أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
أشخاص الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
أبطال المنصورة
أبطال المنصورة
تأليف
إبراهيم رمزي
للتاريخ
بقلم المؤلف
فبراير سنة 1939
هذه ثالث رواية وضعتها وكان ذلك في سنة 1915 مطاوعة لشعور ابتعثه هم المصريين يومئذ لتغيير القوم عاهليتهم بالرغم منهم، وإيقاظا لنفسية كاد يتلفها ما كانوا يلقونه من المذلة والعبث.
ولقد حاولت ما حاولت ليأذن الرقيب بتمثيلها فلم أفلح إلا في 1918، فقد تضافر موظفو قلم المطبوعات على رفضها والنيل مني ومنها عند رجال السلطة السياسية والعسكرية، فنالوا الحظوة لديهم كما أرادوا، وباءوا بعد ذلك بخزي من الله والوطن.
وأخيرا مثلتها فرقة الأستاذ عبد الرحمن رشدي لأول مرة في المنصورة، تكريما للمدينة التي حدثت فيها واقعة التاريخ الذي أدونه لأبطالها في هذه القصة بقلم التجلة والإكبار بعد أن دونوه لأنفسهم بأثلات السيوف والرماح، وجعلوا صحيفته نورا للمستنيرين في الحق والوطنية، بيد أنها كانت مرة واحدة مثلت فيها، ثم رأيت من واجبي أن أنقل حق تمثيلها إلى فرقة ترقية التمثيل العربي التي كانت في مجرى الإنشاء يومئذ فتولت إخراجها في دارها بحديقة الأزبكية وأحسنت تمثيلها، ولكن لم تكن هذه الدار حرة يومئذ في العمل؛ إذ كانت هناك عوامل تزيغ الدراما لتحل محلها الروايات الغنائية، فاختفت هذه الرواية من الجو المسرحي المحترف، وإن لم تختف من مسارح الجماعات الهاوية.
وإذ كان من واجبي أن أنوه بحسنات المحسنين، فبفضل زعيم مصر الاقتصادي العظيم محمد طلعت حرب باشا؛ لأنه قدر الرواية قدرها وغالى بها، وبفضل معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا، «وكان يومئذ مديرا لتحرير السياسة»؛ إذ عهدت إليه إدارة الشركة بقراءتها ودرسها، فأحسن الرأي فيها وأثنى واستحث على تمثيلها والاستزادة من أمثالها لتغذية الروح الوطنية في البلاد، وإمدادها بما هي في حاجة إليه من المثل والعظات. فلهما شكري ودعائي وتحيتي.
أشخاص الرواية
الفارس أقطاى:
نائب الأتابك.
الأمير جمال الدين محسن الكاظمي:
ناظر الخاص.
الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري:
أمير المماليك البحرية.
الأمير فخر الدين ابن شيخ الشيوخ:
أتابك جند مصر.
الكاتب سهيل:
كاتب شجرة الدر.
هبة الله
1 :
طبيب فرنسي الأصل ربي في مصر.
الشيخ برنار
1 :
صاحب عزبة بناحية فارسكور فرنسي الأصل.
الملك المعظم طوران شاه:
سلطان مصر بعد وفاة أبيه الصالح نجم الدين أيوب.
صبيح:
مولى طوران شاه وحارس سجن الملك لويس.
الملك لويس:
ملك فرنسا وقائد الصليبيين الأعلى.
الأمير دارتوا:
أخو الملك لويس.
الأمير بواتيه:
أخو الملك لويس.
مسعود
1 :
عبد بيبرس
الأميرة شجرة الدر:
امرأة السلطان الصالح نجم الدين أيوب.
الأميرة صفية
1 :
أخت شجرة الدر.
مريم، عائشة
1 :
فتاة تعيش في عزبة برنار.
الفصل الأول
المنظر
يزاح الستار عن دار في قصر السلطان الصالح أيوب على النيل في الجانب القبلي من مدينة المنصورة، وهو بناء عربي الطراز والتقسيم: إيوان ورحبة، أما الإيوان فواقع في مؤخر المرزح، والرحبة في مقدمته ويعلو عنها شبرا تقريبا، والإيوان نصف مثمن به ثلاثة أضلاع كاملة في مواجهة المشاهد، وهذه ذات شبابيك، أي: نوافذ فيها قضبان متعارضة، عليها من الداخل سجف «ذات فلقتين» من الديباج الثقيل إذ الوقت شتاء «10 ديسمبر
1
سنة 1249»، أما الضلعان الجانبيان فكل منهما نصف ضلع المثمن أو يزيد قليلا، وفي كل منهما باب قصير «أربع أذرع» مكفت بنقوش عربية من المعدن ... واحد إلى اليمين بالنسبة إلى المتفرج وهو مؤد إلى غرف السلطان وحرمه، وآخر مثله إلى اليسار هو مقطع كبار الدولة، أي: الباب الخاص الذي يحضر منه وينصرف كبار أمناء السلطان، وأمراء حرسه الخاص المعروفون برجال الحلقة، ومن هم في كرامة المنزلة مثلهم ... ويفصل الإيوان عن الرحبة عمد من الرخام، تعلوها بوائك موشحة بنقوش عربية ما بين البواكير «الأقواس». والبوائك الثلاث: اثنتان منهما صغيرتان هما الجانبيتان، وواحدة كبيرة «وتعلو نصف ذراع عما بجوارها» بين هاتين.
والمكان جميعه مفروش بأنفس البسط الطبرستانية «الفارسية»؛ إذ الوقت شتاء كما نبهنا، ونرى على أبوابه جميعا سجفا غير مسدلة بل مزاحة إلى الجانبين ما عدا باب حرم السلطان، وفي الإيوان مقاعد ووسائد فاخرة وضعت دوين النوافذ يعلو عليها في الصدر مقعد كبير يكون للسلطان عادة عند اجتماعه برجال ديوانه، ولكن الدار قد اتخذت تلك اليلة للنوبة، أي: حراسة السلطان وخدمته المستعجلة؛ لأنه مريض يئس الأطباء من شفائه؛ ولأن الفرنجة الفرنسيس - وكانت معهم فرقة إنجليزية - تحت إمرة
Longsword
وهو لورد
Salisbury
تحت إمرة الملك لويس التاسع المعروف في كتب التاريخ العربية باسم ري ديفرانس - أوروا دفرنس تعريب
Roi de France - قد عاودوا ضرب مصر لامتلاكها توطئة لاسترداد القدس، وإبادة علم الإسلام من الدنيا؛ «إذ كان هذا مأمول أوروبا في القرون الوسطى ومناط مجدهم وفخرهم»، وقد نزلوا البلاد واحتلوا دمياط «التي أخرجوا منها مدحورين أذلة قبل ذلك بثلاثين عاما على سيوف السلطان الكامل أبي السلطان الحالي، وباني مدينة المنصورة تخليدا ليوم نصره»، ويوشك جيشهم أن يزحف على المنصورة في طريقه إلى بابليون «مصر القديمة»، فالأمر يستوجب قرب أعيان الدولة مناوبة بجوار السلطان في كل وقت.
وإذ كانت العادة أن يتلهى أمراء النوبة في تلك الليالي بلعب الشطرنج وغيره، ويستعينوا على السهر بمذاكرة الشعر، ورواية أحاديث الدول، وتلاوة القرآن الكريم ومطالعة الحديث الشريف
2
فإن في المكان خزانة على شكل صندوق، إذا أقفل غطاؤه حسبته مقعدا ذا جانبين، وإذا رفع الغطاء وجدت فيه نسخا من أعيان الكتب المخطوطة في الشعر والتاريخ والقصص والفقه والتفسير وغير ذلك، وقد أتي بالخزانة في تلك الليلة من «دار الخاص»، ووضعت دوين الباب الأيسر الأعلى في الإيوان بميل وانحراف. وفي المكان في مقدمة المرزح دوين الباب الأيمن الأدنى ثلاث وسائد صغيرة ثمينة القيمة؛ اثنتان منهما إلى الأمام، وواحدة إلى الوراء بينهما على قيد ذراع منهما، وقد وضع بين الوسائد الثلاث دست، أي: صندوق صغير وضعت فوقه رقعة شطرنج، صفت عليها قطع من العاج والأبنوس المكفت بالفضة، وفي الدست درج ظاهر للمتفرج قد أخرج منه لتلقى فيه القطع المدحورة ساعة اللعب أو تحفظ فيه بعده.
أما الوسائد الثلاث فقد جلس على اليمنى منها الكاتب سهيل، مولى شجرة الدر امرأة السلطان وكاتم سرها، وهو فتى في الثلاثين من عمره لا لحية ولا شارب له؛ لأنه خصي، قد لبس كلوتة «طاقية مضربة» ظاهرها أطلس رومي أصفر اللون اعتم عليها على غير العادة بشاش من الحرير الإسكندري الأبيض، وعلى جسمه قياء بغلطاق «بلطو» من الحرير الأحمر الرومي، مسجف بفرو السنجاب، ومبطن بفرو ثمين، وقد تمنطق عليه بيند أبيض من الحرير، ويبدو من أسفل البغلطاق المذكور سراويل من الصوف الملطي «الجوخ» وفي رجليه خفان من الجلد الأسود البلغاري يلبسهما بخفين آخرين من الجلد الرقيق «أشبه بالمز أو هو بعينه» والخف الظاهر ذو رقبة عالية نوعا ما وتدخل فيها فتحة السراويل.
وسهيل هذا جالس يلاعب رجلا أمامه هو الأمير الكبير جمال الدين محسن الكاظمي ناظر الخاص «وهي أرقى مراتب الدولة يومئذ وأسماها»، وهو رجل في الأربعين من عمره بادن شيئا ما قد ارتدى كما ارتدى سهيل مع اختلاف في اللون؛ إذ كانت كل ثيابه بيضاء غير أنه قد توشح بحميلة تدلى منها سيف عربي مرصع القراب بشيء قليل من الجوهر، وقبضته مكفته بالذهب، وجلس على الوسادة الثالثة رجل يدل ارتفاع رأسه عن الآخرين على أنه مديد القامة
3
وهذا هو الفارس أقطاي، وهو رجل دوين الأربعين يبدو نحيف الجسم لطول قامته، له نظرات حادة مطمئنة تدل على الفروسية والاعتداد بالنفس، وهو أصفر شعر الشارب والرأس، وملابسه ملابس محسن إلا أن كلوتته من الصوف الأحمر وعمامته مفرعة إلى العلى، وكانت مرتبته إذ ذاك نائب الأتابك، أي: نائب القائد العام.
وإلى اليسار الأقصى بأدنى المرزح مقعد منخفض عليه وسادة ثمينة ومساند جلس عليه الأمير بيبرس البندقداري قائد المماليك البحرية المرابطين حول القصر، وهو يطالع في كتاب أمامه قد فتح على كرسي مجنح منبسط بديع النقش والتكفيت هو القرآن الكريم.
والأمير بيبرس هذا رجل فوق الثلاثين من العمر ربعة في الجسم بلا بدانة، أبيض الوجه مربعه، أزرق لون الحدقة، له نظرة الأسد في وقار وكرم، وفي إحدى عينيه كسرة في مؤخرها
3
تزيده في عين الناظر مهابة، وهو مرتد قباء «بغلطاق» من الحرير السميك السنجابي اللون عليه أزرار كبيرة من الذهب في سجفه وهو متمنطق بحياصة عريضة من الذهب علق على يسارها سيف عربي، أما كلوتته فهي من الحرير الأسود المضرب، وعمامته صغيرة مفرعة، وخفاه الخارجيان مثبت فيهما مهماز مكفت بالذهب مثل أقطاي.
وإذ يزاح الستار يرى رجل آتيا من الباب الأيسر الأعلى - مقطع العظماء - ماشيا الهوينا على إفريز الإيوان وراء الأعمدة، وفي يده رسالة يقرؤها ثم ينزلي الرحبة، وإذ يرى الخزانة أمامه مقفلة الغطاء يجلس عليها، ويستمر في القراءة، وهذا هو الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ أتابك الجند «القائد العام» ومدير الدولة في مرض السلطان، وملبسه في جملته مثل بيبرس إلا أنه أزرق اللون، وإذا نظر إليه الناظر وجده في الخمسين من عمره، ينم مجموعه على أنه نضو حروب، ظفر منها بمجد وعظمة جديرة به وبسالف محتده؛ إذ إنه سليل أمجاد وفرسان وقادة عظماء معروفين على مدى سبعة قرون،
4
ولكنه في صمته وقلة انشراح نفسه وعدم انقطاع نظره عن الرسالة التي بيده يشعر بأن ضميره مثقل بهم كبير.
والمكان مضاء بثريات عظيمة متعددة القناديل؛ واحدة في الإيوان، وثلاث في معاقد البوائك إلا أنها صغيرة، وأخرى كبيرة في وسط الرحبة يرى تحتها حامل مثمن الأضلاع، مصنوع باللقم والمخاريط الخشبية التي تصنع منها المشربيات عادة، وهو شبيه في جملته بكرسي العشاء في الأفراح عندنا.
التمثيل
سهيل (ناظرا إلى الرقعة يتناول رخ محسن ويلقيه في درج الدست) :
رخ (يلتفت إلى الفارس أقطاي)
كيف حالك يا أقطاي؟
أقطاي :
حال من يرى آماله يقصر ظلها. إن مرض السلطان يقلق بالي يا سهيل. أرأيت هبة الله الطبيب؟
سهيل :
أدخلته الليلة على السلطان فمرخه بمرهم ثم خرج ولم أره، وكنت أريد أن أتعرف منه حقيقة الحال.
أقطاي :
لعمري ما تنصفون إذ تدخلون هذا الطبيب على السلطان. أم نسيتم أنه ابن صليبي قتلناه؟
سهيل :
إنه طبيب القصر قبل أن أطرق القصر. ولقد عشت ما عشت فرأيته يدخل ويخرج بالليل والنهار غير مدافع ولا مستراب، ويتنقل مع السلطان وحاشية السلطان في الكرك ودمشق وحمص وحلب وفي كل مكان، فهل كان لي أن أمنعه اليوم من أن يكون كعهده بالأمس؟
محسن (يقدم الفرس) :
دونك هذا الفرس المطهم. وإذا أنصفت امتطيته وسرت به إلى شواطئ دمياط تجد هبة الله هناك.
سهيل (يضحك) :
ما شأني به هناك؟
محسن :
سله ماذا فعل مرهمه بمولاك؟ وأي خبر من أخبار القصر يحمله إلى أهله الأقدمين؟ وسله كذلك أين تنزل الأميرة صفية؟ (هنا يرفع بيبرس رأسه ويظل ينظر إليه، ويشرع فخر الدين جفنه إليه وهو يطل في الورقة)
فإذا وصلت إليها فاقرأ الفاتحة على روحها.
أقطاي :
وي! وي! وي! ما هذا؟
محسن :
أخبار بسيطة يا نائب الأتابك وفارس الفوارس،
4
كيف حالك اليوم؟
أقطاي :
عجبي! عجبي! من أوقع الأميرة صفية في أيدي الفرنسيس؟
محسن :
علمها عند هبة الله، إنه يقول: إنها كانت آتية من الشام فاعتقلها الفرنسيس في دمياط.
أقطاي :
ومن أين له علم بذلك إلا أن يكون له بمن اعتقلوها اتصال وثيق؟
محسن :
سل نسوة القصر عن ذلك. ألا تدري أنه خطب الأميرة إليهن غير مرة ثم خطبها إلى من هو أكبر منهن وأعلى؟
أقطاي :
خطب الأميرة صفية لنفسه!
محسن :
أجل. أتظن أنه يرى نفسه في القدر دونها؟ إنه يزعم أنه ملك غير متوج.
أقطاي :
ومتى كانت هذه الخطبة يا ترى؟
محسن :
ونحن في حمص.
أقطاي :
إلى أختها؟
محسن :
بل إلى السلطان نفسه.
أقطاي :
وماذا فعل السلطان؟
محسن :
ضحك وضحك وظنها مزحة، ولكني علمت أنه كان هائما بها من يوم ما حملها بيبرس من بادية بغداد، كما كان هائما منذ سبعة عشر عاما بفتاة كريمة كانت زهرة قصر الملك الكامل ودرته الناصعة، حتى لقد صارحها بحبه ذات يوم فلطمته على صدغه بنعلها لطمة أتلفت له ضرس العقل، وأطارت طائر الرشد من دماغه.
أقطاي (يضحك) :
ترى من كانت هذه الفتاة العظيمة؟
محسن :
ألا تعرفها؟
أقطاي :
كلا والله.
محسن :
هي التي بنيت بها أنت يا أقطاي.
أقطاي :
امراتي؟
محسن :
امرأتك بعينها.
أقطاي :
وي! وي! قبح الرجل! قبح! حقا إنه غير سليم، ولكن هل شرعتم تحققون نبأ الأميرة صفية؟ لعلها أكذوبة يشيعها الفرنسيس على ألسنة جواسيسهم لينالوا من ورائها مأربا، ألم تشرع مولاتنا شجرة الدر في ذلك؟
محسن :
مثل مولاتنا لا يهدئ هذا النبأ بالها، وقد كتبت إلى مرغريتا امرأة ريدافرانس تسألها وتستوسطها في إرسال أختها إليها إن كان الأمر صحيحا، وأهدت إليها شيئا كثيرا من درها الأسود النادر، فذهب الرسول ولم يعد وكأنه طمع فيما كان يحمل.
أقطاي (متعجبا) :
ومن كان هذا الرسول يا ترى؟
محسن :
تاجر من أهل البندقية تعرفه منذ كانت في بيت المستعصم ببغداد، أي: قبل أن تتزوج من مولأنا السلطان الصالح.
أقطاي :
تالله ما وثقت يوما بتاجر ولا رأيته فيمن يستحق كرامة. ولكن ماذا فعلت شجرة الدر؟
محسن :
لعمري لولا أن مرض السلطان يقعدها لذهبت هي نفسها تبحث عن أختها هذي. فما أنسى يوم جيء بها معنا إلى العراق كيف كانت تبكي على أمها وأبيها وتتوسل إلى بائع الرقيق أن يردها إلى خوارزم. والرجل يضحك مرة ويعبس أخرى ويهم يضربها أحيانا، ولا أنسى أيام اصطفاها السلطان زوجة له كيف أخذت تنبش الأرض عمن تخطفهم تجار الرقيق من أهلها إثر نكبة التركمان الكبرى، وماذا أنفقت من الأموال حتى جاءها بيبرس بأختها صفية هذي.
أقطاي :
لقد كان يوما مشهودا.
محسن :
بل لعمري إنها بالرغم مما هي فيه من نعمة تغبطها عليها الحور لتحن إلى خوارزم، وتئن كلما ذكرت أنها مقطوعة عن الأهل في هذه الدنيا، ولا سيما بعد إذ فجعت في خليل ولدها الذي رزقته من مولانا. كم مرة دخلت عليها الخدر
5
وهي تبكي لفراق أهلها وذكرى أمها فأبكتني معها.
أقطاي :
أحزنتني والله يا محسن، أيقظت بي ذكرى الأهل والوطن، لعمري إني لأحس في بعض الأحيان لهبا يندلع في فؤادي إذا تعرضت لي ذكريات الوطن.
محسن :
أشكر الله على نعمة الإسلام يا أقطاي، إنه جعل من أهله إخوة ومن أوطانه كلها وطنا لأهله.
أقطاي :
صدقت ولكن الإنسان يحب من الدنيا قطرا فبلدا، ومن البلد خطا فحارة، ومن الحارة زقاقا فبيتا، ومن البيت غرفة فزاوية، وإني لأتمنى أن أعود إلى هذه الزاوية من بيت أبي في خوارزم، أقضي بها بقية أيامي.
محسن :
احمد الله على حالك يا أقطاي، كنت وكان أعيان المماليك البحرية من أعيان خوارزم، فلما شتتنا المغول لم يشأ ربك أن ننزل في غير بيت المجد والإمارة والنعمة الفياضة، فقيض لنا مولانا الملك الصالح ففدانا واشترانا وأعزنا كأهله وأمرنا كما كان آباؤنا.
6
أقطاي :
إنها والله لنعمة كبرى لأبقى بشكرها أن نبذل أرواحنا في مدارج قدميه وقدمي أختنا ومولاتنا شجرة الدر فضلى نساء المسلمين. كان أجدر بك يا محسن أن تذكرها، إننا أهلها ومواليها وإننا نفديها من الشر بأرواحنا.
محسن :
إنها والله لتعرف ذلك وتعتز به، وترى أنها بخير ما دمتم. ولقد أقلق بالها اليوم أمر عصيب، فرأت أن تدعوكم للقائها.
أقطاي :
إني تلقيت الليلة رسالة منها، ولكن يدهشني منها أنها بخط السلطان.
محسن :
بخط السلطان! متى كان السلطان كاتب يد لامرأته! بل هل يستطيع السلطان الكتابة وهو على خطة؟
أقطاي :
لا أدري. (سكوت)
سهيل :
لعنة الله على هذا الفرس. (يرفع يده متضايقا، فيضحك أقطاي وينظر إلى الموقف) .
محسن (يضحك مقهقها) :
تقبله هبة مني يا سهيل.
سهيل :
هبة! والله لو كان لجامه من ذهب وكنبوشه مرصعا بالماس ما أخذته ... دونك هذا البيدق. (يقدم البيدق)
أقطاي (يعرض الرسالة التي جاءته من شجرة الدر على سهيل) :
أتعرف هذا الخط يا سهيل؟
سهيل (يأخذها منه وينظر فيها ويردها مسرعا بلا اكتراث وهو يبتسم ويعود فينظر إلى الرقعة) :
هذا خط السلطان.
أقطاي (بتعجب) :
خط السلطان! (يطوي الرسالة ويعيدها إلى حياصته) .
محسن :
قبح البيدق وصاحبه (يقدم قطعة من قطعه) .
أقطاي :
إياك والاستهانة بالصغير ... كم من بيدق فاز على ملك.
سهيل :
وهذا برهان المقال. (يقدم بيدقا آخر) . هذا بيدق آخر. كش الشاه.
محسن (بذعر) :
شاه! كيف ذلك؟ محال!
سهيل :
ويحك أما ترى!
أقطاي (يضحك) :
قضي الأمر يا بني. مات الشاه!
سهيل :
مات الشاه.
فخر (ينهض عن مقعده) :
بئس الفال! بئس الفال! أقسمت عليكم أيها الأمراء إلا ما فضضتم هذا اللعب قبل أن يتم، دعوه بالله لنوبة أخرى. أرجع القطعة يا سهيل، إنه لفأل شؤم على السلطان (يلتفت إليه بيبرس ويعود إلى النظر في القرآن) .
أقطاي (يضحك متهكما ولا يلتفت إليه) :
أأنت من أهل الطيرة والفأل يا فخر الدين؟
فخر :
كلا والله، ولكن النفس إذا وجدت استسلمت إلى كل شيء حتى الخرافة. ولقد أنقضنى مرض مولاي الصالح، وتملكني الحزن على مصر منذ نزلت الفرنجة بأرضنا. لعمري لئن فاجأه القدر ونحن في قتال مع الفرنسيس لانقسم الأجناد بعضهم على بعض وأخذنا بالسيف من كل جانب، أما والله إنه ليخيل إلي أني متقدمه إلى دار الآخرة عما قليل.
أقطاي :
تحسن والله صنعا، إن فعلت يا سيدي الأتابك، هذا وحقك جزاء وقلق (سهيل ومحسن وإن كانا منهمكين في اللعب يضحكان ويشاركهما أقطاي بعد ذلك. وفخر الدين يؤخذ خجلا)
أليس كذلك يا بيبرس؟
بيبرس :
ذرني ونفسي يا أقطاي.
سهيل :
دعه يكمل سورة الفتح يا أقطاي!
بيبرس :
لست أقرأ سورة الفتح يا سهيل، إنما أقرأ سورة المنافقين. لا أدري من ذا جاء بهذا الأمير (مشيرا إلى فخر الدين)
إلى هذا المكان؟ أهو من أمراء النوبة هذه الليلة.
محسن :
كلا ولكنه ...
