A Youth Crisis: Causes and Solutions
أزمات الشباب أسباب وحلول
প্রকাশক
دار البشائر
প্রকাশনার স্থান
بيروت لبنان
জনগুলি
أزمات الشباب
أسباب وحلول
تأليف القاضي الشيخ محمد أحمد كنعان
دار البشائر الاسلامية
بيروت لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعين به، ونستغفره ونتوب اليه من جميع ذنوبنا، ونعوذ به تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجينا من عذاب أليم ﴿يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم﴾ . وأشهد أن محمد عبده ورسوله، ورحمته الى العالمين، جاء بالهدى ودين الحق، بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، ونصح لأمته في حاضرها ومستقبلها، وجاهد في الله حق جهاده، فمن أطاع الله ورسوله فقد اهتدى، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ وغوى. أما بعد: ففي قول الله ﷿: ﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾، بيان واضح لمسؤولية الإنسان عن نفسه أولا، ثم عن أهله وأقاربه، وهي مسؤولية لا تتعلق بأمور الدنيا ومعايشها، بل تتعلق بأمور الدين، وعاقبة الانسان في الاخرة، حيث تجد كل نفس عملها، من خير أو شر، وتلقى جزاؤها الأوفى، إما في جنة عالية.. وإما في نار حامية..
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعين به، ونستغفره ونتوب اليه من جميع ذنوبنا، ونعوذ به تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجينا من عذاب أليم ﴿يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم﴾ . وأشهد أن محمد عبده ورسوله، ورحمته الى العالمين، جاء بالهدى ودين الحق، بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانة، ونصح لأمته في حاضرها ومستقبلها، وجاهد في الله حق جهاده، فمن أطاع الله ورسوله فقد اهتدى، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ وغوى. أما بعد: ففي قول الله ﷿: ﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾، بيان واضح لمسؤولية الإنسان عن نفسه أولا، ثم عن أهله وأقاربه، وهي مسؤولية لا تتعلق بأمور الدنيا ومعايشها، بل تتعلق بأمور الدين، وعاقبة الانسان في الاخرة، حيث تجد كل نفس عملها، من خير أو شر، وتلقى جزاؤها الأوفى، إما في جنة عالية.. وإما في نار حامية..
1 / 1
إن الله تعالى يأمر المؤمنين بان يقوا أنفسهم وأهليهم عذاب النار، ومعلوم: أن وسيلة الوقاية من النار، ليست بتجهيز الملابس والأقنعة الواقية من حرّها ولهبها.. ولا بإعداد وسائل إطفاء الحرائق.. بل تحصّل هذه "الوقاية" بأمرين هما: " صلاح العقيدة"، بان تكون عقيدة صحيحة، بمطابقتها لما جاء به رسولنا الأمين محمد ﷺ، و" صلاح العمل"، بان تكون الأعمال صالحة، بموافقتها لشريعته الغرّاء، ومن دون ذلك، فلن يكون للإنسان منجاة من العذاب، ولن يكون له ملجأ أو مفرّ من العقاب يوم القيامة، إلا ما يختصّ به ربنا ﷿ بعض عباده المؤمنين العصاة، من العفو والغفران.
والمستفاد من معنى هذه الأية: إن الإنسان لا يجوز له أن يتلهى بأي شيء من أمور " الدنيا"، عما فيه مصلحته ومصلحة أهله في "الدين"، فيهمل واجباته، ويتخلى عن مسؤولياته، وأنه لا يجوز له أن يلهو عن طاعة الله، برغبات نفسه وشهواتها، أو: يلهو بأمواله وأولاده عن ذكر الله سبحانه وعبادته، باعتبارهم زينة الحياة الدنيا كما قال تعالى: ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾، لأن الله تعالى نهى عن ذلك وحذّر منه في قوله سبحانه: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون﴾ .
إن نطاق "الوقاية" التي أمرنا الله تعالى بها، لا ينحصر في مجال مصلحة النفس والأهل، بل يتعدى هذا النطاق، ليشمل المجتمع كله، عملا بالقاعدة الشرعية الواردة في الحديث الشريف: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
فالمجتمع مترابط بشبكة متكاملة من المسؤولية بدءا من مسؤولية الإنسان عن نفسه، وانتهاء بمسؤولية الراعي عن الرعية، تكفل له في حال وفاء المسؤولية حقها، أن يكون مجتمعا سعيدا ... صالحا ...
1 / 2
كما أن "الوقاية" المطلوبة للنفس وللغير، لا تختص بمرحلة معينة من مراحل حياة الإنسان، دون سواها من المراحل، بل هي واجبة في جميع مراحل الحياة البشرية، ولجميع طبقات المجتمع، من "الطفولة".. حتى:" الموت"..
