ورغبة منه في كسر أجواء العزلة التي كانت تخيم بشدة على المباني والشوارع، قال: «أتيت إلى هنا آخر مرة منذ ثلاثين عاما. لم يتغير المكان كثيرا.»
وضعت يدها على نافذة السيارة وقالت: «بل تغير يا سيدي، تغير. لكن لا يزال ذا سوان فندقا. لا يأتينا زبائن كثيرون بالطبع، فالناس الآن ينزحون من البلدة. فكما تعلم، تحدد موعد لإخلائها. فالحكومة لن تستطيع ضمان توفير الطاقة أو الخدمات في النهاية؛ لذا ينتقل سكانها إما إلى إبسويتش أو نورويتش.» تساءل بضيق، لم العجلة؟ فزان حتما يستطيع إمداد تلك البلدة بالخدمات لعشرين عاما أخرى.
في النهاية، أوقف سيارته في الساحة الخضراء الصغيرة في آخر شارع ترينيتي، وانطلق يسير في الطريق المؤدي إلى أعلى الجرف متجها إلى الرصيف البحري.
كان البحر الرمادي يتماوج ببطء تحت السماء ناصعة البياض، التي لا يشع إلا ضياء واهن من خط أفقها وكأن الشمس متقلبة الأطوار على وشك أن تشرق مرة أخرى من وراء السحب. علت مجموعات من السحب الرمادية والداكنة السحب الخفيفة الشفافة فبدت السماء مثل ستار نصف مرفوع. على مسافة ثلاثين قدما بالأسفل، كان يرى جوف الأمواج المزركشة التي كانت تعلو ثم لا تلبث أن تنحسر بإنهاك لا مناص منه، وكأنما أثقلتها الرمال والحصى. اعترى الصدأ سور الممر الشاطئي الذي كان يوما ما نظيفا وأبيض، وتكسرت أجزاء منه، وبدا كأن المنحدر المعشب بين الممشى وأكواخ الشاطئ لم يشذب منذ أعوام. فيما مضى كان سيرى في الأسفل صفا طويلا من الأكواخ الخشبية اللامعة ذات الأسماء المدللة السخيفة التي امتدت قبالة البحر كبيوت الدمى المطلية بألوان زاهية. أما الآن، فكان يتخلل الصف فراغات كأنها أسنان مفقودة في ثغر نخرت أسنانه، وما بقي منها كان متداعيا، تقشر طلاؤه، وربط دون تثبيت إلى أوتاد مغروسة على ضفة البحر، بانتظار أن تذروه العاصفة التالية. كان ارتفاع الحشائش الجافة من حوله يصل إلى الخصر، يتدلى منها قرون حبوب جفت، يحركها بعشوائية النسيم الذي لم يغب يوما عن ذلك الساحل الشرقي.
كان من الواضح أن السفينة لن تبحر من الرصيف البحري نفسه بل من مرفأ شيد بجواره خصيصى لذلك الغرض. كان بوسعه أن يرى من بعيد القاربين المنخفضي السطح، اللذين زين سطحاهما بأكاليل من الزهور، وعلى شفا الرصيف البحري المطل على المرفأ، رأى مجموعة صغيرة من الأشخاص يرتدي بعضهم، حسب ظنه، زيا موحدا. على مسافة ثمانين ياردة تقريبا أمامه، اقتربت ثلاث حافلات في الممشى. بينما كان يدنو منها، بدأ ركابها في النزول. نزلت أولا مجموعة صغيرة من أفراد فرقة موسيقية يرتدون سترات حمراء وسراويل سوداء. وقفوا في تجمع صغير غير منظم يتجاذبون أطراف الحديث، بينما انعكس ضوء الشمس متلألئا على آلاتهم النحاسية. صفع واحد منهم من يقف بجواره ممازحا إياه. ولبضع ثوان تظاهرا بأنهما يتعاركان، ثم ما لبثا أن سئما ذلك المزاح الخشن، فأوقدا سيجارتين ووقفا يتطلعان إلى البحر. بعدهم نزلت المسنات، اللواتي كان منهن القادرات على المشي دون مساعدة، ومنهن من كن يتكئن على الممرضات. فتحت حجيرة الأمتعة بأحد الحافلات وأخرج منها عدد من الكراسي المتحركة. وأخيرا، تلقت أوهن المسنات المساعدة على الخروج من الحافلة والجلوس على الكراسي المتحركة.
وقف ثيو على مسافة منهم يشاهد الطابور الهزيل من العجائز مقوسات الظهر وهن ينزلن بصعوبة المنحدر الذي يمر في منتصف الجرف، في طريقهن للأكواخ الشاطئية المشيدة على الممشى السفلي. فجأة فهم ما كان يحدث. كانوا يستخدمون الأكواخ كي تبدل فيها النساء المسنات ملابسهن ويرتدين أرديتهن البيضاء، تلك الأكواخ التي ظل صدى ضحكات الأطفال يتردد بين جدرانها لعقود طويلة، لكن أسماءها، التي لم يفكر فيها منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، وردت على ذهنه دون أن يستدعيها، تلك الأسماء السخيفة السعيدة التي كانت بمثابة احتفاء بالعطلات العائلية: «منزل بييت»، «بيت المحيط»، «كوخ نسيم البحر»، «كوخ السعادة». وقف متشبثا بسور الممشى أعلى الجرف، يراقب المشهد بينما تساعد الممرضات السيدات المسنات، اثنتين اثنتين، على صعود سلالم الأكواخ ودخولها. أثناء ذلك، وقف أفراد الفرقة الموسيقية يشاهدون لكن لم يتحرك منهم أحد. بعدها تشاوروا قليلا فيما بينهم، وأطفئوا سجائرهم، ثم حملوا آلاتهم الموسيقية ونزلوا الجرف، واصطفوا في صف ووقفوا منتظرين. كان السكون غامضا مخيفا. وراءه كان يقف صف من المنازل الفيكتورية المهدمة الخاوية، مثل نصب تذكاري بال شاهد على أيام سعيدة ولت. بالأسفل كان الشاطئ مهجورا، ولم يكسر الصمت إلا زعيق النوارس.
