مقدمة المؤلف
أحمد الله على نعمائه الجمة وآلائه التي لا تعد ولا تحصى، وأستغفره من كبائر الذنوب وصغائرها، وأسأله الهداية والتوفيق، وأصلي وأسلم على محمد رسول الله ﷺ.
أما بعد فقد كنت شديد الرغبة في تأليف سيرة رسول الله ﷺ لنشرها على العالم الإسلامي فقضيت الأيام والليالي الطوال في الإطلاع والبحث في السير فجمعت شتاتها وشرحت الغامض منها وحققت الروايات وأثبت تواريخ الوقائع ورددت على الاعتراضات والترهات ردودا مدعمة بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة، فجاء الكتاب وافيا بغرضي من حيث إيصال المعلومات الصحيحة إلى العالم الإسلامي. ولما فرغ طبعه، تلقاه الناس بالقبول والاستحسان وأقبلوا على مطالعته بشوق وشغف ونال بحمد الله وفضله رضا العامة والخاصة وتواردت علي رسائل التفريط والتشجيع من الكبراء والعلماء والأدباء حتى عجزت عن شكرهم على ثقتهم بشخصي العاجز الضعيف، وشعرت بقوة تدفعني إلى مواصلة البحث والتأليف بالرغم من كثرة المشاغل الدنيوية. وقد سألني كثير من الأصدقاء الأعزاء أن أتبع سيرة رسول الله بسير الخلفاء بالطريقة نفسها التي انتهجتها، فسرتني فكرتهم ولم يسعني إلا إجابة طلبهم واستخرت الله تعالى أن أكتب سيرة أبي بكر الصديق ﵁ فإنه أول الخلفاء الذين أمرنا رسول الله بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم.
لما توفي النبي ﷺ ارتجت العرب واختلف المسلمون ولا سيما الأنصار والمهاجرون في الخلافة فتدارك الأمر أبو بكر بحكمته وسرعة بديهته وتمت له البيعة بالإجماع. وقد برهن ﵁ أنه أكفأ رجل وأنه رجل الساعة وقتئذ لأن العرب عندما سمعوا بوفاة رسول الله ارتد كثير منهم واستفحل أمر المرتدين في جزيرة العرب وظهر المتنبئون وجمعوا جيوشهم وثاروا على المسلمين. فمنهم من خرج عن الإسلام ومنهم من منع الزكاة ووضع الصلاة وأباح المحرمات وطرد كثيرا من الولاة، ولولا شدة تمسك أبي بكر بسنة رسول الله وقوة عزيمته وشجاعته لتغلب المرتدون وقضوا على الإسلام قضاء مبرما. ولقد هال أمر المرتدين في بادئ الأمر كبراء الصحابة، ولكن أبا بكر ثبت ولم يتزعزع وظهرت كفايته في إرسال الجيوش واختيار القواد والولاة إلى جميع أنحاء العرب، فكبح جماح المرتدين وهزمهم شر هزيمة واستتب الأمن في البلاد في أقل من سنة. ولم يقتصر على ذلك بل بعث الجيوش إلى العراق والشام فانهزمت الفرس والروم ومن والاهما من العرب وتعدى المسلمون في
1 / 11
فتوحهم شبة جزيرة العرب. وقد تم ذلك كله في مدة خلافته وهي سنتان وأشهر، ولا شك أن هذه مدة قصيرة بالنسبة إلى ما تم في خلالها من جلائل الأعمال، وقد مهد بذلك طريق الفتوحات الإسلامية لمن جاء بعد من الخلفاء واتضحت بذلك حكمة رسول الله في اختيار أبي بكر بعده.
وقد كان ﵁ مع ذلك لطيفا وديعا متواضعا زاهدا في الدنيا متقشفا عادلا غير طامع في ملك أو غنى، بل كان كل همه نشر الإسلام وتوطيد أركانه واتباع سنة رسول الله. وقد كان مؤلفا لقلوب المسلمين. وعلى العموم كان خير قدوة لهم في دينهم ودنياهم. وقد اختار لهم خير من يصلح للخلافة بعده وهو عمر بن الخطاب ﵁ الذي كان وزيره وقاضيه وملازما له طول مدة خلافته وذلك حفظا لكيان الإسلام.
هذا هو أبي بكر الصديق خليفة رسول الله الذي عنيت بترجمة حياته وشرح خلافته ومآثره في كتابي هذا.
وإني لأرجو الله ﷾ أن أكون قد وفقت في عملي، كما أرجو أن ينتفع به المسلمون ويتدبروا في سير سلفهم الصالح بعد أن سهلت لهم ما يتعسر فهمه من حيث شرح المواقع وسير الرجال وضبط التواريخ وتفسير الألفاظ الغامضة تسهيلا للبحث والمراجعة وتوفيرا للوقت. وإني في الختام أقدم مزيد شكري لجميع الذين أبدوا اهتمامهم وإعجابهم بمؤلفي " محمد رسول الله " ولا شك أني مدين لهم بهذا العطف والتشجيع.
1 / 12
ترجمة حياة أبو بكر الصديق١ ﵁
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي، يلتقي مع رسول الله في مرة بن كعب. أبو بكر الصديق بن أبي قحافة. واسم أبي قحافة عثمان، وأمه أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وهي ابنة عم أبي قحافة.
أسلم أبو بكر ثم أسلمت أمه بعده، وصحب رسول الله ﷺ. قال العلماء: لا يعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله، إلا آل أبي بكر الصديق وهم: عبد الله بن الزبير، أمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون، وأيضا أبو عتيق بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة ﵃.