وقد اهتمّ فقهاؤنا رحمهم الله تعالى في مؤلفاتهم، ببيان واجبات "المسؤول" في كل مرحلة من هذه المراحل، فوضّحوا الأحكام المتعلقة بواجب الأبوين نحو ولدهما، من حين ولادته، حتى يموتا عنه، أو يموت هو عنهما، وفصّلوا أيضا واجبات المعلمين والمرشدين، في تعليم النشء وتربية الشباب، وبينوا كذلك واجبات المجتمع، في التكافل والتضامن، لحمياة المسنين، والعجزة، والمعوّقين، الذين لا معيل لهم، وحدّدوا أيضا واجبات الحاكمين جميعا، - أي:" المسؤولين" أيا كانت وظائفهم - تجاه الشعب كله: أطفالا وشبابا.. كهولا وشيوخا.. رجالا ونساء..
ومما لا شك فيه: أن "مرحلة الشباب" من حياة الانسان، هي المرحلة الأخطر والأدق، باعتبارها بداية التكليف الشرعي، ونشوة العمر وجدّته، ولهذا اهتم المصلحون بالشباب، لرعاية شؤونهم، وتوجيه سلوكهم، وتقويم إنحرافهم، ووقاية أخلاقهم، ليغيشوا حياة سعيدة مستقرّة، ويكونوا سعداء صالحين.
ولا شك أيضا في: أن الشباب في عصرنا، مهملون مضيّعون.. مغشوشون مضللون.. تتخطفهم العقائد الفاشلة.. وتتجاذبهم التيارات الفاسدة.. لا موجّه يوجههم نحو هدف شريف.. ولا قائد لهم يقودهم صوب غاية حميدة.. ولا حاكم يعطيهم جهده واهتمامه، وعطفه وحنانه.. فلذلك: هم في ضياع.. وفراغ.. وصراع.. لا تمتدّ لنجدتهم يد.. ولا يوضع لمأساتهم حد.. ولا تعالج أزماتهم بالجدّ.
تجاه هذا الواقع السيئ لشبابنا.. رأيت من واجبي نحوهم، وهم أبنائي وإخوتي، أن أساعدهم بالنصيحة والرأي، وأعاونهم بالمشورة والتوجيه، فأبيّن لهم أخطر ما يعانون من أزمات ومتاعب، وأعرّفهم على أسبابها.. ومصادرها.. والمسؤول عنها.. وطرق حلها، والخروج منها، والتغلب عليها..
1 / 3
هذا: مع العلم بأن الشباب ليسوا وحدهم الذين يعانون من " الأزمات"، بل إن أزماتهم جزء وبعض من أزمات المجتمع كله، والأزمات في مجتمعنا كثيرة.. ويا للأسف.. والعلاج قليل..
وربما قد يسأل سائل: لماذا ركزتم على "الشباب" من بين طبقات المجتمع؟؟.. ولماذا لا يصب الاهتمام على مرحلة "الطفولة والصبا"، باعتبارها المرحلة التأسيسية الخطيرة في حياة الإنسان؟..
وعن هذا السؤال نجيب: بأننا لا ننكر أهمية مرحلة "الطفولة" في حياة الإنسان، فهي ولا شك المرحلة الأهم، باعتبارها مرحلة الغرس والزرع والتلقين، و"الطفل" يكون فيها كالعجينة اللينة في يد العجّان.. يشكلها فتتشكل، ويعركها فتنعرك.. بلا معاندة ولا معارضة.. فهو يصدّق كل ما يسمع.. ويلقّن العقائد والأفكار والعادات.. فيقبل.. إنه يثق بوالديه ثقة مطلقة.. إذ هو يراهما الصدق كله.. والشجاعة والشهامة والأمانة.. فلا يخطر على باله أنهما قد يلقنانه الضلال، أو يعلمانه الفسوق والعصيان.. أو يكذبان عليه ويغشّانه.. فلذلك هو يأخذ عنهما ويقلدهما من دون تردد، وبلا تحفّظ.. فلو أنهما عوّداه عبادة الخنزير.. لعبده.. ولا عجب في ذلك.. فقد جاء في الحديث الشريف، فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متعددة، عن أبي هريرة، ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ:" من يولد يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه.. أو ينصّرانه.. كما تنتجون البهيمة، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟ "، والجدعاء هي مقطوعة الأذن.
1 / 4
فالطفل حين يبلغ سن التكليف، يأخذ.. ويتلقى.. ويقلد.. ويصدٌق أي شيء.. ولو من الخرافات والأساطير.. فهو إن نشأ مؤمنا، فإيمانه بإيمان أبويه، أو أحدهما، المعزز لفطرته السليمة، وإن نشأ كافرا، فكفره من كفر أبويه اللذين علماه الكفر، وربيّاه عليه، ولكنه لا يبني شيئا من ذلك على قناعة شخصية، ولا على برهان أو دليل مستقل، وهو في هذه المرحلة، غير مطالب بذلك، حتى يصبح مكلفا.