بيبرس :
فماذا يدعوه إلى مضاعفة همنا بظهوره بيننا في هذه الليلة الليلاء؟ أيريد أن يذكرنا بتخليه للفرنسيس عن دمياط؟
محسن (يتكلم ولا يلتفت) :
لقد عفا الله عما سلف يا بيبرس ... دع عنك هذا.
بيبرس :
لعمري لئن عفا الله عن مثل هذا الجرم لقد هان الكفر على الكافرين.
فخر :
إنك لتحرج صدري أيها الأمير. أتعي ما تقول؟ (ينهض ويمد يده إلى مقبض سيفه).
بيبرس (ينهض ويضع يده على مقبض سيفه ويجرد بعضه) :
لقد كان جديرا بك أن ترينا بريق هذا السيف على شواطئ دمياط مقبلا ولا مدبرا ... حسبك أيها الأمير ... هذا برق خلب لا يخدعني.
فخر :
إنه لينطف دما يا بيبرس لو كنت تدري.
بيبرس :
أجل دماء النساء والولدان من أهل دمياط.
أقطاي (ينهض) :
دعونا من هذا اللجاج أيها الأخوان، حري بكم ألا تزيدوا السلطان مرضا على مرضه باقتتالكم على ما فات ، إنى لأخشى أن يبلغه الأمر فيقضي نحبه، أغمد السيف يا فخر الدين. وأنت يا بيبرس حسبك.
بيبرس (يغمد السيف بشدة) :
لو أن أنثي قد تولت الدفاع عن دمياط وهي في حصونها التي أقامها الصليبيون منذ ثلاثين عاما، وتحت إمرتها من الرجال ما كان تحت أمرة هذا الأمير من بني كنانة والمماليك البحرية، وبين يديها من المئونة والذخيرة والعدة والسلاح ما كان بين يديه، لاستعصت على الجيش اللجب، ولأنزلت بعدوها أنكر العطب، ولكن كبير جند مصر لم يزد على أن نهض من مجلسه وأطل صوب البحر، فرأى مراكب الفرنسيس تدنو من دمياط ففر كالأرنب الأخرق المذعور، تاركا أعراض المسلمين من ورائه يتناهبها قسرا جنود الصليبيين، ورقاب الأمراء من بني كنانة يضربها السلطان في وجده، ورأس هذا الأمير بين كتفيه.
فخر :
ويحك ... أما والله لولا أن يقال: لم يرع للسلطان حرم لأسلت الآن دمك.
بيبرس :
أو لسال دمك يا سبة الأمراء (يجرد سيفه ويهجم عليه، ويقابله فخر الدين بمثله ويقتتلان ويتقدم أقطاي نحوهم وينهض سهيل ومحسن ويحاول الجميع الحيلولة بينهما) .
محسن :
ما هذا!
أقطاي :
بيبرس! (وإذا بشجرة الدر قد فتحت الباب الأيمن وظهرت فتقدمت ثم وقفت تنظر، وشجرة الدر هذه في الخامسة والثلاثين من العمر كبيرة العينين حلوة الوجه صغيرته، نظرتها نظرة الصقر هادئة، تدل ملامحها على أنها قوية العصب واسعة الحيلة، وهي مرتدية قباء من الحرير السميك قصير الكمين مطرزا، حول قبته وعلى ظهره وأطراف كميه وسجفه بالزركش الثمين المرصع بالجواهر على صور طيور وأفنان، وتحته قفطان من الحرير الأبيض المطرز أيضا قد تمنطقت عليه بحياصة مرصعة بالجواهر، وتدلت منها ذلاذل من أسماط اللؤلؤ تخفي بينها خنجرا صغيرا مرصع المقبض والقراب، وعلى رأسها عمامة من الشاش الحريري الإسكندري «المقدوني» قد نثر عليها اللؤلؤ في أسماط ثبتت على صورة بوائك وموشحات، برزت فيما فوق الجبين منها درة سوداء كبيرة تحيط بها درر أخرى، وعلى صدرها ولبتها عقود من اللؤلؤ أيضا، وفي رسغيها وأصابعها سواران وخاتم ثمين، وفي رجليها حذاء على شكل «المركوب » أو هو بعينه مرصع بالجواهر، وقد انتقبت بغطاء شعشاع؛ إذ إن جميع من في الدار عبيد زوجها ورجال بعضهم طواشى والبعض ممن اتصلوا في الخدمة بها مدة طويلة). (الأمراء يتنحون فيرجع بيبرس إلى مكانه وأقطاي يقف إلى جوار فخر الدين ومحسن حيث كان يعمل وسهيل يبعد رقعة الشطرنج إلى الوراء).
شجرة :
فخر الدين بن شيخ الشيوخ وبيبرس البندقداري! إذن فقد ضاعت الدولة على أيديكم أيها الأمراء (ملتفتة إلى الأمراء)
أيقاتلكم العدو في ظاهر بلادكم، وتقتتلون أنتم في باطنها، ثم تبتغون نصر الله! مرحى! مرحى لزعماء الأجناد (تتقدم وتنزل الرحبة) . ماذا جر إلى هذا الشقاق يا محسن؟
محسن :
تخلى الأمير فخر الدين عن دمياط يا سيدتي.
شجرة (إلى بيبرس) :
لعل للأمير عذرا في إخلائها، أفمن حقك أن تجزيه على ذنبه؟ لو كان فخر الدين قد أخطأ فيما فعل لضرب السلطان عنقه أسوة بسواه.
بيبرس :
وي! ... ألم يخطئ؟
شجرة :
إن لإخلاء دمياط سرا لا يعرفه كثيرون، وقد أطلعني مولاي السلطان عليه منذ عهد قريب فعذرته والحرب خدعة.
بيبرس :
أفعفا السلطان عنه بعد ذلك؟
شجرة :
نعم، عذره عذر فارس لفارس.
بيبرس :
فلماذا قتل السلطان أمراء بني كنانة الذين فروا معه، وهم إنما تركوها تأسيا به؟
شجرة :
كان ذلك قبل أن يعرف السر وقد حزن لقتله إياهم حزنا شديدا.
7
أقطاي :
إذن فقد أخطأ فخر الدين في التأخر عن الشفاعة لهم عند السلطان يا مولاتي.
شجرة :
لا أدري لعله كذلك.
فخر :
لم أستطع المثول بين يديه فقد شغلني ملك الفرنسيس وأخواه يومين كاملين عند البحيرة، ولو خليت ساحة القتال في تلك الساعة الرهيبة لقتل من أمرائي فوق هؤلاء عدا، ولكان جرمي إذ ذاك أعظم وأشد، على أنه لم يدر بخلدي أنه آمر بهم أن يقتلوا.
سهيل :
إذن فقد أعذر كل منهما يا سيدتي.
شجرة :
أجل أجل (تتقدم إلى الكرسي الكبير الذي في صدر الإيوان ثم تجلس ويذهب فخر الدين إلى يمين أقطاي)
من لنا في الجند كهذين؟ أليس كذلك يا محسن؟
محسن :
بلى يا سيدتي .
أقطاي :
لم أجد في الدنيا رجلا يغضب للحق غضبه بيبرس، لقد كان إفضاء كل منهما إلى صاحبه أدنى إلى الإخوة منه إلى الصداقة حتى رأيته الليلة يقاتله من أجل الحق.
شجرة :
نعمت الغضبة لله والحق، أما والله لولا ذلك ما عفوت عنك يا بيبرس.
بيبرس :
شكرا لمولاتي.
شجرة :
وأنت يا فخر الدين، اعذر أخاك.
فخر :
لقد والله كنت أجد لومه إياي عتبا فاعذره، فلما لج أحرج نفسي والفطرة أغلب.
شجرة :
إذن فتصافحا ... تصافحا أمامي وليكن وداد كما بعد اليوم في خدمة الله إخاء (يتصافحان)
هذا أليق بحماة مصر (إلى أقطاي)
أبلغتك رسالتي يا أقطاي؟
أقطاي :
أجل يا سيدتي.
شجرة :
وأنت يا فخر الدين؟
فخر :
جئت طوع أمرك يا سيدتي.
شجرة :
أما أنت يا بيبرس فقد علمت من محسن أنك من أمراء النوبة هذه الليلة فلم أجد حاجة إلى استدعائك، إني أريدك ... أجاءك نبأ عن أختي؟
بيبرس :
علمت الليلة أنها جاءت من الشام تنشدك في دمياط، ولم تكن تدري بما أصاب المدينة فوقعت في قبضة الفرنجة.
شجرة :
فما بال ركن الدين قد توانى عنها؟ ترى نسي عهده أيام كانت معنا في الكرك عند يوسف؟ أم أنها جاءت مصر تبغي غير من أنقذها من أخياش بني الأصلم في بادية بغداد؟
بيبرس :
لم أكن وحقك لأدري بما أصاب أختك إلا الليلة، إنني كنت بشار مساح حتى اليوم، ولكنت الساعة بين سمع الفرنسيس وبصرهم لولا أنها نوبتي في جوار مولاي السلطان، إنك لتعلمين أني لا أطيق أن أتمثل لنفسي أختا في الدين والوطن أسيرة حتى أنقذها، فما بالك يا عصمة الدين بالفتاة التي علقت بها نفسي وعلقت بي نفسها؟ أما والله لو كان فوق الروح فداء لفديتها، فاعذري يا سيدتي وتوكلي على الله.
شجرة :
شكرا لك يا بيبرس، من أجل هذا رضيت بك فارسا لها.
فخر (يتقدم من بيبرس) :
ما أشد جرمي عليك يا ركن الدين، لقد كان إخلائي دمياط وقرا عليك يعدل ما أصاب الناس فيها جميعا، لو بقيت في يدي يومين لبلغتك عروسك سالمة، ولكنه قضاء الله. معذرة إليك يا ركن الدين.
بيبرس :
لكأنه أراد لنا أن نتقاسم البؤسى؛ إذ نحن صديقان كما تقاسمنا النعمى في كل مكان. لاتحزن يا فخر الدين ذلك قضاء الله.
فخر :
استمعوا لي أيها الرفاق، سأقص عليكم نبأي الذي كتمته عنكم حياء لتعذروا أخاكم حقا، ولتعلموا أني على ما عهدتم في إيثار الموت على العار.
شجرة :
أحسنت يا فخر الدين. هذا أتقى لريبة النفوس.
بيبرس :
إن كان في الذكر أسى لك فأمسك عليك سرك، حسبنا عذر السلطان.
فخر :
كلا، إن كان في الذكر أسى لي فهو حسبى. لما جاءت مراكب الفرنسيس إلى بر دمياط جاءتني فتاة تلهث من الركض، وهي تبكي وتنتحب، تقول: أنقذنا، أنجدنا، أنقذ أبي وأمي وأهلي؛ إذ الفرنسيس نزلوا بفارسكور، فزعمت أن الفرنسيس أرادوا هذه المرة أن يأخذونا من كل الجهات، فنزل بعضهم بحيرة تنيس بشوان قريبة القاع؛ ليقطعوا الطريق على جيشي، ويبلغوا المنصورة بلا قتال، وإذ كان في الأمراء من قدروا هذا الأمر وأشاروا علي بإنقاذ السلطان فقد خرجت بجيشي لا ألوي على شيء حتى بلغت فارسكور، ولكني لم أجد أثرا لما قالت تلك الفتاة الخائنة، وكذلك نزل الفرنسيس بدمياط بغير قتال.
أقطاي :
من تكون هذه الفتاة يا ترى؟
فخر :
لا أدري.
أقطاي :
ألم تعلم من أمرها بعد ذلك شيئا؟
فخر :
لم أرها منذ ذلك الحين ولم أعرف من هي.
محسن :
لن يخون المؤمن أخاه المؤمن.
أقطاي :
ولا المصري أخاه المصري، ولكني لا أظنها عملت ذلك بملكها.
محسن :
هذا مقدر.
شجرة :
خدعة إيها الأمراء والكريم يخدع.
بيبرس :
لا جناح، لنخرجهم منها أذلة كما أخرجنا ملوكهم من قبل.
8
أقطاي :
والآن، ما مهمتنا نحن يا مولاتي؟ إن كان من أجل هذا دعوتنا فقد كان فيما فات بلاغ.
شجرة :
ليس هذا كل ما دعوتكم له، ولكني رأيت مولاكم في حالة تدعو إلى القلق حتى لأشفق أن يلبي الليلة دعوة ربه، فإذا وافاه القدر وأنتم مشتغلون بمقاتلة عدوكم، وليس في مصر ولي عهد معهود فإني أخشى أن تنقصم ألفة الأجناد؛ فيتفرقوا ويفشلوا ويحل بمصر والإسلام ما لا دافع له إلا الله، فماذا أنتم فاعلون؟
فخر :
إنا نضرع إلى الله أن يهبه العافية ويمد في أجله حتى تنجلي عنا هذه الغمة، أما والله لا أدري ماذا نفعل يا سيدتي.
شجرة :
وأنت يا أقطاي، هب أن مولاك قضي في هذه الأيام، أيفت في عضدكم وتذهب الدولة بقضائه؟ الله يعلم أني أحادثكم ونار الأسى تتأجج في صدري، ولكني عاهدت ربي أن أداري جواي في طية من طيات الفؤاد، وأجعل باقيه وقفا على مصلحة هذه البلاد؛ لذلك ترونني أستعجل المحتم وأنظر إلى الأمر كأنه تم، فما رأيك؟
أقطاي :
لا قدر الله يا مولاتي، ولكن انظري في الأمر ومري تطاعي.
شجرة :
آه (متضايقة) ، ما رأيك أنت يا محسن؟
محسن :
لا رأي لنا معك يا سيدتي، إن مولانا لم يوص بولاية العهد لأحد من أهله، ولا هو يستطيع الآن وصاية، إذن فالشقاق منظور، ما رأيك أنت يا بيبرس؟
بيبرس :
أكاد أرى سيدتي تنهي إلينا نبأ الفاجعة في مولانا السلطان شيئا فشيئا، فإن كان كذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون.
شجرة :
إنا لله وإنا إليه راجعون، قضي الأمر أيها الأمراء. (تبكي شجرة الدر) .
بيبرس :
اللهم لا حول ولا قوة إلا بك. (تبكي شجرة الدر ويقف الرجال محزونين) .
فخر :
ترفقي بنفسك يا مولاتي، اذكري قوله تعالى:
وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون .
محسن :
إن لنا في رسول الله أسوة حسنة، لعمري ليس هذا أوان البكاء والنحيب وإنما هو أوان الرأي والتدبير، أفتريدين أن تشغلي بالك بالحزن حتى تفقد مصر رأسها؟ إنا نعلم أنك كنت صاحبة الأمر أيام كان مولاي في حصار حمص، وكنت ذات الرأي منذ لزم السلطان فراشه، فإذا استسلمت للأسى استسلمت البلاد للأخطار، ووقعنا أسرى في أيدي الفرنسيس، وكنت أنت في مقدمتنا، إن كان لمولاي الراحل عليك حرمة فارعها اليوم بإرجاء الحزن عليه، ودبري له ملكه الذي كان يغار عليه غيرة عظيمة.
أقطاي :
صدق محسن يا مولاتي ، ورأيي أن تمضي فيما كنت فيه من تدبير شئون الدولة، وتكوني ملكة مصر والمسلمين طرا، ونحن كما نحن مواليك المخلصين.
شجرة :
ملكة المسلمين! أفقدت الديار رجلا؟ كلا، لم أكن لأحدث في الإسلام خرقا يا أقطاي.
أقطاي :
ولكن ماذا نفعل يا سيدتي، ولم يوص مولانا بولاية العهد لأحد من آل بيت بني أيوب؟ إنك والدة ولده خليل رحمه الله، وقد فاضت أيديك كرما على أهل مصر والشام حتى أصبحت ولك في كل قلب عرش وفي كل فؤاد مقام، وعلم الناس أن مولانا كان يعهد إليك في تدبير الدولة في غيبته لفضلك وكياستك، فإذا توليت أمرهم بما عهد فيك من الحصافة وبعد النظر كان أجرك عند الله عظيما، كذلك كان أجر خاتون بنت الملك العادل، فقد ملكت حلب بعد وفاة ابنها العزيز، وتصرفت في الأمر تصرف السلاطين، وقامت بالملك أحسن قيام.
9
شجرة :
أجل ولكني لا أريد أن أغضب الرسول في قبره، أم تريدون أن يحق عليكم قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يفلح قوم ولوا عليهم امرأة»؟
بيبرس :
بارك الله في سيدة نساء المسلمين، استمعوا لي أيها الأمراء إن إعلان الخبر اليوم أذى لمصر فلا بد من الكتمان.
فخر :
أجل. أجل.
محسن :
لا شك في ذلك.
بيبرس :
وما دامت مولاتنا لا ترى رأي أقطاي فلنبعث بأحدنا الليلة إلى ديار بكر سرا، وليكن أقطاي نفسه إلى الأمير طور الشاه بن السلطان الكريم يخبره بالنبأ المشئوم، ويأتي به إلى مصر لتولي شئون الدولة بعد أبيه.
محسن (بإنكار) :
أتريد هذا سلطانا علينا؟
بيبرس :
أجل.
محسن :
نحن لا نريد سلطانا كهذا يا بيبرس، إنه ليس كأبيه ولا جده.
بيبرس :
كلا ولكن المصريين لا يريدون إلا ملكا من بيت بني أيوب.
محسن :
انظر لنا رجل من كرامهم، فما الملك هنة من الهنات.
بيبرس :
نحن اليوم في غمرة، وإني لأخشى الفتنة في الداخل إن هممنا بمثل هذا.
محسن :
ولكنه لا يصلح، أتريد أن يملأها خمرا وحمقا ونزقا، إني ما سمعت أباه يذكره بخير أبدا، هل بعث به إلى أقصى الأرض من مملكة الشرق وجعله واليا على كيفا إلا ليريح هذه البلاد من نزقه؟
بيبرس :
أعرف ذلك، ولكن الدولة ليست بسلطانها ولا بملكها وحده يا محسن.
محسن :
بمن إذن؟
بيبرس :
برجالها، بنفوس أبنائها، فإن كان السلطان عظيما وهي دونه لم يفدها جلالة كثيرا، وإن كانت عظيمة وهو دونها لم يضرها ذلك فتيلا، ونحن والحمد لله قوم لا نعرف في الحق زيغا ولا في الوطن مراء.
شجرة :
الحمد لله على ذلك.
الجميع :
حييت يا بيبرس.
بيبرس :
فلنوله علينا طوعا لإرادة الناس ورعاية لعرف البلاد، إن المصريين لا يريدون إلا ملكا من بيت الصالح.
محسن :
حتى ولو مال عن الحق؟
بيبرس :
إذا مال عن الحق فما هو بأعز جانبا من عمر إلا أن تتلمسوا سيوفكم فلا تجدوها.
محسن :
ولكن مولاي لم يوص بولاية العهد إلى طور الشاه، فكيف يرضى به الناس؟ إنا لا نريد أن يتخذها دعاة الملك من بيت العادل والناصر فرصة للتفريق.
بيبرس :
بين مصر وكيفا مسيرة أربعة أشهر ذهابا وجيئة، ولست أظننا نقصر عن دفع العدو في غضونها.
فخر (يقاطعه) :
ولكنكم نسيتم أنه قد يتسرب خبر موت سلطاننا إلى الناس من حيث لا نعلم فيفسد عملنا كله.
بيبرس (بصوت المتضايق) :
إذن فلتكتب مولاتنا من فورها رسالة بالخط الذي راسلتك به أنت والفارس أقطاي، وهو يكاد يكون خط السلطان بعينه ...
شجرة (تقاطعه) :
إنه خط كاتبي سهيل.
10
أقطاي (يلتفت متعجبا لسهيل) :
خط سهيل!
سهيل :
إنه خطي أيها الفارس (يبتسم) .
بيبرس :
إذن فليكتب سهيل بخطه وبتوقيع السلطان إلى الأمر في قلعة الجبل في القاهرة، وإلى من كان منهم هنا في المنصورة بالطاعة للسلطان الصالح كأنه لا يزال حيا، وبولاية العهد لولده طور الشاه حتى نأمن هذا الجانب من تدبيرنا.
الجميع :
حسن حسن.
بيبرس :
وبالأتابكية للأمير فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ (يشير إلى فخر الدين) .
فخر :
لي أنا؟ كلا أيها الأمراء إن نجمي قد أفل، عليكم بغيري وليكن ركن الدين نفسه (يشير إلى بيبرس)
إنه لأكبرنا همة وأعزنا نفرا.
بيبرس :
بل لك أنت يا فخر الدين، إنك لكبيرنا وعمادنا على كل حال، وما الأتابكية إلا حق لك غير موفور.
سهيل :
يا لجميل الاعتراف!
أقطاي :
هذا أرعى لذمة السر يا رجال.
شجرة :
صدقت يا أقطاي.
محسن :
لا بد من ذلك يا فخر الدين.
فخر :
شكرا لكم أيها الإخوان.
بيبرس :
وليقم فخر الدين إلى حسام الدين لاجين يجمع في داره الأمراء ويحفلهم على ذلك وأنا أول الحالفين.
شجرة :
مرحى للبطل.
بيبرس :
وليبق كل امرئ منا على ما كان عليه، فمحسن ناظرا للخاص، وسهيل لكتابة السر، وأقطاي في إمرة التدريب ونيابة الأتابكية، وعز الدين وقطز وبلبان وتكز وبيبرس ولاجين فيما هم فيه من الأمرة، ولتبق مولاتنا شجرة الدر تدبر الأمر شورى، حتى يأتي الأمير طور الشاه، عندئذ نعلن ما قد خفي وقد جزنا مرحلة الخطر سالمين.
أقطاي :
أصبت.
فخر :
أصبت.
شجرة :
بارك الله فيك.
بيبرس :
فأما مولانا عليه الرحمة فيوارى لحده في غفلة القصر، وتبقى مولاتنا على كتمان أمره لا تغير عادة من عاداته، بل يخرج الطعام في أوقاته ويصعد الأطباء على عهدهم، ثم يصرفون بعذر يختلق.
شجرة :
هذا خير ما يفعل، أليس كذلك يا محسن؟
محسن :
نعم الرأي يا مولاتي.
شجرة :
وأنتم أيها الأمراء أتقسمون عليه؟
الأمراء :
نعم.
شجرة :
صدق بيبرس إن الدولة برجالها، هات القرآن يا سهيل، أأنت متوضئ؟
سهيل :
لم يطلع الفجر بعد يا مولاتي، هاته أنت يا بيبرس لقد كنت تقرأ فيه الساعة.
بيبرس (يتناول كرسي المصحف بين يديه) :
ها هو ذا يا مولاتي، (ويضعه فوق الكرسي المضلع الذي تحت الثريا) .
شجرة (تتناول المصحف وهو مفتوح فتقبله وترده) :
تقدموا.
بيبرس (ساعة تقدم الأمراء الحاضرين يستل سيفه ويضعه بين دفتي المصحف) :
إن لهذا السيف حرمة فليكن مع القرآن في قراب.
شجرة :
أحسنت، (للأمراء)
أقسموا (يضعون أيديهم معها على الكتاب والسيف، وسهيل يضع يده في منديل يتناوله من حياصته وتكون يد شجرة الدر فوق الجميع، وهي تقول والأمراء يرددون كل كلمة تقولها)
نقسم بالله العظيم (يرددون)
ونبيه الكريم (يرددون)
وكتابه هذا (يرددون) ، وهذا السيف المسلول (يرددون)
أن نحفظ السر (يرددون) ، ونعمل بما أبداه بيبرس (يرددون) .
بيبرس (يتمم) :
ونكون عونا لمولاتنا (يرددها الأمراء وحدهم)
ما دامت على الحق والسنة (يرددون) .
شجرة (ترفع كفها ويرفع الأمراء أيديهم ويعودون إلى أماكنهم الأولى ويأخذ بيبرس سيفه ويغمده في قرابه) :
حياكم الله أيها الأمراء، بمثل هذا تقوم الممالك، عودوا الآن على بركة الله، سأدعوكم كلما جد في الأمر شيء، ما كنت فاعلة أمرا حتى تفتون، اذهب الآن يا سهيل أنت وأقطاي لكتابة الرسائل.
سهيل وأقطاي :
سمعا يا مولاتي (يخرجان من الباب الخاص) .