ولقب عتيقا لعتقه من النار وقيل: لحسن وجهه، وعن عائشة ﵂: أن رسول الله ﷺ قال: " أبو بكر عتيق الله من النار "٢ فمن يومئذ سمي عتيقا. وقيل: سمي عتيقا لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به. وأجمعت الأمة على تسميته صديقا، قال علي بن أبي طالب ﵁: إن الله تعالى هو الذي سمى أبا بكر على لسان رسول الله ﷺ صديقا وسبب تسميته أنه بادر إلى تصديق رسول الله ﷺ ولازم الصدق فلم تقع منه هنات٣ ولا كذبة في حال من الأحوال، وعن عائشة أنها قالت:
لما أسري بالنبي ﷺ إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان آمن وصدق به وفتنوا به، فقال أبو بكر: إني لأصدقه في ما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبا بكر الصديق.
وقال أبو محجن الثقفي:
وسميت صديقا وكل مهاجر ... سواك يسمى باسمه غير منكر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد ... وكنت جليسا في العريش المشهر
ولد أبو بكر سنة ٥٧٣ م بعد الفيل بثلاث سنين تقريبا وكان ﵁ صديقا لرسول الله قبل البعث وهو أصغر منه سنا بثلاث سنوات وكان يكثر غشيانه في منزله ومحادثته. وقيل: كنى بأبي
_________
١- سير أعلام النبلاء: ٢/٦٢٩، معرفة الثقات: ٢/٣٨٧، الثقات: ١/٥٢، تهذيب التهذيب: ١٢/٤٥، تقريب التهذيب: ١/٣٨١، تهذيب الكمال: ١٥/٢٨٢، الاستيعاب: ٣/٩٦٣، الإصابة: ٤/١٦٩.
٢- أخرجه الحاكم في مستدركة "٢/٤٥٠"
٣- هنات: شر وفساد
1 / 13
بكر لابتكاره الخصال الحميدة، فلما أسلم آزر النبي ﷺ في نصر دين الله تعالى بنفسه وماله، وكان له لما أسلم ٤٠. ٠٠٠ درهم أنفقها في سبيل الله مع ما كسب من التجارة. قال تعالى ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾ . [الليل ١٧ - ١٩] وقد أجمع المفسرون على أن المراد به أبو بكر. وقد رد الفخر الرازي على من قال إنها نزلت في حق علي ﵁.
كان أبو بكر ﵁ من رؤساء قريش في الجاهلية محببا فيهم مؤلفا لهم، وكان إليه الأشناق١ في الجاهلية، كان إذا عمل شيئا صدقته قريش، وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه، وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدقوه، فلما جاء الإسلام سبق إليه، وأسلم من الصحابة بدعائه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة وهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأسلم أبواه وولداه وولد ولده من الصحابة فجاء بالخمسة الذين أسلموا بدعائه إلى رسول الله فأسلموا وصلوا.
وقد ذهب جماعة إلى أنه أول من أسلم، قال الشعبي: سألت ابن عباس من أول من أسلم؟ قال: أبو بكر، أما سمعت قول حسان:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس قدما صدق الرسلا
وكان أعلم العرب بأنساب قريش وما كان فيها من خير وشر، وكان تاجرا ذو ثروة طائلة، حسن المجالسة، عالما بتعبير الرؤيا، وقد حرم الخمر على نفسه في الجاهلية هو وعثمان بن عفان، ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام قال رسول الله ﷺ: " ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة٢ ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر ﵁ ما علم عنه حين ذكرته له" ٣ أي: أنه بادر به، ونزل فيه وفي عمر ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر﴾ [آل عمران: ١٥٩] فكان أبو بكر بمنزلة الوزير من رسول الله ﷺ فكان يشاوره في أموره كلها. وقد أصاب أبا بكر من إيذاء قريش شئ كثير. فمن ذلك أن رسول الله ﷺ لما دخل دار الأرقم ليعبد الله ومن معه من أصحابه سرا ألح أبو بكر ﵁ في الظهور فقال النبي ﷺ "يا أبا بكر
_________
١- الأشناق: جمع شنق أن تزيد الإبل على المائة خمسا أو ستا في الحمالة، وقيل: كان الرجل من العرب إذا حمل حمالة زاد أصحابها ليقطع ألسنتهم ولينسب إلى الوفاء. ويراد بها هنا الديات
٢- كبوة: عثرة وتردد
٣- ذكره الطبري في الرياض النضرة: ص٤١٥، وذكره المعافري في السيرة النبوية: ٢/٩١
1 / 14
إنا قليل"، فلم يزل به حتى خرج رسول الله ﷺ ومن معه من الصحابة ﵃ وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله ﷺ جالس ودعا إلى رسول الله، فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى فثار المشركون على أبي بكر ﵁ وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا، وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى آخر النهار، ثم تكلم وقال: ما فعل رسول الله ﷺ؟ فعذلوه فصار يكرر ذلك فقالت أمه: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل فاسأليها عنه. وخرجت إليها وسألتها عن محمد بن عبد الله، فقالت: لا أعرف محمدا ولا أبا بكر ثم قالت: تريدين أن أخرج معك؟ قالت: نعم، فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر فوجدته صريعا فصاحت وقالت: إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم فقال لها أبو بكر ﵁: ما فعل رسول الله ﷺ؟ فقالت: هذه أمك، قال: لا عين منها؛ أي أنها لا تفشي سرك، قالت: سالم هو في دار الأرقم، فقال: والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله ﷺ. قالت أمه: فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجال وسكن الناس خرجنا به يتكئ علي حتى دخل على رسول الله ﷺ فرق له رقة شديدة وأكب عليه يقبله وأكب عليه المسلمون كذلك فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برة بولدها فعسى الله أن يستنقذها من النار، فدعا لها رسول الله ﷺ ودعاها إلى الإسلام فأسلمت.
