.
فعند أبي حنيفة وأصحابه أن الشفعة تثبت للشريك في نفس المبيع، ثم للشريك في حق من حقوق الارتفاق الخاصة به، مثل الشرب والطريق (وهذا ما قد يسمى بالخليط)، ثم للجار بعد هذين، وهم يستدلون لذلك بقول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «جار الدار أحق بالدار.» وبقوله: «الشريك أحق من الخليط، والخليط أحق من الجار، والجار أحق من غيره.» وبقوله فيما رواه عبد الملك بن مروان عن عطاء عن جابر رضي الله عنهم: «الجار أحق بسقبه.»
20 (وفي رواية: أحق بشفعته) ينتظر بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا.
وهذا الحديث كما يقول السرخسي، من أقوى ما يستدل به، فإنه لا شبهة في صحة هذا الحديث؛ لأن عبد الله بن مروان كان من أهل الحديث، وعطاء ابن أبي رباح إمام مطلق في الحديث، وجابر رضي الله عنه من كبار الصحابة رضوان الله عليهم، فلا طعن في إسناد هذا الحديث، ولا وجه لحمل الحديث على الشريك (كما يرى الفقهاء الآخرون على ما سيأتي)؛ فإنه إذا حمل على الشريك كان هذا لغوا، وإنما يكون مفيدا إذا كان المراد جارا هو شريك.
21
وبعد هذا يذكر الإمام سراج الدين عمر الغزنوي الحنفي المتوفى عام 773ه، أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على استحقاق الشفعة بالجوار ؛ حتى قال علي وابن مسعود رضي الله عنهما: إنه قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالشفعة بالجوار، وكتب عمر رضي الله عنه إلى شريح أن يقضي بالشفعة للجار الملاصق.
22
أما الفقهاء الآخرون، نعني الشافعية والمالكية والحنابلة وأهل الظاهر، فقد أجمعوا على أن حق الشفعة لا يثبت إلا للشريك في المبيع نفسه؛ أي لا للشريك في حق من حقوق الارتفاق الخاصة ولا للجار بالطريق الأولى.
وهم يستدلون لما ذهبوا إليه بأن الشفعة حق ثبت على خلاف الأصل؛ لأن الأصل حرية المالك في أن يبيع لمن يشاء ولو لم يكن شريكا أو جارا له؛ وإذا، فلا يصح التوسع في إعطاء هذا الحق، بل يجب الوقوف في ذلك على ما ورد به النص عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا يروون أحاديث غير قليلة، ومنها: قضى رسول الله بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقفت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة.
وفضلا عن الإمام الشافعي نفسه، نذكر لإثبات هذا الرأي من الشافعية الإمام الغزالي إذ يقول: «فلا شفعة للجار عندنا وإن كان ملاصقا.»
23
والرملي يصرح بهذا أيضا فيقول: «ولا شفعة إلا لشريك في العقار ولو ذميا.»
24
ويوجب تأويل الأحاديث التي جاءت في إثباتها للجار، وذلك بحملها على الشريك لأن ملك كل شريك مجاور لملك صاحبه، فكل منهما جار للآخر.
25
ونحن نرى أن الحكمة في إثبات حق الشفعة للشريك، وهو دفع الضرر عنه، يوجب إثباتها للجار أيضا كما ذهب إليه الأحناف، وبخاصة ولن يضار البائع ولا الأجنبي الدخيل الذي اشترى المشفوع فيه: فالأول سيأخذ نفس الثمن الذي أخذ به المشتري الأجنبي، وهذا سيسترد ما دفعه من ثمن وتكاليف، والشريعة الإسلامية شريعة معان وقياس، لا ألفاظ، فكيف وقد ورد الحديث بإثباتها للجار!
هذا من ناحية الفقه الإسلامي، أما القانون المدني الجديد فإن المادة 936 منه جعلت للجار أن يأخذ بالشفعة في حالات خاصة، ومن هذه الحالات أن يكون للأرض المبيعة حق ارتفاق على أرض الجار، أو كان حق الارتفاق لأرض الجار على الأرض المبيعة؛ ومنها أن تكون أرض الجار ملاصقة للأرض المبيعة من جهتين، وأن تساوي في القيمة نصف ثمن الأرض المبيعة على الأقل.
26
وهذه مسألة أخرى في الشفعة يختلف فيها أبو حنيفة أيضا وبعض الفقهاء، وهي خاصة ببعض ما يسقط الشفعة للشفيع بعد أن ثبت له الحق فيها، وقد ذكرها الإمام أبو يوسف بقوله: وإذا اشترى الرجل الدار وسمى (أي من الثمن) أكثر مما أخذها به، فسلم ذلك الشفيع، ثم علم بعد ذلك أنه أخذها بدون ذلك؛ فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: هو على شفعته؛ لأنه إنما سلم بأكثر من الثمن، وبه نأخذ. وكان ابن أبي ليلى يقول: لا شفعة له؛ لأنه قد سلم ورضي.
27
وقد زاد الإمام السرخسي هذه المسألة وضوحا وأتى فيها بصور قد تبدو متقاربة ولكن الحكم يختلف فيها عند بعض الفقهاء، وهو كشأنه دائما يستدل لكل رأي بذكر دليله الذي يستدل به صاحبه.
28
إنه أولا: يذكر أنه لو أخبر الشفيع أن الثمن ألف درهم فسلم الشفعة، فإن كان أكثر فتسليمه صحيح، وإن كان أقل فله الشفعة. وقال ابن أبي ليلى: لا شفعة له في الوجهين؛ لأنه أسقط حقه بعدما وجبت له الشفعة ورضي بمجاورة المشتري، فليس له أن يطلب الشفعة وإبعاد المشتري بعد أن رضي به.
ثم يحتج بعد هذا لأبي حنيفة وأصحابه بأن الشفيع قد أسقط حقه، بشرط أن يكون الثمن ألف درهم؛ لأنه بنى تسليمه على ما أخبر به، فكأنه قال: سلمت إن كان الثمن ألفا. وإنما أقدم على إسقاط حقه لغلاء الثمن في رأيه، أو لعدم استطاعته تحصيل الألف، وهذا المعنى لا يزول إذا كان الثمن أكثر من ألف، بل يزداد. فأما إذا كان الثمن أقل من ألف، فقد انعدم السبب الذي من أجله رضي بإسقاط حقه. فيكون له أن يطلب الشفعة.
وهذا لأن الأخذ بالشفعة شراء، وقد يرغب الإنسان شراء شيء ما بثمن معين، ولا يرغب إذا كان الثمن أكثر، ولو سلم الشفعة قبل الشراء كان تسليمه باطلا؛ لأنه يكون قد تنازل عن حق لم يثبت له بعد، إذ لم يوجد بعد سببه، والإسقاط قبل وجود سبب الوجود يكون لغوا؛ مثله في هذا مثل الإبراء عن الثمن قبل البيع فيكون لغوا لا أثر له.
وثانيا، يعرض هذه الصور: (أ)
لو أخبر المشتري أن الثمن هو شيء من المكيلات أو الموزونات فرغب عن الشفعة وتنازل عنها، فإذا الثمن من جنس آخر أقل أو أكثر قيمة مما أخبر به أولا، فهو على شفعته وله أن يطلبها؛ لأن الإنسان قد يتيسر له في الشراء جنس دون جنس من المثليات التي تدفع ثمنا، فكأنه قال: سلمت الشفعة إن كان الثمن مقدار كذا مما يكال أو يوزن. (ب)
وكذلك لو أخبر أن الثمن شيء من القيميات، كعبد أو ثياب أو دابة مثلا، فتنازل عن الشفعة، ثم ظهر له أنه كان شيئا مكيلا أو موزونا؛ كان له أن يطلب بالشفعة؛ لأن للشفيع أن يأخذ المبيع المشفوع فيه بمثل ما اشتراه المشتري به إن كان الثمن له مثل، وإلا أخذ بقيمته؛ وقد يكون ميسورا للشفيع - في هذه الحالة - أن يدفع الثمن مكيلا أو موزونا، ويتعذر عليه تحصيل الدراهم ليدفع ثمنا. (ج)
ولو قيل للشفيع: إن الثمن ألف درهم فتنازل عن الشفعة، ثم علم أنه مائة دينار قيمتها ألف درهم أو أقل أو أكثر؛ فعندنا هو على شفعته إن كان قيمتها أقل من الألف، وإلا فتنازله صحيح، وليس له أن يأخذ بالشفعة من جديد. وعلى قول زفر، هو على شفعته على كل حال من هذين الحالين؛ وذلك لأن الدراهم والدنانير جنسان من الأثمان؛ ولهذا يحل التفاضل بينهما في الصرف مثلا، فكأنما قال: سلمت إن كان الثمن ألف درهم، فإذا تبين له أن الثمن دنانير فهو على شفعته، كما في المكيلات والموزونات.
