حصلت على ما جاءت من أجله فلم تطل البقاء. بالكاد سمعها تتمتم: «شكرا لك، شكرا لك.» ثم انسلت من جانبه بسرعة وبهدوء شديدين كما لو كانت أحد ظلال الرواق الكثيرة المتحركة.
تلكأ قليلا حتى لا تكون ثمة فرصة لأن يلحق بها، ثم مشى وحيدا صامتا إلى منزله.
الفصل السابع
السبت 30 يناير 2021
في الساعة السابعة من صباح اليوم، هاتفني جاسبر بالمر سميث وطلب مني زيارته بخصوص أمر عاجل. لم يقدم لي أي تفسير، لكن تلك هي عادته. قلت له إنني أستطيع موافاته بعد الغداء مباشرة. في الآونة الأخيرة، أصبحت استدعاءاته التي تزداد حسما أكثر تكررا. كان من قبل لا يطلب لقائي إلا مرة تقريبا كل ثلاثة أشهر؛ أما الآن فصارت مرة كل شهر. كان يدرس لي التاريخ عندما كنت طالبا، وقد كان مدرسا رائعا، على الأقل للطلبة النجباء. عندما كنت طالبا جامعيا، لم أصرح قط بأني معجب به، بل كنت أقول بسماحة عرضية: «لا بأس بجاسبر؛ فأنا منسجم معه إلى حد كبير.» وقد كنت أنسجم معه لسبب مفهوم وإن لم يكن ذا وجاهة؛ فقد كنت الطالب المفضل لديه في دفعتي. كان دائما لديه طالب مفضل. وكانت العلاقة بينه وبين طالبه المفضل تكاد تكون علاقة أكاديمية بحتة؛ فلم يكن مثليا ولا محبا للصبية على الخصوص، وفي الواقع لا يخفى على أحد كرهه الشديد للأطفال، وعادة كان مضيفوه يخفونهم عن نظره في المرات النادرة التي كان يمن عليهم فيها بقبول دعوة عشاء خاصة. لكن كل عام كان يختار طالبا جامعيا، دائما ما يكون ذكرا، ليخصه باستحسانه ورعايته. كنا نفترض أن المعايير التي يختاره بناء عليها هي الذكاء في المقام الأول، ثم حسن المظهر ثانيا والفطنة ثالثا. كان يتمهل في اختياره، لكن بمجرد أن يختار كان اختياره ذلك نهائيا لا رجعة فيه. لم تكن تلك العلاقة تفرض أي ضغط على الطالب المفضل؛ فبمجرد أن يقع الاختيار عليه، كان يتغاضى عن أخطائه. ولم تكن كذلك تثير الضغينة أو الحقد بينه وبين زملائه، فلم تكن لجاسبر شعبية كبيرة للغاية كي يحاول الطلاب كسب وده، وكان يقر من باب الإنصاف أن الطالب المفضل لم يكن له دخل في اختياره. لا أنكر أنني توقعت أن أحصل على درجتي العلمية مع مرتبة الشرف الأولى، فجميع طلابه المفضلين حصلوا على تلك الدرجة. حينما اختارني كنت أملك من الغرور والثقة ما جعلني واثقا من أن ذلك احتمال وارد، لكنه كان احتمالا لم أكن سأضطر لأن أفكر به إلا بعد عامين على الأقل. لكني اجتهدت لأجله، وأردت أن أرضيه، وأن أبرهن على حسن اختياره. أن يقع الاختيار عليك دون غيرك هو دوما أمر مرض لتقدير الذات، ويشعر المرء بأن من واجبه أن يرد ذلك المعروف، وهي حقيقة تقف وراء زيجات كثيرة لم تكن متوقعة لولا ذلك. ربما كان ذلك أيضا أساس زواجه من زميلة أستاذة رياضيات بكلية نيو كوليدج تكبره بخمسة أعوام. بدا أنهما منسجمان معا، على الأقل وسط رفقائهما، لكن في العموم، كانت النساء تنفر منه بشدة. في مطلع التسعينيات، عندما تزايدت ادعاءات التحرش الجنسي، بدأ حملة باءت بالفشل تكفل وجود مرافقة مراقبة في جميع الدروس الخصوصية التي تقام داخل الجامعة وتضم طالبات استنادا إلى أنه وزملاءه الذكور كانوا عرضة لادعاءات مجحفة. لم يكن أحد يفوقه في قدرته على تحطيم ثقة النساء في أنفسهن، بينما يعاملهن بأدب جم وكياسة تكاد تصل إلى حد الإهانة.
كان صورة هزلية للفكرة الشائعة عن الأستاذ الجامعي بجامعة أكسفورد؛ بجبهته العالية، وشعره المنحسر عن مقدمة رأسه، ونحوله ، وأنفه المعقوف قليلا، وشفتيه المزمومتين. كان يمشي وذقنه ممدود للأمام وكأنما يواجه عاصفة قوية، وكتفاه محدودبتان، وعباءته الباهتة ترفرف في الهواء. توقع المرء أن يرى صورته في مجلة «فانيتي فير» مرتديا قميصا بياقة عالية وممسكا واحدا من كتبه بأصابعه النحيلة النيقة.