ولما اشتد أذى كفار قريش لم يهاجر أبو بكر إلى الحبشة مع المهاجرين بل بقي مع رسول الله ﷺ تاركا عياله وأولاده وأقام معه في الغار ثلاثة أيام قال الله تعالى: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: ٤١]
ولما كانت الهجرة جاء رسول الله صلى الله عليه إلى أبي بكر وهو نائم فأيقظه، فقال رسول الله ﷺ: "قد أذن لي في الخروج" ١. قالت عائشة: فلقد رأيت أبا بكر يبكي من الفرح ثم خرجا حتى دخلا الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام، وأن رسول الله لولا ثقته التامة بأبي بكر لما صاحبه في هجرته فاستخلصه لنفسه. وكل من سوى أبي بكر فارق رسول الله وإن الله تعالى سماه ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ﴾ .
قال رسول ﷺ لحسان بن ثابت: "هل قلت في أبي بكر شيئا؟ " فقال: نعم. فقال: "قل وأنا أسمع". فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف٢ وقد ... طاف العدو به إذ صعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا
_________
١- أخرجه ابن خزيمة في صحيحه "٤/١٣٢"
٢- المنيف: العالي المشرف
1 / 15
فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، ثم قال: "صدقت يا حسان هو كما قلت" ١
وكان النبي ﷺ يكرمه ويجله ويثني عليه في وجهه واستخلفه في الصلاة، وشهد مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان بالحديبية وخيبر وفتح مكة وحنينا والطائف وتبوك وحجة الوداع، ودفع رسول الله رايته العظمى يوم تبوك إلى أبي بكر وكانت سوداء وكان فيمن ثبت معه يوم أحدا وحين ولى الناس يوم حنين، وهو من كبار الصحابة الذين حفظوا القرآن كله. ودفع أبو بكر عقبة بن معيط، عن رسول الله لما خنق رسول الله وهو يصلي عند الكعبة خنقا شديدا، وقال: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [غافر: ٢٨]
قال رسول الله ﷺ: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" ٢، رواه البخاري ومسلم. وأعتق أبو بكر سبعة ممن كانوا يعذبون في الله وهم: بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة والنهدية وابنتها، وجارية بني مؤمل، وأم عبيس. وكان أبو بكر إذا مدح قال: اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون.
قال عمر ﵁: أمرنا رسول الله ﷺ أن نتصدق ووافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته فجئت بنصف مالي، فقال: "ما أبقيت لأهلك؟ " قلت: مثله، وجاء أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ " قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شئ أبدا٣.
روي لأبي بكر ﵁ عن رسول الله ﷺ ١٤٢ حديثا اتفق البخاري ومسلم منها على ستة، وانفرد البخاري بأحد عشر، ومسلم بحديث واحد، وسبب قلة رواياته مع تقدم صحبته وملازمته النبي ﷺ أنه تقدمت وفاته قبل انتشار الأحاديث واعتناء التابعين بسماعها، وتحصيلها، وحفظها.
_________
١- أخرجه الحاكم في مستدركة "٣/٨٢"
٢- أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليم وسلم، باب قول النبي ﷺ: " لو كنت متخذا خليلا" " الحديث: ٣٦٥٦"، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق ﵁ " الحديث: ٢٣٨٢".
٣- أخرجه الحاكم في المستدرك "١/٥٧٤"
1 / 16
بعض الأحاديث المصرحة بفضل أبي بكر
عن عمرو بن العاص: أن النبي ﵇ بعثه على جيش ذات السلاسل قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ فقال: "عائشة"، فقلت: من الرجال؟ فقال: "أبوها"، فقلت ثم من؟ قال: "عمر بن الخطاب"١، فعد رجالا، رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله ﷺ: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء" ٢ رواه البخاري.
وعن أبي هريرة: قال رسول الله ﷺ: "من أصبح منكم اليوم صائما؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ " قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله ﷺ: "ما اجتمعن في امرئ إلا ودخل الجنة" ٣ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ كان على حراء هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة، فقال النبي ﵇: "اهدأ فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد" ٤ رواه مسلم.
وعن حذيفة قا: قال رسول الله ﷺ: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" ٥ رواه الترمذي.
وعن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ قال لأبي بكر: "أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار" ٦ رواه الترمذي.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه وسلم: "ما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر" ٧ فبكى أبو بكر وقال: وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله.
_________
-١ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: قول النبي: "لو كنت متخذا خليلا" " الحديث: ٣٦٦٢"، وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق " الحديث: ٢٣٨٤"
-٢ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: قول النبي: " لو كنت متخذا خليلا" " الحديث: ٣٦٦٥"
٣- أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: من جمع الصدقة وأعمال البر " الحديث: ١٢٠٨"
-٤ أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير " الحديث: ٢٤١٧"
-٥ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب عن رسول الله، باب: في مناقب أبي بكر وعمر كليهما " الحديث: ٣٥٩٥ "
-٦ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب عن رسول الله، باب: في مناقب أبي بكر وعمر كليهما " الحديث: ٣٦٠٣ "
٧ -أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب عن رسول الله، باب: في مناقب أبي بكر الصديق " الحديث: ٣٥٩٤ "
1 / 17
ومن فضائله ﵁:
أن عمر بن الخطاب كان يتعاهد عجوزا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل فيستقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها فرصده عمر فإذا الذي يأتيها هو أبو بكر الصديق وهو خليفة، فقال عمر: أنت هو لعمري١
وهو أول خليفة في الإسلام وأول أمير أرسل على الحج، حج بالناس سنة تسع هجرية، وأول من جمع القرآن، وأول من سمى مصحف القرآن مصحفا، وكان يفتي الناس في زمان رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر.