والطفل بسسب واقعه هذا، ليس مسؤولا عن أعماله وتصرفاته، ولا هو مؤاخذ بها، حتى يبلغ سن التكليف، فعندها يصبح مؤاخذا، يثاب ويعاقب، فقد روي الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، عن عدد من الصحابة، رضوان الله عليهمن عن النبي ﷺ: أن القلم قد رفع عن ثلاثة هم: المجنون حتى يبرأ، والنائم حتى يستيقط، والصبي حتى يحتلم.
إن عدم المؤاخذة الشرعية على الطفل في هذه المرحلة، لا يعني أنّ الإنحراف الذي يتعوّده في العقيدة والسلوك لا يضرّه، ولا يؤثّر عليه في المراحل التالية من حياته.. بل إن تلك الإنحرافات، ستنتقل مع الطفل الى مرحلة الشباب، التي هي أولى مراحل التكليف الشرعي، فيصير فيها مكلفا مسؤولا عن أعماله وأقواله، ومؤاخذا بها، فيثاب على الطاعة، ويحمل وزر المعصية.. وعندها سيعاني الشاب من نتائج أخطاء الأبوين والموجهين، الذين أشرفوا عليه في مرحلة "الطفولة"، وسيكون نجاحه أو فشله مرتبطا برغبته وقدرته على ترك ذلك السوء الذي ورّثوه إيّاه..
1 / 5
ومع ذلك: فنحن لم نركّز في كتابنا هذا على مرحلة "الطفولة"، لأنه لا سلطة لنا على فكر الطفل بحال، فهو واقع بالكلية تحت إشراف وليّ أمره.. يفعل به ما يشاء.. فهو لا يحسن القراءة والفهم.. لنكتب له ونحرّك مداركه.. فل١لك رصدنا له الطريق في المرحلة التالية من حياته.. "مرحلة الشباب".. حيث يكون قادرا على الفهم.. متهيئا ومستعدا لمناقشة الأمور.. فكتبنا للشاب هذا الكتاب، لنساعده على التخلص من شوائب الطفولة.. وعلى الخروج من " أزمات الشباب".. آملين في أن يكون هذا الكتاب بإذن الله ﷿، مرشدا للشباب في حياتهم، ودليلا لهم الى الحق والصواب، وأن يكونوا من أولئك الشباب الناشئين في عبادة الله تعالى وعلى طاعته، الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله.. الحديث.
اسم الكتاب
أزمات؟
مشاكل؟
مشكلات؟
استقر الرأي أخيرا، على تسمية هذا الكتاب بـ "أزمات الشباب"، بعد أن تردد في الخاطر تسميته بـ " مشاكل الشباب"، وذلك لأن البعض يعتبر كلمة:" مشاكل" خطأ لغويا، صوابها " مشكلات"، ولكي أحسم هذا الأمر عدت الى قواميس اللغة فوجدت التالي:
[" المشكل" هو: الداخل في أشكاله، أي: أمثاله وأشباهه، جمعه:" مشكلات"، وكل مختلط " مشكل" و"الشكلة": الحمرة تختلط بالبياض، وهذا شيء أشكل، ومنه قيل للأمر المشتبه: مشكل، وأشكل عليّ الأمر: إذا اختلط] (انتهى من القواميس) .
أما كلمة " مشاكل"، فلم ترد في أي من القواميس الأمهات التي رجعت إليها، ولم يذكرها إلا صاحب "تاج العروس" حيث قال: [وهو يفك المشاكل، أي: الأمور الملتبسة] ولم يذكر غير ذلك.
1 / 6
وهذا المعنى اللغوي، هو الذي استعمله علماء "أصول الفقه"، في باب:"المشكل"، حيث عرّفوه بأنه "الداخل في أشكاله" أي: الذي أشكل على السامع طريق الوصول الى معناه، لدقة المعنى في نفسه لا بعارض، فلا يعرف إلا بدليل يتميّز به، وأطلقوا "المشكلة" على الكلمة التي أشكل المعنى المراد بها، ومثلوا على ذلك بكلمة: " أنّى" في قوله تعالى: ﴿فأتوا حرثكم أنّى شئتم﴾، فكلمة: "أنّى" مشكلة، تجيء تارة بمعنى:" من أين"، وتارة بمعنى:" كيف"، فاشتبه ههنا المعنى المراد، فإن كان بمعنى: " أين"، يكون المعنى:" من أي مكان شئتم" قبلا أو: دبرا، فتحلّ اللواطة من إمرأته على هذا المعنى، وإن كان بمعنى: "كيف"، يكون المعنى:" بأي كيفية شئتم" قائما أو قاعدا أو مضطجعا، فيدلّ على تعميم الأحوال دون المحال، فإذا تأملنا في لفظ "الحرث" من قوله تعالى: ﴿فأتوا حرثكم﴾، علمنا أن كلمة:" أنّى" هنا بمعنى:" كيف"، لأن الدبر ليس موضع الحرث، بل هو موضع الفرث، فتكون اللواطة من امرأته حراما، لكن حرمتها ظنيّة فلا يكفر مستحلها. (عن كتب الأصول بتصرف) .