أحيانا كان يركن إلي ويعاملني كأنما يعدني لأكون خليفة له. لكن ذلك بالطبع كان محض هراء؛ فقد كان يمنحني الكثير، لكن بعض الأشياء لم تكن مشمولة في منحته. لكن الانطباع الذي يعطيه طالبه المفضل الحالي بأنه ولي عهده جعلني أتساءل بالتبعية عما إذا كانت تلك هي الطريقة التي يواجه بها التقدم في السن، ومرور الزمن، والتبلد الآتي لا محالة لذهنه الحاد الذكاء، وربما كان ذلك مدفوعا بوهم شخصي لديه بالخلود.
دائما ما كان يجهر برأيه في أوميجا، الذي أصبح بمثابة ابتهال تعزية يردده عدد من زملائه، بخاصة أولئك الذين كانوا يختزنون كميات كبيرة من النبيذ أو كان مسموحا لهم باستخدام قبو النبيذ في كلياتهم. «ذلك الأمر لا يقلقني كثيرا. لا أعني بذلك أنني لم أشعر بالندم لوهلة عندما عرفت لأول مرة أن هيلدا عقيمة؛ ففي ظني أن الجينات تحافظ على ضروراتها التأسلية. لكني في المجمل سعيد به؛ فلا يمكن أن تحزن على أن أحفادك لن يولدوا عندما يكون لا أمل في ذلك. هذا الكوكب محكوم عليه بالدمار على أي حال. في نهاية المطاف ستنفجر الشمس أو تتجمد وستختفي ذرة لا قيمة لها في ذلك الكون الهائل دون أي أثر سوى رجة خفيفة. وإن كان محكوما على الجنس البشري بالفناء، فالعقم العالمي وسيلة ليست أكثر إيلاما من غيرها. كما أنه يوجد منافع شخصية في الأمر؛ فطوال الستين عاما الأخيرة كنا نسعى متملقين لاسترضاء أكثر فئات المجتمع جهلا وإجراما وأنانية. والآن ولما تبقى من حياتنا سنعفى من همجية الشباب الفجة ومن ضوضائهم، ومن ذلك القرع المتكرر، المولد بالحاسوب، الذي يدعونه موسيقى، ومن غرورهم المستتر وراء المثالية. يا إلهي، قد نتخلص حتى من عيد الميلاد المجيد، ذلك الاحتفال السنوي الذي يعني شعور الأبوين بالذنب وشعور صغارهم بالطمع. أعتزم أن أصنع لنفسي حياة مريحة، وعندما لا تصبح كذلك، عندئذ سأبتلع حبة الدواء التي ستنهي حياتي بزجاجة من النبيذ الفرنسي الأحمر.»
كانت خطته للبقاء على قيد الحياة ناعما بالراحة حتى آخر لحظة خطة تبناها آلاف الناس في تلك الأعوام الأولى التي سبقت وصول زان للحكم، عندما سادت المخاوف من تفشي الفوضى التامة. كانت تلك الخطة عبارة عن الخروج من المدينة - في حالته من كلاريندون سكوير - إلى منزل ريفي صغير أو كوخ في الريف المشجر له حديقة لإنتاج الغذاء، قريب من جدول ماء عذب، مياهه صالحة للشرب بعد غليها، وموقد حطب مفتوح، ومخزون يكفي لأعوام من الحطب وعلب الطعام المختارة بعناية وأعواد الثقاب، وخزينة أدوية مليئة بالعقاقير والحقن الطبية، والأهم من ذلك كله أبواب وأقفال متينة تحسبا لأن تلتفت يوما ما إلى تدابيرهم تلك أنظار الحاقدين ممن كانوا أقل حذرا. لكن في الأعوام الأخيرة أصبح جاسبر مهووسا. استبدل بالمخزن الخشبي في حديقته بناء من الطوب له باب معدني يتحكم به عن طريق جهاز تحكم عن بعد. وأحاط الحديقة بسور عال، ووضع قفلا حديديا على باب القبو.
عندما أزوره عادة ما أجد البوابة الخارجية المصنوعة من الحديد المطاوع غير موصدة في انتظار قدومي، وأستطيع أن أفتحها وأترك سيارتي في مدخل السيارات القصير المؤدي إلى منزله. لكن عصر ذلك اليوم، كانت مغلقة واضطررت لأن أضغط الجرس. عندما جاء جاسبر ليفتحها لي، صعقت من التغير الذي طرأ على مظهره خلال شهر واحد فقط. كان لا يزال منتصب القامة، ثابت الخطى، لكن عندما اقترب مني رأيت أن جلده المشدود بشدة حول عظام وجهه القوية قد صار أكثر شحوبا، وأن توترا أشد، يكاد يرقى إلى درجة الارتياب، كان باديا في عينيه الغائرتين، وهو ما لم ألاحظه عليه من قبل. التقدم في العمر أمر لا مناص منه، لكنه لا يسير على وتيرة واحدة. ثمة فترات، تمتد لأعوام، يتوقف فيها الزمن وتبدو فيها ملامح الأصدقاء والمعارف كأنما لا تتغير. ثم يتسارع الزمن وخلال أسبوع يحدث التحول. بدا لي كأن ستة أعوام قد أضيفت إلى عمر جاسبر خلال ما يزيد قليلا عن ستة أسابيع.
অজানা পৃষ্ঠা