قال أبو العلاء: اعتبرها يا بني هداية طريق في بلد أنت به أعلم وأنا فيه غريب. فالغربة قد تكون في الزمان كما قد تكون في المكان، وأنت صاحب الدار يا بني في زمانك، فقل ولا عليك من مقام الأستاذ ومقام التلميذ. ألست أنا القائل:
رب شيخ ظل يهديه إلى
سبل الحق غلام ما احتلم
فقل يا بني ولا تتحرج. وإن أبيت إلا مقام التلمذة فاقنع منها اليوم بالطاعة فيما أدعوك إليه.
فلم يسع التلميذ إلا أن يجيب سؤال الشيخ، وأنشأ يقول وهو متلعثم في المقال: هذه الفلسفات يا مولاي كثيرة كما لاح لك من بوادر الإشارة العارضة، فمن أصحابها من يجعل حب المرأة الحب كله ومرجع الأهواء بحذافيرها. ويزعم أنه حب يضمره الطفل في طبعه وهو يرضع من ثدي أمه أو يحبو إلى لعبته أو يتواثب مع لداته، وإنه ما من خبيئة يبطنها الإنسان إلا ومناطها هوى من هذه الأهواء مكبوت، ونزعة من هذه النزعات يختلف فيها التفسير والتأويل، وقد تفصح عنها الأحلام يناجي بها الإنسان سريرته في المنام، وإن كانت المناجاة هنالك بالرموز والأشكال دون المعاني والأفكار.
ومن أصحاب هذه الفلسفات من نشأ على المذهب الأول ثم عدله ونقحه بإضافة حب القوة إلى حب المرأة، أو بإضافة المجد والجاه إلى الشهوة والغرام. •••
ومنهم من يقول إن الأخلاق ينبغي أن تختلف بين أفراد الرجال والنساء كما تختلف أنواع الغذاء، فالناس في حاجة إلى غذاء متشابه العناصر متقارب التركيب، وليس من طعام مع هذا هو صالح لجميع الأبدان مطلوب في جميع الأحوال، فكذلك الأخلاق في جملتها من عمل الخير والدعوة إلى الصلاح قريبة العناصر متشابهة الأوصاف، ولكنها قد تختلف مع اختلاف المزاج كما يختلف الطعام على حسب البنية، حتى يكون دواء لهذا ما هو سم قاتل لذاك. فليس لجميع الناس قانون واحد ولا خلق واحد ولا طعام واحد، بل ينبغي أن يحرم على أناس ما يباح لآخرين. •••
ومن أصحاب هذه الفلسفات من يدعو إلى الإباحة لأنها حالة الطبيعة، ومنهم من ينكر عليه هذا الزعم فيقول إن الإباحة هي أبعد الأحوال عن طبيعة الأحياء: ألا ترون إلى العجماوات تمانع وتقاتل ثم تعتصم بالعفة والزهادة طوال العام؟ ألا ترون إلى قبائل الفطرة الأولى كيف تحوط العلاقة بين الرجل والمرأة بالمراسم والشعائر وكيف تحفها بالتمائم والشعوذات؟ فالطبيعة أحجى أن تكون إلى جانب الامتناع والاعتصام دون الإباحة والانطلاق، ولا سيما في غرائز الحب ودوافع الشهوات. والحضارة قد علمتنا أنه حيث تكون القيود في الحب تكون نهضة الشعوب، وحيث تكون الإباحة في الحب يكون الركود ثم الدثور. •••
ومن أصحاب هذه الفلسفات من يدعو إلى الإباحة لأنها الحل الصالح عنده لمشكلات الأمم في العهد الحديث. فالناس يتقاتلون لأنهم يتنافسون على المال، والناس يتنافسون على المال لأنهم يشترون به الشهوات والمظاهر التي هي كالأشراك لاقتناص النساء. فإذا بطلت قيود الجنسين بطل في زعمهم كل ذاك وخفت حدة الزحام والعداء وقلت بواعث الفتنة والإغراء. •••
ومنهم - وقد كان رئيسا لحكومة كبيرة في دولة عظيمة - من يوصي الرجل أن يجرب كثيرا من النساء ويوصي المرأة أن تجرب كثيرا من الرجال قبل الإيواء إلى حرم البيت وحصن الزواج. فإن الرجل والمرأة إذا قضيا الشطر الأول من الحياة في التطواف والتجوال سكنا إلى الزواج وهما جانحان إلى استقرار يعين على الوفاء، وقناعة تعين على العصمة، وأصبحا زوجين رشيدين وأبوين صالحين مدى الحياة.
অজানা পৃষ্ঠা