1 / 7
فيتضح مما تقدّم: أن كلا من: " المشكل"، و"المشكلة" و"المشاكل" و"المشكلات"، هي مفردات وجموع، تدلّ على المختلط الملتبس من الأشياء، ولا تدل على ما نعنيه في هذا الكتاب، وهو الإنحرافات والمخالفات التي يرتكبها الإنسان، وإنّ استعمالنا - كغيرنا - هذه الكلمات بالمعنى المذكور، هو من باب التوسّع في تحميل اللغة معاني لا تحتملها في الأصل، ولا أرى لهذا التحميل مبرّرا، فلذلك عدلت عن تسمية الكتاب بأي إسم مشتق من "شكل"، وآثرت أن أسميّه بـ " أزمات الشباب"، وذلك لأن من معاني "الأزمة" في اللغة: " الشدّة"، يقال: تأزم القوم: إذا أصابتهم أزمة، وتألموا لأزمة الزمان، ومعنى "الأزمة" الذي هو: " الشدّة" عام يدخل فيه: المصائب، والمعاصي، والضلالات.. إلخ، لأن من ارتكب معصية، أو حلّت به بليّة أو مصيبة، فقد وقع من " شدة"، و" الشدائد" كثيرة.. والله المستعان.
مراحل حياة الإنسان
١- مرحلة: "الجنانة".
٢- مرحلة: "الطفولة والصبا".
٣- مرحلة: "الأشد" وهي: مرحلة الشباب.
٤- مرحلة: "الشيخوخة".
٥- النهاية: "الموت".
لقد شاء الله ﵎ أن يجعل في الأرض خليفة، فخلق "آدم" ﵇ من تراب، ثم خلق منه زوجه " حواء" ﵍، ومنهما بدأ التناسل البشري، كما قال ﷿: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا﴾ .
وقد بيّن الله ﵎ في كتابه العزيز: أنه خلق الأنسان على أطوار ومراحل، متتابعة متلاحقة متكاملة، كما قال ﷿ مخاطبا الكافرين خطاب توبيخ: ﴿ما لكم لا ترجون لله وقارا* وقد خلقكم أطوارا﴾، والمراد بالأطوار: مراحل خلق الإنسان في رحم أمه، ومراحل نشأته وحياته، وكذلك مراحل خلق أبي البشرية "آدم" ﵇.
1 / 8
فالله ﷿ خلق "آدم": من "تراب"، ثم من "طين"، ثم من "حمإ مسنون" أي: طين لزج متغيّر الرائحة، ثم من طين يابس، هو "الصلصال"، يسمع منه صوت إذا نقر عليه كالفخّار، ثم نفخ فيه الروح، فصار إنسانا حيّا، عاقلان ناطقا، مستوي القامة، جميل الهيئة، كامل الخلقة، ثم علّمه الله تعالى الأسماء كلها. وبعد ذلك خلق تعالى من "آدم" زوجه "حواء"، ليسكن إليها، وليكون منهما تناسل البشرية بطريق الزواج.
فبدأ التناسل البشري، مع أول ولد من أولاد "آدم"، عن طريق الحمل والولادة، في أطوار ومراحل، تدلّ على عظمة الله تعالى، الذي خلق الإنسان وسائر الأكوان، كما قال ﷿: ﴿ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم* الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين* ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين﴾ .
***
١- مرحلة الجنانة
ذكر الله ﷿ هذه المرحلة بالإجمال والتفصيل، في كتابه العزيز، فقال تعالى: ﴿هو أعلم بكم إذ أنشاكم من الأرض وإذ أنتم أجنّة في بطون أمهاتكم﴾، ثم فصّل الله ﷿ مراحل نمو "الجنين" في بطن أمه، مرحلة مرحلة، وطورا طورا، وذلك في عدد كبير من الآيات القرآنية، منها قوله تعالى في سورة "المؤمنون": ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين* ثم جعلناه نطفة في قرار مكين* ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين﴾ .
1 / 9
وكذلك السنّة النبوية الشريفة، فقد جاء فيها، عن رسولنا الأمين محمد ﷺ أحاديث كثيرة، في أطوار نمو الجنين البشري، ومتى ينفخ فيه الروح، ومن أجمعها: ما رواه الشيخان، عن عبد الله بن مسعود، ﵁ قال: حدّثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق:" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ أو سعيد.." الحديث.
٢- مرحلة "الطفولة والصبا"
مرحلة " الصبا" هي فترة "الطفولة"، فالمولود يسمى "طفلا"، و"صبيا" أو "صبية"، منذ الولادة حتى البلوغ، لقوله تعالى: ﴿وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم﴾ .