هذا هو رأي زفر واستدلاله عليه، ولكن أبا حنيفة ومن معه يرون أن الدنانير والدراهم جنسان، وإن اختلفا صورة، فالمقصود هو المالية والثمنية، واستبدال أحد النقدين بالآخر ميسور عادة، فلا يتقيد رضاه بالصورة، وإنما يتقيد بالمعنى وهو مقدار المالية؛ ولهذا يكون تنازله عن الشفعة صحيحا إذا كانت مالية الثمن أقل مما قيل له، ولا يكون صحيحا إذا كانت مساوية لما أخبر به أو تزيد عنه، وهذا لأن من لا يرغب في شراء الشيء بألف درهم لا يرغب كذلك في شرائه بمائة دينار قيمتها ألف درهم.
29
ونذكر من مسائل الخلاف في الشفعة أيضا هذه المسألة، وهي إذا تزوجت امرأة على جزء من دار مثلا، فهل يثبت حق الشفعة للشريك في هذه الدار، أو لا يثبت؟ يقول أبو حنيفة بأنه لا شفعة لأحد في هذه الحالة. ويرى ابن أبي ليلى أن له الشفعة، وحينئذ يدفع قيمة هذا الجزء. وعند الشافعي يثبت للشريك حق الشفعة، ولكن عليه أن يدفع مهر المثل لا قيمة هذا النصيب.
ويحتج أبو حنيفة لمذهبه بأن الشفعة تجب في معاوضة مال بمال، وهذا الجزء الذي أخذته الزوجة بدل صداقها يعتبر بمنزلة الموهوب لها؛ لأن حق متعة الزوج بزوجته لا يقدر بمال، وحينئذ لا تجب الشفعة.
30
أما الآخرون فيرون أن الغرض من الشفعة دفع ضرر الدخيل، وهذا متحقق هنا. ثم من الممكن أن نعرف ماذا يجب على الشفيع دفعه، بدل ما سيأخذه بالشفعة سواء أكان ذلك قيمة العقار على رأي ابن أبي ليلى، أم قيمة بدله عند الشافعي. والخلاف كذلك يجري فيما لو جعل النصيب من العقار بدل خلع، أو أجرة عمل الطبيب أو المحامي مثلا.
بيع الزرع قبل ظهور صلاحه
وقد اعتاد بعض كبار تجار الخضر والفاكهة عندنا بمصر وفي غير مصر، أن يشتري الواحد منهم ثمار هذه القطعة من الأرض قبل أن تنضج وتصير صالحة للاستهلاك على أنها خضروات وفواكه، فهل هذا العقد يعتبر صحيحا؟
هذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، بناء على اختلافهم في اشتراط وجود البيع حين العقد، أو عدم اشتراطه. وقد تعرض لها الإمام أبو يوسف فقال: إذا اشترى الرجل ثمرا قبل أن يبلغ، من أصناف الغلة (أو الثمار كما في المبسوط) كلها، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه قال: إذا لم يشترط ترك ذلك الثمر إلى أن يبلغ فإن البيع جائز، ألا ترى أنه لو اشترى فصيلا.
31
يفصله على دوابه قبل أن يبلغ كان ذلك جائزا!
ولو اشترى شيئا من الطلع.
32
حين يخرج فقطعه كان جائزا: وإذا اشتراه ولم يشترط تركه فعليه أن يقطعه، فإذا استأذن صاحبه في تركه فأذن له في ذلك فلا بأس بذلك، وبه نأخذ، وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقول: لا خير في بيع شيء من ذلك قبل أن يبلغ. ولا بأس إذا اشترى شيئا من ذلك قد بلغ أن يشترط على البائع تركه إلى أجل، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول: لا خير في هذا الشرط.
33
ويجب التنبه هنا إلى أن قولهم: لا خير في هذا العقد، معناه أنه فاسد، وكذلك قولهم: لا خير في هذا الشرط، معناه أنه فاسد فيفسد به العقد إذا كان من العقود التي تفسد بالشروط الفاسدة مثل عقود المعاوضات، فهكذا كان اصطلاح فقهاء ذلك العصر، وقد بينا ذلك في كتابنا «عصر نشأة المذاهب» عند بحث مصطلحات الفقه وأصوله.
34
ولذلك نجد صاحب المبسوط، كما سنرى، يعبر عن تلك المسألة الأخيرة التي جاءت عن كلام أبي يوسف بقوله: فإن كانت الثمار قد بلغت؛ يعني انتهى عظمها فاشتراها بشرط الترك إلى أجل معلوم، فالعقد فاسد عندنا، وقال ابن أبي ليلى: العقد صحيح.
هذا وقد فرع الفقهاء من هذه المسألة فروعا عديدة يختلف في بعضها الأحناف والشافعي، وفي بعضها يختلف أبو حنيفة وأبو يوسف مع محمد بن الحسن، على أنها كلها فروع تقع في الحياة العملية في أيامهم وأيامنا هذه؛ ولهذا نجيز لأنفسنا أن نطيل قليلا بذكر بعضها:
35 (أ)
إن باع البائع الثمر على الشجر بعد ظهوره ولكن لم يبد صلاحه بعد، وشرط أن يقطعه المشتري في الحال فينتفع به أيما انتفاع، كان العقد جائزا وإن خالف في ذلك بعض الأحناف، وكذلك إذا باعه مطلقا عن الشرط؛ أي لم يشترط قطعه أو بقاءه على الشجر حتى يكون صالحا للاستهلاك باعتباره خضرا أو فاكهة، يكون العقد جائزا عند الأحناف .
36
وحينئذ يجب على المشتري قطعه للحال، خلافا للشافعي، فعندنا يكون العقد غير جائز؛ لأنه ما دام لم يشترط القطع للحال، يكون العرف حكما، وقد تعارف الناس في هذه الحالة ترك ما يشترى على أصوله حتى يصل إلى أن يصير صالحا للأكل، وإذا يكون العقد غير جائز؛ وذلك لنهي النبي
صلى الله عليه وسلم
عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، أو قال: حتى يزهي.
37
أو قال حتى تؤمن العاهة.
38 (ب)
ولو كان البيع من الخضر والفاكهة مثلا قد بدا صلاحه، وكان البيع وقع بشرط تركه على أصوله، فإن كان لم يتناه عظمه، بأن كان لا يزداد بعد ذلك ولكن لم ينضج، كان البيع فاسدا بلا خلاف؛ لأن هذا الشرط يتضمن استعارة الشجر والأرض وهما ملك البائع، فيكون ذلك صفقتين في صفقة واحدة، وقد نهى الرسول
صلى الله عليه وسلم
عن ذلك كما هو معروف!
وأما إذا كان تناهى عظمه، فالبيع فاسد أيضا عند الشيخين (أبي حنيفة وأبي يوسف)، وفي رأي محمد أنه يجوز استحسانا لتعارف الناس هذه المعاملة ورضاهم بها، ولكن الشيخين يقولان بأن شرط الترك فيه منفعة للمشتري، والعقد لا يقتضيه، كما أنه شرط لا يلائم العقد (لأن مقتضى عقد البيع التسليم في الحال) ومثل هذا الشرط يكون فاسدا، ويفسد العقد به. ثم إنهما بعد هذا لا يسلمان بأن هذا متعارف عليه في المعاملات، وإنما المتعارف التسامح بالترك من غير اشتراطه. (ج)
وقد يشتري الإنسان هذه الخضراوات والفواكه، وقد بدا صلاح بعضها دون البعض، فما الحكم؟ البيع فاسد، على أصل الشيخين؛ لما يقتضيه شرط الترك من استعارة المشتري الأرض والشجر، فيكون هذا صفقتين في صفقة، وهو منهي عنه كما ذكرنا.
وأما على رأي محمد بن الحسن من تحكيم العرف، فإنه إذا كان صلاح الباقي قريب الزمن كان العقد جائزا؛ لأن العادة ألا تدرك الخضر والفواكه دفعة واحدة، بل على التعاقب بعضها بعد بعض، فصار كأنه اشتراه بعد إدراك الكل، ولكن لو كان يتأخر إدراك البعض عن البعض تأخيرا فاحشا وزمنا طويلا، كالعنب ونحوه كما يذكر صاحب البدائع، يجوز العقد في الثمار التي أدركت، ولا يجوز في الأخرى.
على أن الإمام مالك بن أنس وبعض الفقهاء الأحناف أيضا يجوزون العقد فيما أدرك وما لم يدرك من الخضر والفاكهة، بل يجوزونه فيما لم يخرج منها تبعا لما خرج وظهر، وذلك من باب الاستحسان وتيسيرا على الناس في معاملاتهم، فإنهم تعاملوا بيع الكرم بهذه الصفة.
39
ولهم في ذلك عادة ظاهرة، وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج بين.
40
وهذا معناه، جواز أن يكون المعدوم موضوعا لعقد البيع في الخضر والفواكه متى ظهرت البواكير.
والمهم عندنا في هذه المسألة بصورها المختلفة، إبراز ما رأيناه من اعتبار العرف في أحكام المعاملات، وذلك تيسيرا للناس؛ ولذلك كان العرف عند كثير من الفقهاء أصلا من أصول الأحكام، ولا عجب في هذا! فالدين يسر لا عسر.
