فيا ليتني هامد لا أقو
م إذا نهضوا ينفضون اللمم
فأدار الشيخ رأسه ناحية وزم شفتيه قليلا ثم أجابه: نعم! ليتني هامد لا أقوم. أما وقد قمت فأي مكان أحق بالحنين من:
بلاد بها نيطت علي تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
بل أصبح جسمي من ترابها، واختلط فوق صعيدها وبين أحشائها. هذه هي المعرة! نعم هذه هي المعرة عرفتها وما كدت أعرف غيرها؛ فالحمد لله على البعث فيها.
فهجم التلميذ بسؤال جديد، وعول على الإكثار من السؤال؛ إذ لا محيص من مساءلة الشيخ وإن ضجر بعض الأحيان، فربما كان ضجر الإجابة خيرا من ضجر السكوت سنوات، ريثما يعقد الاحتفال ويجتمع المقبلون إلى المعرة لتحية حكيمها في ذكراه.
قال التلميذ في سؤاله الجديد: أليس من عجب هذا الحب للمعرة ممن عاف الدنيا بأسرها؟
فأجاب الشيخ في غير ضجر ولا تأفف، كأنه كان يتوقع سؤالا كهذا من تلميذ: «ما أكثر عجب الناس مما لا عجب فيه! إنما يحب الوطن الصغير من يعاف الوطن الكبير، ومن كره الدنيا كره التقلب فيها وكره السعي وراءها في نواحيها؛ فإلى أي منقلب يصير غير المكان الذي لا عناء فيه يتجشمه، ولا جديد فيه يفجأه بما يسوءه، ولا يزال فيه قريبا من عهد صباه قبل أن يذوق مرارة العيش ويمتحن ببلواه؟ وما أحرى من اتخذ في المعرة محبسا لا يفارقه أن يتخذ في الدنيا بأسرها محبسا هو هذه القرية ولو فعل غير ذلك لعجبتم منه، فاعجبوا واخلقوا العجائب فلعلكم تستروحون الحياة ببعض ما تعجبون له، ولعلكم أطفال القدر يضحك منكم حين تسألون ثم يضحك منكم حين تقنعون بالجواب، أوتحسبون أنكم في غنى عن السؤال؟ يا بني سل ما بدا لك. فقد سألت الغيب كثيرا وسألني الناس كثيرا، وعالجت السؤال في الدنيا والآخرة، فلا أدري ماذا أصنع إن لم أكن سائلا أو مجيبا لسائل، وما أخالك ساكتا لو دعوتك إلى السكوت، فتكلم مأذونا فأنتم أزهد الخلق في مباح وأرغبهم في ممنوع، وقد يريحني الإذن لك أضعاف ما يريحني الإعراض عنك، فلو صدقني من قبلك حين قلت لهم إنني أجهل ما يجهلون لطمعت في تصديقك إياي حين ألوذ بالصمت أو أقر بالغباء.»
واضطرب الرسول لا يدري أهذا ترخيص في السؤال أم نهي عنه، وانقباض من الشيخ أم تبسط وانطلاق، وإنه لكذلك إذ عاد الشيخ يتكلم كأنما قد سرت في نفسه حرارة الثورة على الناس، وإنها لحرارة ترضي صاحبها عمن يثيرها ساعة تسخطه عليه، كما يعدو الجواد فزعا فيشعر بنشاط العدو وجفلة الفزع في آن، وأبو العلاء ثائر يرضيه الإعراب عن ثورة نفسه ولا يرضيه طول الكتمان لطباعه. فعاد يقول: ألا تنبئني يا بني ماذا تظنون حين تسألون رجلا متهما بالعلم فيعجز عن الجواب أو يأباه؟ أتحسبون الغيب سلطانا يجتبي بأسراره الحاشية المقربين؟ أتحسبون من يصحبه مطلعا لا محالة على كل أمره فلا يخفي شيئا إلا اتهمتموه بالضن أو الدهاء والروغان؟ إن كان هذا ما تحسبون يا بني فالغيب ليس بسلطان، والعلماء ليسوا بحاشية سلطان، وأحرى أن يكون العالم كالمدلج في الظلام يحمل مصباحه على قدر ضيائه فهو يرى ما هناك ولكنه لن يرى ما ليس هناك. فإن سألتم فاسألوا عما يجوز علمه أو ما يجوز وجوده حيث يراه المدلج وحيث يقع عليه شعاع المصباح. أما ما وراء ذلك فالعلماء والجهلاء فيه كما قلت لكم قريب من قريب.
অজানা পৃষ্ঠা