توفي أبو بكر يوم الاثنين ٢٢ جمادى الآخرة سنة ١٣هـ - ٢٣ أب - أغسطس سنة ٦٣٤ وتوفي أبوه بعده بنحو ستة أشهر وله ٦٣ سنة كرسول الله ﷺ وعمر بن الخطاب.
صفته ﵁
كان أبو بكر رجلا أبيض خفيف العارضين لا يتمسك إزاره، معروق الوجه ناتئ الجبهة عاري الأشاجع٢ أقنى٣ غائر العينين حمش٤ الساقين ممحوص٥ الفخذين يخضب بالحناء والكتم.
زوجاته وأولاده
تزوج أبو بكر في الجاهلية قتيلة بنت سعد فولدت له عبد الله وأسماء، أما عبد الله فإنه شهد يوم الطائف مع النبي ﷺ وبقي إلى خلافة أبيه ومات في خلافته وترك سبعة دنانير فاستكثرها أبو بكر، وولد لعبد الله اسماعيل فمات ولا عقب له، وأما أسماء فهي ذات النطاقين، وهي التي قطعت قطعة من نطاقها فربطت به على فم السفرة في الجراب التي صنعت لرسول الله وأبي بكر عند قيامها بالهجرة وبذلك سميت ذات النطاقين وهي أسن من عائشة وكانت أسماء أشجع نساء الإسلام وأثبتهن جأشا وأعظمهن تربية للولد على الشهامة، وعزة النفس، تزوجها الزبير بمكة فولدت له عدة أولاد ثم طلقها فكانت مع ابنها عبد الله بن الزبير حتى قتل بمكة وعاشت مائة سنة حتى عميت، وماتت.
وتزوج أبو بكر أيضا في الجاهلية أم رومان٦ فولدت له عبد الرحمن، وعائشة زوجة رسول الله، توفيت في حياة رسول الله في سنة ست من الهجرة، فنزل رسول الله قبرها واستغفر لها وكانت حية وقت حديث الإفك، وحديث الإفك في سنة ست في شعبان، فعبد الرحمن شقيق عائشة، شهد بدرا وأحدا مع الكفار ودعا إلى البراز فقام إليه أبو بكر ليبارزه، فقال له رسول الله ﷺ: "متعنا
_________
١- تاريخ الخلفاء: ص٨٠.
٢- الأشاجع: مفاصل الأصابع.
٣- أقنى: طول بالأنف ودقة أرنبة مع حدب في وسطه من غير قبح.
٤- حمش: دقيق.
٥- محموص: أي شديد.
٦- تاريخ الطبري: ٢/٣٥١، والمنتظم: ٤/٥٦.
1 / 18
بنفسك" ١ وكان شجاعا راميا أسلم في هدنة الحديبية وحسن إسلامه، شهد اليمامة مع خالد بن الوليد فقتل وهو من أكابرهم، وهو الذي قتل محكم اليمامة بن الطفيل الذي كان من قواد بني حنيفة المشهورين، رماه بسهم في نحره فقتله، كما سيأتي ذكر ذلك في موقعة اليمامة، وكان عبد الرحمن أسن ولد أبي بكر وكان فيه دعابة، توفي فجأة بمكان اسمه حبش على نحو عشرة أميال من مكة وحمل إلى مكة، ودفن فيها وكان موته سنة ٥٣ هـ.
وتزوج أبو بكر في الإسلام - أسماء بنت عميس٢- وكانت قبله عند جعفر بن أبي طالب، فلما قتل جعفر تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر ثم مات عنها فتزوجها علي بن أبي طالب فولدت له يحي، وأما محم بن أبي بكر، فكان يكنى أبا القاسم، وكان من نسابة قريش، ولاه علي بن ابي طالب ﵁ مصر فقاتله صاحب معاوية وظفر به فقتله، وولد له القاسم.
وتزوج أيضا في الإسلام -حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي٣- فولدت له جارية سمتها عائشة أم كلثوم تزوجها طلحة بن عبيد الله فولدت له زكريا، وعائشة، ثم قتل عنها فتزوجها عبد الرحمن بن عبيد الله بن أبي ربيعة المخزومي.
قال الأستاذ واشنجتون إيرفنج في كتاب "محمد وخلفاؤه":
كان أبو بكر رجلا عاقلا سديد الرأي وقد كان في بعض الأحيان شديد الحذر والحيطة في إدارته لكنه كان شريف الأغراض غير محب للذات، ساعيا للخير لا لمصلحته الذاتية فلم يبتغ من وراء حكمه مطامح دنيوية بل كان لا يهمه الغنى، زاهدا في الفخر، راغبا عن اللذات ولم يقبل أجرا على خدماته غير مبلغ زهيد يكفي لمعاش رجل عربي عادي ولم يكن له سوى جمل وعبد، وكان يوزع ما كان يرد إليه في كل يوم جمعة إلى المحتاجين، والفقراء، ويساعد المعوزين بماله الخاص.
_________
١- أخرجه الحاكم في مستدركة "٣/٥٣٩".
٢- تاريخ الطبري: ٢/٣٥١ والمنتظم: ٤/٥٦.
٣ تاريخ الطبري: ٢/٣٥١، والمنتظم: ٤/٥٦.