المزارعة
وهذه مسألة تتعلق ببعض وسائل استغلال الأرض الزراعية؛ فمن له شيء من هذه الأرض له أن يزرعها بنفسه، وله أن يؤجرها لمن يريد بأجر معلوم مسانهة مثلا؛ ولكن هل له أن يعطيها لغيره مزارعة، فيكون ما يخرج منها قسمة بينه وبين الزارع بالنصف أو الربع مثلا؟
هذه مسألة تتعلق بضرب من استغلال الأراضي الزراعية لا تزال تجري عليه في أيامنا هذه في كثير من البلاد الإسلامية، ومع هذا فهي مسألة خلافية من قديم الزمان، وقد عرضها أبو يوسف فقال: «إذا أعطى الرجل أرضا مزارعة بالنصف أو الثلث أو الربع، أو أعطى نخلا أو شجرا معاملة.
41
بالنصف أو أقل من ذلك أو أكثر؛ فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: هذا كله باطل؛ لأنه استأجره بشيء مجهول، «وكان» يقول: أرأيت لو لم يخرج من ذلك شيء، أليس كان عمله بغير أجر؟
وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقول: كل ذلك جائز، بلغنا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه أعطى «أرض» خيبر بالنصف فكانت كذلك حتى قبض، وكذلك مدة خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وعامة خلافة عمر.
ثم يقول أبو يوسف بعد هذا: وبه (أي برأي ابن أبي ليلى) نأخذ. وإنما قياس هذا عندنا مع الأثر؛ ألا ترى أن الرجل يعطي الرجل مالا مضاربة بالنصف ولا بأس بذلك! وقد بلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعن عبد الله ابن مسعود وعن عثمان بن عفان رضي الله عنهما، أنهم أعطوا مالا مضاربة، وبلغنا عن سعد بن أبي وقاص، وعن ابن مسعود رضي الله عنهما، أنهما كانا يعطيان أرضهما بالربع والثلث.»
42
هذا، وقد تناول الإمام السرخسي هذه المسألة بكثير من العناية التي تستحقها؛ فذكر ما جاء فيها من الأحاديث عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ومن الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما كان عليه العمل عندهم، ثم بين آراء كل من الفقهاء المختلفين فيها واستدلال كل منهم لما ذهب إليه، وعني ببسط رأي أبي حنيفة ووجهة نظره في المسألة، ونستطيع أن نلخص هذا البحث، الذي أطال فيه السرخسي، على هذا النحو:
43
لا خلاف في أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
ترك يهود خيبر يعملون في أراضيهم على أن يتقاسم المسلمون وإياهم ما يخرج منها مناصفة، وأن هذا استمر مدة خلافة أبي بكر، ثم في خلافة عمر رضي الله عنهما، ومع ذلك يرى أبو حنيفة عدم جواز هذا العقد الذي يكون بين صاحب الأرض وبين من يزرعها على نصيب معلوم مما ينتج منها، فكيف هذا مع ما عمله الرسول
صلى الله عليه وسلم ؟
إنه يرى أن النبي عليه الصلاة والسلام قد من على أهل خيبر برقابهم وأراضيهم ونخيلهم، وجعل نصف ما يخرج من الأرض من الثمر ونحوه خراجا عليهم، وأنه قال لهم حين افتتح ديارهم: «أقركم ما أقركم الله، على أن الثمر بيننا وبينكم.» وفي هذا الحديث - كما يقول السرخسي - بيان ما جرى بين الرسول
صلى الله عليه وسلم
وبينهم كان على طريقة الصلح، وقد يجوز من الإمام «المعاملة» بين بيت المال وبين الكفار على طريق الصلح ما لا يجوز مثله فيما بين المسلمين، فيضعف من هذا الوجه استدلال مجيزي هذا العقد بما كان بين الرسول
صلى الله عليه وسلم
وبين يهود خيبر.
وبعد أن أول أبو حنيفة صنيع رسول
صلى الله عليه وسلم
مع اليهود على هذا النحو، نراه يستدل لمذهبه بحديثين رويا في المسألة عن رافع بن خديج رضي الله عنهما، وهما: (أ)
أن النبي
صلى الله عليه وسلم
مر بحائط (أي بستان) فأعجبه، فقال: لمن هذا؟ فقال رافع رضي الله عنه: لي، استأجرته. فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تستأجره بشيء منه.» (ب)
أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن كراء المزارع بشيء مما يخرج منها، وقال لرافع هذا: ازرعها أو امنحها أخاك.
فهذان الحديثان يفيدان حقا النهي عن المزارعة والمعاملة؛ أي كراء الأرض بشيء مما يخرج منها كما يرى أبو حنيفة، ولكن لنا أن نلتفت إلى أن الحديث الثاني، إذا أخذه وحده قد يفيد عدم جواز تأجير المالك أرضه التي لا يستطيع أو لا يريد زراعتها بمبلغ معين من النقود كما نفعل في أيامنا كثيرا، وبخاصة إذا جعلنا الأمر للوجوب في قوله
صلى الله عليه وسلم : «ازرعها أو امنحها أخاك.» مع أن جواز هذا أمر معروف، لا يخالف فيه إلا بعض المتعسفين في آرائهم.
44
ومما يدل له ما جاء في الحديث الأول من قول رافع عن البستان: لي، استأجرته. واقتصار الرسول
صلى الله عليه وسلم
على نهيه عن استئجاره بشيء منه، لا عن الاستئجار مطلقا.
ولهذا، لنا أن نقول إن الأمر في الحديث الثاني ليس للوجوب، وإنما المراد هنا - كما يقول السرخسي - الانتداب إلى ما هو من مكارم الأخلاق، بأن يمنح الأرض غيره إذا استغنى عن زراعتها بنفسه ولا يأخذ منها أجرا على ذلك.
وإذا كان السرخسي قد بين هكذا رأي الإمام أبي حنيفة، ووجهة نظره واستدلاله، فإنه يتعرض بتفصيل أيضا إلى رأي مخالفيه، ويبين أدلتهم لما ذهبوا إليه. إنه يذكر أولا أمر إعطاء الرسول
صلى الله عليه وسلم
أرض خيبر لأهلها على النصف من الخارج منها، وأن هذا ما كان يفعل مثله كثير من كبار الصحابة بعد رسول الله.
ثم يقول بعد ذلك: «واعلم بأن المزارعة في جوازها اختلاف بين العلماء، وكان الخلاف في الصدر الأول والتابعين بعدهم، واشتبهت فيها الآثار عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فجمع محمد رحمه الله ما نقل من الآثار في ذلك، ثم بنى عليه بيان المسألة عن طريق المعنى.»
45
وبعد هذا ذكر كثيرا من القائلين بجوازها، ومنهم علي ومعاذ رضي الله عنهما، ومنهم عمر رضي الله عنه الذي قال فيه رسول الله: «أينما دار عمر فالحق معه.» فهو حجة في إجازة هذا العقد لمن يجيزه، وقد روى الضحاك عنه أنه كان يكري الأرض الجرز بالثلث والربع، وكان لا يرى بذلك أساسا، والمراد بها الأرض البيضاء التي تصلح للزراعة، ومنهم أيضا الزبير بن العوام، وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم جميعا، وقد كان هذا من كبار فقهاء الصحابة.
وكان لعبد الله بن عمر موقف خاص انفرد به؛ فقد كان يرى جواز عقد المزارعة، وكان يتعامل به ولا يرى في ذلك بأسا، حتى زعم - وهذا تعبير ابن عمر نفسه - رافع بن خديج أن رسول الله نهى عنها فتركها، وقد كان رضي الله عنه معروفا بالزهد والفقه بين الصحابة ويرى السرخسي أن هذا إشارة منه إلى أنه يعتقد في المزارعة الجواز، ولكنه تركها لمطلق النهي الذي ورد عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وكم من حلال يتركه المرء عن طريق الزهد وإن كان يعتقد الجواز.
46
تلك هي آراء الفقهاء في هذه المسألة العملية الحيوية، وتلك هي أدلة كل من الفريقين، ولكل وجهة هو موليها، وإن كان الواضح أن رأي مخالفي أبي حنيفة هو الصحيح الواجب الاتباع، فإن الآثار مشتبهة في المسألة حقا، ولكن عمل أولئك الصحابة والعرف الذي جروا عليه، يجعلنا نرى أن الصحيح جواز هذا العقد، بل إنها؛ أي المزارعة، شريعة متوارثة لتعامل السلف والخلف، ذلك من غير إنكار كما يقول الكاساني.
47
والواقع يشهد بذلك حتى اليوم.
وما تعلل به الإمام أبو حنيفة من أن صاحب الأرض يكون قد استأجر المزارع بشيء مجهول، لا يصلح أن يكون دليلا لعدم صحة هذا العقد، فالأمر في هذا كالأمر في المضاربة بشيء من المال يقدمه رجل لآخر يتجر به، على أن يكون الربح بينهما، فإن الربح حين العقد يكون مجهولا طبعا.