وهذه المرحلة لا تكليف فيها على الإنسان، لما جاء في الحديث الشريف، الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من طرق، عن عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وعائشة، ﵃، مرفوعا الى النبي ﷺ:" رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم"، أي: لا يعاقب الصبي على ارتكابه محرما، ولا تدوّن عليه سيئة، حتى يبلغ فيصير مكلفا.
ولكن: من واجبات الوالدين والمربين، ان يؤدّبوا الصبيّ والصبية، إذا فعلا ما يخالف الشرع وآدابه، ويزجروهما عن فعل القبيح، ويعوّدوهما على الطاعات والواجبات، وترك المنهيات، طبقا لما أمر به النبي ﷺ في الحديث الشريف، الذي رواه أبو داود والترمذي، ولفظه لأبي داود:" مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع"، والمراد: الضرب باليد ضربا غير مبرّح ولا مؤذ.
1 / 10
ومما لا شك فيه: أن هذه المرحلة هي مرحلة التأسيس، والتأثير والغرس، في شخصية الولد، في جميع المجالات، والإسلام قد أمر أولي الأمر عن الصغار، بإحسان توجيههم وتربيتهم وتعليمهم، فقام المسلمون بالمهمة خير قيام، حتى صار "المسلم" مثلا يحتذى به في الأخلاق والمعاملة، واعتنوا بالعلم وبتلقين الصغار العلوم على أنواعها، في سن مبكّرة، حيث درج الكثيرون على تحفيظ الأولاد القرآن الكريم من سن الخامسة، فلا يصل الولد الى العاشرة من عمره، حتى يكون قد حفظ القرآن عن ظهر قلب، وقد كان هذا سابقا، ولا يزال حتى الآن في بلاد المسلمين، وإن كان على نطاق غير واسع، فنبع في المسلمين جهابذة العلماء، في مختلف الفنون.
***
٣- مرحلة " الأشد"
جاء ذكر هذه المرحلة في مواضع من القرآن العظيم، منها قوله ﷿ في سورة "الأحقاف"، عن الإنسان البارّ بوالديه: ﴿حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة قال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي من ذريّتي إني تبت إليك وإني من المسلمين﴾، وقوله تعالى: ﴿ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه﴾ .
و" الأشد" في اللغة: "القوة، ومبلغ الرجل الحنكة والمعرفة"، وقال الأزهري: " الأشد" في كتاب الله على ثلاثة معان يقرب إختلافها:
١- فأمّا قوله تعالى في قصة "يوسف" ﵇: ﴿ولما بلغ أشدّه آتيناه حكما وعلما﴾، فمعناه: الإدراك والبلوغ، وحينئذ راودته امرأة العزيز عن نفسه، وكذلك قوله تعالى: ﴿ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه﴾ .
٢- وأما قوله تعالى في قصة موسى ﵇: ﴿ولما بلغ أشدّه واستوى آتيناه حكما وعلما﴾، فإنه قرن بلوغ " الأشد" بالإستواء، وهو: أن يجتمع أمره وقوّته، ويكتهل وينتهي شبابه.
1 / 11
٣- وأما قوله تعالى في سورة " الأحقاف": ﴿حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة﴾، فهو أقصى نهاية بلوغ الأشد وعند تمامها بعث الله تعالى محمدا ﷺ نبيا، وقد اجتمعت حنكته وتمام عقله (انتهى قول الأزهري) .
أما مبدأ هذه المرحلة ونهايتها، ففي ذلك أقوال، أهمّها: أن " الأشد" يبدأ ببلوغ الإنسان رشيدا، و"الرشد" هو: أن يبلغ عاقلا مأمونا على نفسه، حسن التصرّف، وحدّد بعضهم سنّ الرشد بثماني عشرة سنة، وبعضهم بسبعة عشر سنة، وقال الجوهري في "الصّحاح": " الأشد" ما بين ثماني عشرة الى ثلاثين سنة.
وخلاصة القول الذي يهمنا هنا: أن مرحلة "الأشد" هي: مرحلة النضج والعقل وحسن التصرّف، وهي "مرحلة الشباب" التي هي موضوع هذا الكتاب.
***
٤- مرحلة " الشيخوخة"
"الشيخوخة" هي المرحلة الأخيرة من مراحل حياة الإنسان، وقد إختلف العلماء في تحديد أولها، فاعتبرها بعضهم من سنّ الخمسين، وبعضهم قال غير ذلك، ولكن: لا خلاف على أنها آخر المراحل، وأن أحوال الإنسان فيها متفاوتة، فآخرها عجز، وهرم، وضعف، وخرف، كما وصفها الله ﷿ بقوله: ﴿ونقرّ في الأرحام ما نشاء الى أجل مسمّى ثم نخرجكم طفلا، ثم لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يردّ الى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا﴾ .
