قال: «إن كنت تصدقين ذلك فعلا، وهو أمر يستحيل تصديقه، فأنت تتقبلينه بهدوء شديد.» «كان لدي الوقت الكافي لأعتاد هيبته. أما الآن فتهمني أكثر الخطوات العملية.»
ساد الصمت. ثم قالت، وكأنما أمامها الوقت بطوله لتستغرق في ذكرياتها: «كنت في السابعة والعشرين من عمري عندما حدثت أوميجا، وكنت أعمل في قسم الولادة بمستشفى جون رادكليف. كنت أقوم بمناوبة في عيادة متابعة الحمل حينها. وأذكر أني كنت أحجز موعدا لمريضة لزيارتها القادمة عندما لاحظت فجأة أن الصفحة لم يكن بها أي مواعيد محجوزة لمدة سبعة أشهر قادمة. لم يكن يوجد بها ولا اسم واحد. عادة كانت النساء يحجزن مواعيد الكشف عندما يتأخر عنهن الحيض لشهرين، وبعضهن كن يأتين بمجرد أن يتأخر لشهر واحد. لكني لم أجد ولا حتى اسما واحدا. تساءلت في نفسي ما الذي يحدث لرجال هذه المدينة؟ ثم اتصلت بصديقة لي تعمل في مستشفى كوين شارلوت. فأخبرتني أن الوضع مماثل لديها. وقالت إنها ستتصل بشخص تعرفه يعمل بمستشفى روزي للولادة بكامبريدج. واتصلت بي بعدها بعشرين دقيقة. كان الوضع مماثلا هناك أيضا. حينها عرفت، ولا بد أنني كنت من أوائل من عرفوا بالأمر. شهدت النهاية بعيني. والآن سأشهد البداية.»
كانا حينها يدخلان إلى سواينبروك، فخفف من سرعته وأطفأ الأنوار الأمامية وكأنما ستجعلهما تلك الاحتياطات بطريقة ما غير مرئيين. لكن القرية كانت مهجورة. كان القمر اللامع يتهادى في السماء التي بدت كوشاح حريري يهتز متأرجحا بين الرمادي والأزرق، وتلتمع فيها بضع نجمات بعيدة. كانت الليلة أقل ظلاما مما توقع، وكان الهواء هادئا عليلا، يحمل رائحة العشب. تحت ضوء القمر الشاحب، التمعت الأحجار الملساء بوهج خافت بدا كأنما يغمر الهواء فكان يرى بوضوح معالم المنازل ذات الأسطح العالية المنحدرة وأسوار الحدائق التي تتدلى منها الأزهار. لم تكن ثمة أي نوافذ مضاءة، وكانت القرية تسبح في صمت وخواء مثل موقع تصوير فيلم مهجور، ظاهريا يبدو راسخا وباقيا لكنه لن يدوم طويلا، فالحوائط المطلية التي لا يدعمها سوى دعائم خشبية كانت تخفي وراءها الحطام المتعفن لسكانها الذين هجروها. لوهلة تخيل أنه إن استند إلى أحد تلك الحوائط، فستنهار لتصبح كومة من الجص والعوارض الخشبية المتهالكة. وشعر أن القرية بدت مألوفة له. حتى في ذلك الضوء الواهن استطاع أن يميز معالمها؛ المرجة الخضراء الصغيرة المجاورة للبركة وشجرتها العملاقة التي تظللها والمقاعد المحيطة، ومدخل الزقاق الضيق المؤدي إلى الكنيسة.