بعد ذلك بدأت السيدات العجائز في النزول من الأكواخ بمساعدة الممرضات ويصطففن في طابور. كان جميعهن يرتدين أردية بيضاء طويلة، ربما كانت أردية نوم، فوقها أوشحة وأردية خارجية صوفية فضفاضة، كانت ضرورية لتدفئتهم من الرياح الشديدة. كان ممتنا لدفء معطفه المصنوع من قماش التويد. كانت كل واحدة منهن تحمل باقة زهور صغيرة فبدون مثل مجموعة من وصيفات عروس شعثاوات الرءوس. وجد نفسه يتساءل عمن جهز الزهور وفتح الأكواخ، وترك أردية النوم المطوية لذلك الغرض. لا بد أن الحدث، الذي كان يبدو بأكمله عفويا وتلقائيا، قد جهز له بعناية. ولاحظ للمرة الأولى أن الأكواخ الواقعة في ذلك الجزء من الممشى السفلي قد أصلحت وطليت حديثا.
بدأت الفرقة بالعزف بينما تقدم الموكب ببطء في الممشى السفلي باتجاه الميناء. عندما دوى صوت آلات العزف كاسرا الصمت، اعتراه شعور بالغضب العارم والشفقة الشديدة. كانوا يعزفون ألحانا أغاني مبهجة، ألحانا من زمن جديه، أغاني عسكرية من الحرب العالمية الثانية لم يتذكر أسماءها في بادئ الأمر. ثم بدأت ذاكرته في استحضار بعض أسمائها: «الوداع يا بلاكبيرد»، و«أحد خطف حبيبتي»، و«في مكان ما فوق قوس قزح». عندما دنوا من الميناء، تبدلت الموسيقى وميزت أذناه ألحان ترنيمة «امكث معي». بعد أن عزفت ألحان المقطع الأول، وبدأت النغمة مرة أخرى، أتاه من أسفل صوت مواء متحسر يشبه صوت طيور البحر، ما لبث أن أدرك أنه صوت غناء النسوة العجائز. بينما كان يشاهد، بدأت بعض النسوة يتمايلن مع الموسيقى وهن يفردن أطراف أرديتهن البيضاء ويدرن حول أنفسهن بخطوات متعثرة. خطر لثيو أنهن ربما يكن قد خدرن.
تبعهم نحو الميناء مجاريا وتيرة آخر زوجين في الطابور. أصبح المشهد أسفل منه واضحا. كان يوجد حشد من حوالي عشرين شخصا فقط، ربما كان بعضهم من الأقارب والأصدقاء، لكن أغلبهم كانوا من أفراد شرطة الأمن الوطني. تبادر إلى ذهن ثيو أن القاربين الذاتيين المنخفضي السطح ربما كانا فيما سبق صندلين صغيرين لم يبق منهما سوى هيكليهما اللذين جهزا بصفوف من المقاعد. كان على متن كل قارب من القاربين جنديان، وبينما كانت النسوة يصعدن على متنهما واحدة تلو الأخرى، كانا ينحنيان إما لتصفيد كواحلهن أو لربطها بالأثقال. اتضحت له الخطة من الزورق البخاري الذي كان راسيا في الميناء نفسه. بمجرد أن تغيب السفينتان عن الأنظار، سيغرقهما الجنود ثم يصعدون على متن القارب البخاري ويعودون به إلى الشاطئ. كانت الفرقة الموسيقية على الشاطئ تعزف ألحان أغنية «نمرود» لإلجار. كان الغناء قد توقف فلم يصل إلى أذنيه إلا صوت تلاطم الأمواج المتتابعة على حصى الشاطئ أو بضعة أوامر عابرة لفظت بصوت منخفض حملتها له نسمات الهواء المخلخل.
قال في نفسه إنه رأى ما يكفي. لن يكون عليه حرج إن عاد إلى سيارته الآن. كان كل ما يريده هو أن يقودها بسرعة مبتعدا عن تلك البلدة الصغيرة التي لم ير منها إلا العجز والوهن، والخواء والموت. لكنه كان قد وعد جوليان بأنه سيشهد فعالية راحة الموت، ولا بد أن هذا يعني أن يبقى حتى يغيب القاربان عن الأنظار. وكأنما أراد تعزيز نيته؛ إذ سار نازلا الدرجات الإسمنتية من الممشى العلوي للشاطئ. لم يعترض أحد طريقه ليأمره بالمغادرة. لم يبد أن أحدا من جماعة الموظفين من ممرضات وجنود وحتى أفراد الفرقة الموسيقية قد لاحظ حتى وجوده، فقد كان كل منهم منشغلا بتأدية دوره في مراسم الموت تلك.
অজানা পৃষ্ঠা