***
٥- النهاية: "الموت"
"الموت" هو نهاية كل نفس، كما قال ﷿، ﴿كل نفس ذائقة الموت﴾، وقال كعب بن زهير في قصيدته "بانت سعاد":
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته......يوما على آلة حدباء منقول
ونحن لم نختم مراحل حياة الإنسان بذكر هذه النهاية، إلا لنذكّر أنفسنا والمسلمين جميعا بهذه النهاية، وبوجوب الإستعداد لها، والعمل لما بعدها، فإنّ ما بعدها خطير وخطير، فهناك: إما جنّة أبدا.. وإما نار أبدا.. هناك: لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا تحاسب نفس إلا عنها، ﴿ولا يسأل حميم حميما﴾، ﴿يوم يفرّ المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه﴾ .
1 / 12
من هو الإنسان؟
١- جانب "الحيوانية" في الإنسان
٢- جانب "العقل" في الإنسان.
٣- الرابط ما بين الجانبين.
٤- الغرائز والشهوات.
٥- المادة والروح.
٦- الغيب والشهادة.
٧- "التفكير" هو: عمل العقل.
٨- العقل والهوى.
من هو الإنسان؟
الإنسان مخلوق مميز، أكرمه الله تعالى بالعقل، وشرّفه بأصله "آدم " ﵇، الذي خلقه من سلالة من طين.. ثم خلق ذريته من ماء مهين، وسخّر له الأشياء، ليعيش على الأرض ويستعمرها، كما قال ﷿: ﴿وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الليل والنهار* وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الليل والنهار* وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفّار﴾ . فكان من بني آدم: مؤمن وكافر. وصالح وفاجر.. وظالم وعادل.. وشينال كل إنسان جزاء ما كسبت يداه: إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر.
إن قصدنا من هذا السؤال:"من هو الإنسان؟ " ليس الكلام في خصائص الإنسان، ومراحل تكوينه، بل مرادنا أن نتوقف عند التعريف المنطقي لـ "الإنسان"، لأنه تعريف يشرح الشخصية الإنسانية ويفرز خصائصها، ويحدّد حقيقة كل جانب من جوانبها، فيسهل بالتالي معرفة مستويات الناس المختلفة المتفاوتة، ويسهل أيضا معرفة أسباب فلاح المفلحين، وخسران الخاسرين، وهذا هو هدفنا من هذا الكتاب.
فأزمات الشباب ليست سوى نتيجة لفشل، أو: تقصير، أو: تغرير يقع فيه الشباب، أو بعبارة أخرى: فإن الأزمات نتيجة سوء تصرّف يصدر عن الإنسان، بحقّ نفسه، أو بحق الآخرين..
لقد عرف علماء المنطق "الإنسان" بأنه:" حيوان ناطق"، وذلك للدلالة على "المفرد" من الناس، وتمييزه عن غيره من الحيوان، المشارك له في جزء من التعريف، كما سنرى لاحقا وإليك بيان ذلك.
١- جانب الحيوانية في الإنسان
1 / 13
"الحيوان": صيغة، مثل: "الغليان"، و"الميدان"، وهي تعني الحركة الحيّة كقوله تعالى في وصف الآخرة: ﴿وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون﴾، أي: لهي الحياة الكاملة السالمة من المنغّصات، ولا تكون الحيوانية في الكائن الحيّ، إلا إذا دبّت فيه "الروح"، فالروح جزء لا غنى عنه في هذا الجانب، من كل كائن حيّ، ومن هنا ندرك: أن الذين يصنّفون "الروح" في الجانب الاخر للإنسان، فيقولون: "الإنسان: مادة وروح"، ويعنون بالمادة: الجسد، وبالروح: العقل والفكر، وما يتعلق بهما، هم مخطئون في هذا التصنيف، لأن المادة لا تعتبر شيئا مهما من دون "الروح"، فأجرام جسد الإنسان وغير من الأحياء، وخلاياه كلها، لا تشكّل من دون الروح جانبا يذكر، لذلك لا يصح التصنيف المتبع للجسم البشري والشخص الإنساني، بأنه:" مادة وروح"، بل الصحيح أن يقال:" إنه حيوان وعقل" كما سنبيّن لاحقا في كلامنا عن "المادة والروح" في البند الخامس.
1 / 14
إن جانب "الحيوانية" في الإنسان، يشمل جميع الشهوات والميولات والرغبات، التي خلقها الله تعالى فيه، ومن أهمها وأخطرها: شهوتا "البطن" و"الفرج"، وما يتعلق بهما، فشهوة"البطن" تتعلق بالمأكل والمشرب، وبالسعي الى كسب ما يمكّن الإنسان منهما من وسائل وأسباب، وشهوة "الفرج" تتعلق بالزواج، وما يترتّب عليه من إنجاب الذريّة، والإنسان مأمور بسلوك السبل المشروعة، وهو يسعى للحصول على هذه الشهوات، ولا يجوز له أن يسلك المسالك المحرمة لتحقيق رغبة من رغائبه، وإن فعل فهو آثم، تماما مثلما يؤجر ويثاب على سلوك السبل الشرعية، وقد أشار النبي ﷺ الى هذا المعنى فيما روه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي، ﵁، قال: قال رسول الله ﷺ:" من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه، أضمن له الجنة" أي: اللسان والفرج. وليس هذا غريبا، فإن المتأمل يدرك: أن مآل كل سعي الإنسان، ينتهي إلى إشباع شهوتي بطنه وفرجه.