شجرة :
وأنت يا بيبرس فأتني بأختي طاهرة نقية أو فأتني برأس هاتك حجابها (تتراجع قليلا) .
بيبرس :
ويل لهاتك حجاب المؤمنات! أما وهذا السيف الذي لا يعرف في الحق لومة ولا للبغاة حرمة لأطهرن البلاد منهم، أو لأغمدنه في صدري، لآتينك بأختك كريمة أو أموت دونها كريما.
شجرة :
إذن فاذهب إليها، إني أسمعها تدعوك (تهم بالخروج من حيث أتت وتلتفت مولية) .
بيبرس (يمد يده للسيف فيجرده ويقيمه أمام ناظريه يحادثه وهو يهتز وينتفض) :
أيها السيف قد دعوتك فانهض
إن بنت الكرام رهن اللئام
قد أهابت بنا فإن لم نجرها
ففراقا طول المدى يا حسامي (ثم يضرب بالسيف في الفضاء إلى أسفل).
الفصل الثاني
المنظر
يزاح الستار عن رحبة براح وراءها جدار عزبة قصير، فيه باب ذو مصراع واحد من الخشب، ووراء الجدار بستان تلوح منه أشجار توت، يظهر من ورائها بنيان بيت صغير، وراءه وحوله في «الفندو» بيوت صغيرة للفلاحين، وإلى جانب الباب دكة من الخشب ذات مسند وقد فرش عليها شريط من الحصير، وضعت عليه وسادة وراءها حشية وإلى المسند حشية مثلها، ويرى إلى اليمين بالنسبة للمتفرج طريق على رأسها شجرة صفصاف وإلى اليسار طريق على رأسها ساقية:
يخرج برنار صاحب العزبة من باب الجدار على مهل، وهو رجل في السبعين من عمره لم تقوس ظهره السنون إلا قليلا، ولكنه أبيض شعر الرأس واللحية والشارب. لباسه لباس فلاح فرنسي متمصر وعلى رأسه كلوتة سوداء رقيقة، وقد ارتدى عباءة أشبه بالجبة من صوف سميك اتقاء البرد، وتكون في يده عكازه ساعة دخوله، وإذا فتح الباب تركه مفتوحا، وأخذ ينظر في المكان. والوقت بعد الفجر بقليل ثم تبزغ الشمس شيئا فشيئا فيستضئ المكان.
برنار (يجلس على الوسادة ثم ينادي) :
ماري (يصفق)
ماري، أين ماري يا ترى؟ لعلها تصلي الآن للعذراء. (يصفق)
أو لعلها ذهبت تسقي البقر، الرب وأمه يباركان لي فيها.
مريم (تأتي من اليمين من طريق الصفصافة وعلى رأسها قفة فيها تبن) :
أنت الذي تنادي يا أبي؟
برنار :
أجل يا ابنتي.
مريم :
وكنت تدعو لي يا أبي؟
برنار :
كيف لا يا ابنتي؟ إنك تنهضين قبل أن أنهض، وأنا رجل مسن وأنت طفلة في السادسة عشر من عمرك، وتقومين بخدمة أبيك، وما وكل الله إلينا من الحيوان.
مريم :
شكرا لك يا أبي، إن محبتك لي ورضاك عني يملآن قلبي غبطة ونعيما، تالله لا قدرة لي على شكر فضلك.
برنار :
بل إن فضلك لا يقدر ولا يحسب، ألست أنت التي حقنت دماء بني قومي حيال دمياط ثم وهبتها لهم فنزلوها آمنين؟ تعالي تعالي أقبلك (تنزل عن قامتها قليلا وتدنو منه فيقبلها)
هنيئا لك ملكوت السماوات يا ماري.
مريم :
لا تدعني ماري يا أبتي، ادعني مريم، إنني مصرية وأكره أن أدعى بغير ما تدعى به سمياتي من فتيات القرية (تذهب فتضع القفة على ترس الساقية) .
برنار :
لا بأس، ولكنه اعتياد اللسان يا ابنتي (يصمت) ، لماذا تأخر فيليب يا ترى؟
مريم (وهي تعبث بالتبن) :
أأنت على موعد معه يا أبتي؟
برنار :
كلا، ولكنه يأتيني ليلة الإثنين من كل أسبوع يحدثني بأخبار القصر في المنصورة، ويقص علي كل ما يجري هناك، أليس هو الذي أخبرني بمقدم سلطان هذا البلد من حمص في هودجه مريضا لإعداد دمياط للقاء الفرنسيس، فأرسلتك إلى فخر الدين بتلك الحيلة التي انطلت عليه، ثم أليس هو الذي ... الذي ... الذي أخبرني باشتداد المرض عليه فأرسلت إلى الملك لويس بالمسير؟ إنه فرنسي مثلي أتحسبين أننا ننسى وطننا يا مريم؟
مريم :
زعمت أنك من أهل هذي البلد يا أبتي.
برنار :
كلا يا ابنتي إنني فرنسي، كنت جنديا في جيش الأمير يوحنا دوبريان الذي نزل بدمياط منذ ثلاثين سنة، وكنت قبلها خادما في قصر أم ملك فرنسا لويس العظيم نفسه، فلما دارت الدائرة علينا في فارسكور هذه وقعت أسيرا في قبضة الملك عيسى عم هذا السلطان، ثم وقع فيليب وهو فتى صغير السن لم يبلغ العاشرة في يد الملك موسى عمه الآخر.
مريم :
أكان فيليب جنديا وهو في العاشرة من العمر؟
برنار :
لم يكن جنديا، ولكن أباه كان طبيبا ولم يكن له من الدنيا إلا فيليب هذا، فلما أتى في ركاب الأمير استصحبه معه ومات الرجل في الأسر وظل الغلام في بيت عيسى حتى عاد إلى مصر، وكان قد عرف من الطب شيئا كثير فنشأ طبيبا كأبيه، آه يا مريم، لولا أن هذين الأميرين جاءا من الشام لنصرة أخيهما والد هذا السلطان لنلنا النصر يومئذ ... ولكنه مقدر ...
مريم :
وكيف نجوت أنت من الأسر يا أبتي؟
برنار :
نجاني الله بفضل رجل عربي كان يقطن هذه الجهات دعاني للعيش معه حتى أعود إلى وطني، ولكني آثرت الدير فطرقته وعشت فيه أعواما طويلة خادما لأهله وللرب.
مريم :
أما فكرت في العودة إلى بلادك؟ أم استطبت هواء البلاد؟
برنار :
ما كنت أدعو الله في أمر إلا أن أعود إلى بلادي، ولكن أهل الدير حذروني من الظهور للناس، فلما مات السلطان الكامل أبو هذا السلطان تغيرت الأمور، وأرسلت إلى مولاتي أم الملك لويس لتنقذني فجاءني منها أن ابنها العظيم آت إلى مصر وسيعود بي ... فخرجت إلى الدنيا، وقد تعلمت لغة القوم وجاهدت في العيش حتى أصبحت ولي هذه الدار وهذه المزرعة.
مريم :
كل ذلك بعد أن جاءك الخبر من أم الملك.
برنار :
أجل يا ابنتي، لقد تأخر عشر سنوات كاملة، ولكنه فعل حسنا فإني استطعت بلا سيف ولا قتال أن أفتح دمياط، وأجعل طريق المنصورة مفتوحة لهم، فإذا امتلكوها لم يبق أمامهم إلا قلعة الجبل، ومثلها لا يعز على الملك لويس، وعندئذ أكون قد انتقمت لقومي ولنفسي، ثم أرجع معهم إلى فرنسا وأترك هذه البلاد جميعها.
مريم :
وي!
برنار :
نعم أتركها لا آخذ منها شيئا إلا سيفي النائم في قرابه منذ تسع وعشرين سنة حتى أكله الصدأ، وأما داري هذه وهذه الأرض التي أطعمتني من جوع فإني أتركها لك جزاء خدمتك لي، وأمانتك منذ كنا في الدير.
مريم :
وتتركني يا أبتي؟
برنار :
آه يا ابنتي، هذا ما تألم له نفسي يا مريم، فأنه لا بد من فراقك، ولكن الرب يحرسك وأمه.
مريم :
كلا، لا تفارقني يا أبتي، إني لا أشتهي المقام بهذه الدار من بعدك.
برنار :
شكرا لكي يا بنيتي، إني سأوصي بك فيليب خيرا.
مريم :
وي فيليب! ولماذا لا تأخذني معك؟
برنار :
لا أستطيع ذلك.
مريم :
لماذا؟
برنار :
هواء فرنسا لا يطيب لك يا ابنتي، بيد أن فرنسا لا تضيف إلا الفرنسيين وأنت غريبة عنهم، فلا يأمنوا لك وربما آذوك أو قتلوك.
مريم :
يقتلوني جزاء ما فعلت ... أهم كذلك؟
برنار :
كلا كلا، ولكن وربما ... بل هم ...
مريم :
أما والله لقد كان في فؤادي يوم أرسلتني إلى فخر الدين وخز أليم.
برنار (باحتداد) :
وخز أليم! وخز أليم! ادخلي ادخلي، قدمي العلف للبقر (تذهب إلى القفة تأخذها وتدخل)
لعنة الله عليك من وقاح، لن تفارق الدم غريزته ولا القلب طبيعته (هنا يدخل هبة الله في ملابس كاتب من كتاب القصر ... قباء قصير على قفطان من الكمخا، أي: «الشاهي» العريض التخطيط جدا ومنطقة عريضة إلا أنه لبس فوق ذلك برنسا عربيا مشقوقا من قمته إلى رأس الفؤاد فقط وله أقباع «طرطور» متصل بالبرنس عند العاتق، وعلى رأسه كلوتة دقيقة مضربة اعتم عليها بشاش من القطن تحنك به على زي المغاربة، وهو لبس الفاطميين الذين جاءت الدولة القائمة على أثرهم منذ عهد يعد قريبا، ولذلك لم تتغير ملابس العامة في أيام الفاطميين، وظل هذا اللباس لباس العرب في كل مكان، وقد لبس هبة الله لبسهم ليتنكر، وهبة هذا رجل قصير القامة مستطيل الوجه أسمره نوعا ما، ذو عينين واسعتين وحاجبه مقوس قليلا يحكم من يراه أنه ممن يتعمقون في بحث الأمور العادية التي تنكشف لأول وهلة، وذلك لما طبع عليه من الارتياب والتشوش الذهني، على شيء من الغرور، وتقصي الآمال الكاذبة، فإذا رآه برنار وقف متهللا، وهو متكئ على عكازته)
مرحبا مرحبا، ادن مني (يسلم عليه ويقبله)
بركة الرب عليك، حسبتك تخلف الموعد يا أخي.
هبة :
لا يخلف الموعد إلا لئيم ولكني تأخرت الليلة لآتيك بالنبأ العظيم.
برنار :
مرحى مرحى. (يهم بالجلوس)
اجلس اجلس. هات ما وراءك، أقضى الرجل نحبه؟
هبة :
قضى أو كاد (يجلس) .
برنار (يبحث في جيبه ويخرج حقا) :
لقد كنت أعددت لك هذا الحق أيضا.
هبة (يشير له بظهر يده إشارة الرفض) :
لا حاجة لي به، دخلت عليه ليلة الأمس فوجدت مرهمك الأول يسري في عروقه حتى ازرق أديمه، واخضرت أصابعه فمرخته به مرة أخرى وخرجت.
برنار :
هذا ما قدرت (يعيد الحق إلى ثيابه) ، ولذلك أرسلت إلى الملك لويس أخبره بذلك، وأشير عليه بالزحف إلى فارسكور، وقد عاد الرسول يخبرني أنه كان يستعد لذلك؛ إذ جاءه جيش مدد من عكاء، ولما بلغته رسالتي عرضها على باروناته فسروا سرورا عظيما وزحفوا من فورهم.
هبة :
مرحى مرحى.
برنار :
نشكر الرب، إنه سيدهمهم وهم مشغولون بسلطانهم، وليس له في مصر ولي عهد، ولا بد أن ينقسموا على أنفسهم فيقاتل بعضهم بعضا، ليت شعرى أين يكون الملك الآن؟
هبة :
لقد رأيت مخيما من بعيد فلعلهم بلغوا هذه المحلة.
برنار :
لا حاجة إلى ذلك، لقد أرسل يخبرني أنه إذا بلغ فارسكور مر بي في طريقه إلى الدير القديم إلى هذه القرية لزيارة أيقوناته، فإذا لقيته نصحته بالمسير إلى بحر أشموم على الفور، كيف صار لويس يا ترى؟ ... لقد كان صبيا جميل الصورة بريء النظرة يوم غادرت بيتهم لأحمل الصليب، كنت أقول له وأنا ألاعبه: إنك يا لويس مثل الملك الأعلى وستكون قديسا، وقد أصبح كذلك، إنه لا ينطق إلا بمثل كلام الرب ولا يفعل إلا الخير.
هبة :
إني أشتهي رؤيته فعسى الرب أن ينهضه اليوم لزيارة الدير وزيارتك حتى أراه، وأتقدم بعبوديتي إليه، ليتني كنت في خدمة أمه مثلك يا برنار.
برنار :
إني سأذكر له فضلك يا فيليب ولن تعدم إليه زلفى، ولعمري لتصبحن في الأمراء يوم يستولي لويس على قلعة الجبل وحصن بابليون، وإذا لقيت باروناته فسأحادثهم في أمرك وأبين لهم أنك بصير بدخائل هذه الدولة وأنك تصلح للولاية.
هبة (يتناول يد برنار ويقبلها) :
شكرا شكرا.
برنار :
هل يجدون أعرف منك أو أقدر أو أخلص؟!
هبة :
شكرا لك يا برنار على حسن ظنك، ولكني لا أبتغي من نعيم الدنيا وأعلاقها شيئا أفضل عندي من الزواج بصفية أخت شجرة الدر، ترى ماذا فعلوا بها؟
برنار :
لقد خرجت من يدهم وأرى خيرا لك أن تصون على نفسك أشواقها فقد أصبحت الآن ملكا للأمير دارتوا.
هبة :
للأمير دارتوا؟!
برنار :
أجل.
هبة :
وي! كيف وصلت إليه؟
برنار :
لا أدري إلا أنه جاءني بها.
هبة (ينهض مضطربا) :
جاءك بها؟
برنار (ينظر إليه جامدا) :
أجل.
هبة (محاولا مداراة اضطرابه) :
وهل كان يعرفك؟
برنار :
لا بد أنه سمع من أخيه الملك، وقد عاد برفقة رسولي الذي كنت أرسلته إليه.
هبة :
وكيف أخذها وكانت في حراسة الملكة مرغريت؟
برنار (على حالة من الجمود) :
لا أدري سوى أنه أودعني إياها وعاد، وأوصاني أن أكتم خبرها عن الناس، ولكني أعرف أنك لست فيمن يعني، إنما يعني أخاه الملك وباروناته أرباب المشورة ومن على شاكلتهم.
هبة :
ولكن ... سرقها؟ إن هذا الأمير فاسق جريء، إنه اتخذ مقامه في دمياط فرصة ليقيم فيها سوق الفسوق والبغي، حتى ضج منه جميع الناس.
برنار :
الظاهر أنه سرقها، فأن الملك لا يمكن أن يكون قد أسلمها إليه إلا أن يكون غافلا عما يفعله أخوه.
هبة :
إذن فإن الملك سيغضب لاختفائها لئلا تسوء سمعته في بلاد مصر بأجمعها.
برنار :
لا شك، إن لويس قديس كريم.
هبة :
فإذا علم أنها كانت هنا صب جام غضبه عليك.
برنار :
لماذا؟
هبة :
سيرى أنك شريك في الجرم، يجب عليك أن تخبره.
برنار :
أخبره ليقتلني دارتوا! إني أريد أن أظل على قيد الحياة حتى أرى أحفادي ولكن من ذا يدريه أنها هنا.
هبة (يغضب) :
أنا سيدي.
برنار (يضحك) :
أنت؟ لقد هان الأمر!
هبة :
أتعجب لذلك؟
برنار :
لماذا؟ أتريد أن تتولى أنت إخفاءها؟ (يضحك) .
هبة :
كلا، ولكنك تعلم أني عالق القلب بهذي الفتاة منذ عرفتها، ولا أزال أؤمل أن تكون زوجة لي، فإذا وقعت في يد الكونت دارتوا لم أظفر بها، ولكني أرجو إذا هي بقيت في بيت الملك أن أسأله إياها أجرا على ما فعلت.
برنار :
ولكنك تعرضني لنقمة الكونت دارتوا يا فيليب.
هبة :
لا يهمني يا سيدي، كيف يهون على المحب أن يرى من يهوى في يد سواه؟ إما أن تتفق معي عليها، أو أخبرت الملك بأمرها (يجلس) .
برنار :
أفعل ما تريد يا هبة الله.
هبة (يؤخذ ويصعق) :
هبة الله! ألم أقل لك لا تدعني بهذا الاسم ما دمت معك.
برنار (بغضب خفي) :
بلى، ولكني أردت أن أبين لك أن كشف السر عن اسمك وحده يذعرك (بتهديد)
ويحك! إني أملك استماحة مولاي الملك عذرا، أما أنت فلا تستطيع مواجهة بيبرس إذا أنا أفشيت له بعض أمرك (ينهض هبة الله)
أعلمت أنك لا تزال أحمق يا فيليب؟ (هبة الله يفكر مليا وتبدو عليه علامات التوفق إلى فكرة ناجحة فيكتمها، ثم يعود فتظهر عليه علامات اليأس) ، اجلس لا تفكر في أن تعلم الملك أو تعلم بيبرس بشأني وشأنها فقد ذهب زمان ذلك، إن الملك على مرمى السهم منا فلم يعد لبيبرس سبيل إلي، أما أنت فإني أستطيع أن أخبره بما فعلت للسلطان وأنا في أمان، والآن إذ قضيت إربي منك ومن الفتاة التي استودعتني إياها طفلة في الدير منذ خمسة عشر عاما ...
هبة :
مريم؟
برنار :
بل عائشة التي سميتها مريم، بنت الفارس أقطاي الجمداري التي حملك سخطك على أمها ومقتك لأبيها وجنونك أن تختطف ابنتهما من مهدها، وتأتي بها إلي لتحرق قلبها عليها، آه يا لئيم، إن رسالتك لا تزال معي.
هبة :
ويحك! ويحك! أتريد أن يفتضح أمري بعد كل خفائه، وأنت الذي أشرت علي به؟
برنار :
اخرج، هذه هي تطعم البقر فخذها ولا تقابلني بعد اليوم، إني أصبحت أمقتها هي أيضا. هلم (هنا تأتي مريم من الدار وعلى رأسها بلاص)
هذه هي (تتقدم مريم مارة أمام الرجلين وتخرج من الطريق التي عليها الصفصافة يمينا وهي مغضبة) .
هبة :
رباه! كيف تنكرت لي على عجل يا برنار؟ أهذه مروءة الإخوان؟
برنار :
ويحك! (يقف ينظر إليه)
أينا تنكر لأخيه، (يلتفت)
أما والله ما رأيت في الرجال مثلك أخرق، (يلتفت)
أقوال متناقضة وأفعال غريبة يعزوها الإنسان إلى سعة حيلة وسداد رأي، أو تعزوها أنت، وما هي إلا خطل وبلة، كلما رأيت في الأمر وجها خفيا أو مظلما سرت إليه تلتمسه فتنقض هذا وتقيم ذاك، ولا تدري عاقبة هذا ولا ذاك، ويحك، أما والله لولا أنني تدبرت الأمر كله لأفسدت علي كل عملي.
هبة (ينهض) :
معذرة يا برنار، معذرة، إن المحب مفقود الحجا، أصفح عني، يدك أقبلها (يتناولها بشدة ويقبلها ثم يأخذ ينظر إليه ضارعا) .
برنار (ينظر إليه في أثناء ذلك صامتا) :
انهض انهض. إنك لأبله، أتظن أنك تستطيع أن تخفيها عن عيون بيبرس وهو موعود بها، وقد علم بأمرها كما أخبرتني، بل ألم تخبرهم أنت بذلك يا أبله، لماذا فعلت ذلك؟ أليس هذا لأن ميزان عقلك قد خرب منذ زمان بعيد؟ لماذا خبرتهم؟ أية فائدة لك من هذا الإخبار؟ ما خطبك؟ قم قم. لا تحزن إني أعدك بها. سأحادث دارتوا في شأنها، ولكن لا تسألني عما سأفعل (هنا تبزغ الشمس ويرى سهمها على الصفصافة) .
هبة :
شكرا لك شكرا (يقبل يده)
لا تذكر إلا الخير (يجلس بجواره مطرقا) . (وإذا بصفية أخت شجرة الدر تخطت عتبة باب العزبة وانحدرت إلى اليمين، فإذا رآها برنار قام إليها مذعورا وأمسك بثيابها فسلت ثيابها عنه). (أما ملابسها فقباء على شكل «بالطو» من الحرير الأحمر، وقفطان من الحرير المعروف بالقطنية «الكمخا»، وعلى القباء برنس من الجوخ وعلى رأسها لفة صغيرة من الحرير الملون، وهي فتاة في العشرين من عمرها بيضاء الوجه نحيفة الجسم حلوة الطلعة متناسبة الأعضاء ذات عينين قويتي النظرة، وخد ممتلئ على صغر في الوجه).
برنار :
الأميرة صفية! أين تذهبين يا ابنتي؟
هبة :
صفية! (يتلثم على الفور بشاش عمامته ويضع يده على صدره ثم ينهض وينحدر إلى اليسار) .
صفية :
أجل إني صفية، دعني. هأنذا ساكنة، أتذعركم فتاة؟
برنار :
كلا ولكنك وديعة عندي ولا يليق ... ارجعي يا سيدتي.
صفية :
وديعة! إن كنت وديعة عندك فقد وجبت عليك رعايتي، أم أن الودائع عندكم لا يرون السماء ولا يستنشقون الهواء؟ (يعود إلى مقعده ويتكئ بيمناه على المسند والعكازة في يده قائمة على الأرض).
برنار :
ولكنك يا ابنتي أسيرة، وقد جعلت عليك حارسا حتى أردك إليهم، أأخون الأمانة؟
صفية :
تخون الأمانة! أية أمانة فيما تفعلون؟ ويحي أيها الشيخ. متى كانت النساء تؤسر! ألم يرسلني ملك فرنسا العظيم إلى أختي كبرا عن أسر النساء؟ فلم يشأ الذي ائتمنه أن يسير بي إليها؟
برنار :
ولكني لا أعرف إلا أن الكونت دارتوا أتى بك إلى داري هذه حتى يعود إليك، وربما كان يريد أن يلتمس الطريق بك إلى أهلك.
صفية :
ولكنك تعلم أنه جاء بي قسرا، وأنا أخت امرأة سلطانكم، فكيف يقدر لي أن أجيء إلى هذا النجع المصري، ثم تبالغون أنتم في اعتقالي وإخفائي عن عيون أهلي، بل وعن أعدائهم الأكرمين الذين كنت بين ظهرانيهم؟
برنار :
ولكن يا سيدتي ... ما حيلتي (بلا اكتراث)
لقد أصبحت هذه الدار ملكا للفرنسيس، فإذا أنا أطلقت سراحك لم يطلقوا سراحي.
صفية :
وماذا في ذلك؟ هب أنك اعتقلت فداء لصون فتاة، أفتجد هذا كثيرا عليك؟ أم أن اختلاف ديني عن دينكم ينسيكم حق الله والوطن، ويبيح لكم أن تسلموا أعراض المسلمات لهاتكها وترون في هذا زلفى إلى الله وقربانا؟
برنار (بحيرة وحده) :
ولكنهم يقتلونني يا سيدتي، من ذا يطيق القتل؟
صفية :
آه، لو كنت عربيا لأطقته، ولكن ...
برنار :
ويحك، ارجعي إلى حجرتك (يشير بعكازه يريد ضربها فلا تتحرك) .
هبة (وهو ملثم لا يبدو منه إلا عين ومارن أنف) :
روحي عنك يا سيدتي. الشيخ معذور فيما يقول، إن الفرنسيس خيموا الليلة بفارسكور، وقد أنزلوك في داره هذه من قبل حتى يردوك إلى أهلك بعد أن أسروا من جئت معهم من الرجال، كما تقضي شريعة الحروب، فإذا هو لم يرد إليهم أمانتهم فيما يدعون لم يكفهم فيك نساء هذه القرية جميعهن (يشير يسارا) .