وقوله: أرأيت لو لم يخرج من ذلك شيء، أليس كان عمله بلا أجر لا يمنع من صحة العقد أيضا؟ كالعامل مضاربة في المال إذا لم يربح يكون قد عمل بلا شيء، وكالمستأجر للأرض بمبلغ من النقود، ثم قد لا يخرج له من الأرض شيء، فيكون قد عمل بغير أجر، وقد خسر ما دفعه أجرة للأرض أيضا.
رجوع المعير
وفي العارية مسائل كثيرة يختلف الفقهاء فيها، ونذكر منها مسألة جواز أو عدم جواز رجوع المعير في عاريته أرضه للبناء أو للزرع، وقد عرض الإمام أبو يوسف حالة أن تكون الإعارة للبناء هكذا:
48
وإذا أعار الرجل أرضا يبني فيها، ولم يوقت وقتا، ثم بدا له أن يخرجه منها بعد ما بنى، فإن أبا حنيفة كان يقول: يخرجه، ويقال للذي بنى انقض بناءك، وبهذا نأخذ. وكان ابن أبي ليلى يقول: الذي أعاره ضامن لقيمة البناء، والبناء للمعير، وكذلك بلغنا عن شريح. فإن وقت له وقتا، فأخرجه قبل أن يبلغ ذلك الوقت فهو ضامن لقيمة البناء في قولهما وفي بعض نسخ «الأصل» للإمام محمد بن الحسن الشيباني: «في قولهم».
ويذكر هذه المسألة الإمام محمد بن الحسن في كتابه «الأصل» هكذا:
49
رجل استعار من رجل أرضا على أن يبني فيها، أو على أن يغرس فيها نخلا، فأذن له صاحبها في ذلك، ثم بدا له أن يخرجه، فله ذلك عندنا.
ثم يشرح السرخسي ذلك، مبينا مخالفة مالك من ناحية، وابن أبي ليلى من ناحية أخرى، ويذكر لكل من الجميع وجهة نظره ودليله في شيء من التفصيل كما تعودنا منه.
فهو يذكر أن الإمام مالك بن أنس يرى أنه ليس للمعير أن يخرج المستعير حتى ينتهي البناء أو الغراس؛ لأن المستعير لم يتعد إذ بنى أو غرس، ما دام قد أذن له صاحب الأرض في ذلك، فلا يلتزم إذا بهدم ما بنى أو قلع ما غرس من الشجر ، ومن الحق أن صاحب الأرض يتضرر بهذا، ولكنه قد رضي بالتزام ذلك.
ولكن أبا حنيفة وصاحبيه يقولون بأن الإعارة عقد تبرع، وعقود التبرعات من العقود غير اللازمة بطبيعتها؛ لأنه ما على المحسنين من سبيل. فللمالك إذا أن ينتفع بأرضه متى شاء، والمستعير يعلم أنه شغل ملك غيره من غير حق يجعل ذلك لازما له، فعليه لذلك أن يفرغ الأرض مما شغلها به، متى طلب ذلك صاحبها، دون أن يضمن هذا شيئا له.
أما ابن أبي ليلى، فيرى أن لصاحب الأرض أن يأمر المستعير بهدم البناء أو قلع الغراس متى شاء، ولكن عليه أن يضمن قيمة هذا وذاك، حتى لا يضار أحدهما؛ إذ بهذا تسلم الأرض لصاحبها، ويأخذ المستعير قيمة بنائه أو غرسه.
هذا إذا لم يحدد صاحب الأرض زمنا للعارية، فإن فعل، ثم بدا له فسخ العقد قبل هذا الأجل، كان عليه للمستعير ضمان قيمة بنائه وغرسه عند الإمام وصاحبيه. ولكن «زفر» وهو من الأحناف، يرى حتى في هذه الحال أنه لا ضمان على المعير؛ لأن التوقيت بزمن معين في عقد العارية لا يجعله لازما على خلاف طبيعته.
ولكن أبا حنيفة ومن معه يرون أنه بتحديد زمن العارية، ثم بطلبه فسخها قبل هذا الأجل، يصير غارا للمستعير الذي ما كان ليتكلف البناء والغرس لوكان لم يوقت للإعارة وقتا معينا، ولمن اغتر بفعل من غيره أن يدفع عن نفسه الضرر، وهذا يكون هنا بتضمين صاحب الأرض قيمة البناء والغراس.
ومن ذلك الذي عرفناه، نرى أن الإمام أبا حنيفة يتمسك بالقواعد العامة للعقود، ومنها أن عقود التبرعات غير لازمة؛ على حين أن الإمام مالكا يرى أن عقد العارية قد يكون لازما أحيانا، حتى لا يضار المستعير بلا ذنب جناه؛ وأن ابن أبي ليلى يرى أن عقد العارية غير لازم حقا، ولكن دفع الضرر واجب، وهذا يكون بتضمين المعير قيمة البناء والغراس إذا أراد أن يخرج المستعير قبل انتهائه.
ونحن نميل إلى ما ذهب إليه غير الأحناف، وبخاصة أن الإذن بالبناء أو الغرس معناه صراحة توقيت وقت للعارية، وعهد من المعير ألا يخرج المستعير قبله، والله تعالى يقول:
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، ويقول أيضا:
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ، ورسول الإسلام
صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا ضرر ولا ضرار.»
زواج امرأة الغائب
وفي ناحية «الأحوال الشخصية» قد يحدث أن يغيب زوج عن امرأته حتى لا يدرى مكانه، ثم ينعى إليها فتتزوج من غيره وتجيء منه بولد، ثم يجيء بعد ذلك زوجها الأول الذي قيل إنه مات؛ فلمن يكون هذا الولد، الزوج الأول أم للثاني؟
هنا يقول أبو يوسف: إن أبا حنيفة كان يقول: الولد للأول وهو صاحب الفراش، وقد بلغنا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر.» وكان ابن أبي ليلى يقول: الولد للآخر ... وكذلك بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبه (هكذا يقول أبو يوسف) نأخذ.
50
وإذا كان أبو يوسف ذكر المسألة مجملة هكذا في العرض والاستدلال، ودون تفصيل لما إذا جاءت الزوجة بالولد لستة أشهر من زواجها بالآخر، أو لأقل، أو لأكثر، فإن السرخسي تعرض لهذا كله وذاك كله؛
51
وذلك إذ يذكر أن الولد يكون للزوج الأول، سواء أجاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني أم لأكثر؛ لأن الأول هو صاحب الفراش الصحيح، والزوج الثاني هو صاحب الفراش الفاسد إذ تزوجها وهي متزوجة بغيره، ولا معارضة بين الصحيح وبين الفاسد، بل هذا يكون مدفوعا بذاك، وتكون المرأة مردودة على الزوج الأول، والولد ثابت النسب منه.
أما ابن أبي ليلى فيقول: إن النسب يثبت بالفراش الفاسد، كما يثبت بالفراش الصحيح، ثم الزوج الثاني أقرب إليها من الأول، والولد مخلوق من مائه حقيقة، فيترجح جانبه بسبب القرب واعتبارا للحقيقة.
52
ثم يذكر السرخسي بعد ذلك القصة التي استشهد بها ابن أبي ليلى، وهي أن رجلا من حفص زوج ابنته من عبيد الله بن الحر، ثم انحاز زوجها إلى معاوية رضي الله عنه ولحق به، وأطال الغيبة على امرأته، ومات أبوها، فزوجها إخوتها من آخر، وبعد ذلك جاء زوجها ابن الحر، فخاصم الزوج الثاني إلى علي رضي الله عنه، فقال له علي، أما إنك الممالي علينا عدونا! فقال، أيمنعني ذلك من عدلك؟ فقال: لا. فقضى بالمرأة له، وقضى بالولد للزوج الآخر.
53
هذا فيما يختص بالخلاف بين أبي حنيفة وابن أبي ليلى؛ أما فيما يختص بأبي حنيفة وصاحبيه، فإن أبا يوسف يفرق بين ما إذا جاءت الزوجة بالولد لأقل من ستة أشهر منذ زواجها بالثاني، وما إذا جاءت به لستة أشهر فصاعدا؛ ففي الحال الأول يثبت الولد للزوج الأول؛ لأنه لا يمكن فعلا أن يكون من الثاني، وفي الحال الثاني، يكون الولد للزوج الثاني؛ لأن النكاح الفاسد يلحق بالصحيح في حكم النسب، فباعتراض الثاني على الأول ينقطع الأول في حكم النسب، ويكون الحكم للثاني، والتقدير فيه يكون بأدنى مدة الحبل اعتبارا للفاسد بالصحيح.
54
وعند محمد بن الحسن يجعل التفرقة بين ما إذا جاء الولد لأكثر من سنتين منذ دخل بها الثاني، وبين ما إذا جاء لأقل من سنتين من ذلك التاريخ؛ ففي الحال الأولى يكون الولد للزوج الثاني؛ لأنه لا يمكن حينئذ أن يتوهم أنه من ماء الزوج الأول؛ على حين أنه في الحال الآخر كان هذا ممكنا، فيثبت النسب منه، لاحتمال أن الولد كانت قد علقت به أمه من زوجها الأول.