1 / 19
حديث السقيفة١ وبيعة أبي بكر الصديق
توفي رسول الله ﷺ يوم الاثنين ١٢ ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة "٩ حزيران يونيه سنة ٦٣٢ م " فهب الأنصار يطالبون بالخلافة قبل أن يدفن رسول الله مع أم المهاجرين لم يكونوا قد فكروا في الخلافة، بل كان كبار الصحابة مشغولين بتجهيز رسول الله ودفنه، وطمع سعد بن أبي عبادة في أن يكون خليفة ويكنى أبا ثابت وكان نقيب بني ساعدة٢ والسيد المطاع في الخزرج.
اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وجاؤوا بسعد بن عبادة وهو مريض بالحمى ليبايعوه وطلبوا إليه أن يخطب، فقال لابنه أو بعض بني عمه: إني لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلهم كلامي، ولكن تلق مني قولي فأسمعهم، فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله فيرفع صوته فيسمع أصحابه.
خطبة سعد بن عبادة٣
قال سعد بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إن محمدا ﵇ لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما٤ عموا به، حتى إذا أراد [الله] بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه حتى استقامة العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا حتى أثخن الله ﷿ لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راض وبكم قرير عين استبدوا بالأمر دون الناس، فإنه لكم دون الناس.
هذه خطبة سعد بن عبادة، فقد كان يرى أن المهاجرين استبدوا بالأمر، وأن الأنصار أحق بالولاية للأسباب التي ذكرها، مع أن المهاجرين لم يكونوا قد اجتمعوا، ولم يتشاوروا في أمر الخلافة، ولم يقرروا شيئا، ولا شك أن هذه الخطبة حازت استحسان الأنصار، ولا سيما الخزرج، فأجابوا بأجمعهم أن قد وفقت في الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، نوليك هذا الأمر فإنك فينا مقنع، ولصالح المؤمنين رضا.
وطبيعي أن يحتج المهاجرون على هذا الكلام فقالوا: نحن المهاجرون وأصحاب رسول الله
_________
١- البداية والنهاية: ٤/٦٩٢، والرياض النضره: ٢/١٩٩.
٢- في الأصل: سعادة، وهو تحريف.
٣- تاريخ الطبري: ٢/٢٤١
٤- الضيم: الظلم
1 / 20
الأولون وعشيرته وأولياؤه، فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا أبدا، فقال سعد: "هذا أول الوهن".
بلغ عمر بن الخطاب ما كان من خطبة سعد وما وقع من خلاف بين الأنصار الذين أثاروا هذا الموضوع وبين المهاجرين، فجاء إلى منزل رسول الله، وأرسل إلى أبي بكر أن أخرج إلي فأرسل إليه أني مشتغل فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره، فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين إلى السقيفة ومعهما أبو عبيدة بن الجراح، وأراد عمر ﵁ أن يبدأ بالكلام فأسكته أبو بكر قائلا: رويدا حتى أتكلم، ثم تكلم بكل ما أراد أن يقول عمر.
خطبة أبي بكر الصديق١
بدأ أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
إن الله بعث محمدا رسولا إلى خلقه، وشهيدا، على أمته ليعبدوا الله ويوحدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة وإنما هي من حجر منحوت، وخشب منجور، ثم قرأ: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨] وقالوا: ﴿َا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: ٣]، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، والإيمان به، والمواساة له، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالف، زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشنف الناس لهم وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله في الأرض، وآمن بالله والرسول وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من عبده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم، أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ولرسوله، وجعل إليكم هجرته وفيكم جلة٢ أزواجه وأصحابه فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتانون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور.
خطبة الحباب بن المنذر٣
فقام الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري الخزرجي السلمي، ويكنى أبا عمر وكان يقال له ذو الرأي، فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في فيئكم وفي ظلكم ولن يجتري مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدة والمنعة والتجربة، ذوو البأس والنجدة وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد رأيكم، وينتقض عليكم أمركم أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنهم أمير.
_________
١- تاريخ الطبري: ٢/٢٤٢، تاريخ اليعقوبي: ٢/١٢٥.
٢- الجلة: العظماء والسادة.
٣- تاريخ الطبري: ٢/٢٤٣.
1 / 21
ورد عمر بن الخطاب على الحباب فقال:
هيهات لا يجتمع اثنان في قرن والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمرهم فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل١ بباطل أو متجانف٢ لإثم أو متورط في هلكة، فقام الحباب بن المنذر فقال:
يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا علكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكك٣ وعذيقها٤ المرجب٥، أما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة.
لقد لج الحباب في الخصومة، واستعمل في خطبته ألفاظا شديدة وحرض الأنصار على إجلاء المهاجرين من المدينة إذا لم يولوهم الخلافة وتوعدهم بالشر لذلك قال له عمر محتدا: إذن يقتلك الله، قال: بل إياك يقتل.
قال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من غير وبدل.
وعندئذ قام بشير بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس الخزرجي الأنصاري، ويكنى أبا النعمان فقال:
يا معشر الأنصار إنا والله كنا أولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا، وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ألا إن محمدا ﷺ من قريش وقومه أحق به وأولى، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، أبدا فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
فأراد أبو بكر بحكمته أن يضع حدا لهذا الخلاف خشية استحكامه فرشح للخلافة اثنين من المهاجرين قائلا: هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا.
فقالا: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار وخليفة رسول الله على الصلاة والصلاة أفضل دين المسلمين فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك، أو يتولى هذا الأمر عليك أبسط يدك نبايعك، فلما ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، فهو على ذلك أول من بايع أبا بكر الصديق،
_________
١- مدل الباطل: أي فيه جراءة وعلامة على الباطل.
٢- متجانف: أي متمايل متعمد.