إذن: فجانب "الحيوانية" في الإنسان هو عبارة عما يلي: جسد حيّ من لحم ودم وعصب وعظم، يحتاج الى: المأكل، والمشرب، والمنكح، والملبس، والمسكن.. إلخ. وشهواته هذه تجوع بعد شبع، وتشبع بعد جوع، وهكذا دواليك، وهو يطلب هذه المطالب الفطرية، ويسعى ويتعب من اجل الحصول عليها إشباعا لرغائبه وشهواته، فهو والحالة هذه، يتفق مع أي كائن حيّ آخر، يشاركه الشّبه في التكوين، فالإنسان من هذا الجانب: "حيوان"، و"الحصان" كذلك "حيوان".
1 / 15
ولو أن الإنسان كان بلا عقل، لكان بهيمة بهماء، ودابّة عجماء، وهذا الجانب هو نقطة الضعف في الإنسان كما وصفه الله ﷿ بقوله: ﴿وخلق الإنسان ضعيفا﴾، فهو ضعيف في قوته الجسدية، وضعيف في مواجهة الصعوبات والمغريات، وعلى الأخص: إغراء المال ...، والجاه ...، والمرأة ...، فالإنسان في مواجهة هذه الإغراءات أضعف ما يكون، لأنها شهوات حلوة، مزيّنة، مغرية فاتنة، كما وصفها الله تعالى بقوله: ﴿زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث﴾ .
لذلك كان على المسلم أن يستعين بالله تعالى في مواجهة كل المغريات، وأن يكون حذرا في تعامله وتعاطيه وتصرّفاته مع الناس، لئلا يغريه الشيطان، فتزلّ قدمه على الصراط، ويقع في الزلل؛ ولكي يتمكّن الإنسان من الإحتفاظ بتوازنه، فقد أكرمه الله ﷿ بالجانب الآخر، وهو: جانب "العقل" الذي اختصه به من بين سائر "الحيوان"..
***
٢- جانب العقل في الإنسان
1 / 16
لقد عبّر علماء المنطق عن هذا الجانب بوصف:"ناطق"، فقالوا:" الإنسان حيوان ناطق"، لأن "النطق" خصوصية إنسانية من بين سائر "الحيوان"، وهي خصوصية ظاهرة محسوسة.. ولا تصدر إلا عن كائن عاقل، فكان تعريف الإنسان بها، أدق من تعريفه بالعقل، لخفاء أمره لولا النطق، فالإنسان لو لم يكن ناطقا، لما أمكن إثبات كونه عاقلا، ولو فعل ما فعل من دقائق الأعمال، وغرائب الصناعة والحركات والأصوات، فإن لكل الحيوانات الأخرى أعمالا غريبة، يبلغ بعضها حدّ العجز عن إدراك أسراره، كالنحل والنمل، في إتقان بيوتها، وجني رزقها، مما أدهش العقول، وخيّر الألباب، وهي بلا شك حيوانات لا عقل عندها ولا نطق، فلو أنّ الإنسان كان مثلها لا يتكلم، لما أمكن معرفة أنه عاقل، لانعدام النطق المعبّر عنه كما ذكرنا، وأما ما جاء في القرآن الكريم، من نسبة القول الى "النملة"، وتعليم "سليمان" ﵇ منطق الطير، في قوله تعالى: ﴿فلما أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون* فتبسّم من قولها..﴾، وقوله تعالى عن سليمان ﵇: ﴿وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير﴾، فلا يعني:"النطق" بعقل، المماثل لنطق الإنسان، بل هو قول ألهمه الله تعالى للحيوان، هو عبارة عن أصوات معيّنة علمه الله إياها، تصدر عنه بالغريزة لا بالعقل، لذلك لا يخطئ الحيوان في أصواته أبدا.. بل هي أصوات يصدرها على نسق معيّن، يدركها أبناء جنسه من الحيوان بغرائزهم، أما الإنسان فليس أمره كذلك، بل إنه يفكّر قبل أن ينطق، ويتكلم بالصدق وبالكذب، وبالخطأ وبالصواب، وبالحق والباطل، ويتصرّف بلسانه ولغته كما يشاء.. لأنه عاقل.. والدليل على كونه عاقلا: أنه " ناطق".