صفية (تنظر إليه باحتقار) :
آه يا سيدي ما عهدت الملثم إلا عربيا كريما، ولكني أرى قولك أدنى إلى قوله، أفأنت من هذا النجع وأهله؟
هبة (يغص بريقه) :
هو كذلك يا سيدتي.
صفية :
إن كنتم تخشون على فتياتكم فلا ضير عليكم ولا جناح إلا أن تروا سبيل إنقاذهن ثم لاتبتغونها.
هبة :
ولكن كيف السبيل؟
صفية :
اهجروا هذا النجع بهن جميعا، ارحلوا بهن إلى أختي في المنصورة، تنزلكم منها مكانا عليا وتبدلكم من هذا النجع قصرا منيفا، وتكونوا من بعدها قوما صالحين.
برنار :
ادخلي ادخلي. لا تجري علينا برأيك الأذى، ذلك زمان تقضى ... إن الفرنسيس آخذون المنصورة ومن فيها، وآخذون أختك أيضا، فاحمدي الله أنك الآن في حماي.
صفية :
ويحكم ويحكم. ما رأيت مثلكم قوما يتفاءلون الشر لبلادهم.
برنار :
هوه، ادخلي يا ابنتي!
صفية :
خسئت إن كان لي مثلك أبا.
برنار (مهتاجا) :
ويحك يا خاسرة (يشير بعجازته يريد ضربها فلا تتحرك، وهنا يسمع صراخ مريم خارج المكان)
ما هذا الصراخ؟ (تأتي مريم جارية من جهة اليسار مفككة الشعر من أثر العراك، وتلقي نفسها أمام برنار جاثية وتبكي بشدة) .
مريم :
أنقذني يا أبي. (ينهض نصف نهوض والعكازة في يده).
برنار :
ماذا أصابك؟
هبة :
ماذا جرى؟
مريم :
خبئوني، ردوهم عني.
برنار :
ماذا جرى؟
مريم :
خرجت أملأ الجرة من الترعة فلقيني الذي جاءنا بالأمس (أثناء اللعب تخرج صفية فارة بنفسها خلسة من اليمين)
فدهمني على حين بغتة.
برنار :
محال يا ابنتي.
مريم :
وي! لقد أراد أن يؤذيني يا أبتي. (يدخل الكونت دارتوا فتنهض مريم مذعورة)
هذا هو (تمسك برقبة الشيخ فيحاول إبعادها عنه لينهض لملاقاة الكونت) . (ودارتوا لابس خوذة وقميصا مدرعا، تمنطق عليه بحزام علق فيه سيفا، ولبس فوق هذا حرملة من الصوف الثقيل وفي رجله نعل رومانية، إذا دخل وقف بعد الساقية بقليل).
دارتوا :
أين الفتاة التي كانت على الماء؟
برنار :
مرحبا بالكونت دارتوا (واقفا ومريم بجواره) .
دارتوا (بلا اكتراث) :
أين هي؟
برنار :
هذه هي (يقدمها بلطف إليه وهي تمانع) .
مريم (تنظر إليه فزعة منه دهشة) :
ويلاه!
دارتوا :
أجل هي بعينها، لماذا فررت مني يا صبية؟ (يدنو منها)
لماذا؟
هبة :
لم تكن تعرفك يا سيدي.
مريم :
كيف لا؟ أليس هذا الذي جاءنا بالأمس؟
برنار :
إذن فلماذا ذعرت؟
هبة :
هذا غريب.
مريم (لهبة الله) :
أيبغى الأمير علي ولا أذعر؟
برنار :
قبحت يا شقية، إليك عني (يطردها بعكازته)
معذرة أيها الأمير.
مريم (تصرخ) :
ارحمني يا فيليب ارحمني (تبكي) .
دارتوا :
ما للفتاة مذعورة مني؟
هبة :
ليست مذعورة يا مولاي، ولكنها لا تزال طفلة (يضحك ضحكة التلطف) .
مريم :
ويحكم كيف تتكلمون؟ (تتركه وتتقدم جاثية إلى دارتوا)
ارحمني أنت أيها الأمير، إنهم يسلمونني إليك خشية منك والتماسا لفضلك، فاحفظ علي نفسي يحفظ الله عليك نفسك.
دارتوا (يلتفت عنها) :
انهضي انهضي، مثل هذا الذعر يقبض عنك النفس (إلى برنار)
أين الوديعة؟ (تهم مريم بدخول الدار هاربة وإذ ترى دارتوا يسير كأنه يريد الدخول تنصرف عنه جارية، وتخرج من جهة الساقية، وبرنار يلتفت وينظر في باب الدار كأنه يبحث عن صفية مذعورا فلما لم ير شيئا يعود، ويلتفت الكونت إلى برنار ثم إلى هبة الله، ثم يلتفت برنار إلى هبة الله ودارتوا ينظر إليهما) .
برنار :
أين هي؟ هربت! ويلاه، فيليب! لقد كانت أمامك، كيف تركتها؟
هبة :
ما هذا؟ أتريد أن توقع بي؟ (يروح ويجيء)
إنني لم أرها.
برنار :
انظر لعلها (هبة الله يلتفت هنا وهناك ويذهب يسرة ثم يعود كأنه يبحث عن صفية) .
دارتوا :
أين تذهب؟ قف، ماذا تدبران؟ أين الفتاة؟
برنار :
كانت هنا، فلما شغلنا بأمر ماري وصراخها اختفت عن أعيننا .
دارتوا :
كذبت يا لعين، إنك أرسلتها إلى أختها، ألم يجئ هذا العربي من أجلها؟
هبة :
كلا وحق القديس أيها الأمير، ما أنا بعربي، إني أنا ...
برنار :
هذا فيليب هبة الله الطبيب الذي ...
دارتوا (يقاطعه) :
ويحك، أتظنني آمنه؟ إذا كان قد خان سلطانه وصاحب نعمته فأجدر به أن يخونني (إلى هبة الله بشدة)
أين الفتاة؟
هبة :
وحق السموات لا أدري. ولكنها كانت هنا (يلتفت إلى برنار ويحاول التكلم فيقفه ما يفعل الأمير) .
دارتوا (يقبض على لحية برنار) :
إنك تخفيها في دارك لأخي بواتيه، إني رأيته آتيا إلى هذا المكان ساعة شروق الشمس (هنا يدخل الكونت بواتيه ومعه صفية، وهو قابض على ضفائر شعرها، ولابس ملبس أخيه سواء بسواء مع اختلاف في لون الحرملة) .
صفية :
يا أرحم الراحمين ارحمني.
برنار (فرحا ويتقدم نحوها) :
هذي هي، شكرا لأم الرب (يتقدم بواتيه من أخيه ويقبض برنار على ذراعها قائلا)
هذي هي هذي هي.
دارتوا (يخاطب أخاه) :
أين كانت الفتاة يا روبير؟
بواتيه :
قابلتها في الطريق عند منعطف الترعة فحسبتها الفتاة التي فرت منك فإذا هي وديعتنا.
دارتوا :
وديعتنا؟ إنها وديعتي وحدي يا روبير.
بواتيه :
أجل ولكن كان ذلك باتفاق بيننا.
دارتوا :
ليس على مثل هذا اتفاق، إن الملك أسلمني إياها وعهد إلي بردها إلى أهلها في حراسة بعض رجالي فهي ملكي حتى أنفذ أمره.
بواتيه :
ولكنها فرت منك بعد ذلك فأصبحت حرة ثم أسرتها أنا الآن فهي ملكي وحدي.
دارتوا :
هذا تخريف يا كونت.
بواتيه (بغضب) :
تخريف!
دارتوا (بغضب) :
وحمق وجنون.
بواتيه :
إنك تهينني يا كونت (يضع يديه على مقبض سيفه) .
دارتوا (يضع يديه على مقبض سيفه ويجرده قليلا) :
حسبك.
برنار (يتقدم بينهما راجيا) :
لا تقتتلا لاتقتتلا، لايليق بالأخوين أن يقتتلا، إن أخاكما الملك قادم إلينا هذا الصباح، ولعله الآن في الطريق.
بواتيه (يلتفت وجلا إلى برنار) :
كيف؟ الملك آت؟ من أين لك هذا؟
برنار :
إنه وعد أن يزور خادم أمه القديم، وهو مار إلى الدير القريب (تأتي مريم من جهة الساقية وعلى رأسها جرة «بلاص» وتصل إلى الباب، فيلتفت برنار إليها ويخاطبها)
قفي يا مريم، ضعي عنك هذه الجرة (تضعها داخل الباب عن اليمين)
انظرا (للأميرين)
أليست حسناء ناضرة، لا يليق بالأخوين أن يقتتلا، هلم ادخلا الدار بهما.
الأميران :
لا بأس لا بأس.
مريم وصفية :
ويلاه - ويلاه!
صفية (ضارعة متجهة إلى السماء) :
رب إني أسلمت إليك أمري فنجني من القوم الظالمين.
بواتيه (يتقدم من صفية) :
ماذا تفعل الحسناء؟ تصلي؟ ما أجمل صلاتك؟
دارتوا (يتقدم من صفية أيضا ويقف وهو واضع يديه على خاصرتيه) :
إنا لا نريد بك سوءا يا مليحة، ادخلي الدار إن برد الصباح قاس عليك.
صفية :
اتق الله أيها الأمير وردني إلى أسري عند أخيك، ردني إلى قومك بل إلى خادميكم، إنهم أرعى منكم للحرمات وأعرف بحق المروءة.
برنار :
ويحك يا شقية، أتقولين هذا للأمير؟
صفية :
وسأذكره للملك أيضا ليرى كيف يخون الأمانة أهله.
بواتيه (يلتفت إلى أخيه) :
إني نزلت لك عنها يا دارتوا (يذهب إلى مريم) .
دارتوا :
شكرا.
مريم :
ويلاه ويلاه! أبي أبي!
صفية :
وابيبرس! وابيبرس (تبكي) .
برنار (يضحك) :
بيبرس؟ سيأتيك بيبرس على براق من السماء. (والكل يضحكون) .
دارتوا :
هلم، (يميل جهة باب العزبة يحاول جرها من ذراعها) .
صفية :
واركن الدين! واركن الدين!
بيبرس (من الخارج وعلى بعد) :
لبيك لبيك! هأنذا يا مستغيثا بركن الدين!
هبة :
بيبرس يا برنار! (ويجري خارجا من جهة الساقية) .
برنار :
بيبرس؟
صفية :
بيبرس! إلي إلي (تقع مغشيا عليها) .
الأميران (مذعورين) :
بيبرس؟ (هنا تسمع دقدقة سنابك خيل راكضة) .
دارتوا :
ماذا نفعل؟
برنار :
ادخلا الدار بهما والزاما الباب من وراء، إنه قديم المزلاج. (يحملانها ويدخلان ويدخل برنار وراءهما ويغلقون الباب). (يدخل بيبرس كما رأيناه أول فصل إلا أنه قد امتطى جوادا مسرجا إسراجا عربيا فاخرا بكنبوش من الأطلس المزركش، ولجام من الذهب، ووراءه عبد أسود يلبس قميصا من الصوف، وفي يده سيف، وعلى رأسه عمامة، وبيبرس في عدة القتال؛ فعلى صدره درع، وعلى رأسه خوذة، وعلى فخذيه لامة مزردة. يكون دخوله من جهة الصفصافة والسيف مسلول في يده). (إذا رأته مريم هرعت إليه ضارعة وتعلقت بأهداب الكنبوش).
مريم :
نجني نجني.
بيبرس :
لا روع عليك، أنت بين ذراعي الأسد، روحي عنك روحي. ما خطبك؟
مريم :
أرادوا أن يسلموني الآن إلى الكونت أخي الملك أنا وفتاة أخرى جاءوا بها إلينا أسيرة، فلما سمعوا صوتك عرفوك فأدخلوها ونسوني هنا والله لا ينسى البائسين.
بيبرس :
ومن أنت؟
مريم :
مريم ربيبة برنار صاحب هذا النجع.
بيبرس :
يالضيعة المروءة! ومن هذه الفتاة الأسيرة يا ترى؟
مريم :
لا أدري، ولكنها فتاة تدعى صفية يقال: إنها أميرة، وهي التي كانت تستغيث بك.
بيبرس :
يا رحمة الله! صفية؟
مريم :
أجل.
بيبرس :
اللهم شكرا.
صفية (من الداخل) :
بيبرس! بيبرس!
بيبرس (ينزل عن جواده) :
لبيك يا صفية! لبيك! هأنذا (يخاطب العبد)
خذ الجواد إلى الترعة وانتظرني هناك وكن مرهف الأذن، أتعرف صوت بوقي؟
العبد :
كيف لا يا مولاي (يخرج بالجواد من جهة الساقية) .
بيبرس (يتقدم إلى الباب ويدق عليه بقبضة سيفه) :
افتحوا.
برنار :
لن نفتح لك.
صفية (بصوت ضعيف) :
بيبرس أنقذني.
بيبرس :
لبيك يا حياة النفس (ويدفع الباب فينفتح ويجري من كان وراءه من الرجال، ويخطو خطوة إلى الداخل فيجد صفية أمامه، فتلقي بنفسها في أحضانه فيرجع بها إلى المرزح) .
صفية :
ركن الدين! ركن الدين!
بيبرس :
هأنذا بين يديك سري عنك.
صفية (بفزع) :
سر بي من هذا المكان بحقي عليك.
بيبرس :
أنت معي فلا توجلي.
صفية :
سر بي بحقي عليك.
بيبرس :
لا تحزني، لقد ظفر بيبرس بك، ولم يظفر هذا السيف بمناه، وقد آليت لأهتكن حجاب القلب ممن هتك لك حجابا (يهم بالدخول) .
صفية (تتعلق به) :
لا تدخل لا تدخل.
مريم :
لا تتركنا وحدنا.
صفية :
سر بحق الله يا بيبرس، إن رؤية هذا النجع تذعر نفسي.
بيبرس :
وقسمي يا صفية، قسمي إني ما حنثت في حياتي مرة؟
صفية (تجره) :
ولن تحنث يا ركن الدين، إنك ملاقيهم عما قريب فبر بقسمك يومئذ.
مريم :
أجل أجل. النجاة بالعرض أولى.
بيبرس :
سري عنك، هيا بنا. (يتحول بيبرس بهما صوب الساقية وتسير صفية إلى يمينه ومريم إلى يساره إلا أنها تكون ملتفتة إلى الوراء، وإذا بالأميرين قد خرجا من الدار والسيف مشهور في أيديهما وإذ تلمحهما مريم تصرخ).
مريم :
سيفك أيها الأمير!
بيبرس (يلتفت ويجرد سيفه على عجل وتقف الفتاتان وراءه وينازلهما) :
يا سبة الرجال أكذلك دأبكما؟
برنار (يخرج من الدار ويراقب القتال هنيهة، ثم ينبهه صوت أقدام آتية من جهة الصفصافة) :
الملك أيها الأمراء! (يلتفت الأميران ثم يتراجعان ويقفان إلى جوار جدار العزبة، ويدخل الملك لويس التاسع ومعه جنديان في لباس الصليبيين، المغفر «طاقية من الزرد» والقميص المزرد والسيف مدلى من حزام في الوسط، والسروال المزرد أيضا والواصل إلى القدمين.
أما الملك فقد كان لباسه على صورة خاصة به؛ فعلى رأسه خوذة من صفر مذهب، وعلى بدنه قميص من حديد مشبك، وسروال مثل جنوده إلا أنه قد لبس فوق القميص دراعة قصيرة لا أكمام لها زرقاء اللون سميكة، وتمنطق عليها بحزام من مربعات سميكة من الصفر المذهب علقت فيها جعبة سيف مستقيم طويل، وقد وضع إذ ذاك على صدره حرملة من الجوخ الأزرق مسجفة ومبطنة بفراء).
الملك :
ما هذا؟ بواتيه ودارتوا يقاتلان رجلا!
برنار :
إنما يقاتلان أمة أيها الملك، هذا بيبرس البندقداري.
الملك :
بيبرس البندقداري! سلام أيها الأمير العظيم.
بيبرس :
أسلام في مثل هذه الساعة؟
الملك :
أجل، أزعمت أنا لا نعرف حق البطولة؟
بيبرس :
إذن فعليك السلام أيها الملك.
الملك :
ماذا جاء بك إلينا وحدك؟ إن مخيمنا على مرمى السهم منك.
بيبرس :
من كان معه مثل سيفي وقلبي لا يستكثر الرجال ولا يأبه للأهوال، ولكني كنت في طريقي إليك.
الملك :
إلي أنا؟
بيبرس :
إليك أنت.
الملك :
ولكني أراك التجأت إلى هذه الدار دوني.
بيبرس :
الله! الله أيها! أيقال هذا لبيبرس؟
الملك :
وهل يحمل ببيبرس أن يطرق الديار وهي حرم إلا بإذن أهلها؟ إني أراهم يأبونها عليك.
بيبرس :
ما جئت أنتهك حرمة، وما ينبغي لمثلي، ولكني تبينت في هذه الدار ماخورا فوقفت أطهرها بحد هذا الحسام.
الملك :
هذي دار شيخ طاهر تقي يا بيبرس، أعرفه منذ عهد طفولتي.
بيبرس :
إذن فسل هذه الفتاة، مريم، عما أصابها اليوم، لقد أراد أحد أخويك أن يبغي عليها في بيت مولاها الطاهر التقي بعلمه واختياره.
الملك (ينظر إلى مريم فتطرق خجلا) :
وي!
بيبرس :
وسلها عن هذه الأميرة، عن أخت امرأة سلطاننا المعظم.
الملك :
الأميرة صفية؟
بيبرس :
أجل، الأميرة صفية، أما والله إن يدي لتنتفض وإن سيفي ليهتز الآن في قرابه.
الملك (حائرا متكدرا) :
ماذا أسمع؟ دارتوا، بواتيه. أهذه مروءتك يا بواتيه؟ وأنت يا دارتوا، أهذا دأبك؟ أما كفاك أن تضرب فسطاط لهوك إلى جانب فسطاط الملكة في دمياط حتى تعمل على فضيحة أسرتك في هذه الديار، وخيانة أمانتي فيما ائتمنتك عليه؟ أيها الأمير الكبير بيبرس، أشهد أني بريء منهما.
بيبرس :
ولكنك أسرتها في دمياط، أكان يجمل بكم هذا؟ أم جئتم هذي الديار باسم الرذيلة لا باسم الله؟
الملك :
كلا وحق القديسين جميعا، وإنما خبرت أن جنديا من جنودي طاش به رشده فأسرها، وعلمت من هي فخفت أن يصيبها أذى فأخذتها إلى فسطاطي على الفور وأنزلتها في ضيافة الملكة نفسها حتى أردها إلى أختها، ولقد عهدت بالأمر إلى أقرب الناس مني منذ ليلتين، ولكن الشيطان أغواه كما رأيت.
صفية :
صدق الملك يا ركن الدين، إنه أمير نبيل ليس في قومه من يعدله في نبله أو يدانيه في تقواه.
بيبرس :
شكرا لك أيها الملك شكرا، من أجل هذا كنت أشعر أني ملاق فرنسيا هماما.
الملك :
شكرا لك يا بيبرس، ولكن من ذا خبرك أنها هنا؟
بيبرس :
كنت في سبيلي إليك في دمياط من أجلها ثقة مني بمروءتك، وأنك لا تؤثر الظفر بعدوك على الظفر بنفسك وبثواب الله؛ لكثرة ما بلغنا عنك أيها الفرنسي العظيم.
الملك (يتقدم نحو بيبرس) :
يالله! (يسلم على بيبرس فيسلم عليه)
إنك كبير القلب أيها الأمير، فكيف جئت إلى هذه الدار؟
بيبرس :
كنت مارا بهذا النجع فسمعت صوت استغاثة، وعلمت بما كان من بعض أهله وهممت أن أنتقم فأقسمت علي هذه الكريمة (مشيرا إلى صفية )
إلا أن أرحل بها على الفور، وتوسلت إلي هذه الفتاة الطاهرة (مشيرا إلى مريم)
أن آخذها معي. فما سرت بهما حتى رأيت أخويك قد خرجا من الدار ودهماني من وراء ظهري.
الملك :
يالفضيحة الأبطال!
بيبرس :
لماذا استصحبتهما أيها الملك قبل أن تتم عليهما درس المروءة؟ إني أراهما من السوقة أو أدنى.
الملك :
أتسمع هذا يا بواتيه؟ أتسمع يا دارتوا؟ لعمري إنه ليدمغكما بالحق.
بيبرس :
ما خاب ظني فيك أيها الملك، لقد عذرت وأعذرت فتقبل شكري وثنائي.
الملك :
شكرا.
بيبرس :
هل للملك أن يجيبني لماذا يغزو بلادنا اليوم وقد حاول قومه ذلك من قبل على يد يوحنا دوبريان فأعجزناهم بقوة الله؟ والتمسوا الصلح ضارعين وأجبناهم إليه مكرهين وأقسموا وأقسمنا على الولاء؟
الملك :
هي مشيئة الرب أيها الأمير وعهدنا معه، وما أنا مما ينقض العهد، ولقد جاءكم كتابي فإما سلمتم فسلمتم أو أبيتم فرمينا أعناقكم بأسياف القضاء.
بيبرس :
إذن فلتكن مشيئة الله أيها الملك، لو كنت تجهل أسيافنا لذكرناك بها ولكنك ذقت شواظها غير مرة، وهذه أيام إن كان لك أولها حتى اليوم فعليك آخرها وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، أفيأذن لي الملك بالانصراف؟
الملك :
إذا شئت أيها الأمير، أنت ضيفنا الآن لا عدو، على أن تنزل عن سيفك هذا.
بيبرس :
أنزل لك عن سيفي؟
الملك :
أجل.
بيبرس :
إنه ليرد مشيئة الدهر أيها الملك، كذلك عودتي منذ ضحيتي وما عهد البحيرة منكم ببعيد.
الملك :
أعرف ذلك أيها الأمير، فليس من الشهامة ولا من المروءة أن تنازل به الأقران.
بيبرس (بتعجب ودهشة) :
لماذا؟
الملك :
لأنه مسحور، أليس هذا السيف سيف رمسيس عثرت عليه في أحد القبور فصاحبك حتى اليوم ووقاك ضربة الفارس الكمي، ولو وقفت دونه لا تبدي حراكا؟
بيبرس :
وي! وي! من أين لك هذا؟ لا يليق بمثل الملك لويس أن يقول هذا الكلام.
1
الملك :
كيف لا أصدق وكنت عند البحيرة لا تشير به إلا قاتلا، ولا تهوي به إلا لاحدا ولا تشرعه إلا والنفوس عالقة عليه كما تعلق ذرات الحديد بالمغناطيس؟
بيبرس (يضحك ساخرا) :
كلا أيها الملك، ليس هذا السيف سيف رمسيس وإلا لأكله الصدأ بل إنما هو سيفي أنا، سيف ركن الدين بيبرس البندقداري، تتناول المقبض منه قبضة مني لو تناولت رأس الأسد الغضنفر لتهشم، أو صفعت هام ذي الغفارة المزرد لتحطم، أو لمست عنق كند مصعر خده لاندك وتهدم، لقد سقيته في الكرك وحمص ماء حياة ألف من الإسبطاريين ومثله من الميكليين، ورويتها أرواح الجحفلين من الفرنجة حيال طبرية وأنطاكية وطرابلس، فأصبحت وعمري بذلك عمر الألفين، وعزمي عزم الجحفلين، ولو نزلت لك اليوم عنه معاوضة من حديدة أخرى ما فترت همتي ولا كلت عزمتي، وإليك برهان المقال. (يلقي السيف من يده مجردا ثم يخرج من بين ثيابه بوقا صغيرا من الذهب وينفخ به مرتين ثم ثلاثا) .
الملك :
شكرا لك أيها الأمير، الآن أطلق سراحك، شكرا لك على نزولك عن هذا السيف واعتذارا إليك مما أصاب الفتاة.