٣- الجذل المحكك: الذي بنصب في العطن لتحتك به الإبل الجربى
٤- عذيقها: كل غصن له شعب
٥- المرجب: وهو تصغير " تعظيم"، وأراد بالترجيب التعظيم. وقوله: أنا جذيها المحكك وعذيقها المرجب، مثل يضرب لمن يستشفى برأيه ويعتمد عليه.
1 / 22
ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير "الذي كان رئيس الأوس يوم بعاث ومن أحسن الناس صوتا بالقرآن، وكان أحد المشهود لهم بالعقل وأحد النقباء":
والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا فقوموا فبايعوا أبا بكر. فقاموا إليه فبايعوه، فأنكر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم١.
ولم يلق الرأي الذي قاله الأنصار "منا أمير ومنكم أمير" قبولا حتى سعد نفسه فإنه لما سمع به قال: هذا أول الوهن. لأن انقسام القوة موهن لها، وكذا رفضه عمر حيث قال: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن. وأسرع عمر في مبايعة أبي بكر علما منه بمكانته واعترافا بفضله.
أقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب، وأقبلت أسلم بجماعاتها حتى تضايقت بهم السكك فبايعوا فكان عمر يقول: ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر وكاد الناس من شدة الزحام يطأون سعد بن عبادة الذي كان يومئذ مريضا ولا يستطيع النهوض، وحدثت بينه وبين عمر مشادة، وأخيرا حمل سعد وأدخل في داره وترك أياما ثم بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك فقال:
أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب سنان رمحي وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي فلا أفعل، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي. ٢
هذا ما أجاب به سعد من دعوه إلى مبايعة أبي بكر بعد أن علم أن البيعة قد تمت ولكن ماذا يفيد امتناعه عن البيعة، وليس له أنصار ولا أغلبية! لقد طمع في الخلافة، وظن أن قومه سيقاومون ويتمسكون به إلى آخر رمق٣ من حياتهم، إنه توعد وهدد بمفرده لذلك لم يكترث به أحد فتركوه وشأنه.
فلما علم أبو بكر بما قال سعد، قال له عمر: لا تدعه حتى يبايع، فقال له بشير بن سعد: إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعتكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده، وأهل بيته، وطائفة من عشيرته، فاتركوه فليس تركه بضاركم إنما هو رجل واحد، فتركوه عملا برأي بشير.
_________
١- تاريخ الطبري: ٢/٢٤٣.
٢- تاريخ الطبري: ٢/٢٤٤
٣- الرمق: بقية الحياة.
1 / 23
تخلف علي١ ﵁ عن البيعة
قال الزهري: بقي علي وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتى ماتت فاطمة ﵂ فبايعوه وكانت فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فأبى أبو بكر أن يدفع إليها شيئا؛ لأن رسول الله قال: "لا نورث ما تركناه صدقة" فوجدت فاطمة على أبي بكر الصديق في ذلك ولم تكلمه حتى توفيت٢.
وقد كان علي ﵁ يرى أنه أحق بالخلافة من أبي بكر لقرابته من رسول الله، لذلك فقد تخلف عن البيعة مع أن رسول الله لما مرض وتعذر عليه الخروج إلى الصلاة، قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت له عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء. قال: " مروا أبا بكر فليصل بالناس" فعاودته مثل مقالتها، فقال: "إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس" ٣.
وفي تقديمه أبا بكر للصلاة إشارة إلى أنه الخليفة بعده. قال الزبير: لا أغمد سيفا حتى يبايع علي، فقال عمر: خذوا سيفه واضربوا به الحجر، ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة، وقيل لما سمع علي ببيعة أبي بكر خرج في قميصه ما عليه إزار، ولا رداء عجلا حتى يبايعه ثم استدعى إزاره ورداءه فتجلله، قال ابن الأثير: والصحيح أن أمير المؤمنين ما بايع إلا بعد ستة أشهر٤.
وممن تخلف عن بيعة أبي بكر عتبة بن أبي لهب، وخالد بن سعيد والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب وأبي بن كعب ومالوا مع علي، وتخلف أيضا أبو سفيان من بني أمية.
_________
١- الطبقات الكبرى: ٢/٣١٥، الرياض النضرة: ٢/١٩٩.
٢- تاريخ الطبري: ٢/٢٣٦.
٣- أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، حد المريض أن يشهد الجماعة " الحديث: ٦٦٤".
٤- تاريخ اليعقوبي: ٢/١٢٦، وسير أعلام النبلاء: ١٤/٤٥١.
1 / 24
أفضل الناس بعد رسول الله
أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ أبو بكر ﵁، وقالت الشيعة وكثير من المعتزلة: هو علي وهؤلاء جوزوا إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وحجتهم أن قيام علي بالجهاد كان أكثر من قيام أبي بكر فوجب أن يكون علي أفضل منه لقوله تعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٥٩] .
وأجاب أهل السنة عنه بأن الجهاد على قسمين: جهاد بالدعوة إلى الدين وجهاد بالسيف، ومعلوم أن أبا بكر ﵁ جاهد في الدين في أول الإسلام بدعوة الناس إلى الإسلام، بدعوته أسلم عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وأبو عبيدة بن الجراح ﵃ أجمعين، وعلي ﵁ إنما جاهد بالسيف عند قوة الإسلام، فكان الأول أولى، وحجة القائلين بفضل أبي بكر ﵁ قوله ﷺ: "ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر" ١
تجهيز رسول الله ودفنه٢
بعد أن بويع أبو بكر جهز رسول الله ودفن ليلة الأربعاء وقد غسل في قميصه وغسله العباس، والفضل وقثم ابنا العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله، وحضرهم أوس بن خولى الأنصاري من بئر يقال لها الغرس لسعد بن خثيمة بقباء، وكان العباس وابناه يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله وعليه قميصه، وهو يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيا وميتا٣، وكفن في ثلاثة أثواب يمانية بيض من كرسف – قطن- ليس في كفنه قميص ولا عمامة ولا عروة.