ولعل الحق - في رأينا - في جانب أبي يوسف، أو في جانب محمد بن الحسن؛ لأنه في الغالب من الأحوال، إن لم نقل من المتيقن به غالبا، أن يكون الولد من الزوج الثاني إذا جاءت به لتسعة أشهر أو لأكثر منذ زواجها به؛ فكيف نحكم به للأول على رأي أبي حنيفة! ولأنه لا يعقل أن يكون الولد قد علقت به أمه من الزوج الثاني حقيقة، ولو جاءت به لأقل من ستة أشهر من زواجها به؛ فكيف نحكم به له على رأي ابن أبي ليلى؟
في الوصية
وهذه مسألة من باب الوصية اختلف فيها محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى مع الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، وقد عرضها أبو يوسف هكذا إذ يقول: وإذا أوصى الرجل بسكنى دار أو بخدمة عبد أو بغلة بستان أو أرض، وذلك ثلثه (أي ثلث ما ترك من ميراث) أو أقل، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول: «ذلك جائز.» وبه نأخذ (أي بقول أبي حنيفة يأخذ أبو يوسف، ومحمد بن الحسن أيضا). وكان ابن أبي ليلى يقول: لا يجوز ذلك. والوقت وغير الوقت في قول ابن أبي ليلى سواء؛
55
أي لا يجوز شيء من ذلك موقتا ولا غير موقت.
ويحتج ابن أبي ليلى لما ذهب إليه، بأن الموصي مملك ما يريد أن يملكه للموصى له بإيجابه، مثل الوصية في هذا مثل كل سائر العقود، وهذا التمليك لا يصح منه فيما لا يكون مملوكا له حين الإيجاب، والغلة التي تحدث بعد موته لا تكون مملوكة له بل للورثة، فتبطل وصيته بها.
ولكن الإمام وصاحبيه يقولون بأن المنفعة تحتمل التمليك حال الحياة ببدل وبغير بدل، فيجعل التمليك بعد الموت كذلك جائزا أيضا؛ وهذا لأن العين التي يوصى بمنفعتها تبقى على ملكه حتى تكون مشغولة بتصرفه موقوفة على حاجاته، فتحدث المنفعة من هذه الناحية على ملكه، وإذا تصح الوصية بها. ولا ينبغي أن نخلط بين الوصية والميراث؛ فإن الميراث لا يجري في المنافع دون الرقبى؛ لأن الوارث يخلف المورث ويقوم مقامه فيما كان ملكا له، وهذا لا يتصور إلا فيما يبقى وقتين أو زمنين، وليست المنافع كذلك؛ لحدوثها مع الزمن آنا فآنا، على حين أن الوصية قد تكون بالرقبى، كما تكون بالغلة والمنفعة فتصح إذا بما يحدث حال الوفاة من هذه.
56
وواضح أن العمل في هذه الأيام، كما كان فيما مضى دائما، يجري على رأي الإمام وصاحبيه؛ تصحيحا لتصرفات الإنسان بقدر الإمكان، وتيسيرا على الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم، ورفقا بالموصى لهم؛ وفي هذا ثواب للموصى بطبيعة الحال.
ميراث الأخ مع الجد
وأخيرا، نختم هذا الفصل بمسألة من باب الميراث جرى فيها الخلاف أيام الصحابة، ثم امتد إلى أيام الأئمة، وقد عرضها أبو يوسف هكذا: وإذا مات الرجل وترك أخاه لأبيه وأمه وجده، فإن أبا حنيفة كان يقول: المال كله للجد وهو بمنزلة الأب في كل ميراث. وكذلك بلغنا عن أبي بكر الصديق، وعن عبد الله بن عباس، وعن عائشة أم المؤمنين، وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، أنهم كانوا يقولون: الجد بمنزلة الأب إذا لم يكن له (أي المتوفى) أب. وكان ابن أبي ليلى يقول في الجد، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: للأخ النصف وللجد النصف. وكذلك قال زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أن الجد في هذه المنزلة.
57
هذا وقد قال الصاحبان أبو يوسف ومحمد بن الحسن بقول ابن أبي ليلى.
ونقول: إن معنى هذا أن أبا بكر ومن ذهب إلى رأيه كانوا يرون أن الجد يحجب الإخوة فلا يرثون معه، كما لا يرثون مع الأب بنص الكتاب والسنة. لكن غيره من الصحابة، مثل عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود، رضي الله عن الجميع، كانوا يرون أن الجد ليس في الحقيقة أبا؛ فهو لا يحجب الإخوة، بل لهم معه في التركة نصيب معروف. •••
ولعل أبا بكر نظر إلى قوله تعالى:
واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب . مع أن يعقوب هو وحده الذي كان الأب له، دون إسحاق وإبراهيم عليهم جميعا السلام؛ إذ كانا جدين. أما عمر ومن معه رضوان الله عليهم، فقد نظروا إلى الحقيقة، لا إلى المجاز؛ ولذلك نرى أن رأيهم الذي استند إليه ابن أبي ليلى والصاحبان هو الصحيح، والأولى بالاتباع، وهو الواقع فعلا فيما مضى وفي هذه الأيام.
وبعد، تلك صور من الخلاف بين الفقهاء في عصر أبي حنيفة، وقد تناولت كثيرا من أبواب الفقه ومسائله، وهناك صور غيرها لا يستطيع باحث حصرها، وقد ألفت فيها كتب عديدة ، ولكن رأينا فيما ذكرناه منها كفاية لإثبات ما نريد.
فقد رأينا فيها: لم كانوا يختلفون، وكيف كانوا يختلفون، وكيف كان يستدل كل منهم لما ذهب إليه مع تقدير رأي مخالفه واحترامه. كما رأينا ما كان للحديث والآثار وآراء الصحابة والتابعين من سلطان، وأن العرف كان له سلطانه أيضا، وإلى جانب هذا كان - رعاية في التيسير ورفع الحرج وبخاصة في المعاملات - له اعتباره وتقديره.
ولعلنا لمسنا من تلك الصور مقدار ما كان من حيوية للفقه والفقهاء في هذا العصر، ولعلنا نأخذ من ذلك عبرة وقدوة صالحة، فلا نرى حرجا في أن نخالف أسلافنا الأمجاد، وإن كانوا أعلى منا كعبا في الفقه والاستنباط، كما كان يختلف التلاميذ مع شيوخهم في ذلك العصر؛ فبهذا يتقدم الفقه، وبهذا يغدو حقا صالحا لكل زمان ومكان، ونجد منه حلولا لمشاكل هذا العصر وكل عصر.
وقد آن لنا أن ننتقل إلى الفصل الأخير من هذا البحث، وهو بيان أثر أبي حنيفة فيمن بعده من تلاميذه المباشرين، ومن كبار الفقهاء الآخرين ثم مآل مذهبه.
أثر أبي حنيفة ومآل مذهبه من بعده
قوة هذا الأثر
لا تزال كلمة الإمام الشافعي خالدة على الزمان، ولها دويها دائما في الأسماع، وهي: «الناس عيال على خمسة؛ من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق. ومن أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير. ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان. ومن أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي.» ثم لا زلنا نذكر هذه الكلمة الأخرى أيضا: «من أراد أن يعرف الفقه، فليلزم أبا حنيفة وأصحابه؛ فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه.»
وقد يرى البعض أن في هذا مبالغة من الشافعي في تقدير أبي حنيفة وفقهه وأثره على من جاءوا بعده ولكن يبقى مع ذلك أنه يعبر عن الواقع إلى حد كبير؛ فإن أثر أبي حنيفة على تلاميذه المباشرين - وما أكثرهم! - وعلى من تلاهم من الفقهاء، وعلى كل من جاءوا بعدهم حتى اليوم، أثر واضح غير منكور. وهذا الأثر نلمسه من أقوال تلاميذه أنفسهم التي أثرت عنهم في هذه الناحية، ثم نلمسه بالرجوع إلى تراثهم الفقهي الذي وصلنا عنهم، ثم نلمسه في التراث الذي وصلنا عن الفقهاء المتأخرين عنهم في الزمن.
أثره في أبي يوسف
نرى قاضي القضاة يتابع شيخه الإمام في أكثر الآراء التي جاءت عنه في كتابه «الآثار» إن لم نقل في آرائه كلها، ومن ذلك رأيه في أن الذي يأكل وهو صائم، يتم صومه ولا شيء عليه؛ ورأيه في الرجل يكون له الدين على آخر إلى أجل، فيعجل له بعضه قبل الأجل، ويحط عنه شيئا من الدين، فيقول لا بأس بذلك، إنما هو ماله تركه له.
1
وكذلك روى يوسف عن أبيه أبي يوسف عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه قال في العبد يحرزه العدو فظهر عليه المسلمون: إن وجده صاحبه قبل أن يقسم فهو له يأخذه؛ وإن وجده قد اقتسم، أخذه بالثمن، وكذلك المتاع.