بيبرس (بدهشة عظيمة) :
وي! (يمد صوته فيها) .
الملك :
وأهب إليك أخت أميرتكم على أن ترد إلينا ربيبة خادمنا برنار، فما قولك في هذا؟
بيبرس :
يالله! أعطني عوض السيف وتكلم، أم رهبة كانت دعتك لا إكراما؟
الملك :
بل إني رأيتك في قبضة أخوي فأردت أن أسدي إليك خيرا يروى، رد إلينا فتاتنا.
مريم :
لن أبقى بهذا النجع بعد يومي.
برنار :
مولاي! إني رجل مسن، من يخدمني من بعدها؟
الملك :
إنها أختنا في المسيحية يا بيبرس، وأنا أمين المسيحية حيث أكون فلا بد أن تردها إلينا.
بيبرس :
إنك تمني نفسك المحال أيها الملك، إن كانت هذي الفتاة مريم أختا لكم في الدين فهي أختي في الوطن والوطن أبقى.
مريم (تمسك بأردان بيبرس) :
لم تعد بي حاجة إليكم أيها القوم، وأشهد اللهم إني في المسلمين (تنزع صليبا كان معلقا في سمط على صدرها وتلقيه في وجوههم)
سأذهب معك يا بيبرس فلا تتركني.
بيبرس :
لا يخيب بيبرس رجاء مستغيث، هيا بنا (يلتفت صوب الساقية ويشير الملك إلى أحد الجنديين بالتقاط سيف بيبرس وبيبرس ملتفت عنه) .
صفية (ولكن صفية ترى هذه الإشارة فتجري إلى السيف وهي تجرد من صدرها خنجرا صغيرا تضرب به الجندي في ذراعه فيرتد متأوها قبل أن يلمس السيف، وتتناوله هي عن الأرض وتجري متراجعه صارخة لبيبرس) :
سيفك يا بيبرس! (تناوله السيف بيدها اليسرى فيأخذه منها) .
الملك :
إذن فدمك عليك، قسرا أيها الرجال. (بيبرس يكون قد هجم عليه بواتيه ودارتوا بالسيف، فيحارب بيمينه مداورا فإذا بلغ برنار أمسك ثيابه بيده اليسرى ووضعه في مواجهة دارتوا دريئه له، ثم ينقض على بواتيه فيجرحه ويسقط السيف من يده فيجري من وجهه، وعندئذ يرمي بيبرس برنار من يده فيقع ثم ينهض ويخرج هاربا من باب داره، فيرسل الملك على بيبرس جنديه الآخر، وينازل بيبرس هو أيضا، وإذا بالعبد مسعود قد دخل فرأى ما فيه سيده فيقول).
مسعود :
يا غارة الله! (يجرد سيفه ويهجم على الجندي فيفر من أمامه ويميل على الملك، فيجري الملك هو ودارتوا وراء الصفصافة ويجري بيبرس والعبد وراءهما) .
صفية :
بيبرس! بيبرس! لا تتركني.
بيبرس (يعود) :
ارجع يا مسعود (يعود مسعود) .
صفية :
أحضر الجواد يا مسعود.
مريم :
ها هو ذا قد حضر بنفسه ليشهد هزيمة الأبطال (تجري صوب الساقية وتجر الجواد من لجامه) .
بيبرس :
مرحبا، تأبى إلا أن تشهد وقيعة مولاك؟ ها أنت ذا تراهم يفرون، هلم يا صفية اركبي.
صفية (تركب) :
شكرا لله.
بيبرس :
وأنت يا مريم تعالي اركبي وراء مولاتك (يأخذها من ضبعيها ويرفعها وراء صفية)
سر بالجواد يا مسعود (يلتفت إلى الوراء)
وأنتم أيها الأمراء الكاذبون إن كان يبلغكم الآن صوتي فاعلموا أني كرهت أن أتابع الجبناء (يخرجون) .
الفصل الثالث
المنظر
يزاح الستار عن رحبة قصر الأمير فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ في المنصورة، والرحبة يكتنفها جدار سور عال يرى في مواجهة الناظر وإلى يساره، وفي الجزء الأيسر من هذا السور بالقرب من الركن الأعلى باب كبير هو الباب العام للقصر، وهناك بناء منزل إلى اليمين عربي الطراز يصعد إلى مدخله بدرج طويل من الرخام يبتدئ من مؤخر المرزح بحيث يكون بينه وبين السور مسافة كبيرة، ويبنتهي الدرج بشرفة مربعة ذات قبة محمولة على أعمدة من الرخام، وباب المنزل ظاهر من تحتها، وهناك باب صغير إلى الجانب الأدنى من الدار يفتح على الرحبة، وأمام البيت شجرة تحتها مقعد، يرى صبيح الحبشي جالسا على المقعد، وهو لابس قميصا من الصوف الأبيض قصيرا تمنطق عليه، وفي المنطقة سيف وعلى ظهره عباءة من الصوف.
صبيح :
ترى أتظل المنصورة عامرة بأهلها، أم ينتاب هذه الدولة ما انتاب الفواطم من قبل؟ ما للمدينة هادئة ساكنة كأنما هاجر منها أهلها؟ أيتها المنصورة الحبيبة إلى نفسي لم يمض عليك في الدنيا ثلاثون عاما كنت فيها جنة الجنات، يخطر في رحابك الملوك وتفخر بجناتك السلاطين، أين سيدك الذي ابتناك؟ أين السلطان الكامل؟ أين موساك وأين عيساك، ترى أتمضي بك الهزيمة أم أن نجمك مشرق في السماء؟ لكأنني والله في بيداء تتجاوب فيها الأصداء، رب لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه. (يدخل سهيل من باب الجدار).
سهيل :
صبيح!
صبيح (يلتفت) :
من هذا؟ سهيل؟ مرحبا، ماذا جاء بك في هذه الساعة؟
سهيل :
كيف حال السيدة صفية؟ (يسلم عليه) .
صبيح :
بخير، لعلها الآن نائمة، ولكني لا أدري لماذا أمر الأمير بيبرس بنقلها إلى هذي الدار هي ووصيفتها القبطية؟ إنه لم يبن عليها بعد حتى يكون له كل هذا.
سهيل :
هي له على كل حال يا صبيح بإذن مولاك السلطان الصالح ورضاه.
صبيح :
أعرف ذلك، ولكن العادة عندنا ...
سهيل :
أية عادة يا صبيح! أسبقت مولاك من كيفا لتقول لنا هذا الكلام؟ لو كانت سيدتنا صفية بنتا للسلطان نفسه ما أباها عليه، إنه زعيم هذه الدولة ولا مراء، هون عليك. لعمري لو أنني خيرت ...
صبيح (يقاطعه) :
أجل أجل. ولكن أما كان أولى أن يبقيها في جوار أختها في مثل هذه الآونة؟
سهيل :
إن أختها آتية إلى هذه الدار.
صبيح :
آتية إلى هذه الدار؟
سهيل :
أجل.
صبيح :
ولماذا تترك قصرها؟
سهيل :
كذلك رأي محسن وبيبرس وستعرف السر في ذلك حين يحضرون بها.
صبيح :
ومتى تحضر؟
سهيل :
الآن، إني خليت القصر وهي تركب محملها الصغير، ولعلها لا تبعد الآن عن هذي الدار كثيرا (يذهب ويطل من الباب)
انظر (يشير إليه بالتقدم)
أترى هؤلاء المشاعلية والضوية.
صبيح :
مرحبا مرحبا بشجرة الدر، ما رأيت في النساء مثل هذه المرأة تقى وحزما.
سهيل :
ولا في الرجال والله يا صبيح. (هنا تدخل المشاعلية والضوية يتقدمون شجرة الدر في هودج صغير على شكل محمل مصر، وإلى جوارها بيبرس وفخر الدين ومحسن سائرين على الأقدام وهم في عدة القتال من خوذ ودروع وسيوف، ويكون لباس الضوية لباس صبيح تماما).
محسن :
أنزلوا المحمل عن الأعناق يا رجال. (يضعون المحمل وتنزل منه شجرة الدر ملثمة ثم يسترسل محسن موجها الخطاب إلى صبيح)
وأنت يا صبيح خذ المحمل إلى مكان من حظيرة هذا القصر، وليقف من يبقى منكم على مقربة من مدخله.
صبيح :
سمعا يا مولاي (يأخذون المحمل ومعهم صبيح ويسيرون به وراء الدار من أعلى المرزح)
من هنا، إلى اليمين (ويخرجون وتتمشى شجرة الدر حتى تجلس على المقعد) .
شجرة :
أترى هذا المكان آمن يا ركن الدين؟
بيبرس :
أجل يا سيدتي، إن الفرنسيين يحاولون أن يعبروا مخاضة في أهداب بحر أشموم دلهم عليها خوان ممن تتكشف نفوسهم عن فطرتها في مثل هذه الأيام. ولكن عز الدين وقطز وقلاون ولبان وتنكز قاعدون لهم على الماء بالمرصاد.
شجرة :
فلماذا حملتوني على مغادرة قصري؟
محسن :
إنما الحازم من تدبر يا مولاتي، إنا وإن كنا نثق بأخواتنا ونعلم أنه لن يفلت منهم خيال فرنسي إنما نتخذ الحيطة ولا بأس بها في مثل هذه الأيام.
بيبرس :
إنا قليلون في هذه البقاع، ونخشى أن يؤثر العدو قتل بعض رجاله في هذا العبور على أن يظل يتفيأ نيراننا الإغريقية وبئس الظلال، كم من فارس قتلناه، وكوند
1
من أقرباء الملك أسرناه، وبرج لهم أحرقناه، وكم مركب أغرقناه وجسر هدمناه، وكم طلعنا عليهم بكل حيلة، فهل تعجبين أن يقدموا على العبور مستيئسين، وإذا قدر لهم دخول المنصورة كان أول همهم أن يدهموا القصر ويأسروا مولاتنا، فما هم هؤلاء إلا أكبر حرماتنا: الدين والعرض.
محسن :
أجل فإنهم يعلمون أننا نجد المرأة شرفا ماثلا.
بيبرس :
وفد اجتمع لمولاتنا أدامها الله آيات ديننا وجلال سلطاننا؛ لذلك رأينا نقلك إلى دار الأمير فخر الدين هذه، حتى إذا قدر لهم أن يدهموا القصر كنت في مأمن من أذاهم وأعملنا نحن السيوف في رقابهم.
شجرة :
شكرا لكم لقد أصبتم.
فخر :
ولكن ماذا فعلتم بالجواري؟
محسن :
أشخصتهن صبيحة اليوم إلى سمنود يحرسهن بعض جندي.
فخر :
وماذا فعلتم بأوراق سلطاننا؟
سهيل :
هي في حراستي يا سيدي الأتابك.
فخر :
أهي في المنصورة؟
سهيل :
هي في حمى السلطان أيها الأمير.
فخر :
حسنا ولكن (يلتفت إلى شجرة الدر)
أما كان أولى أن تكون مولاتنا (يلتفت إلى بيبرس)
على رأس خاصتها في سمنود؟ إنها آمن من المنصورة على كل حال.
شجرة (تنهض) :
إذا لم تكن هذه المنصورة دارة أمن ونصر فما سمنود إلا القطيعة والشر، إن خاصتي اليوم الرجال لا النساء يا فخر الدين، وقد ألقيتم إلي زمام الدولة، ووكلتم إلي جمع أمركم حتى يأتي سلطانكم، فمن الخطل أن أترككم في حومة الوغي ثم أمضي. بل هل يصيب الأذى شجرة الدر ودون دارها بطل منكم؟ كلا والله، ألا إني إذا تلفت فلم أجده قريبا مني جعلت من هذا الخنجر بديلا منه (تجرده) ، فإذا خطا إلي باغ بعدكم بأذى كان الخنجر أسرع منه خطوا إلى قلبي، لا افتداء لشجرة الدر، ولكن عصمة لأميرة في المسلمين أن تقع في أيدي الصليبيين.
بيبرس :
مرحى لسيدة النساء.
شجرة :
فإذا مت إلى جوار رجالي وسال دمي خليطا بدماء أبطالي، زففت يوم الحشر إلى الجنة شهيدة في الشهداء، تحف من حولي الملائكة الأطهار ولنعم عقبى الدار.
محسن :
طوبى لك يا سيدتي.
سهيل :
يقل في الناس مثل هذا التقى، لقد والله صدق أقطاي.
شجرة :
والآن أيها الأمراء ليست الدولة بسلطانها إنما هي برجالها، كذلك أجمع رأيكم ليلة النوبة، والساعة آتية لا ريب فيها فأما نصر يطمئن به مضطرب الأمر، وإلا فإثمها عليكم، هذه ساعة لها ما بعدها، فمن قضي في ذمتها شهيدا تفتحت له أبواب الجنة مشكورا، ومن عاش بعدها كريما أزلفت إليه طيبات الدنيا مأجورا، ولثواب الآخرة خير وأبقى.
بيبرس :
أيتها الأميرة ما دامت هذه السيوف في أيدينا، وهذا الإيمان في قلوبنا، والحق في جانبنا، والله بعينه يرقبنا فالنصر بإذن الله لنا.
محسن :
أما أنا (متمثلا) .
فلست أبالي حين أقتل مسلما
على أي جنب كان في الله مصرعي
فخر (متمثلا) :
لي ذلة إليكم فأعتذر
سوف أكيس بعدها وانشمر
وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
شجرة :
الآن أستودعكم الله أيها الأمراء، سيروا على بركة الله، وأقرئوا الأجناد مني السلام (تصعد درج الدار حتى تختفي وسهيل وراءها) .
بيبرس :
السلام على مولاتنا ورحمة الله.
فخر :
أين تذهب الآن يا بيبرس.
بيبرس :
سأرابط بجيشي عند القصر حتى إذا جاءوا إليه حكمت السيف بيني وبينهم.
فخر :
وأنت يا جمال الدين؟
محسن :
لا يهمني من هذه الملحمة إلا أن أظفر بملكهم حيا أو ميتا، وسأتربص بهم.
فخر :
ألا تخشى أن يبصرك ناظورهم فيأخذوا عليك الطريق؟
محسن :
سأسير بجندي جنوبا ثم ألتف على عقيصة البحر، فإذا سار الملك بجنده عندها ضربت في ساقته إذ ذاك، وتناولت رأسه وانضممت بعد ذلك إلى قطز.
بيبرس :
لا بأس بذلك، ولكني أخشى أن يطول بك المسير.
فخر :
لا خوف من ذلك، إني حشدت رجالي على الجانب الغربي من النيل، وحملت شواني وسفني مفككة على ظهور الجمال إلى بحر المحلة، وسينزل بها رجالي حتى إذا ساروا بها إلى البحر الكبير دفعوا شواني الفرنسيس إليك يا بيبرس امض فيما أنت فيه يا جمال الدين.
محسن :
توكلت على الله (ينادي)
صبيح.
صبيح (يدخل) :
مولاي.
محسن :
هيئ جيادنا.
صبيح :
سمعا يا مولاي (يخرج من الباب الكبير) .
محسن :
استودعكم الله (يعانق فخر الدين)
في ذمة الله يا فخر الدين.
فخر :
في ذمة الله يا محسن.
محسن (يعانق بيبرس) :
في ذمة الله يا بيبرس (يخرج محسن من باب الرحمة) .
بيبرس :
في ذمة الله، (يعانقه ويخرج محسن)
وأنت يا فخر الدين أرى أن تبقى الساعة بدارك ريثما تنفض عنك غبار الجهاد، إن الفرنجة لا يستطيعون الآن فكاكا.
فخر :
كلا كلا. ليس هذا أوان الراحة والعدو ملح علينا، ولكنا الآن في ساعة لا نعرف أنجوزها إلى الدنيا أم إلى الآخرة، فلا بد لي من التوضؤ والصلاة لله، حتى إذا توفاني إليه لقيته طاهرا، أستودعك الله (يهم بعناقه) .
بيبرس :
أستودعك الله يا فخر الدين (يتعانقان ثم يخرج فخر الدين مارا من وراء الدار فيسترسل بيبرس متأثرا)
يالله! لماذا ضمني فخر الدين هذه الضمة! لعمري ما شعرت بمثلها إلا في صدر أبي، أفراقا يا فخر الدين؟ اللهم لا تفرق بيننا، فإن كنت كتبت له دارك قبلي فأشفعه بي، إن الحياة لا تطيب لي من بعده.
صفية (هنا تبدو صفية تحت القبة وتنزل الدرج، فإذا ما وصلت إلى آخره قالت) :
ألا تطيب معي يا ركن الدين؟
بيبرس (يلتفت إليها) :
سيدتي (يتقدم إليها ويحتضنها) . أجل، أيتها الحبيبة، أنت كل الحياة عندي، أم رابك وداعي لفخر الدين؟
صفية :
لقد حسبت كل فؤادك لي يا بيبرس؟
بيبرس :
هو كذلك يا كل مناي.
صفية :
فلماذا أبيت أن تعقد لنا أختي يوم عدت بي إليها؟ حتى لا تفارقني لحظة.
بيبرس :
آه يا صفية، أتظنين أني كنت أستطيع البقاء في جوارك.
صفية :
لم لا؟
بيبرس :
هل رأيتني جئت القصر منذ عدت إلا مرات معدودة؟
صفية :
لقد جئت خمس مرات، لم أجتمع بك فيها إلا مرة واحدة وكانت فواقا ثم لم تبعث إلي فيما بقي منها بسلام.
بيبرس :
وي! ألم تحمل إليك أختك عني شيئا أبدا؟
صفية :
إنها لم تحادثني منذ جئت إلا قليلا، كلما حاولت أن أخلو بها رأيتها بين أوراق ورسائل وقصص، ثم لا تخلو لحظة حتى يتقدم إليها فارس من قبلكم في شورى أو في نبأ من نائب السلطنة في القاهرة.
بيبرس :
وماذا في ذلك يا صفية؟ (ينظر إليها نظرة العاشق الطروب) .
صفية :
إنكم أفسدتم أختي يا بيبرس بما عهدتم إليها، إن النساء لم تخلق لهذا العناء، أما ترى ورد وجنتيها قد ذبل وهي في ريعان الشباب.
بيبرس :
حسبي ورد هذي الخدود يا صفية.
صفية :
دع عنك هذا، لماذا لم تتول الأمر عنها؟
بيبرس (يضحك بلطف) :
وي! أأنت تؤثرين ...
صفية :
كلا، ولكنك كنت تبقى قريبا مني.
بيبرس :
ومصر يا صفية؟ من ذا ينقذ مصر والعدو ملح علينا؟
صفية :
كنت تذهب لقتاله من حين إلى حين.
بيبرس :
كذلك فعلت يا أحب الناس إلي، فلم أستطع أن أزور القصر إلا خمس مرات في ثلاثة أشهر، أفتبين لك عذري؟
صفية :
كلا.
بيبرس :
إذن فاصفحي عني، الله يعلم لم يطل بقاء هؤلاء القوم بديارنا غيرك أيتها الحبيبة.
صفية :
غيري؟
بيبرس :
أجل، لم أجد لي من زماني ساعة للتفكير في مساومة القوم عن أنفسهم حتى يبدو لي طيف صفية ماثلا فيشغلني بهاؤه عن القيام إلى الأعداء، وكأنما أوثر أن تنقضى الحياة في مثل هذا الحلم الشهي فلا ينصرف عنك خاطري حتى يصرف الطيف عني ناشد من أمرائي، فالذنب ذنبك يا صفية.
صفية :
إذن فابغضني يا ركن الدين حتى تنقضي الحرب، وتكون مني قريبا كما نحن الآن، ابغضني.
بيبرس :
كيف يبغض الإنسان بملكه كل هذا يا صفية؟ (هنا يسمع نفير مذعر مستمر، يلتفت بيبرس يتسمع)
وي! (وتبدو عليه علائم الاهتمام الشديد فينهض) .
صفية (مذعورة) :
ما هذا؟
بيبرس :
هذا النفير يا صفية. دارك أيتها الحبيبة!
صفية (مذعورة) :
ماذا جرى؟
بيبرس :
إن الفرنسيس قد دهموا المنصورة! الوداع.
صفية :
أتتركني؟
بيبرس :
سأعود إليك عما قريب، لا تجزعي، خدرك يا كل المنى، إني ذاهب الآن إلى القصر فلا يفوتني أن أرقبك، روحي لك فداء يا صفية، ولكن اليوم يومي فإن كان علي فهو على مصر كلها الوداع، زوديني بدعواتك.
صفية :
الوداع يا ركن الدين، الله معك. ردك الله إلي سالما منصورا (يتعانقان)
في ذمة الله يا بيبرس.
بيبرس :
في ذمة الله (يخرج بيبرس مهرولا وقد شهر السيف في يده وتجلس صفية على المقعد ويداها ممدودتان ومعقودتان بين ركبتيها) .
صفية :
اللهم لا تفرق بيننا ولا تزد حرقتي عليه نارا ، رده إلي سالما (تفكر مطرقة)
لا، إنه لا يفجعني فيه، ويلاه. (تصرخ)
بيبرس (تضع وجهها بين يديها وتبكي. وهنا تأتي مريم فترى صفية جالسة على المقعد) .
مريم :
سيدتي صفية! أين أنت؟
صفية :
هنا يا مريم، تعالي.
مريم (تنزل إليها) :
ما لك باكية، أنت بخير يا سيدتي.
صفية :
كيف أكون بخير يا مريم والعدو قد دهمنا وركن الدين قد سار وحده إلى القصر؟
مريم :
أأنت تخشين بأسا على الأمير يا سيدتي؟
صفية :
كيف لا يا مريم؟ إن العدو لا يقصد إلا القصر، وقد سار الأمير إليه وحده.
مريم :
الله حافظه من كل سوء، لو أريد له أذى لكان ذلك ليلة فارسكور، اطمئني يا سيدتي، لا يليق بعروس عنترة المصريين أن تكون إلا عبلة، هذا يوم بيبرس يا سيدتي، سيلتقي بهم فيفني جموعهم، وتضع الحرب أوزارها ويعود إليك باسما، هيا يا سيدتي تهيئي لعرسك، وتوكلي على الله هلم إلى الدار (تتناول يدها) .
صفية (تنهض وتميل صوب عتبة الدار هي ومريم) :
إني توكلت على الله. (وإذا بهبة الله يدخل، وتكون صفية على وشك صعود السلم، وتلتفت مريم، ويكون قد غير ثيابه فهو لابس بوغلطاق
2
أحمر على قفطان، ومعمم بعمامة صفراء على كلوته من الصوف).
مريم :
وي! من أنت أيها الرجل. ويحي! فيليب؟
صفية (تعود) :
هذا هبة الله الطبيب يا مريم، لا تذعري.
مريم :
وحق الله يا سيدتي ...
هبة (مقاطعا) :
سلام أيتها الأميرة.
صفية :
مرحبا بهبة الله.
مريم :
هذا فيليب الذي كان يلم بنا في فارسكور.
هبة (يتقدم) :
كيف لا تعرفين هبة الله طبيب السلطان وامرأته وطبيب مولاتي هذه منذ أعوام؟ ألا تتذكرين تلك الأيام أيتها الأميرة؟
صفية :
بل أذكرها، في حلب على ما أظن.
هبة :
أجل في حلب، في حلب.
صفية :
ماذا جاء بك يا هبة الله؟ (تعود إلى المقعد وتجلس، ويأتي هبة الله وراءها) .
هبة :
لا أدري، ولكني خرجت من الصلاة قبل أداء السنة فبحثت عن الأمير فخر الدين لأمر يهمه الوقوف عليه من حركات الفرنسيس فلم أجده، فجئت أنشده في داره أم ترينني أخطأت؟
صفية :
كيف هذا؟ هذي دار الأمير فخر الدين ولكنه هجرها بأهله منذ أسبوع وجيء بنا إليها ليلة أمس، أفلا تدري ذلك؟
هبة :
كلا، أتراه عسكر على الشاطئ؟
صفية :
ولا تدري هذا أيضا، إن الشاطئ قريب تلمحه العين أفتكون من رجال القصر ولا تدري؟ أين كنت هذه الأيام؟
هبة :
نحن الأطباء لا يعنينا إلا تولي المرضى بالعناية أعداء كانوا أو أصدقاء.
