تبعته إلى غرفة الجلوس الواسعة في ظهر المنزل بنوافذها الفرنسية المطلة على الشرفة والحديقة. كانت حوائطها مغطاة تماما بالكتب كما كان الحال في مكتبه. وكانت، كالعادة، مرتبة حد الوسواس، فكان كل ما بها من أثاث وكتب وتحف في موضعه بدقة. لكني لاحظت، لأول مرة، علامات تنذر ببوادر إهمال، كزجاج النوافذ الملطخ، وبعض فتات طعام على السجادة، وطبقة غبار رقيقة على رف المدفأة. ومع أن مدفأة كهربائية كانت تشع خلف شبكة المدفأة، فإن الغرفة كانت باردة. قدم لي جاسبر شرابا، وقبلت مع أني لا أفضل شرب النبيذ في فترة العصر. لاحظت أن عدد الزجاجات المرصوصة بسخاء على الطاولة الجانبية كان أكبر مما كان أثناء زيارتي الأخيرة. كان جاسبر من القلائل الذين أعرفهم ممن يستخدمون النبيذ الفرنسي الأحمر مشروبا مسكرا لجميع المناسبات والأوقات.
كانت هيلدا تجلس بجوار المدفأة، وحول كتفيها سترة صوفية. كان نظرها مثبتا إلى الأمام، ولم تنطق بأي عبارة ترحيب أو حتى تنظر نحوي، وعندما حييتها لم تبد أي رد فعل سوى إيماءة سريعة. كان التغير البادي عليها ملحوظا أكثر حتى من التغير الذي طرأ على جاسبر. لسنوات، لم أر أي تغير يطرأ على مظهرها، أو هكذا بدا لي: الجسد النحيف والقامة المنتصبة، والتنورة المتقنة الصنع من التويد ذات الطيات الثلاثة المزدوجة والقميص الحريري ذو الياقة العالية، والسترة المصنوعة من صوف الكاشمير، والشعر الرمادي الغزير المعقود بعناية على هيئة كعكة أعلى رأسها. أما الآن فكان الطعام المتخثر يلوث مقدمة سترتها التي كادت تنزلق عن كتفيها، وكانت جواربها الطويلة القذرة تتدلى في طيات مهلهلة فوق حذائها المتسخ، وخصلات شعرها مبعثرة حول وجهها الذي ارتسم على ملامحه استنكار منفر. تساءلت حينها، كما كنت أتساءل في زيارات سابقة، عما ألم بها. لا يمكن أن يكون مرض آلزهايمر الذي سيطر عليه الأطباء بشكل كبير منذ أواخر التسعينيات. لكن ثمة أنواعا أخرى من خرف الشيخوخة التي لا يزال اهتمامنا العلمي، المهووس بمشاكل الشيخوخة، عاجزا عن شفائها. أو ربما هرمت فحسب، أو ربما كانت متعبة فقط، ولا تطيق وجودي. أعتقد أن الشيخوخة تتيح للمرء ميزة التقوقع داخل عالم خاص به، لكنها لا تكون ميزة إن كان عالمه هذا جحيما.
تساءلت في نفسي لم استدعاني لزيارته؟ لكني لم أحب أن أسأله مباشرة. أخيرا قال جاسبر: «ثمة أمر أردت مناقشته معك. أنا أفكر في الانتقال لأكسفورد مرة أخرى. كان آخر بث للحاكم هو ما جعلني أحسم أمري. من الواضح أن خطته النهائية هي أن ينتقل الجميع إلى المدن حيث يمكن تركيز المرافق والخدمات. قال إنه لن يمانع أن يظل من يودون البقاء في المقاطعات المعزولة موجودين فيها، لكنه لن يستطيع أن يضمن وصول الإمدادات، من كهرباء أو وقود لوسائل النقل، إليهم. ونحن معزولان للغاية هنا.»
قلت: «وما رأي هيلدا في ذلك؟»
لم يكلف نفسه حتى عناء النظر إليها. وقال: «هيلدا ليست في وضع يسمح لها بالاعتراض. أنا من يعتني بها. وإن كان ذلك سيسهل الأمر علي، فهو ما يجب فعله. خطر لي أنه قد يناسب كلينا - أعني أنا وأنت - إن شاركتك منزلك بشارع جون ستريت. فأنت لا تحتاج إلى ذلك المنزل الضخم. ويوجد مساحة تكفي لتحويلها إلى شقة منفصلة في الطابق العلوي. سأتحمل أنا نفقة تلك التعديلات بالطبع.» هالتني الفكرة. وأتمنى أن أكون قد نجحت في إخفاء امتعاضي منها. سكت وكأني أتدبر الفكرة، ثم قلت: «لا أعتقد أن ذلك سيناسبك حقا. فسوف تفتقد كثيرا وجود حديقة. وسيكون صعود الدرج صعبا على هيلدا.»
ساد الصمت برهة ثم قال جاسبر: «أفترض أنك سمعت عن «الراحة الأبدية»، فعالية الانتحار الجماعي للمسنين، أليس كذلك؟» قلت: «لا أعرف عنها إلا ما قرأته باختصار في الصحف أو شاهدته على التلفاز.»
تذكرت لقطة، أظن أنها الوحيدة التي عرضت في التلفاز: أشخاص مسنون يتشحون بملابس بيضاء يجرون على مقاعد متحركة أو يسندون للصعود على متن سفينة تشبه الصندل، وسط أصوات الغناء العالية الحادة، ثم تبحر بهم السفينة ببطء في ضوء الغسق في مشهد يبعث على السكينة، وجرى تصويره وإضاءته بدهاء.
قلت: «أنا لا أحبذ الموت الجماعي. الانتحار فعل يجب أن يكون له خصوصيته مثله مثل الجنس. إن أراد المرء قتل نفسه، فالوسائل متاحة دائما، إذن لماذا لا يفعل ذلك وهو مرتاح في سريره؟ أفضل أن أحقق «راحتي الأبدية» بطعنة من خنجر مسلول.»
قال جاسبر: «لا أعلم، يوجد أناس يحبون أن يجعلوا من طقوس الرحيل تلك حدثا. الأمر يحدث في جميع أنحاء العالم بشكل أو بآخر. أظن أنهم يجدون نوعا من السلوى في الأعداد، وفي المراسم. كما أن أقاربهم الأحياء يحصلون على معاش من الدولة. معاش ليس بزهيد، أليس كذلك؟ كلا، أعتقد أني أرى ميزات الأمر. كانت هيلدا تتحدث عنه منذ أيام قلائل.»
استبعدت ذلك. بوسعي أن أتخيل رأي هيلدا التي عرفتها في مثل ذلك الاستعراض العلني للمشاعر والتضحية. كانت في أوج نجاحها أكاديمية من العيار الثقيل، وكان الناس يقولون إنها أمهر من زوجها الذي كانت تدافع عنه بشراسة بلسانها اللاذع. بعد زواجها قلت وتيرة نشرها للكتب وإلقائها للمحاضرات، وخبت موهبتها وشخصيتها تحت تأثير عبودية الحب المريعة.
অজানা পৃষ্ঠা