2
وفي كتاب آخر له، يذكر فيه تفصيل الخلاف بين أبي حنيفة وبين الأوزاعي في مسألة الغنائم التي يغنمها المسلمون من الأعداء؛ هل يقسمونها قبل إخراجها من أرض العدو، أو ليس لهم هذا حتى يخرجوها إلى دار الإسلام ويحرزوها؟ ونحن نلخص هذه المسألة على هذا النحو:
3
يقول أبو حنيفة: إذا غنم جند من المسلمين غنيمة في أرض العدو فلا يقتسمونها حتى يخرجوها إلى دار الإسلام ويحرزوها. وقال الأوزاعي: لم يقفل رسول الله من غزوة أصاب فيها مغنما إلا خمسه وقسمه قبل أن يقفل؛ ومن ذلك غزوة بني المصطلق، وهوازن، ويوم حنين، ويوم خيبر.
ثم لم يزل المسلمون على ذلك بعده، في خلافة عمر بن الخطاب وخلافة عثمان رضي الله عنهما في البر والبحر، ثم هلم جرا، فلم يخرج جيش منهم من أرض الروم إلا بعدما يفرغون من قسم غنائمهم.
وبعد أن ذكر أبو يوسف هذين الرأيين المتعارضين، نراه يرد على استدلال الأوزاعي بقوله: إن الرسول
صلى الله عليه وسلم
في غزوة بني المصطلق افتتح بلادهم وظهر عليهم فصارت بلادهم دار إسلام، حتى لقد بعث إليهم من يأخذ صدقاتهم وهو الوليد بن عقبة (كما روي). وعلى هذه الحال كانت خيبر حين افتتحها المسلمون وعامل أهلها على نخيلهم، وكذلك الأمر في حنين وهوازن على أنه لم يقسم في حنين إلا بعد منصرفه عن الطائف.
ثم يقول: فإذا ظهر الإمام على دار وأثخن (أي: أوهن وأضعف) أهلها، وجرى حكمه عليها، فلا بأس أن يقسم الغنيمة فيها قبل أن يخرج، وهذا قول أبي حنيفة، رضي الله عنه أيضا. وإن كان مغيرا فيها، ولم يظهر عليها، ولم يجر حكمه فيها، فإنا نكره أن يقسم فيها غنيمة أو فيئا. وذلك، من قبل أنه لم يحرزه، ومن قبل أنه لو دخل جيش من جيوش المسلمين مددا لهم شركوهم فيما استولوا عليه سابقا، ومن قبل أن المشركين لو استنقذوا ما في أيديهم ثم غنمه جيش آخر من المسلمين بعد ذلك لم يرد على الأولين منه شيء.
وأما ما ذكره الأوزاعي من أن المسلمين لم يزالوا يقسمون مغانمهم في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما، في أرض الحرب، فإن هذا لن يقبل إلا عن الرجال الثقات، فعمن هذا الحديث؟ ومن ذكره وشهده؟ وعمن روي؟ ونقول أيضا: إذا قسم الإمام في دار الحرب فقسمه جائز؛ بأن لم يكن معه حمولة يحمل عليها المغنم، أو احتاج المسلمون إليها، فقسم لها المغنم ورأى أن ذلك أفضل، فهو مستقيم جائز، غير أن أحب ذلك إلينا وأفضله ألا يقسم شيئا، إذا لم يكن به إليه حاجة، حتى يخرجه إلى دار الإسلام.
4
نعرض أخيرا في هذه الناحية، ناحية تأثر أبي يوسف، في أكثر آرائه بإمامه، إلى مسألتين نرى فائدة كبيرة هذه الأيام في ذكرهما، هما مسألة نصيب المرأة أو الرجل من أهل الذمة من الغنيمة إذا اشتركا في بعض الأعمال الحربية، فالأولى تبين لنا نظرة الإسلام للمرأة، وتكشف عن مشاركتها في كثير من الأعمال للرجل؛ والثانية تظهرنا على مقدار سماحة الإسلام مع أهل الذمة، وتسويته إياهم بالمسلمين في أن لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات .
ففي المسألة الأولى،
5
يقول أبو حنيفة في المرأة تداوي الجرحى، وتنفع الناس، لا يسهم لها، ولكن يرضخ لها.
6
وقال الأوزاعي: أسهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
للنساء بخيبر، وأخذ المسلمون بذلك بعده.
ويعقب أبو يوسف على هذا بقوله: ما كنت أحسب أحدا يعقل الفقه يجهل هذا! ما نعلم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أسهم للنساء في شيء من غزوه، ثم يروي أن ابن عباس رضي الله عنهما كتب إلى نجدة الخارجي جوابا عن سؤال له عن حضور النساء الحرب مع الرسول: كان النساء يغزون مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان يرضخ لهن من الغنيمة، ولم يكن يضرب لهن بسهم.
وفي المسألة الثانية يقول أبو حنيفة فيمن يستعين بهم المسلمون من أهل الذمة فيقاتل معهم العدو: لا يسهم لهم، ولكن يرضخ لهم. ويقول الأوزاعي: أسهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لمن غزا معه من يهود، وأسهم ولاة المسلمين بعده لمن استعانوا به على عدوهم من أهل الكتاب والمجوس.
7
ويقول أبو يوسف ردا على هذا: ما كنت أحسب أحدا من أهل العلم يجهل هذا ولا يشك! ويروي بعد ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: استعان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بيهود قينقاع، فرضخ لهم ولم يسهم. ثم يقول أبو يوسف: والحديث في هذا مشهور، والسنة فيه معروفة.
على أن أبا يوسف كان يخالف أحيانا رأي إمامه إلى رأي يراه غيره أو يصطنعه لنفسه، عن نظر واجتهاد طبعا، ومن ذلك حظ الفارس من الغنيمة له ولفرسه.
8
يرى أبو حنيفة أن للفارس سهمين: سهما لنفسه وآخر لفرسه، وللراجل سهم واحد. ويرى الأوزاعي أن رسول الله أسهم للفرس بسهمين ولصاحبه بسهم، وأن المسلمين أخذوا بذلك بعده إلى اليوم لا يختلفون فيه.
ويقول أبو يوسف: إن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يكره أن تفضل بهيمة على رجل مسلم، ويجعل سهمها في القسم أكثر من قسمه! ومع هذا الذي يشعر بأنه مع إمامه، فإنه يقول بعده: بلغنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، عن غيره من أصحابه، أنه أسهم للفارس بثلاثة أسهم وللراجل بسهم، ثم ينتهي بقوله: وبهذا نأخذ.
هذا، وإذا تركنا هذين الكتابين لقاضي القضاة: «الآثار» و«الرد على سير الأوزاعي» إلى كتابه الآخر وهو «اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى»، نرى الحال هو الحال تماما؛ فإنه يتابع في أكثر آرائه إمامه أبا حنيفة، وقد بينا ذلك من قبل، حين عرضنا كثيرا من صور الخلاف بين الإمام ونظرائه ومعاصريه. ومع هذا نشير إلى اتخاذه مذهب أبي حنيفة مذهبا له في هذه المسائل:
9 (أ)
فساد بيع عبد مثلا على أن يعتقه المشتري، أو يبيعه، أو يهبه إلى فلان. (ب)
عدم جواز أن يبيع الرجل على ابنه وهو كبير دارا أو متاعا له، من غير حاجة ولا عذر. (ج)
إذا باع رجل متاعا لآخر وهو حاضر، فسكت، كان ذلك البيع غير جائز عليه ولا يعتبر سكوته إقرارا بالبيع ورضا به. (د)
إذا استهلك الرجل مالا لولده، وولده كبير والأب غني، يكون دينا عليه. (ه)
لا شفعة لأحد في جزء أخذته امرأة صداقا لها. (و)
إذا اشترى رجل دارا وبنى فيها بناء ثم جاء الشفيع يطلبها بالشفعة وحكم له بها، يأخذ الشفيع الدار ويأخذ صاحب البناء الأنقاض. (ز)
إذا كانت الشفعة ليتيم، فإن لوصيه أخذها عنه، وإن لم يكن له وصي يكون للصبي أخذها متى بلغ، فإن لم يطلب الوصي الشفعة بعد علمه فليس لليتيم طلبها متى أدرك وبلغ. (ح)
إذا صالح الرجل الرجل، أو باع بيعا، أو أقر بدين، فأقام البينة على أن الطالب أكرهه على ذلك، كان ذلك كله جائزا، ولا تقبل البينة على أنه أكرهه.
ففي هذه المسائل، وكثير جدا غيرها، يتبع أبو يوسف آراء إمامه أبي حنيفة؛ ولهذا نجده بعد عرض مذهبه يقول: وبه نأخذ، ثم يعرض بعد ذلك رأي محمد عبد الرحمن بن أبي ليلى.