صفية :
يا عجبي منك يا هبة الله، ليس الطب إلا عرضا، ولو لم تكن طبيبا لكنت كاتبا أو أميرا، ولست أظن أحدا من هؤلاء يجهل مكانه الآن من هذه الحرب الضروس، بل ألم تجيء الآن تنهي إلى فخر الدين أمرا يهمه الوقوف عليه من حركات الفرنسيس؟
هبة :
صدقت يا سيدتي، ولكن لعلها هموم تنسي الإنسان نفسه فلا يدري ماذا يقول، أين الأمير بيبرس الآن؟
صفية :
ذهب إلى القصر لحراسته ثم يعود إلينا إن شاء الله سالما، كذلك وعدني ولن يخلف الله وعده.
هبة :
كتب الله له السلامة.
صفية :
آمين.
هبة (يبلع ريقه) :
هل من شربة ماء؟ (يتلفت)
ليكاد الظمأ يقتلني.
صفية :
علي بكوبة ماء يا مريم، إن هذا اليوم كأيام الصيف، وإن كنا في أذيال طوبه.
3
مريم (تذهب وهي تتمتم) :
فيليب بعينه، إني لا أستغش عيني.
هبة :
الآن أستطيع الكلام.
صفية :
وماذا كان يمنعك منه؟ أنت تخشى مريم؟
هبة :
مريم؟ فتاة فارسكور؟ كلا، ولكن خبريني يا سيدتي، ألا ترين أني أتلعثم ولا أدري ماذا أقول؟
صفية (تضحك متهكمة) :
لعله حر الشتاء قد آذاك أيها الطبيب!
هبة :
أجل يا سيدتي ولكنه حر الشوق إلى ساعة قضيتها في حلب منذ عامين. لقد كنت أجالس يومئذ فتاة ساحرة العينين تصغر عنك سنتين، وكانت أختها مريضة، وصهرها مشغولا بالقتال، وهي قلقة البال عليها، فوعدتني هذي الفتاة الرائعة الحسن إن أنا شفيت لها أختها أن تجزيني خيرا فاستوثقت مما وعدت، فآلت على ذلك حلفة ولست أدري أتذكر الحسناء وعدها أم لا؟
صفية :
بلى.
هبة :
أتعرفينها؟
صفية (ضاحكة في أدب) :
كأني لا أجهلها .
هبة :
وقد جعل الله شفاء أختها على يدي والحمد لله، ولكنها لم تف لي بما وعدت.
صفية :
لبعد الشقة يا هبة الله.
هبة :
الحمد الله على ذلك.
صفية :
لماذا؟
هبة :
كأن الله لم يجدني أحوج إلى برها بالوعد مني إليه اليوم، فأرجأني حتى ساق قدمي إلى هذا المكان، ترى أتصدق الحسناء وعدها؟
صفية :
أجل يا هبة الله إن استطعت.
هبة :
إذن فحاجتي إليك أن تخبئيني في هذا القصر يوما كاملا.
صفية :
أخبئك في هذا القصر؟
هبة :
أجل يا سيدتي.
صفية :
ولماذا؟
هبة :
لأني نظرت في أسطرلابي فعلمت أن يوم الثلاثاء هذا عصيب علي، وإذا جاء الليل وقد علم بمكاني أحد غير أحب الناس إلي فإني هالك.
صفية :
أنا أحب الناس إليك؟ شكرا لك يا هبة الله، إنك موضع ثقة أهل القصر جميعا، فلا غرو أن نراك فيمن نعز ونكرم.
هبة :
شكرا لك يا سيدتي، ولكن حبي إياك حب يعلم الله وحده نجواه، وهذا القلب وهذي العين، رأيتك في حلب فكأنما رأيت الحور، فلما بقيت بها وجئت مضطرا في ركاب السلطان إلى مصر كدت أزل بنفسي سرفا.
صفية :
وي! لماذا؟
هبة (حائرا) :
لأنك كنت يومئذ مريضة، وقد كنت أرجو ...
صفية (تتنفس) :
شكرا لك.
هبة :
ولقد قاسيت من أجلك ما يقاسي المحب اليائس راضيا بذلك مستسلما.
صفية :
المحب اليأس!
هبة :
أجل يا سيدتي، حتى علمت أنك وقعت في يد الكونت دارتوا فكدت أقضي حزنا؛ لأني أيقنت أن قد ضاعت بقية الأمل الذي كنت أحيا به في هذه الدنيا.
صفية (تتنفس ذعرا) :
أي أمل تعني أيها الطبيب؟
هبة :
آه. أنا. أنا. لا شيء. أريد. أجل (يتكلم وهو ينظر إليها متفرسا على مهل ويطرق من آن لآن)
أعني أنك إذا ظللت في يد الكونت وجاء يوم الثلاثاء هذا ولم أجدك (تبدو على صفية علامة النفور من الرجل في نظرتها فيسرع هو في حديثه وكأنما قد وجد حيلة تنطلي عليها فسر بها)
وأنت أحب الناس إلي، حتى تجدي لي مكانا خفيا عن العيون فقدت أملي في البقاء.
صفية (كأنما سري عنها) :
ها، فهمت. إني سأجيبك إلى طلبك (تنهض)
لماذا تأخرت يا مريم؟ مريم! (تمشي خطوة)
سأستعجلها وأبحث لك عن المكان اللائق.
هبة :
شكرا لك يا سيدتي (يميل على يدها لتقبيلها فتسير صفية ولا يدركها وهي لا تلاحظ ذلك، وتدخل القصر ويقف هبة الله ناظرا إليها نظرة العاشق الأبله اليائس)
لقد منيت نفسي قبلة من يدها فأبت علي ذلك، واتعسي وخيبة رجائي! لماذا لا تكون هذه الفتاة لي عروسا؟ أفأنا أدنى منها محتدا ونسبا؟ لماذا لا يكون لي في هذه الدولة فوق ما طغت! أأنا أقل من قومها فضلا وحسبا؟ (يسكت ويعود إلى المقعد ويقعد)
لابد منها، إني أحبها، أريدها لنفسي، هذه أول المنى وآخرها. (يسكت ويطرق ثم يقهقه)
ما عجبت لشيء في الدنيا عجبي لآمال نفسي، ولكن لا بد من الظفر بها على كل حال وها نحن أولاء في سبيل النجاح، لقد دللتهم على المخاضة في آخر البحر فدخلوا المنصورة، ولم يبق إلا أن أتم ما عزمت عليه، هذا دارتوا آت هنا، وهذا بيبرس؛ أحدهما قاتل أخاه فأخلص منه. ولكني أفعل بالقاتل من ورائه ما أريد. ولكن ماري «لعنة الله عليها» لقد عرفتني وستفضح أمري إذا أنا توانيت (هنا تأتي، مريم فينظر إليها هبة الله شزرا ويكلمها مغضبا)
عجلي بالماء يا ماري، لماذا غبت عني؟ لقد كاد يقتلني الظمأ.
مريم (فزعة) :
لم أعرف مكان الكوب ولا الماء حتى دلتني عليه مولاتي، إنا لم نهبط هذا القصر إلا طليعة اليوم.
هبة :
ها! شكرا لها (ينظر في الماء بعد أخذه الكوب منها)
أخشى أن يكون آسنا كمياه دمياط يا ماري. ألا تذكرينها (يرمي بالماء على الأرض فترتعد فرائص مريم) .
مريم :
ما طرقت دمياط في حياتي أبدا.
هبة (يضحك ساخرا) :
لقد طرقتها لأول مرة على ما أظن منذ سبعة أشهر أنت وشيخ مسن يسكن فارسكور، أجل. أرسلك إلى بعض الأمراء في مهمة كنت فيها أبليس بعينه، وتعرفين طعم الماء فيها حقا (ينظر إليها نظرة الظافر المتفرس) .
مريم :
ويلاه .
هبة :
إليس الأمر كذلك؟
مريم :
كلا، إني ما ذهبت إلى دمياط بتة.
هبة :
لا تكذبي، إنك أرسلت من قبل برنار صاحب النجع إلى الأمير فخر الدين صاحب هذه الدار بذاتها، أتظنين أني أجهل من أمرك شيئا يا ماري؟ (يقهقه) .
مريم :
وماذا في ذلك؟
هبة :
إذا لم يكن فيه بأس عليك فلماذا ذعرت؟ ألا يحدثك القلب بشيء؟
مريم :
أتظن أنهم يجزونني على ما فعلت فيما مضى؟
هبة :
كيف لا؟ إنهم لا ينسون للمسيء إساءته، انظري ماذا سببت لهم: ضياع مدينة بمالها ورجالها، وقتل خمسين من أمرائها، وأنت أحق أن تقتلي.
مريم :
أتظنهم الآن يقتلونني؟
هبة :
أفي ذلك شك؟
مريم :
ولكن من ذا يخبرهم بجرمي وقد قتل برنار؟
هبة :
برنار قتل؟
مريم :
كذلك خبرت.
هبة :
لست أظن ذلك، على أنه إن كان قتل فإن أخي فيليب حي يرزق.
مريم :
أهو أخوك يا سيدي؟
هبة :
أجل إننا توأمان، ولكنه بقي على ملة قومه هو وبرنار، ودخلت أنا في الملة السمحة، ولكن هذا لم يفرق بيننا فقد كان يزورني كثيرا ويفضي إلي بما في نفسه وقد أخبرني بجميع أمرك يا ماري.
مريم (تتنفس حسرة) :
آه.
هبة :
لا تذعري، إنه سر لن يفارق شفتي.
مريم (تجثو) :
شكرا لك سيدي، إنك لذو مروءة، استر علي وارحمني إني مسكينة يتيمة من أبوي.
هبة (يبتسم في نفسه) :
لا تخشي بأسا، إني لا أريد بك أذى، إكراما لأخي.
مريم (تقبل يده) :
شكرا لك يا سيدي شكرا، لقد ضاقت الحياة في وجهي فلا أنا أعرف لي أبا أفزع إليه ولا أخا ألقي حملي عليه، إن بقيت هنا فأنا في خطر من فضيحة أمري، وإن هربت إلى ملك فرنسا انتقم مني على مخالفة أمره ليلة فارسكور، رباه! ارحمني! ارحمني! إني أنيب إليك.
هبة :
روحي عنك لا تجزعي، سأكون لك منذ الآن أبا.
مريم :
شكرا لك يا سيدي، (تنهض) .
هبة :
ابقي بجوار مولاتك الأميرة صفية لا تفارقيها، هذا آمن لك، ولكن حذار أن تذكري صلتي بفيليب أخي أو تتحدثي عن تشابه وجوهنا لئلا يقتلوني خطأ.
مريم :
لك ذلك يا سيدي.
هبة :
وإذا طلبت إليك عملا تستطيعينه في الليل أو النهار فأنجزيه على الفور.
مريم :
سمعا وطاعة يا مولاي.
هبة :
هذا عقد بيني وبينك، لأسبوع فقط ثم اردك بعد انقضاء الحرب إلى أبيك وأمك.
مريم (باستغراب) :
أبي وأمي؟ إلى أب وأم؟ (تجثو أمامه) .
هبة :
أجل، كذلك خبرني فيليب وهو يعرفهما، ولكنه لم يشأ إخبارك بالأمر لئلا تتركي خدمة عمه الشيخ برنار، أما وقد تركتها فأنا أعدك بردك إليهما.
مريم :
إذن فإني لك جارية بل دوين الجارية، ردني إلى أبي وأمي إني لأحس الآن دبيب الحياة في قلبي.
هبة :
سأردك إلى أبيك وأمك، فاطمئني ولكن إياك أن تكاشفي بهذا الخبر إنسانا.
مريم :
محال. محال. لن أكاشف به أحدا. إني طوع أمرك.
هبة :
انهضي (تنهض مريم وهنا تلوح صفية عند الباب الذي بالدور الأسفل على الرحبة) .
مريم :
مولاتي آتية (يقدم لها الكوب)
هنيئا لك يا سيدي (تأخذه وتخرج صاعدة الدرج) .
هبة :
شكرا لك.
صفية (منادية وهي لدى باب الغرفة) :
هبة الله (تتقدم نحو المقعد) .
هبة :
سيدتي (ينهض) .
صفية :
لم أجد في القصر غرفة أليق من هذه (تشير إلى باب الغرفة التي جاءت منها)
وكأن حظك اليوم موفور فإن لها بابين مفتاحهما واحد.
هبة :
ما أسعد الحظ يا سيدتي، نعم الوفاء.
صفية :
وقد أعددتها لك على عجل وأعددت لك ما تحتاج إليه من طعام ليلة وشرابها، أراني وفيت لك بنذري يا هبة الله؟
هبة :
فوق ما منيت نفسي يا مولاتي.
صفية :
إذن فادخلها الآن إذا شئت، ولكن إياك أن يبدو من أمرك شيء لئلا يتهموني بسوء، ثم إذا جاء الصباح فتحت لك الباب.
هبة :
حذري أعظم من حذرك يا مولاتي، إنها حياة لا يعبث بها يا سيدتي فاطمئني، ولكني أرى أن تعطيني المفتاح أقفل به الباب من باطنه حتى إذا جاء الصباح خرجت بنفسي دون أن يراني إذ ذاك أحد.
صفية :
أليس في ذلك بأس؟
هبة :
إني طبيب القصر وكلهم يعرفون أني ادخل حيث تكون مولاتي بلا استئذان.
صفية :
صدقت ها هو ذا المفتاح. ادخل الآن ...
هبة :
شكرا لسيدتي، (يميل يقبل يدها ثم يدخل الغرفة ويقفلها ثم تأتي مريم من القصر مذعورة) .
مريم :
سيدتي! سيدتي (تنزل على الدرج وتنعطف) .
صفية (تذهب إليها لتلاقيها) :
مريم! ماذا بك؟
مريم :
أطللت الآن من النافذة فرأيت فرسان الفرنجة قد دخلوا الأزقة والشوارع حتى بلغوا دار الفارس أقطاي وسيوفهم تلمع في الفضاء وتهوي على الناس رجالا ونساء وأطفالا لا تبقي ولا تذر
4
كأنما جاءوا ليقتلوا الشيوخ والأمهات ويحاربوا الرضع على الأكتاف.
صفية :
ويلاه، ألم تري جنودنا؟ (هنا يسمع صوت نفير المصريين إعلانا بهجمة العدو) .
مريم :
لم أشهد جنديا واحدا يا سيدتي، وكأنهم لم يعلموا بما وقع ولكنهم سيعلمون وشيكا، هذا هو النفير يا سيدتي، إنهم مشغولون في غير هذا المكان، لقد خدعوا وربي، غير إني رأيت جناحا من رجال القصر ترفرف على هذه البقعة.
صفية :
ويلاه! اللهم انصره ونجه وارحمنا (طبول ونفير)
لقد التحموا (صراخ من الخارج وعويل) .
مريم :
نحن في مأمن يا سيدتي (جلبة مستمرة ونفير وطبول)
إن هذي الدار بعيدة عن الأذى، فقد رأيت الناس يلقون المقاعد والأسرة والأخشاب والأحجار في الشوارع والأزقة من نوافذ منازلهم حتى يسدوا الطرق على الصليبيين، وأخذت خيولهم تتعثر وتسقط بمن عليها ورأيت بعض الشبان قد ركبوا النوافذ وأخذوا يطلقون قسيهم على الصليبيين، وهم على تلك الحال فيوردونهم موارد الحتف العاجل.
4
صفية :
وأين أختي الآن؟
مريم :
لقد كانت نائمة في الشقة الغربية من هذا القصر، والكاتب سهيل راقد كذلك، ثم أفاقت الآن وأخذت تطل من النافذة، علمت أنها لم تنم ليلة الأمس إلا فواقا.
صفية :
خير لنا أن ندخل الدار، هلم يا مريم (يهمان بالصعود على الدرج وفي أثناء ذلك يلوح برنار عند الباب متنكرا، وهو محني الظهر وفي يده عكازة يتوكأ عليها) .
برنار :
يا أهل المروءة والخيرات! (تلتقت صفية)
هل من مأوى لشريد! إحسانكم يا أولي الإحسان! أنقذوني، ارحموا شيبتي وضعفي يرحمكم الله، سيدتي!
مريم :
ويلاه! هل كان الباب مفتوحا؟
صفية :
تقدير ربك يا مريم، مسكين هذا السائل، (ترجع صوبه قليلا)
تعال أيها الشيخ تعال، ادخل.
برنار :
شكرا لك يا سيدتي (يحاول الدخول على مهل كأنه لا يستطيع الحراك ومريم تنظر إليه فينظر إليها فتذعر) .
مريم :
من هذا يا سيدتي؟ ألا تذكرين صوته؟ (هنا يسمع النفير ودق الدفوف النحاسية) .
صفية :
كأنه صوت برنار، لكنه قتل.
برنار (يعثر بعتبة الباب) :
وامصيبتاه! جرحت رجلي (يقع)
خذي بيدي يا ابنتي.
صفية :
مسكين هذا الرجل، لقد كاد يقتله الذعر (تدنو وهو يلتفت إلى الوراء، فإذا قربت مدت يدها إليه فأمسك بها ونادى) .
برنار :
دارتوا! دارتوا! (فتصرخ صفية) .
صفية :
أواه، بيبرس! بيبرس!
مريم (تجري صارخة في القصر) :
النجدة! (ويأتي دارتوا ومعه رجال فينقضون عليها يريدون تكميمها) .
دارتوا :
لقد ظفرت بك يا صفية بعد طول الشقاء، من أجلك خالفت أخي وعاندت الهيكليين، ودخلت المنصورة برجالي وحدي.
صفية :
آه يا نذل الرجال! أنقذوني! أنقذوني (ثم يغشى عليها فتسقط) .
فخر (من الداخل) :
لبيك (وينزل من القصر إلى رحبته عاري الجسم ليس على رأسه ولا صدره شيء،
5
وإنما هو «متفوط» والسيف في يده ويجري بينهم وبينه قتال يسقط فيه رجلان من جنود دارتوا، ويخرج هبة الله من الغرفة متلثما والخنجر في يده فيطعن الأمير فخر الدين من الوراء) .
هبة :
إلى جهنم يا بيبرس.
فخر :
آه يا خائن، أهكذا يكون القتال!
برنار :
مرحى فيليب. (يظل فخر الدين يحارب، ويده اليسرى على خاصرته الجريحة ويجفلون أول الأمر من الضربة، ثم يركع ولا يرمي السيف بل يحارب مسطوحا، وإذ يراه الجميع خارا على الأرض يتركونه، يجري هبة الله إلى صفية وهي لا تزال مغشيا عليها ويضع على أنفها مشموما من جيبه فتسترخي أعصابها، وهنا يقول فخر الدين محتضرا).
فخر :
في ذمة الله سيفي إذ تفارقه
كفي وفى صوته مصر وأهلوها (يموت).
هبة :
عاوني يا برنار.
دارتوا :
إلى أين؟
هبة :
إلى هذه الغرفة (مشيرا إلى حيث كان)
حتى تنتهي الملحمة إني خدرتها بهذا العقار الذي صنعته لي في فارسكور.
دارتوا :
أحسنت، سيروا (يسير بها برنار وجندي وهبة الله ويخرجون بها إلى الغرفة مكممة مغطاة الوجه، وهنا يدخل بواتيه ومعه رجلان) .
بواتيه :
أين أنت يا دارتوا؟ (يكلمه وهو في حالة غضب شديد) .
دارتوا :
هنا، انظر: هذا فخر الدين كبير الجند مجندلا
6
ألا تذكره؟
بواتيه :
ويحك، أذكره، ولكنك قتلته وحده، ولم تدر أنك أهلكت من رجالنا ألفين! إنك لم تنتظر حتى يتم عبور أخيك الملك، وسبقت الهيكليين فأهنتهم بما فعلت، وكذلك استطاع بيبرس أن يعمل السيف في جندك جميعا حتى لم يبق منهم من يحدث عنهم إلا خمسة رجال فقط، وضرب اللعين محسن في ساقه الملك على غرة فقتل كل رجاله إلا مئة، وأسر منا حتى الآن ألف وخمس مئة فارس وكند وبارون.
7
دارتوا :
وامصيبتاه!
بواتيه :
وكاد يضرب رأس الملك ذاته لولا أنه ركض لأنقاذك.
دارتوا :
ويحي! ويحي! وامصيبتاه! أين هو الآن؟
بواتيه :
ذهب إلى القصر برجالي ورجال جوانفيل ظنا منه أنك هناك فلم يجدك، فعاد أدراجه فتلقاه بيبرس بجيوشه، وقطعوا الطريق عليه وأخذوا جميع رجالك أسرى، ولولا أنه لبس بردة أحد هؤلاء الأعراب واختفى في بعض الخرائب لكان اليوم في الهالكين،
7 (يعود برنار والجند ويقفل هبة الله الباب وراءهم ويبقى في الغرفة) .
دارتوا :
وامصيبتاه! ومصيبتاه! (الطبل والصنوج تدق علانية إلى آخر الفصل) .
بواتيه :
هلم إليه. هلم. لقد خبرت أنك جئت إلى هذا المكان تنشد تلك الفتاة اللعينة، أهذا وقته يا دارتوا؟ هلم اجمع ما بقي من الرجال لحماية الملك قبل أن يكشفوا مخبأه، ويل لنا إن اليوم علينا.
دارتوا :
يالله! كيف ألاقي أخي!
بواتيه :
اقتل البندقاري إن استطعت، لا يكفر عن ذنبك إلا هذا وإلا فأغمد السيف في فؤادك، إنني سأكون إلى جانبك، فإن قتلته وهبتك شرف قتله، هلم يا رجال. (يحاولون الخروج، وهنا يأتي بيبرس ومحسن في عدة القتال ومعهما جنود مسلحة، وفي يد أحدهم علم ويكون من بينهم صبيح ومسعود عبد بيبرس).
بيبرس (صارخا ومتقدما إلى دارتوا والسيف في يده) :
ويحكم يا عبيد الشهوات وأنذال الرجال وحثالة بني الإنسان!
محسن (ينظر فيرى فخر الدين مجندلا ) :
فخر الدين! مجندلا!
بيبرس :
ويلكم يا خونة (دارتوا وبواتيه يذعران ويشهران السيف باضطراب) .
دارتوا :
ليست شيمة الرجال قتل المطمئن، دونك سيفي (يقدم سيفه لبيبرس فيرفض أخذه) .
بيبرس :
ويحك! وهذا الأمير، أما كان يتوضأ لربه فأذعرتم أمنه، أما والله لن أفلتكم اليوم منها. محسن، أعمل السيف «ينازل دارتوا ويتقاتلون جميعا قتالا شديدا والطبل والصنوج لا تنقطع فيقع بعض الجنود من الطرفين، ويقع دارتوا قتيلا بضربة سيف من بيبرس، ومحسن يصرع برنار وبواتيه يفر أثناء القتال، وتظهر شجرة الدر تحت قبة الدرج فوق الصدفة، وهي في عدة القتال من خوذة ودرع، وفي يدها خنجر مشهور، وسهيل شاهرا سيفه استعدادا للطوارئ، ورافعا علما فوق رأسها فإذا انتهت الموقعة نادى بيبرس ومحسن: «مرحى»، والجنود من وراءهما والسيوف في أيديهم مواجهين شجرة الدر» مرحى! مرحى! «ويدخل أثر ذلك جماعة من الجنود والأمراء المصريين في عدة القتال والطبول والرايات والأعلام وهم يهللون: مرحى مرحى!)
محسن :
سلام على عصمة الدين ... وسيدة نساء المسلمين.
شجرة :
وعليكم سلام من الله ورحمة.
بيبرس :
لقد انتصرنا بإذن الله.