كان قد جاء إلى هنا من قبل، مع زان، في عامهما الأول بالجامعة. كان يوما شديد الحرارة في أواخر يونيو حينما كانت أكسفورد مكانا يفر منه الناس؛ إذ كانت أرصفتها الحارة تعج بالسياح، وهواؤها معبقا بعوادم السيارات ويعلو فيها صخب اللغات الأجنبية، التي غزا ناطقوها ساحاتها الجامعية الهادئة. كانا يسيران بالسيارة في طريق وودستوك دون وجهة محددة عندما تذكر ثيو رغبته في زيارة كنيسة أوزولد في قرية ويدفورد. لم يكن ثمة فارق بين تلك الوجهة وغيرها. أسعدهما أن صار لرحلتهما هدف، فسلكا الطريق المؤدي إلى سواينبروك. كان ذلك اليوم في ذاكرته بمثابة رمز يستحضره ذهنه للصورة المثالية للصيف الإنجليزي؛ بسمائه الزرقاء الساطعة التي تكاد تخلو من الغيوم، والغشاوة التي صنعها نبات السرفل البري، ورائحة العشب المجزوز، والهواء القوي الذي يتخلل شعرهما. يمكن لتلك الذكرى أن تستحضر أشياء أخرى أيضا، أشياء أسرع زوالا بعكس الصيف، أشياء فقدت للأبد؛ الشباب والثقة بالنفس والبهجة وأمل الوقوع في الحب. لم يكونا في عجلة من أمرهما. خارج سواينبروك كانت تقام مباراة كريكيت محلية فركنا السيارة وقعدنا على ضفة البحيرة المكسوة بالعشب وراء السور الحجري لمشاهدتها وانتقاد اللاعبين والتصفيق لهم. ثم ركنا السيارة مرة أخرى في المكان نفسه الذي ركن فيه السيارة الآن، بجوار البحيرة، ومشيا في نفس الطريق الذي هو بصدد أن يسلكه مع ميريام، مرورا بمكتب البريد القديم، وعبر الزقاق الضيق المرصوف بالأحجار الذي يحده عن الجانبين سور عال يكسوه اللبلاب، إلى كنيسة القرية. وكان يقام حينها حفل معمودية. كان ركب صغير من القرويين يسير في الممشى باتجاه رواق الكنيسة، يتقدمه الأبوان، الأم تحمل رضيعها الذي ألبسته رداء المعمودية الأبيض الفضفاض، والنساء يرتدين قبعات تزينها الورود، والرجال، خجلين قليلا، يتعرقون في بذلاتهم المحكمة الزرقاء والرمادية. تذكر أنه شعر أن ذلك المشهد لا يحده زمان، وللحظة تسلى بتخيل حفلات تعميد جرت في أزمنة سابقة تغيرت فيها الأزياء لكن لم تتغير الوجوه الريفية، التي ارتسم عليها مزيج من العزم والترقب والبهجة. فكر حينها كما يفكر الآن بانقضاء الزمن، الزمن القاسي عديم الشفقة الذي لا سبيل إلى إيقافه. لكن تلك الفكرة حينها كانت مجرد تمرين ذهني يخلو من الألم أو الحنين إلى الماضي، فقد كان الزمن لا يزال ممتدا أمامه، وبدا كالدهر لشاب في التاسعة عشرة من عمره.
الآن، بينما كان يلتفت لإغلاق السيارة، قال: «إن كان مكان اجتماعكم هو كنيسة سانت أوزولد، فالحاكم يعرفها.»
أجابت بهدوء: «لكنه لا يعلم أننا نعرفها.» «سيعلم ذلك عندما يتكلم جاسكوين.» «جاسكوين أيضا لا يعلم. فهذا مكان اجتماع احتياطي أبقاه رولف سرا عنا تحسبا لأن يعتقل أحدنا.» «أين ترك سيارته؟» «أخفاها في مكان ما بعيدا عن الطريق. فقد خططوا لأن يقطعوا آخر ميل تقريبا من الطريق سيرا على الأقدام.»
قال ثيو: «عبر الحقول الوعرة، وفي الظلام. ليس مكانا يسهل الهروب منه سريعا.» «أنت محق، لكنه منعزل وغير مستخدم، كما أن الكنيسة مفتوحة طوال الوقت. لن نضطر للتفكير في مهرب سريع إن كان مكاننا لا يعرفه أحد.»
قال ثيو في نفسه إنه لا بد أنه يوجد مكان أنسب، ومرة أخرى شعر بشك في كفاءة رولف في التخطيط والقيادة. أراحه ازدراؤه لرولف، فقال في نفسه: هو يملك الوسامة والقوة لكنه لا يمتلك قدرا كبيرا من الذكاء، فهو مجرد همجي طموح. كيف، بحق السماء، تزوجت به؟
وصلا إلى نهاية الزقاق فانعطفا يسارا إلى ممر ضيق يغطيه التراب والحجارة ويحده من الجانبين سور يكسوه اللبلاب، وعبرا فوق عائق ماشية ومنه إلى الحقل. أسفل التل إلى اليسار كان يوجد بيت مزرعة منخفض لا يذكر أنه كان قد رآه من قبل.
قالت ميريام: «إنه خاو. القرية بأكملها صارت الآن مهجورة. لا أعلم لماذا يحدث ذلك في بعض الأماكن دون غيرها. أعتقد أنه عندما تغادر بضع عائلات كبيرة، يصيب الهلع العائلات الأخرى وتحذو حذوها.»
অজানা পৃষ্ঠা