وبعد أن غسل رسول الله وكفن، وضع على سرير وأدخل عليه المسلمون أفواجا يقومون ويصلون عليه، ثم يخرجون ويدخل آخرون ولم يؤمهم في الصلاة عليه إمام حتى إذا فرغت الرجال دخلت النساء ثم دخل الصبيان.
وكان أول من دخل أبو بكر وعمر، فقالا: - السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته_ ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت، فسلموا كما سلم أبو بكر، وعمر، وصفوا صفوفا لا يؤمهم عليه أحد، فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول حيال رسول الله:
اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل عليه ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه،
_________
١- أخرجه الحاكم في مستدركه "٣/٩٦"
٢- تاريخ الطبري: ٢/٢٣٣، الرياض النظرة: ٢/٤٢، تاريخ الخلفاء: ص ٧٠.
٣- تاريخ الطبري: ٢/٢٣٨، والمنتظم: ٤/٥٤.
1 / 25
وتمت كلماته فآمن به وحده لا شريك له، فاجعلنا يا إلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرفه، فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، لا نبتغي بالإيمان بدلا، ولا نشتري به ثمنا أبدا ١.
فيقول الناس آمين آمين، ثم يخرجون ويدخل غيرهم، ولما فرغوا نادى عمر خلوا الجنازة وأهلها.
ولما اختلفوا في موضع دفنه قال أبو بكر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما مات نبي قط إلا يدفن حيث تقبض روحه" ٢ قال علي: وأنا أيضا سمعته. فرفع فراشه ودفن، ولما أرادوا أن يحفروا لرسول الله، كان بالمدينة رجلان أبو عبيدة بن الجراح يضرح لأهل مكة، وكان أبو طلحة الأنصاري هو الذي يلحد لأهل المدينة، فجاء أبو طلحة وألحد لرسول الله، وجعل في قبره قطيفة حمراء كان يلبسها فبسطت تحته، وكانت الأرض ندية، ورش قبره ﷺ بلال بتربة بدا من قبل رأسه وجعل عليه من حصباء العرصة٣ حمرا وبيضا، ورفع قبره عن الأرض قدر شبر، ونزل قبره علي، والفضل وقثم ابنا العباس، وشقران، وأوس بن خولى الأنصاري.
خطبة أبي بكر بعد البيعة٤
بعد أن تمت بيعة أبي بكر بيعة عامة، صعد المنبر وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أيها الناس قد وليت عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله.
فيا لها من كلمات جامعة حوت الصراحة والعدل، مع التواضع والفضل، والحث على الجهاد لنصرة الدين، وإعلاء شأن المسلمين.
_________
١- البداية والنهاية: ٥/٢٦٥، الطبقات الكبرى: ٢/٢٩٠.
٢- أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه "٧/٢٢٨".
٣- العرصة: كل بقعة بين الدور الواسعة لسي فيها بناء.
٤- الرياض النضرة: ٢/٢١٣، تاريخ الخلفاء: ص٦٩، تاريخ الطبري: ٢/٢٣٨، البداية والنهاية: ٥/٢٤٨.
إرسال جيش أسامة بن زيد١ يوم الأربعاء ١٤ ربيع الأول سنة ١١هـ "١١ حزيران - يونيه ٦م" كان رسول الله قد استعمل أسامة بن زيد، وأمره بالتوجه إلى حدود الشام للأخذ بثأر من قتل في _________ ١- البداية والنهاية: ٤/٦٩٥.
إرسال جيش أسامة بن زيد١ يوم الأربعاء ١٤ ربيع الأول سنة ١١هـ "١١ حزيران - يونيه ٦م" كان رسول الله قد استعمل أسامة بن زيد، وأمره بالتوجه إلى حدود الشام للأخذ بثأر من قتل في _________ ١- البداية والنهاية: ٤/٦٩٥.
1 / 26
غزوة مؤتة، وقد كان رسول الله قد ضرب البعث على أهل المدينة ومن حولها، وفيهم عمر بن الخطاب وعسكر جيش أسامة بالجرف فاشتكى رسول الله ثم وجد من نفسه راحة فخرج رسول الله عاصبا رأسه فقال:
"أيها الناس أنفذوا جيش أسامة" ثلاث مرات، وقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبله، وايم الله إنه كان خليقا للإمارة، وايم الله إنه لمن أحب الناس إلي من بعده " ١
وذلك لأن الناس طعنوا في إمارة أسامة، لأنه كان شابا لم يتم العشرين من عمره.
توفي رسول الله ولم يسر الجيش، وارتد كثير من العرب ونجم النفاق، واشرأبت٢ أعناق اليهود والنصارى وبقي المسلمون لا يدرون ماذا يصنعون لوفاة نبيهم، وقلة عددهم، وكثرة عدوهم، فقال الناس لأبي بكر: إن جيش أسامة جند المسلمين، والعرب قد انتقضت بك فلا ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين.
فماذا يصنع أبو بكر؟ إنهم يعترضون على إمارة أسامة لصغر سنه، ويعترضون على إرسال جيش المسلمين إلى الشام لارتداد العرب، وقلة عدد المسلمين، وخزفهم على مركزهم بالمدينة، غير أن رسول الله كان يشدد في إرسال جيش أسامة، وقد أخذ أبو بكر عهدا على نفسه بأن لا يعصي الله ورسوله، فهل يخالف أمر رسول الله؟ كلا، فإن ذلك ليس من طبيعته ولا من خلقه، وإنما خلقه الثبات إلى آخر لحظة وتنفيذ أوامر رسول الله بكل دقة في كل كبيرة وصغيرة مهما كلفه ذلك لقوة إيمانه، وثبات يقينه وعملا بواجب الصداقة، لهذا كانت إجابته للمعترضين في غاية القوة حيث قال:
والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله ﷺ ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته ٣.