شجرة :
مرحى للرجال، مرحى لأبطال المنصورة. (تهليل ودق طبول)
الفصل الرابع
المنظر
يزاح الستار عن إيوان في دهليز «فسطاط كبير له أبراج» السلطان طورانشاه بفارسكور
1
له باب واسع في صدر المزرح، ترى من ورائه سوار وشرع وشوان وبطس «سفن حربية» مصرية في النيل، وبعد الباب صدفة واسعة ينزل منها إلى رحبة هذا القصر الخشبي العجيب، والإيوان مغطى الجدران بالأستار الديبقية البيضاء إيذانا بمقدم الصيف؛ إذ نحن في أواخر إبريل سنة 1250 ميلادية، وفي الإيوان فرش سلطانية وبسط طبرستانية، وهناك إلى يمين المتفرج دكة مفروشة مائلة الوضع إلى خمس مقدم المرزح، عليها كرسي عال مكفت بالذهب بنقوش عربية، وعليه وسائد من الحرير بديعة الصنع وإلى يمين الدكة كرسي آخر أصغر من الأول، إلا أنه كريم فهو مفروش بالوسائد مثله ويرى إلى الجانب الأيسر مقعد آخر من الأبنوس المكفت وكرسي مثله، وللإيوان منفذان جانبيان؛ أحدهما إلى اليمين، وهذا يضرب إلى دار السلطان، والآخر إلى اليسار، ويضرب إلى حلقة المشورة.
تدخل شجرة الدر من المنفذ الأيمن يتبعها سهيل، وكأنما تتم حديثا، ثم تذهب إلى المقعد الأيسر وتجلس ويظل سهيل واقفا بجوار الكرسي الثاني.
سهيل :
إني لم أر الأمير بيبرس منذ أيام يا مولاتي، لعله ذهب لمفاوضة أسيرنا ري رديفرانس في دار ابن لقمان بعد أن أخفق مسعى الأمير بلبان.
شجرة :
ولكنه أطال غيبته عني، أتعلم أنت شيئا من أمر الأميرة صفية ومريم؟
سهيل :
كلا يا سيدتي.
شجرة :
هل فتشتم شواني الفرنجة؟
سهيل :
لقد نزل الأمير بيبرس بنفسه يفتش عنها كل شق في تلك المراكب، ولكن لعلها فيما لم تصل إليه يدنا بعد، وكأن الأمير بيبرس قد خال ذلك فذهب إلى الملك في الأمر.
شجرة :
لست أظن الملك يعرف عنهما شيئا، ويخيل إلي أن الأمير الذي قضي في دار فخر الدين إذ رآهما في رحبتهما أسلمهما إلي بعض رجاله، فعادوا بهما إلى حيث يخفونهما عن عيون الملك، لقد نقم الملك من أخيه إيداعها دار شيخ النجع، فلا غرو أن يخفي أخوه عنه الآن ذلك، ولكن لماذا يأخذون مريم أيضا إلا أن تكون لصاحب نجع فارسكور يد في ذلك؟ ألا ترى أن تستفسر منه؟ إنه الآن أسيرنا، وقد يرى في أن يدلنا عليها سبيلا لنجاته.
سهيل :
صدقت يا سيدتي، ولكن صاحب النجع قضي بالأمس، قتله ابن الطوري فيمن قتل من الأسرى.
شجرة :
قتله! ألم أرسل هبة الله الطبيب إليه ليكف يده عنه حتى أراه!
سهيل :
بلى، ولكنه قتل بأمر هبة الله نفسه يا مولاتي.
شجرة :
وي! كيف ذلك؟
سهيل :
لا أدري ولكن صبيحا خبرني أن برنار لفق له عن هبة الله هذا خبرا عجيبا، فسمعه هبة الله فأهدر دمه على الفور.
شجرة :
وما يكون هذا الخبر يا ترى؟ ألم يخبرك به صبيح؟
سهيل :
لم يكن ثمة سبيل للكلام، فقد دعاه الملك إليه فلباه وتركني، قد يكون له بأمر اختفاء الأميرة علاقة، وإلا فلماذا آثر قتله على إطاعة أمر مولاتنا؟ إني أستريب هذا الطبيب يا مولاتي من زمن بعيد.
شجرة :
ترى أين هبة الله الآن؟
سهيل :
إني رأيته الآن يتمشى مع مولاي السلطان على الشاطئ (يشير إلى البحر) ، فإذا رأيت أن أدعوه إليك بعد عودة مولاي ...
شجرة :
أجل. أجل. اذهب على الفور (يهم سهيل بالذهاب والخروج) ، ولكن قف لا فائدة من ذلك، إذا كان برنار يتهم هبة الله في شيء من أمرها فهل ترى ينفضه هو إلينا؟ خير لنا أن ننتظر حتى يعود صبيح من المنصورة.
سهيل :
حسن يا مولاتي، ولكن لا بأس أن تستفسري منه عن سبب مخالفته أمرك، لعل في ذلك ما يفيد حين نرى صبيحا أبلغ بزعانف الناس أن ...؟
شجرة (بعد صمت) :
لا بأس، اذهب في طلبه.
سهيل :
سمعا يا مولاتي (يخرج من الباب الأكبر) . (يدخل الأمير بيبرس من المنفذ الأيسر تائه الفكر مشردا، كما يفعل من يمشون في نومهم، تكون عيناه صوب منفذ قصر السلطان، وهو غارق في تأمله، ويتقدم نحوه وشجرة الدر ناظرة إليه باستغراب، فإذا حادثته تنبه كأنه أفاق فيلتفت إلى جهة الصوت، وتناديه شجرة الدر بصوت غير عال كي لا ينزعج).
شجرة :
مرحبا بركن الدين.
بيبرس (يتنبه ويلتفت) :
من ذا يناديني؟
شجرة (على المقعد) :
أنا يا ركن الدين.
بيبرس (يتقدم منها بسرعة ويجثو على ركبتيه) :
معذرة يا أختاه معذرة، لا يسؤك طروقي بلا استئذان، لقد والله أردت أن أخرج إلى الشاطئ من باب حلقة الأمراء ... فأخطأته وجئت إليك ... فإن كنت ...
شجرة (بصوت هادئ) :
يا مرحبا بك يا ركن الدين.
بيبرس :
لمثل هذا الصوت فزعت نفسي، إلى مثل هذا الحنان تطلع قلبي، إلى مثل هذه النظرة المشفقة ظمئت روحي، املكي عني أساي، املكي عني دمعة عيني (يضع وجهه بين راحتيه)
إني أكاد أجن يا أختاه (تخنقه العبرات) .
شجرة :
روح عنك يا ركن الدين، أتيأس من رحمة الله؟
بيبرس :
آه يا مولاتي! لقد بحثت عن صفية في كل مكان لكني لم أوفق إلى خبر عنها، سألت البوادي والقفار، وفتشت الخرائب والديار، فلم تحر جوابا، ولقد طالما تمثلتها في سفرتي تستصرخ فأصرخ من أعماق قلبي: لبيك ! لبيك! ثم أنتبه فلا يجيبني إلا الصدى حتى تغشاني غاشية جنون فأهيم على وجهي في البراري، وأخوض رقراق البردي المطمئن ثم أصرخ: هأنذا، لبيك! إلى أن أذعرت طير قلبي المسكين بصراخي، وترينني الآن كالطفل لا يخفف حزني إلا دمعة أذرفها أو أم آوي إليها، إني أكاد أجن، أجن، أواه.
شجرة :
بيبرس، بيبرس، ترفق بنفسك، أكذا عزيمة الرجال؟ أهذا فتى النجع؟ أهذا فارس المنصورة؟ لقد والله حسبت أني أجد لنفسي في صبرك عزاء، فإذا أنت أحوج مني إلى العزاء، لعلها ذهبت إلى دمياط وقد عزمت أن أرسل إلى الملكة رسالة، لماذا تزل بنفسك يا بيبرس؟
بيبرس :
لقد ذهبت إلى دمياط.
شجرة (تؤخذ دهشة) :
وي!
بيبرس :
وقابلت الملكة نفسها وسألتها عنها، ولكنها أقسمت أنها لا تدري من أمرها شيئا منذ أرسلتها إليك.
شجرة :
ما هذا الجنون يا بيبرس؟ أتذهب بنفسك إلى عرين الأسد الذي جندلت أشباله؟ كيف تخاطر بنفسك كل هذه المخاطره يا ركن الدين؟ إننا لا نزال في حاجة إليك.
بيبرس :
كلا يا سيدتي، لم يعد لكم بي حاجة، لقد كتب الله لنا السلامة فقهرنا عدونا، وأسرنا ملكهم وأمراءهم، وأخذنا كل جنودهم ومراكبهم وأدواتهم وعدتهم، وقضي الأمر، فإذا أنا مت بعد ذلك فليس في ذلك كبير بأس إلا أن تكون صفية في الأحياء.
شجرة :
إنها كذلك يا ركن الدين، أترى الله يفجعنا فيها، كيف يضيع الله أجر المحسنين؟ ولكن قل لي كيف دخلت على الملكة؟
بيبرس :
دخلت عليها كأني رسول من قبل بيبرس، وكنت أعددت معي رسالة، ولقد وجدتها مريضة هزيلة وفي عينها أثر البكاء والنحيب، لم تر أن يحادثني ناظر من خاصتها بل نهضت من فراشها تستنشق خيرا عن زوجها، وهي أول مرة نهضت من الفراش بعد أن وضعت ولدها الذي سمته بالحزين،
2
وقد قدمته إلي مستصرخة بك وبمواليك أن تردي إليها زوجها، فوعدتها أن أكون واسطة خير بينك وبينها.
شجرة :
آه يا بيبرس، لقد أحسنت، أقسم لقد تمزق قلبي لحديثها، ولكن ترى طوران يرضى بذلك؟
بيبرس (يستفيق شيئا فشيئا ) :
الرأي شورى يا سيدتي، وإذ كانت الملكة قد رضيت أن تدفع فدية عن زوجها، فقد عدت إلى المنصورة على الفور واتفقت مع الأمراء على صيغة إطلاق سراح الملك، وأما أنت فلا أظنك تأبين إجابة سؤال الملكة، ولا أظن مولانا السلطان يأبى ذلك.
شجرة :
إني سأحادثه في الأمر حين يرجع إلى القصر، ولكن هل سألت الملك لويس عن صفية؟
بيبرس :
أجل، ولكنه لا يعرف من أمرها بعد يوم النجع شيئا، ولا أخوه بواتيه، ولا أميره الذي أسره محسن مع الملك في بيت أبي عبد الله؛ لأنه كان أقرب أصدقاء دارتوا إليه، ولكن الملك وعدني أن يبحث عنها يوم يعود إلى دمياط، وهذا هو الأمل الباقي، والآن فلتأذن لي عصمة الدين أن أنصرف لعلي أفي آخر حق بلادي علي.
شجرة :
هذا أنت يا بيبرس، هذا ركن الدين، هذا عين أبطال مصر.
بيبرس :
لقد عاد إلي الآن شيء من الطمأنينة بلقائك، كأنما كنت لنفسي كعبة الرجاء التي تفرج فيها أزمات الأمور، على أنك إن رأيتني قد انتفضت كأورقاء، فإنما أضم الآن تحت جناحي جرحا راش سهمه القدر، ثم أخفاه في طيات الخوافي، السلام على مولاتي ورحمة الله.
شجرة :
في ذمة الله يا بيبرس (يخرج بيبرس من المنفذ الأيسر، وتهم شجرة الدر بالخروج من المنفذ الأيمن ثم تسترسل في كلامها وهي خارجة)
يالله! كيف يقلم الوجد مخلب الأسد، اللهم لا تفرق بينهما يا من يجزي المحسنين بما عملوا. (يدخل السلطان طوران شاه من الباب الكبير لابسا جبة سوداء مزركشة بالذهب على قتبها وعاتقها، ولها أزرار كبيرة دائرة حول السجف، وهي موشحة بفرو السنجاب، وعلى رأسه عمامة بيضاء مفرعة ذات أقماع مخيطة بأعلاها تقليدا لعمامة صلاح الدين، وتحت جبته قفطان من الحرير الأخضر الإسكندري المجوخ عليه منطقة من الذهب ... وظاهر طوران شاه يدل على الرعونة، وأنه سكير، فهو منتفخ الأوداج، جاحظ العينين قليلا، إذا دخل وقف يتأمل ثم سار إلى حيث كانت شجرة الدر، ثم وقف وأخذ يفكر، ثم عاد إلى السير ذهابا وجيئة أخرى ).
طوران :
تخفيها عني وتهزأ بي! تؤثر عبدا من عبيدي علي، علي أنا، سلطان مصر والشام وابن الملوك العظام، أم أنها تجهل قدري؟
شجرة (تدخل) :
من هذه التي تجهل قدرك يا بني؟
طوران (على حدة) :
ويل لها! أكانت تتسمع؟ (وبصوت مسموع)
هي أنت يا امرأة أبي الكريم.
شجرة (تشده) :
ما عودتني مثل هذا النداء يا بني، أم استكثرت علي لقب الأمومة؟
طوران :
ليس للإنسان في دنياه إلا أم واحدة، وقد أفقدتها منذ زمن طويل.
شجرة :
فمن ذكرك اليوم بها؟ ما أشد وفاء الأبناء!
طوران :
ويحك، ماذا تعنين؟
شجرة :
أسبابا واعتداء.
طوران :
خبريني أين صفية؟
شجرة :
لقد طالما خبرتك أني لا أعلم عنها شيئا (يقف طوران أثناء ذلك ينظر إليها مهتاجا يضع يده مرة على خاصرته، وأخرى على صدره)
منذ موقعة المنصورة، وإني لا أدعو الله في صلاتي إلا أن يوفق من أقمتهم للبحث عنها للعثور عليها ويجمعني بها، فما بالك اليوم تسألني عنها خبرا؟
طوران :
إنك تخفينها عني.
شجرة :
أخفيها عنك؟ أتراني كنت أخاتل الله في صلاتي؟
طوران :
إنما كنت تخاتلينني أنا (يتمشى) .
شجرة :
ماعهدي بك كذلك يا بني، لا تخفيها عنك إلا إحدى امرأتين: زوجة لك، أو عاشقة تغار عليك، وما أنا كذلك وما ينبغي لي، أو ناقمة تريد الثأر منك، وليس بيني وبينك عداء.
طوران :
بل إنما أنت الثانية أيتها المراة.
شجرة :
وي! لماذا؟ (هنا يبدو سهيل على الصدفة، وإذ يسمع هذا اللجاج يتراجع ولكنه لا يغيب) .
طوران :
لا أدري (يتمشى ثم يقف ينظر إليها) .
شجرة :
كيف أريد بك سوءا يا بني وأنا التي وليتك الملك بعد أبيك بلا وصاية؟
طوران :
إذن فقد خنت أبي إذ زورت خاتمه على الناس بولاية العهد لي.
شجرة :
قد أكون خنته يا بني، ولكني لم أخنك أنت ولا خنت ربي.
طوران :
من يخون أبي يخونني (يتمشى ثم يقف ينظر إليها) .
شجرة :
إذن فمعذرة إليك، ولكني إنما فعلت ذلك حسن ظن بالله، وأمانة لك.
طوران :
ألم تعدي بها خادمك بيبرس.
شجرة :
بلى (هنا يبدو سهيل ثم يتراجع) .
طوران :
اتؤثرينه علي؟
شجرة :
كيف أوثر خادم السلطان على السلطان نفسه؟ ولكن سبق الوعد بها من أبيك لأميره وهو في حلب قبل أن يجيء إلى مصر بعام، وجددت له الوعد قبل أن تجيء أنت بأشهر، ولقد هممت أن أبر له بوعد أبيك ووعدي وأجزيه عن المعروف فيما فعل فأبت عليه همته العالية إلا أن يرجئ الأمر حتى تنتهي الحرب، وها نحن أولاء قد فقدناها ولا ندري أفي الأموات هي أم في الأحياء؟ فلماذا تحادثني اليوم في شأنها؟ بل لعمري لئن كانت في يديك ثم طلبها بيبرس إليك لكان حقا عليك أن تجود بها عليه اعترافا بجميله على بيتك، إنه هو الذي حمى بيت بني أيوب ذلة الأسر والهوان.
طوران :
ويحك يا شقية (يبدو سهيل ثم يتراجع) .
شجرة :
آه يا طوران، لقد كان بيبرس وصحبه أبناء ملوك مثلك، اتق الله يا طوران ... ألا تخشى أن يصيبك ما أصابهم فتقتل أو تباع كما بيعوا لأبيك؟ ثم لا تجد سيدا كسيدهم، لقد كان أوشك أن يصيبكم من الفرنجة ما أصابهم من المغول لولا همة بيبرس وصحبه.
طوران :
فليت يا فاجرة (يقبض على ذراعها)
أبمثل هذا تجيبين؟ (هنا يبدو ويقف ينظر ثم لا يتكلم) .
شجرة :
دعني أيها السلطان وإلا ندمت.
طوران (يتركها) :
أين أموال أبي؟
شجرة :
إنك تعلم أني أودعتها بيت مال المسلمين.
طوران :
لم أجد في بيت المال إلا قليلا، خبريني أين المال؟
شجرة :
إن كنت لا تجد إلا قليلا فقد أنفق على الجند، والعشور لم تجب حتى يومنا هذا لاشتغال الناس بالحروب، وليس عندي من مال أبيك إلا قليل لا أزال أنفق منه في طعامك وشرابك، فإن شئت أن تتولاه أفلتني مشكورا ثم أذنت لي في مغادرة قصرك مأجورا، لم يعد لي في جوارك مقام.
طوران :
لن يكون ذلك حتى تنزلي عن حقائب الدر الأسود والياقوت التي أهداها إليك أبي.
شجرة :
إن كان أبوك قد أهداها إلي فهي ملكي بشرع الله، ليس لأحد عليها من سبيل، على أني قد رصعت بها كسوة المحمل الذي نذرت أن أجعله هودجا للأمير الذي يسافر بالحجيج إلى مكة المكرمة وقبر رسول الله هذا العام. ووهبت ما بقى منها لمقصورة النبي عليه السلام اغتباطا بنجاة مصر وخفوق راية الإسلام، وهي الآن في قلعة الجبل فإن شئت إلا أن تأخذ مال الله فأنت وشأنك.
طوران :
أهي في مقصورتك؟
شجرة :
كلا بل في مقصورة أبيك، والآن إذ جئت بي إلى فارسكور فأذن لي أن أرحل عن دهليزك هذا لا آخذ معي إلا ثيابي التي جئت بها، ولن أعدم قوت يومي بما تكسب يدي.
طوران :
أنتركك تهرعين إلى ندمان خلوتك؟ اذهبي إلى غرفتك ولا تبرحيها إلا بإذني.
سهيل (يدخل) :
الأمراء بالباب يلتمسون المثول بين يديك يا مولاي.
طوران (يلتفت مذعورا) :
ويحك! من الذي أذن لك بالدخول؟
سهيل :
تلك عادتي يا مولاي.
شجرة :
هذا كاتب يدي أيها السلطان.
طوران (لسهيل) :
قبح الله صورتك، اذهب، قف، علي بابن الطوري.
سهيل :
لم يجئ معهم من المنصورة يا مولاي.
طوران :
وي! لماذا تأخر؟
سهيل :
رأى الأمير محسن أن يستبقيه بالمنصورة في غيبته.
طوران (يصك أنيابه) :
علي بهم، (وتحاول شجرة الدر أن تذهب من الباب الأيسر فيستوقفها)
قفي، أين تذهبين؟
شجرة :
إلى رسول الله أشكوك إليه.
طوران :
إلى حجرتك أيتها المرأة، لا يدخل عليك أحد إلا بأذني، ولا يكن لك كاتب ولا بريد، أفهمت؟
شجرة (تنظر إليه منتظرة ساكنة ثم تتكلم) :
سأذهب كما تشاء، وسأكون عند أمرك، ولكن اعلم أيها السلطان أنك فقدت نصيرك في هذه الحياة. (تخرج من حيث جاءت).
طوران :
أتراهم أوجسوا المخبوء؟ ما لابن الطوري قد خالف أمري؟ أجل، إنهم زعماء الجند والناس في مصر (هنا يبدو سهيل)
عباد القوة، سأريهم قوتي فلا يستعجلون.
سهيل :
حضر الأمراء يا مولاي. (يدخل الأمراء يتقدمهم محسن، ويتلوه أقطاي يتبعهما بيبرس، وبعض أمراء أخر ويظل سهيل عند الباب).
محسن :
سلام على الملك المعظم طوران شاه سلطان مصر والشام وحامي حمى الإسلام.
طوران :
على أبطال مصر السلام (يجلس على المقعد العالي وهو غضب)
ما وراءكم؟
محسن :
ما وراءنا إلا الخير أيها السلطان، ولكنا جئنا نستفتيك في أمر من أمورنا ونستنير برأيك الثاقب.
طوران :
إن كان أمرا من أمور الدولة فليس لأحد منكم أن يستفتي وإنما لي الرأي وما عليكم إلا البلاغ، فما هو هذا الأمر؟
محسن (يلتفت دهشا) :
أمر ريدافرانس أسيرنا ...
طوران :
ما خطبه؟
محسن :
لقد بقي من جنده في دمياط عديد اعتصموا وراء أسوارها المنيعة واستعدوا لجيوشنا استعدادا كبيرا.
طوران :
وهل يعز عليكم فتحها؟
محسن :
لن تعز المعاقل على فارس مصري في يمينه حسام وفي قلبه إيمان، وإنما نخشى أن يبطئ الفتح علينا، وقد زرنا دار ابن لقمان بالأمس حيث أودعنا ملك فرنسا وأخاه وباروناته أجمعين، فعرض الملك علينا أن يخلي دمياط لنا، ويدفع لنا عن نفسه ومن بقي من قومه دية ونطلق سراحه وسراحهم، وننزل الألوف من رءوس القتلى من قومه الذين قلدنا بجماجمهم أسوار المنصورة، ونحفظ له أقواته التي بدمياط حتى يرسل في طلبها،
3
قد رأينا الأمر أجدى علينا وأحفظ لرجالنا فجئنا نطلب إلى سدتك الإذن بإمضائه.
طوران :
لقد كان يجدر بكم أن تتريثوا حتى تبلغوا الأمر إلي، إني أنا سلطان مصر وحدي لا أنتم، وسواء كان فيما عرض نفع أو غير نفع فإني لا آذن بإمضائه.
أقطاي :
يشاء مولاي أن يقول الساعة هذا المقال بعد أن اتفقنا معه بالنيابة عن البحرية أجمعين على ما يجب أن يكون لنا من الأمر في تدبير الشئون، وقد كنت عالنتنا بأنك لا تأبى على الملك أن يفتدي نفسه، فلما عرض علينا الدية تشاورنا في أمرها وارتضيناها فيما بيننا، ثم جئنا نلقي عليك جملتها لتعلم بما يجب لك العلم به.
طوران :
ما كان من حقكم أن تتشاوروا في أمر من أمور دولتي ولو سبق مني إقراره حتى أنظر فيه، فإن شئتم أن تسلبوني حقي الذي وهبه الله لي فإنما أنتم باغون، وإن شئتم أن تكونوا مخلصين لي عاملين على مكانتكم مني لم تزيدوا على إبلاغي الأمر ولي فيه شأني، قبلت أم رفضت.
بيبرس :
أيها السلطان إنا لم نخرج بالأمر عن حد المباحثة، وتقرير شرائط الاتفاق بيننا وبين عدو قديم، لم تكن لك يد في أمره ولا هزيمته، ولقد كنا في حل من إمضائه عنك عملا بما اتفقنا عليه من قبل، ولكنا أردنا أن نبلغك الأمر رعيا لكرامة ذي السلطان، ولنشهد الله أننا وفينا لبيتك الكريم ولبلادنا ولأبيك عليه الرحمة والرضوان.
الجميع :
رحم الله الملك الصالح.
بيبرس :
فإما أننا مخلصون لك فهذا ما لا شك فيه؛ إذ إنك سلطان مصر الذي أقمناه باختيارنا لجمع أمرنا، ولعنة الله على الخائنين.
الجميع :
لعنة الله على الخائنين.
بيبرس :
وإما أننا نجهل مكاننا منك فمغالطة ساقك إليها ما وقر في نفسك من أننا، نحن مماليك أبيك الجليل، نطمع في تراثك فلم تزل تغض منا وتصغر من شأننا.
الجميع :
رحم الله الملك الصالح.
بيبرس :
لقد كان لنا أن نجلس في حضرة أبيك جلسة الولد البار من أبيه، فأما أنت فأبقيتنا على الأقدام في هذه الدار التي يجلس فيها الغلمان والندامى، وفي مثلها قضي أمرنا بتوليتك سلطانا علينا بلا عهد ولا كتاب (يضطرب طوران) .