أثره في محمد بن الحسن
إذا كان موقف أبي يوسف من إمامه هو ما عرفنا، فإن الأمر كذلك بالنسبة إلى صاحبه الآخر وهو محمد بن الحسن الشيباني؛ فهو موافق له في أكثر آرائه عن اجتهاد، ومخالف له أحيانا قليلة، ولا نرى ضرورة في أن نكثر من الاستشهاد في هذا السبيل؛ ولذلك نكتفي بالإشارة إلى هذه المسائل:
10 (أ)
يقول إبراهيم النخعي بأن شهادة النساء مع الرجال جائزة في كل شيء ما عدا الحدود، ويقول محمد: ما خلا الحدود والقصاص، وهو قول أبي حنيفة. (ب)
يرى القاضي شريح أن أربعة لا تجوز شهادة بعضهم لبعض؛ المرأة لزوجها والزوج لامرأته، والأب لابنه والابن لأبيه، والشريك لشريكه، والمحدود حدا في قذف. ويقول محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة، إلا أنا نقول: لا تجوز شهادة الشريك لشريكه في غير شركتهما. (ج)
يرى إبراهيم النخعي أن الزوج وزوجته بمنزلة القرابة، أيهما وهب لصاحبه ليس له أن يرجع في هبته، ويقول محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. (د)
يرى أبو حنيفة أنه لا يجوز أن يبيع الإنسان ما اشتراه ولم يقبضه، إلا في العقار فله بيعه قبل قبضه لأنه لا يتحول عن موضعه، ويقول محمد: وهذا عندنا لا يجوز، وهو كغيره من الأشياء. (ه)
ويرى إبراهيم أنه يكره أن يرد المقترض ما اقترضه مع شيء من الزيادة. ويقول محمد: ولسنا نأخذ بهذا، لا بأس بهذا إن لم يكن شرطا اشترطه عليه، فإن كان شرطا اشترطه فلا خير فيه، وهو قول أبي حنيفة. (و)
ويرى أبو حنيفة ومحمد مثله أن للوصي أن يصنع بمال اليتيم ما يراه خيرا له، فله أن يودعه، أو يتجر به، أو يدفعه لآخر مضاربة. (ز)
وكذلك يرى محمد مع إمامه أنه ليس في مال اليتيم زكاة. (ح)
ويخالفه فيما ذهب إليه من عدم تجويز عقد إعطاء المالك أرضه مزارعة لآخر بنسبة معلومة من الناتج منها، ويقول: لا نرى بذلك بأسا. (ط)
وإذا أصاب العدو لبعض أموال المسلمين، ثم انتصر هؤلاء عليه، فإن وجد صاحب المال ماله قبل قسمة الغنيمة كان أحق به بعينه، وإن وجده بعد القسمة كان أحق بقيمته . قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة.
فضل الصاحبين على المذهب
هكذا كان لأبي حنيفة فضل على صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن في تكوين آرائهما، وفي طريقة استنباط هذه الآراء والأحكام الفقهية، مثلهما في ذلك مثل سائر تلاميذه وما أكثرهم! ولكن كان لكل منهما أيضا فضل على المذهب وصاحبه من نواح كثيرة؛ فهما اللذان وطئا للمذهب ونشراه، وذلك بما ألف كل منهما من كتب جمعت آراء الإمام وأذاعتها بين الجميع شرقا وغربا.
ها هو ذا الخطيب البغدادي يقول: لولا أبو يوسف ما ذكر أبو حنيفة ولا ابن أبي ليلى، ولكنه هو نشر قولهما وبث علمهما؛ ويقول عنه أيضا: وهو صاحب أبي حنيفة وأفقه أهل عصره وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض.
11
ومن الخير أن نلقي شيئا من الضوء على هذا الحكم لنعلم مقدار صدقه، ولنتعرف أيضا أسبابه، وهو حكم، وإن كان منصبا فيما نقلناه آنفا على أبي يوسف وحده؛ إلا أنه يتناول كذلك محمد بن الحسن.
إننا لا نعرف عن أبي حنيفة كتابا كتبه في الفقه، ولكن مذهبه مع هذا خلد على الزمن، ولم يندثر كما اندثرت مذاهب كثيرة أخرى، وذلك بفضل تلاميذه وأتباعه، وخاصة صاحبيه: أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، فبفضل هؤلاء التلاميذ والأتباع دون المذهب في كتب تعز على الإحصاء، وهذه الكتب هي التي حفظت لنا أقوال صاحبه وآراءه وأصوله.
وقد ذكر ابن النديم كثيرا من الكتب التي تركها أبو يوسف ولم يبق منها شيء لدينا.
12
فإن الذي نعرفه له ولا يزال بين أيدينا هو: رسالته في الخراج، وكتابه «اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى»، و«الرد على سير الأوزاعي»، و«الآثار»، وهذا الأخير هو مسند الإمام نفسه، جمعه صاحبه أبو يوسف وأضاف إليه مروياته في مواضع منه ؛ ولهذا ينسب إليه فيقال عنه: مسند أبي يوسف.
ومن هذه الكتب التي ذكرنا منها الكثير فيما سبق من بحوث في هذا الكتاب ومن الأخرى التي حفظ لنا ابن النديم أسماءها، نرى أن أبا يوسف هو حقا صاحب الفضل الأول في نشر مذهب إمامه أبي حنيفة، كما نرى أن هذا حكم يستند إلى أسباب صحيحة ملموسة بين أيدينا.
أما محمد بن الحسن، فهو الذي وصلت إلينا مؤلفاته كاملة، هذه المؤلفات التي تعتبر المراجع الأصلية الأولى للمذهب، وقد اشتغل بها الفقهاء فيما بعد شرحا وتعليقا، وأهم هذه الكتب هي: الأصل، والجامع الكبير، والجامع الصغير، والسير الكبير، والسير الصغير، والزيادات.
وهذه الكتب نجدها مجموعة في كتاب «الكافي» للحاكم الشهيد أبي الفضل المروزي المتوفى عام 344ه، بعد أن حذف المكرر من المسائل فيها، ثم عني شمس الأئمة محمد بن أحمد السرخسي، وهو من رجال القرن الخامس، بشرح هذا الكتاب الضخم في كتابه المشهور «المبسوط» وهو في ثلاثين جزءا، فصار الكتاب بشرحه أهم الكتب الأصلية في المذهب.
ولهذين الصاحبين اللذين تأثرا كل التأثر بإمامهما، فضل على المذهب من ناحية أخرى تعتبر مبدأ لتطوره قليلا؛ فقد كان كلاهما معروفا بطلب الحديث وكتابته وحفظه، ورحل كلاهما إلى المدينة ولقي الإمام مالك بن أنس وأفاد منه.
13
وقد أفاد «المذهب» من ذلك من ناحيتين: (أ)
ازداد المذهب قوة على قوته بما دخله في أصوله من الأحاديث التي اعتمدها كل من أبي يوسف ومحمد، كما كان من شأن ذلك كسب أنصار له من المحدثين والفقهاء الذين تغلب عليهم نزعة أهل الحديث. (ب)
كان من اتصال كل من الصاحبين بالإمام مالك وفقه أهل المدينة، أن حصل ما قد يكون لنا أن نسميه «عملية تطعيم» بين فقه أهل الرأي بالكوفة وبغداد والعراق بعامة، وبين فقه أهل الحجاز، إذ يعتبر هذا العمل حلقة اتصال بين الجهتين المتقابلتين، وفي هذا خير لكل منهما وللفقه بصفة عامة.
ومع ذلك كله، فقد أفاد المذهب من أبي يوسف بخاصة من ناحية أخرى، نعني ناحية القضاء الذي ولي أمره زمنا طويلا. فإن الفقيه النظري يعمل على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها التي يراها ويعتمدها أصولا للفقه حسب مذهبه، ولكن القاضي تعرض عليه الحياة ومشاكلها العملية، فتظهر له جوانب لا يفطن إليها من يقتصر في بحثه على النظر وحده، كما لا يفطن إليها كذلك المفتي الذي يستفتي في هذه المسألة أو تلك.
ومن ثم، كان القضاء مغذيا تماما للفقه، ويمده بحلول عملية لمشاكل الحياة، وكان لعمل القاضي أهمية كبيرة في جعل الفقه ذا حيوية خصبة، وكانت آراؤه أجدر بالتقدير والعمل بها في باب القضاء من آراء من ينظر في المسائل وهو محصور في غرفته أو في المكان الذي يجلس للتعليم أو الإفتاء فيه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كان أبو يوسف قاضي بغداد؛ ومن كان كذلك يكون قاضي القضاة، بل كان هو الأول الذي دعي بهذا اللقب.
14
كم يذكر ابن العماد الحنبلي؛ فكان بهذا له نوع من الإشراف على القضاة الآخرين، وبذلك استطاع أن يمكن للمذهب بتعيين القضاة من رجاله، كما كان لذلك نتيجة طبيعية أخرى، وهي نشر أصوله ومبادئه وآرائه.
فضل غيرهما
هذا، ومما لا ريب فيه أن «المذهب» أفاد أيضا من عمل التلاميذ والأتباع الآخرين غير الصاحبين، ولكنا خصصنا هذين بالذكر لأنهما كانا أشهر تلاميذ الإمام، ولأنهما كانا صاحبي الفضل الأول على المذهب وتدوينه ونشره.