وقال لعمر لما أرسله أسامة يستأذنه في الرجوع وطلب إليه الأنصار إن أبى أن يولي عليه من هو أقدم سنا من أسامة:
لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله ﷺ ٤.
فقال عمر: إن الأنصار أمروني أن أبلغك وأنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة. فوثب أبو بكر وكان جالسا يأخذ بلحية عمر فقال له:
ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله ﷺ وتأمرني أن أنزعه.
_________
١- أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة زيد بن حارثة " الحديث: ٤٢٥٠".
٢- اشرأبت: ارتفعت وعلت.
٣- تاريخ الطبري: ٢/٢٤٥، البداية والنهاية: ٦/٣٠٤.
٤- تاريخ الطبري: ٢/٢٤٦.
1 / 27
فخرج عمر إلى الناس بعد أم سمع ورأى من أبي بكر ما رأى، فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله.
وإجابة أبي بكر بهذه القوة تذكرنا بما قاله رسول الله لعمه أبي طالب حين ظن أنه قد خذله وضعف عن نصرته: "يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه فيه ما تركته" ١.
خرج أبو بكر حتى أتى الجيش وأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن، فقال: والله لا تنزل والله لا أركب وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة، فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له وسبعمائة درجة ترفع له وترفع عنه سبعمائة خطيئة. حتى إذا انتهى قال: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل، ومعنى ذلك أنه يستأذن أسامة - قائد الجيش - أن يترك له عمر لأنه كان في الجيش فأذن له وكان إرسال الجيش بعد بيعة أبي بكر بيوم أعني يوم الأربعاء ١٤ من ربيع الأول.
_________
١- الكامل: ١/٥٨٧، والمنتظم: ٢/٣٦٨
1 / 28
وصية أبي بكر الجيش١
أوصى أبو بكر جيش أسامة فقال:
يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني:
لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا أو شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نحلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئا فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقا، اندفعوا باسم الله.
وقال لأسامة: إصنع ما أمرك به نبي الله صلى الله عليه وسلم٢، ابدأ ببلاد قضاعة ثم ائت آبل ولا تقصرن من شئ من أمر رسول الله ﷺ ولا تعجلن لما خلفت عن عهده.
فسار أسامة وأوقع بقبائل من قضاعة التي ارتدت وغنم وعاد وكانت غيبته أربعين يوما سوى مقامه ومنقلبه راجعا من غير أن يفقد أحدا من رجاله.
وكان إنفاذ جيش أسامة أعظم الأمور نفعا للمسلمين فإن العرب قالوا لو لم يكن بالمسلمين قوة لما أرسلوا هذا الجيش فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه.
ولم نعثر في المراجع التاريخية عن عدد جيش أسامة ولا على قوة جيش العدو وخسائره، ولم نعلم ما هي الغنائم التي غنمها المسلمون.
_________
١- الطبري: ٢/٢٤٦
٢- تاريخ اليعقوبي: ٢/١٢٧
1 / 29
إمارة باذان على اليمن١ في عهد رسول الله
باذان رجل من الفرس بعثه كسرى أبرويز إلى اليمن نائبا عليها فبقي إلى بعثة رسول الله ﷺ وهو آخر من قدم من اليمن من ولاة العجم.
ولما كاتب النبي كسرى بما كاتبه مزق كسرى الكتاب وبعث إلى باذان أن أرسل إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين وكتب مهما إلى النبي يأمره بالمسير معهما إلى كسرى فقال لهم رسول الله: "إرجعا وقولا لباذان أسلم فإن أسلم أؤمره على ما تحت يده وأملكه على قومه" ٢ فأتيا إلى باذان وكان كسرى قد مات، فقال باذان: إني لأراه نبيا ولننظرن فإن كان ما قال حقا فهو فإنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فنرى فيه رأينا، فلم يلبث أن قدم عليه كتاب شيرويه بن كسرى بقتل كسرى ويأمره بأخذ الطاعة له باليمن، فأسلم باذان وأسلم معه جماعة من العجم وبعث بذلك إلى النبي وكان سنة ١٠ هجرية، فجمع له النبي عمل اليمن وأمره على جميع مخاليفه فلم يزل عاملا عليها حتى مات.
فلما مات باذان فرق رسول الله أمراءه في اليمن بالكيفية الآتية:
١- عمرو بن حزم على نجران.
٢- خالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران وزبيد.
٣- عامر بن شهر الهمداني على همدان.
٤- شهر بن باذان على صنعاء.
٥- الطاهر بن أبي هالة على عك والأشعريين.
٦- أبو مسى الأشعري على مأرب.
٧- يعلي بن أمية على الجند.
٨- زياد بن لبيد الأنصاري على أعمال حضرموت.
٩- عكاشة بن ثور على السكاسك والسكون.
١٠- عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري على بني معاوية بن كندة.
وكان معاذ بن جبل معلما يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت.
_________
١- تاريخ الطبري: ٢/١٣٤، البداية والنهاية: ٤/٢٧٠، المنتظم: ٣/٢٨٣.
٢- البداية والنهاية: ٤/٢٦٩. وفيه أن رسول الله ﷺ أخبرهما بأن الله سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا وكذا في ليلة كذا وكذا من الليل سلط عليه ابنه شيرويه فقتله.
1 / 30