طوران :
اجلسوا بالله أيها الأمراء ولا تذكروا إلا الخير، إني نسيت (يجلس محسن وأقطاي وبعض الأمراء) .
بيبرس :
بل تناسيت لتزري بنا وتحط من كرامتنا ونحن أمراء الدولة وكبار جندها وأساطين دولة الإسلام، وكان فرضا عليك ألا تفرط في كرامة هذه المنزلة حتى لا يراها خلفك من السلاطين هنة بين الهنات.
طوران :
معاذ الله يا بيبرس! معاذ الله!
بيبرس :
لم تزل منذ جئنا بك من كيفا تستريب كل أمر من أمورنا، لماذا؟ ألأنا حفظنا لك الملك أن يدعيه أربابه من أعمامك الذين غلبهم أبوك عليه؟ وما برحت تستصغر كل عمل من أعمالنا، لماذا؟ ألأنا استطعنا أن نبرهن للعالم أجمع أن في مصر رجالا، وأن امرأة مصرية خير من رجال كثيرين؟
الجميع :
بوركت، بوركت فضلى النساء.
طوران :
وي! وي! كذلك تخاطب مولاك يا ركن الدين؟
بيبرس :
لقد كان للناس أن يقوموا عمر بحد السيف، فبأي حد نقومك أنت؟
طوران :
لو تركتموني وشأني لصنعت ما يستوجبه الدين.
بيبرس :
استمع لي يا طوران، إذا شئت أن تعيش بيننا سلطانا علينا فليس لك إلا الشورى والرأي للجماعة.
طوران :
لقد عولت على ذلك منذ حين.
بيبرس :
هكذا علمنا فما ردك اليوم عنه؟ وما دعاك إلى أن تبيتنا وتتآمر علينا وتعمل على قتلنا؟
طوران (دهشا مذعورا) :
أنا أبيتكم وأعمل على قتلكم!
بيبرس :
كفى أيها السلطان، إنك تزعم أن مصر اليوم كعهدها بالأمس؛ إذ كان أهلها أنعاما يساقون، كلا يا طوران! لقد عشت في ديار بكر بعيدا عن هذه الدنيا فلم تدر أنهم اليوم أمة أخرى، لقد عرفوا اليوم أن لهم في هذي الحياة الدنيا نصيبا فوق نصيبكم منها؛ لأنكم بها وهي ليست بكم، إنهم الأعلون وأنتم الأدنون، بيد أنهم رجالي ورجال صحبي، فصن فؤادك عن التفكير في قتلنا، ولا تضن نفسك بالاحتيال، فإني إن أمت غيلة أو يمت محسن صبرا، أو أقطاي، أو قطز أو بلبان أو تنكز، قام غيرهم يطالبونك بدمائهم، وإذا أنا فصلت الآن عنقك بسيفي هذا جزاء جنايتك علينا، ولغ الناس في دمك وكان ولي عهدك أول المغتبطين، انظر: هذا أميرك ابن الطوري الذي جئت به من كيفا، والذي عليه تعتمد وبه تستعين قد عالننا بأمرك، فارشد أيها السلطان ولا تكن من الجاهلين.
طوران :
معذرة يا بيبرس، معذرة أيها الأمراء، لقد خبروني أنكم أردتم بي سوءا فصدقت والكريم يخدع، على أن لكل امرئ من دهره ما تعود، وقد اعتدت في كيفا ما لم أجده هنا، فكبر الأمر على نفسي، ووجدت للوشاية سبيلا إلى قلبي، أما وأنتم لا يرضيكم إلا هذه الخطة على أن نعيش عليها بعد اليوم إخوانا في الله، فعهد الله بيني وبينكم عليها، قسما تلزمني عليه إن حنثت لعنة المنتقم الجبار.
بيبرس :
شكرا للسلطان، ولكنا لا نرضى بهذا العهد حتى تسترضي مولاتنا شجرة الدر على ما لقيت منك من صنوف الإهانة قبل مقدمنا.
طوران :
اتقوا الله أيها الأمراء! ماذا جرى؟ إن هذا افتراء.
بيبرس :
إنه لصدق أيها السلطان (لسهيل)
سهيل .
سهيل :
مولاي.
بيبرس :
استمح مولاتنا في التجلي علينا.
طوران :
لن يكون هذا، كيف تبدو امرأة السلطان عليكم؟
محسن :
هون عليك يا مولاي إننا عبيدها المخلصون، وما هذه بأول مرة نستأذنها، فقد كان لنا ذلك أيام أبيك عليه الرحمة والرضوان.
بيبرس :
والآن فاعلم أيها السلطان أننا جئنا بملك الفرنسيس من المنصورة نردعه، واتفقنا معه أن تكون الدية خمس مئة ألف دينار نصفها برهن أخيه بواتيه، حتى يصل إلى دمياط والنصف الآخر بوعد منه، فاقبله وإذا دخل عليك فأذن له بالجلوس، هذا أليق بكرامتنا، وإذا ذكرت الدية فانقص منها، نحن قوم لا يهمنا إلا الثناء، ثم ودعه وداع الملوك (يلتفت)
أقطاي، مر للملك بالقدوم علينا (ينهض أقطاي ويقف بباب الردهة فوق الممشى ويشير بيده إشارة من يستدعي) .
أقطاي :
علينا بري ديفرانس.
صبيح (من الخارج) :
سمعا يا مولاي. (يعود أقطاي) ، (ويأتي سهيل من القصر يتقدم شجرة الدر) .
سهيل (معلنا) :
مولاتي شجرة الدر، (يقف الجميع ما عدا السلطان) .
شجرة :
سلام على أبطال المنصورة.
محسن :
وعلى حامية مصر السلام، (تجلس على الكرسي الذي إلى يمين عرش الملك) .
شجرة :
لم أظفر بعد فقد مولاي الملك الصالح بشيء من طمأنينة النفس إلا اليوم أيها الأمراء الكرام؛ إذ اجتمعتم بولدي السلطان المعظم طوران شاه (هنا يتنفس السلطان تنفس الفرح)
بعد طول نواه، وحميتم مصر أذى عدوها ثم استقتم زعيمهم في رحابه أسيرا، أفلا نشكر الله؟
أقطاي :
ألف حمد لله على نعمته يا مولاتي وألف شكر لك، لقد كان النصر كله على يديك، فأنت أنت التي دبرت أمر الدولة في غيبته حتى لا يشغل الأمراء إلا بمدافعة القوم، كما صنعت في غيبة أبيه ومرضه، ولعمري لئن كان لهم في نصرة الحق ثواب عند الله، لثوابك أرجح وأعظم (للسلطان) ، أليس كذلك يامولاي؟
طوران (سكوت) :
بلى.
بيبرس :
لو أخلصت النية أيها السلطان لوقفت إجلالا لمن دعتك ولدها بعد أن أسأت إليها، ولعرفت لها إقصارها عن الشكوى، واعتذرت إليها مما فرط منك.
طوران (ينهض) :
معذرة يا أماه.
شجرة :
عفا الله عنك يا ولدي، إن هي إلا مغاضبة مما يحدث بين الوالدة وابنها، شكرا لكم أيها الأمراء، ألهذا دعوتموني؟
محسن :
أردنا أن نطمئن عليك يا سيدتي ونخبرك أنا لا نرضى أن يبدل لك حال بعد مولانا، وأنا نفديك من كل شر بنفوسنا.
شجرة :
شكرا لكم، إني بخير ما دمتم، انظروا لأنفسكم (تنهض) ، والآن أيها الأمراء إذ جئتم بملك الفرنسيس فعسى أن ينصرف شاكرا، لا تجعلوا الحرب مذهبة للمروءة، فإنا قوم لا نبتغي إلا وجه الله، ولقد أعددت له ولقومه خلعا يأمر بها ولدي السلطان.
أقطاي :
وأين هي الآن يا مولاتي؟
شجرة :
في حراسة بعض المماليك.
بيبرس :
أحسنت يا عصمة الدين.
شجرة :
والآن أيها الأمراء إذ انتهت الحرب بعد العداء، وأنقذ الله مصر من الذلة والهوان، وأراني بررت بقسمي لله ووعدي لمن قضي، فاشهدوا أيها الأمراء ... اشهدوا أني وفيت.
الجميع :
نشهد على ذلك.
شجرة :
ولتشهد مصر أيها الأمراء أنكم حماتها، لن تضام ما دام رجالها على ما أنتم عليه من الإخلاص لله في العمل، وابتغاء وجهه في السر والعلانية، لقد كان في تناصركم وتآزركم آية؛ إن الدولة برجالها، طلح السلطان أم صلح، ولئن كنتم على غير ما عرفت لكنت اليوم أتلمسكم فلا أجدكم إلا بين جدث أو مأسرة، فإذا عيني حاسرة، وإذا شفتي كاسفة، أما الآن فالعين من بشرها دامعة، والسن من فرحها مشرقة، سلام عليكم ورحمة الله (تخرج) .
الجميع :
وعلى عصمة الدين السلام (يردون ما عدا السلطان) .
بيبرس (للسلطان) :
لماذا لم ترد السلام أيها السلطان.
طوران :
وي! ما هذه المذلة! أما كفاكم ما مضى! إني لا أطيق هذا (ينهض)
أكذا تذل الملوك؟ ويحكم! اذهبوا عني (يتحرك عن العرش)
لن أنتظر حتى يأتي من بعثتم في طلبه (يهم بالذهاب) .
بيبرس :
سيوفكم يا رجال (يجردون السيوف ويلزمون الأبواب)
إنك لا تملك الآن شيئا، بقاؤك وذهابك ملك للأمة ووقف على منفعتها، فإذا أنت لم تقف حتى تلاقي من لا بد من ملاقاته باسمها، فكأنما نزلت عن العرش، ولن تعدم مصر من رجالها ملكا.
طوران :
لا أريد سلطنتكم، دعوني أرجع إلى كيفا.
4
صبيح (يطل) :
جاء ري دوفرانس.
بيبرس :
خذوا هذا الأمير (مشيرا إلى السلطان)
إلى غرفة الحلقة حتى حين ... (لسهيل) : سهيل!
سهيل :
مولاي.
بيبرس :
اصعد العرش (يشير بيده إلى العرش) .
طوران (ينظر إلى العرش وإلى الجميع) :
سهيل!
بيبرس (لطوران) :
اصعد عرشك ولا تقم، وأرني جلال بني أيوب، لقد كانوا قوما كابرين (يصعد طوران العرش) . (يدخل ملك فرنسا وعدة من البارونات والملك في ملابس غير ملابسه الأولى لأنها أخذت منه وأرسلت هدايا إلى جند الشام
4
يتبعه صبيح ومسعود).
الملك :
السلام على الملك المعظم طوران شاه، سلطان مصر والشام وحامي حمى الإسلام.
طوران (بتلطف) :
وعليك السلام يا ملك فرنسا المعظم.
الملك (يجلس على الكرسي الذي كانت عليه شجرة الدر ويظل الآخرون واقفين) :
شكرا للسلطان.
طوران :
إنك آذنتنا بالفراق فلا تذكر ما أسأنا به إليك، إنك إن تغلب في بلادنا، ففرانسا باقية، أما نحن فإن نقهر هنا ضاعت بلادنا فإن نكن قد أرهقناك في أسرك فالعذر واضح.
الملك :
أيها الملك العظيم الشأن هنيئا لك أمراؤك، لو كان في الفرنجة مثلهم لعلموا أوروبا مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، والملك منا أيها السلطان إن كان سعيدا وفقه الله إلى وزراء راشدين وأمراء باسلين، وإذ كان لك من هؤلاء عديد كالدر في لبة الحسناء، فهنيئا لك اسمك الخالد وسلطنتك العظيمة، وإذا وجب علي أن أذكر للمحسن إحسانه فإني أخص به الأمير بيبرس البندقداري، والأمير العظيم محسن الذي أسرني بسيفه وإحسانه معا، والفارس المعلم أقطاي، وهذا الكاتب الأمين (مشيرا إلى سهيل)
وذلك الحارس البار الكريم (مشيرا إلى صبيح، وصبيح يسلم بكلتا يديه)
5
وإخوانهم أعلام البحرية الذين حموا رقابنا أن يضربها الواجدون علينا.
الجميع :
شكرا للملك.
الملك :
لقد أروني إني خدعت فيما بلغت عن القوم، ولو بصرني ربي بأمركم من قبل ووفقني إلى سر دينكم ما ألقيت بقومي في مقاتلتكم، ولكني زعمت إني أزدلف إلى الرب، ولولا حسن نيتي لكنت اليوم في الهالكين.
طوران :
نحمد الله على ذلك، لا نريد فوق ذلك شيئا إلا أن تعدنا أيها الملك ألا تغامر بقومك في قتالنا بعد اليوم.
الملك :
لك عهد مني أيها السلطان.
طوران :
شكرا للملك، والآن ما قدر الدية؟
الملك :
ألف ألف بيزانطي أيها السلطان، هكذا اتفقنا.
طوران :
إنك كبير النفس أيها الملك، كيف رضيت بهذا القدر؟
الملك :
رضيت به فداء لقومي.
طوران :
إذن فإني أنزل لك عن مئتي ألف منها إعجابا بعلو نفسك أيها الملك العظيم.
الملك :
شكرا للسلطان.
طوران :
ألا ينزل لي الملك عن حصني الإسبطاريين والهيكليين بالشام؟
الملك :
لا أملك ذلك أيها السلطان، إني أملك دمياط وقد نزلت لك عنها.
طوران :
وكيف تدفعون الدية؟
الملك :
نصفها يوم وصولي إلى دمياط وسأترك أخي هذا (مشيرا إلى بواتيه)
رهينة عندكم حتى يأتيكم المال.
طوران :
وكيف يدفع النصف الباقي؟
الملك :
يوم أصل إلى عكاء، إني لا أملك الآن شيئا، ولا تملك الملكة إلا قدر ذلك النصف.
طوران :
ولكنا لا نرضى أن يكون بيننا وبينكم بعد رحيلكم إلا المودة التي نرجوها، وفي انتظار المال شيء من الريبة وقد تذكرون لنا أمرا لم يكن في الحسبان.
الملك :
ألا يكفي السلطان وعدي؟
طوران :
أعذرت أيها الملك.
الملك :
إذن فليضمني الأمير بيبرس.
بيبرس (يتقدم) :
على ضمان الملك يا مولاي، إن للأبطال في قلوب الرجال ذمة
نحن قوم لا يملك العطف منا
قلبنا في قتال من عادانا
وإذا ما قضى الحسام من الها
م مناه بكى الحسام حنانا
الملك :
شكرا لبيبرس.
طوران (حائرا) :
حسبي منه القسم صونا لضمانك يا بيبرس.
الملك :
إذن فأقسم بالله أن أفي لكم بنصف الدين الباقي إذا أنتم أطلقتم سراحي وسراح قومي الأسارى، ثم حفظتم لي أقواتي التي في دمياط حتى آخذها، ولم تقتلوا من بها من المرضى.
6
طوران :
لا يكون القسم كذلك أيها الملك.
الملك :
فكيف يكون إذن؟
طوران :
علينا بهبة الله الطبيب، إنه كان في ملة القوم فهو أدرى باليمين الغموس.
الملك :
اعفني من رؤية هذا الرجل أيها السلطان، قل ما تشاء وعلي تلاوته، إني أكره رؤية المرتد ... المعذرة.
طوران :
إنه كان يتردد على الملك من قبلي معالجا في دار ابن لقمان، فكيف أطقت رؤيته يومئذ؟
الملك :
لم أره وحقك منذ ليلة النجع.
بيبرس :
ليلة النجع!!
طوران :
ولكنه كان يخبرني عنك شيئا كثيرا.
الملك :
لقد كان كاذبا.
طوران :
ياللعجب! (مفكرا)
قبلت بقسمك أيها الملك، والآن إذ قضي الأمر فعلي بالخلع يا سهيل، (ينهض لويس ويسير سهيل إلى الباب الأيمن فيتناول الخلع من مملوك ويقدمها، والخلع موضوعة في ربطة مغطاة بالمخمل المطرز بالذهب)
عاطها لصبيح (يعطيها لصبيح)
تقبل هذه الملابس لسفرتك أيها الملك، إن برد البحر شديد، وسأبعث إليك بفراش لشوانيك التي سنردها إليك.
الملك :
شكرا للسلطان، لقد قلدني منة لا أنساها أبدا، الوداع.
طوران (ينهض نصف نهوض) :
في سلامة الله. (يخرج ملك فرنسا وصبيح وسهيل).
محسن :
كذا تكون شيم الملوك يا مولاي.
أقطاي :
لقد أصبح النصر بما فعلت نصرين أيها السلطان.
طوران (ينزل عن العرش) :
شكرا لكم أيها الأمراء، والآن إذ انتهى أمر الملك فلعلكم ناسون ما قد مضى ذاكرون أني عند ظنكم.
بيبرس :
أطال الله بقاء مولانا الملك المعظم طوران شاه، سلطان مصر والشام وحامي حمى الإسلام.
طوران :
سلام عليكم.
الجميع :
وعلى مولانا السلام. (يخرج السلطان من الباب الأيمن ويهم بيبرس بالخروج من الباب الأيسر).
محسن :
أين تذهب يا بيبرس؟
بيبرس :
أبحث عن هبة الله، لقد كان يتمشى مع السلطان.
محسن :
ولماذا؟ أتستريبه؟
بيبرس :
أجل.
محسن :
ولكنك عفوت عن طوران وقلنا أنصف، أفلا يشمل العفو صحبه؟
بيبرس :
لا أريده لهذا اليوم. إني سمعت الملك لويس يذكر أنه رآه ليلة نجع فارسكور، ماذا كان يصنع هناك؟ (يعود أقطاي من الممشى قائلا) .
أقطاي :
من؟
محسن :
هبة الله.
أقطاي :
وي! بيبرس! أسمعت ما قال الملك؟
بيبرس :
أجل.
أقطاي :
وقد سمعت بعض الأسرى يقولون: إنه أخذ من برنار صاحب النجع أوراقا ذات شأن ثمنا لحياته، فلما أخذها أغرى به السياف فقتله فيمن قتل منذ ليلتين.
بيبرس :
سأبعث في طلبه كل رجالي، هلم.
الجميع :
حسنا (يخرجون من الباب الأيسر ويدخل هبة الله من الباب الأوسط ينظر في المكان) .
هبة :
أين السلطان يا ترى؟ أين الأمراء؟ ترى دس لهم السم في الطعام؟ الظاهر كذلك، مرحى إذن فلا حاجة إلى الرحيل بها عن هذه الديار، إني سأقبحها له الليلة، وهو كالطفل سريع التصديق، فإن أبى سرت بها في ركاب الملك إلى عكاء، ولن أعدم عفوه عني، كيف أبلغ رسالة ابن يغمور؟ (يخرجها من جيبه)
ولكم ما فائدة جيش الشام وقد قضي الأمر؟ (يدخل أقطاي فلا يراه هبة الله، وإذ يدنو منه يتنبه ويحاول وضع الرسالة في جيبه، ويلتفت أقطاي إلى الوراء مشيرا بيده فيلتفت هبة الله)
ألا يزالون في الأحياء! (بصوت عال لأقطاي)
سلام أيها الفارس.
أقطاي :
ما تلك بيمينك؟
هبة :
لا شيء (يضعها في جيبه)
رسالة جاءتني اليوم.
أقطاي :
ممن؟
هبة :
من ...
أقطاي :
ممن؟ أجب.
هبة :
من ... من صديق لي (هنا يدخل بيبرس) .
بيبرس (يتقدم من هبة الله) :
أكنت بنجع فارسكور ليلة جئت بالأميرة صفية؟
هبة (صارخا) :
أنا؟
بيبرس :
أي أوراق أعطاكها برنار؟
هبة (متجاهلا) :
من برنار هذا؟
بيبرس :
فتشه يا أقطاي، أخرج من جيبه ما تجده من الأوراق.
هبة :
إنها رسالة خاصة بي أيها الأمير، كيف تطلع على أسراري؟
أقطاي :
هاتها.
هبة :
إليكها (يخرج من جيبه ورقة ويمزقها ثم يرميها على الأرض) .
بيبرس :
آه يا شقي.
أقطاي :
ويل لك يا لعين (يميل فيجمع قطع الأوراق ويضعها جنبا إلى جنب على أحد الكراسي ويحاول أن يقرأها، ويقف بيبرس ينظر إليه متفرسا مدة ثم يصرخ في وجهه قائلا) .
بيبرس (صارخا) :
ويحك يا لعين، أين صفية؟
هبة (يصفر وجهه) :
صفية! من ذا يدريني أين هي؟
بيبرس :
قل لي أين هي؟ إني أشم ريحها في ردنك، وأرى شبحها في عينك، قل لي. وإلا قتلتك، إن قلبي لا يخدعني.
هبة :
ما عهدي بك ظالما يا بيبرس، أتأخذ البريء بالشبهات.
بيبرس :
يا رباه.
أقطاي (يصرخ فرحا) :
بيبرس، تعال، اقرأ (يذهب بيبرس إليه) .
هبة :
دعوني أذهب، إنكم قوم لا تطاقون.
بيبرس :
مكانك!
أقطاي (ينهض) :
ويحك، قف (يهجم عليه)
أين ابنتي عائشة؟ أين التي سميتها مريم (يأخذ بخناقه ) .
هبة :
وي! لقد أخطأت الرسالة! قضي الأمر.
أقطاي :
أين هي؟ قل لي أين هي؟
هبة :
إنك أحرقت قلبي على أمها وهي جارية، ولن تراها.
بيبرس (ينهض) :
ويحك! أين صفية؟ لقد كانت معها.
أقطاي :
يالله!
هبة :
ولن تراها أنت أيضا، بعدي الطوفان، اقتلني تؤجر.
بيبرس (يصرخ صرخة يأس وجزع) :
يا رحمة الله! (هنا تأتي مريم وصفية من الباب الكبير هارعتين إلى الإيوان ووراءهما سهيل) .
صفية :
بيبرس!
مريم :
بيبرس!
بيبرس :
لبيك (وإذ يلمح صفية يجري إليها ويحتضنها وتتعلق مريم بردنه)
يا مالكة اللب إن ربي لرحيم كريم.
مريم (ترى هبة الله فتجري إليه تضربه على كتفه) :
أين أبي يا قاسي الفؤاد؟ قل لي: أين أبي؟
أقطاي (يفتح ذراعيه لمريم) :
أنا أبوك يا مريم! تعالي يا عائشة، تعالي! تعالي (يتهدج صوته ويبكي) .
مريم :
أنت أبي؟
بيبرس :
أجل أبوك يا مريم، أبوك!
مريم (تجري إلى أقطاي) :
أبي! (تحتضنه)
وافرحتاه!
أقطاي :
تعالي يا بنيتي (يأخذها إلى المقعد ويجلس فرحا بها) .
بيبرس :
أين كنت يا صفية؟
صفية :
سل هذا الخائن، سل هذا اللعين (مشيرة إلى هبة الله) .
بيبرس (مشيرا إليه) :
إلى النطع يا سهيل.
سهيل (يجري إليه فيأخذه قسرا) :
هلم.
صفية :
كنا على وشك الرحيل إلى عكاء في سفينة أعدها لنا هذا الخائن منذ الصباح.
بيبرس :
كيف؟
صفية :
لقد اختطفني مخدرة من منزل الأمير فخر الدين.
بيبرس (يلتفت فيرى هبة الله على وشك النزول من الباب الأيسر فيجري مهتاجا إليه) :
إذن فلأختطفن روحه بيدي (يقتله عند الباب) .
هبة (صارخا ألما واحتضارا) :
آه ... آه.
أقطاي (للأميرة) :
كيف جئت يا سيدتي؟
صفية :
رأت مريم الملك على الشاطئ فنادته فجاءنا وردنا إلى رحمة الله!
بيبرس :
بل ردك الله إلي يا صفية. (يدخل ملك فرنسا من الباب الأكبر، ومحسن من الباب الأيسر يتبعه سهيل وإذ يراه الجميع يصيحون).
الجميع :
يعيش ري دوفرانس.
الملك :
يعيش حماة النيل.
অজানা পৃষ্ঠা