ومن باب التمثيل للتلاميذ والأتباع الآخرين، نذكر زفر بن الهذيل بن قيس الكوفي المتوفى عام 158ه، فقد كان في أول أمره من أصحاب الحديث، ثم غلب عليه «الرأي» لصلته بإمامه، ومهر في القياس حتى صار أقيس تلامذة الإمام وأصحابه، ومن المعروف أن القياس مصدر خصب لحيوية الفقه ونموه.
كما نذكر أيضا أبا عبد الله محمد بن شجاع الثلجي المتوفى عام 256 أو 266 حسب الروايات المختلفة، ويذكره ابن النديم فيقول عنه: مبرز على نظرائه من أهل زمانه، وكان فقيها ورعا ثباتا على أرائه، وهو الذي فتق فقه أبي حنيفة، واحتج له، وأظهر علله وقواه بالحديث، وحلاه في الصدور.
15
انتشار المذهب وتغيره
وبفضل أولئك التلاميذ والأتباع، أخذ مذهب أبي حنيفة في الانتشار في العراق أولا، إذ كان هذا القطر الكبير مهده ومهد رجاله، وكان هذا المذهب باعتماده على الرأي والقياس - حين لا تسعف النصوص الصحيحة - أقدر على حل المشاكل التي تعرض في الحياة العملية، وبخاصة أمور الزراعة والتجارة وسائر المعاملات، كما أخذ في الوقت نفسه في التغير بعض الشيء، وتلك طبيعة الحياة، وكان هذا التغير وليد عوامل مختلفة.
ونشير من هذه العوامل إلى ظهور أحاديث صحت عند هؤلاء الرجال، فكان طبيعيا أن يرجعوا إليها تاركين آراء إمامهم، وقد كان هذا صنيع الإمام نفسه حين يصح حديث عنه يعارض رأيا سبق أن رآه قبل أن يعرف هذا الحديث، وقد عرضنا لشيء من هذا من قبل، وكان من ذلك أن ضاقت منطقة الأخذ بالقياس، وأن ضاقت مسافة الخلف بين رجال المذهب وبين رجال الحديث وفقه الحديث، حين قوي الاتصال بين هؤلاء وأولئك جميعا.
وقد تعرض العلامة ابن خلدون، المتوفى عام 808ه، إلى مدى انتشار كل من المذاهب الأربعة المعروفة، وإلى مجال كل واحد منها، فقال عن الإمام الأعظم: وأما أبو حنيفة فقلده اليوم أهل العراق، ومسلمة الهند والصين وما وراء النهر، وبلاد العجم كلها؛ لما كان مذهبه أخص بالعراق ودار السلام (أي بغداد)، وكان تلاميذه صحابة الخلفاء من بني العباس، فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشافعية، وحسنت مباحثهم في الخلافيات، وجاءوا منها بعلم مستطرف وأنظار غريبة، وهي بأيدي الناس، وبالمغرب منها شيء قليل، نقله إليه القاضي ابن العربي الباجي في رحلتهما.
16
وقد عني أصحاب «الطبقات» لرجال المذهب ببيان خط سيره في الأقطار والبلاد المختلفة، وكيف انتشر بفضل رجاله طبقة بعد طبقة، غير أن بيان ذلك لا يدخل في نطاق هذا البحث، فليرجع إلى هذه الكتب من يريد.
17
خاتمة البحث ونتائجه
وبعد، هذا هو الإمام أبو حنيفة في عصره وبيئته، وفي نشأته وحياته وسيرته، وفي ثقافته واتجاهه للفقه عن ترو وقصد واستعداد فطري له، وتلك هي طريقته ومذهبه في الفقه، هذا المذهب الذي خلد إلى اليوم، والذي يتعبد به عشرات الملايين من المسلمين في جنبات العالم وأقطاره المختلفة.
وقد وصلنا من دراسة العصر الذي كان يعي فيه، إلى أن الفقهاء لم يكونوا يعيشون على هامش الحياة كما نعيش اليوم، بل كانوا يعرفون من الخلفاء والولاة وينكرون، وكان من هؤلاء من يقبل النصح والتوجيه، ومن يصد عنه ويضيق به، ومن ثم، رأينا من الفقهاء عددا غير قليل أوذي في سبيل بيان الحق ورفع الصوت به، وسواء في ذلك عهد الدولة الأموية، وعهد الدولة العباسية.
وعرفنا أيضا أنه لم يكن في ذلك العصر ما عرفنا فيما بعد من الإجازات والدرجات العلمية تمنح للمستحقين لها، ولكن لم يكن الأمر في هذه الناحية فوضى بلا ضابط؛ فهذا أبو حنيفة نفسه لم يجلس للتعليم بعد وفاة شيخه إبراهيم النخعي إلا بعد أن أجمع على ذلك أصحابه وصاروا يختلفون إليه للإفادة منه، ثم لم يزل أمره في صعود حتى احتاج إليه الأمراء وذكره الخلفاء وأجمع الكل على إمامته في الفقه.
1
ثم رأينا الإمام مالك بن أنس يقول: «وليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد، فإن رآه أهلا لذلك جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أني موضع لذلك.»
2
ومسألة استحقاق أبي حنيفة للمذهب الذي ينسب إليه، من المسائل التي كانت موضع جدل بين بعض الباحثين من المسلمين ومن المستشرقين، وقد وصلنا إلى أنه كان له مذهب خاص يتميز ببعض أصوله التي قال بها وبنى عليها طريقته في الفقه واستنباط أحكامه وحل مشاكله، وذلك رغم ما يزعمه بعض المستشرقين ومن قلدهم في هذا من الباحثين المسلمين المعاصرين.
3
وقديما اتهم أبو حنيفة بكثرة قوله «بالرأي» وإعراضه عن النصوص من أحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وقد وصلنا إلى براءته من هذه التهمة، وذلك بعد البحث والتنقيب والموازنة بين الآراء والأقوال التي اختلفت في هذه المسألة اختلافا شديدا؛ فإن كتب أصحابه، وعماد الكثير منها آراؤه الخاصة التي أثروها عنه، مملوءة بالمسائل التي تركوا العمل فيها بالقياس وأخذوا بالآثار الواردة فيها، وبعض هذه الآثار كانت عن الصحابة رضوان الله عليهم، لا أحاديث للرسول نفسه
صلى الله عليه وسلم .
والأمر أنه كان كما يقول أبو حنيفة نفسه: «مثل من يطلب الحديث ولا يتفقه مثل الصيدلاني، يجمع الأدوية ولا يدري لأي داء هو حتى يجيء الطبيب، هكذا طالب الحديث لا يعرف وجه حديثه حتى يجيء الفقيه.» إذا، غاية ما في الأمر أن أبا حنيفة كان بصيرا بالأحاديث والآثار، وكان له أصول وقواعد في «فقه الحديث» كان يرجع إليها فيما يأخذ ويدع لسبب يقتضي هذا وذاك.
4
وقد عنينا عناية شديدة بمسألة رأينا ضرورة بحثها، ونعتقد أننا لم نسبق إليها، وبخاصة من أحد الباحثين المعصرين، وهي مسألة «الاتجاهات العامة لفقه أبي حنيفة» فقد حاولنا أن نتعرف هذه الاتجاهات أو النزعات، وذلك بواسطة استقراء آراء الإمام في كثير من المسائل، موازنين بين هذه الآراء وبين آراء غيره من أئمة الفقه وأعلامه، ووصلنا من ذلك إلى أن جماع هذه الاتجاهات هي: (أ)
التيسير في العبادات والمعاملات. (ب)
رعاية جانب الفقير والضعيف. (ج)
تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان. (د)
رعاية حرية الإنسان وإنسانيته. (ه)
رعاية سيادة الأمة ممثلة في الإمام.
وكان لا بد أن يختلف الفقهاء في ذلك العصر، عصر الاجتهاد، وقد عرفنا لم كانوا يختلفون، وفيم كانوا يختلفون، مع تقدير كل منهم لرأي مخالفه، وأنهم جميعا كانوا طلاب حق، وإن اختلفت بهم السبل والأدلة، وفي ذلك عبرة لنا وقدوة صالحة؛ فبهذا الاختلاف عن اجتهاد يتقدم الفقه، وبهذا وحده يرجع صالحا حقا لحل مشاكل هذا العصر الذي نعيش فيه وكل عصر يجيء في المستقبل من الزمان.
وأخيرا رأينا مقدار أثر الإمام في أصحابه وتلاميذه وأتباعه، وفضل هؤلاء جميعا على المذهب من ناحية أخرى، وكيف بدأ المذهب يأخذ طريقه للتطور والانتشار، حتى غدا على ما نعرف الآن قبل أن يقف به الجمود الذي منينا به منذ قرون، والذي نرجو ونلح جاهدين أن نتخلص منه تماما بفضل الله تعالى.
رضي الله عن الإمام وأصحابه وتلاميذه وأتباعه، وعن سائر الأئمة الذين بينوا شريعة الله ورسوله، وقاموا على صيانتها وتثبيتها وتأييدها وأثابهم الله خير الجزاء .
অজানা পৃষ্ঠা