***
٣- الربط ما بين الجانبين
1 / 17
إن تقسيم شخصية الإنسان على نحو ما تقدّم، لا يعدو أن يكون تقسيما نظريّا، أما من حيث الواقع، فالإنسان لا يكون إنسانا إلا بجانبيه: الحيواني - الجسدي - والعقلي، مع التأكيد على تقدّم الجانب العقلي في الإنسان على الجانب الحيواني، في الفضل والمرتبة، وعلى أن "العقل" هو الذي يعطي " الإنسان" المعنى الصحيح لإنسانيته.
والإسلام بتكاليفه وأحكامه، خاطب " الإنسان".. كل الإنسان.. من دون فصل أو تقسيم.. معتبرا إياه شيئا واحدا، فلم يخاطب فيه جانبا دون الآخر ولم يعامله على أنه جسم حيّ متحرّك كسائر الحيوان.. ولا على أنه لطيف مجرد كالملائكة.. بل وجّه إليه الخطاب بالتكليف، باعتباره إنسان متكاملا، وخاطبه بالترغيب والترهيب، اختبارا لحوّاسه ومواهبه وعقله، وأخبره بأنه إن أحسن فلنفسه، وإن أساء فعليها، وبأن المؤمن سيدخل الجنّة بجسده وعقله وروحه، وكلّ حواسّه، وأنّ الكافر سيدخل النار كذلك.
وقد وبّخ الله تعالى الكافرين، بأنهم شرّ من دبّ على وجه الأرض، لأنهم كفروا، وجرّدوا أنفسهم من نعمة الإنتفاع بالعقل، فقال ﷿: ﴿إنّ شرّ الدوابّ عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون﴾ .
1 / 18
كما بيّن ﷾: أن سبب وقوع أهل النار في الضلال، هو تعطيلهم لحواسّهم التي هي روافد العقل، حتى صاروا وكأنهم لا أسماع لهم، ولا أبصار ولا قلوب، بل صاروا أجسادا حيّة متحرّكة، كالأنعام، فاستمع أيها المؤمن الى ما قاله الله تعالى في هذا المعنى، وتأمّل واعتبر.. وقل: الحمد لله على نعمة الإيمان.. قال تعالى: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون﴾، وقال جلّ وعلا: ﴿أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا﴾، ويقول سبحانه مخاطبا رسوله الأمين محمدا ﷺ، مبيّنا حال الكافرين الغافلين، الذين يستمعون إليه، ولا يسمعون، وينظرون إليه ولا يبصرون: ﴿ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصمّ ولو كانوا لا يعقلون* ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون* إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكنّ الناس أنفسهم يظلمون﴾ .
***
٤- الغرائز والشهوات
شاع على ألسنة كثير من المتعلمين، وفي كتاباتهم، إطلاق "الغريزة" على "الشهوة" في الإنسان، وهذا خطأ فادح، بل إن من هؤلاء من أطلق على " الفطرة السليمة" المعروفة بـ "التديّن" وصف " الغريزة"، فسمّوها:" غريزة التديّن"، ووجه الخطأ في ذلك، واضح في المعنى اللغوي لكل واحدة من هاتين الكلمتين؛ فمن العودة الى قواميس اللغة العربية يتبيّن ما يلي:
[" الغريزة": الطبيعة، وجمعها: " غرائز"، و"الشهوة" هي: إشتياق النفس إلى الشيء، وجمعها "الشهوات"، وهي الاسم من فعل:" شهي الشيء، واشتهاه"، إذا أحبّه ورغب فيه] .
فواضح من تعريف "الشهوة" هذا، أنها اشتياق الى الشيء، وحبّ له، ورغبة فيه، وذلك لا يكون إلا من عاقل، أي: إنسان، بخلاف "الغريزة"، فهي طبيعة في البهائم، أي: جبلة جبلوا عليها، لا عقل يحرّكها، ولا إدراك يوجّهها.
1 / 19
فالبهائم لا تشتهي.. وليس فيها "شهوة".. لانعدام العقل، فهي لا تستعرض اللذائذ والأطايب كما يفعل الإنسان، فتثور لديها الرغبة فيها والميل إليها، بل هي لا تتحرّك إلا إذا أحسّت بوجود مأكلها أو مشربها أ، نزوها، فعند ذلك تنقضّ وتقبل، من دون تروّ ولا تمهّل، وعلى سبيل المثال، فإن الفحل من البهائم، ينزو على الأنثى نزوا بلا رويّة، فيقال:" نزا الفحل"، ولا يقال ذلك في الإنسان إذا جامع زوجته، لأن "المجامعة" بين البشر، هي غير "الضراب" بين البهائم.
وبالعودة الى آيات القرآن العظيم، نجد إستعمال "الشهوة"، وسائر إشتقاقات هذه الكلمة، في الكلام عن الإنسان فقط، ولم يرد ذكر "الغريزة" ولا مرة واحدة في القرآن الكريم، لأنه خطاب للبشر، بل جاء تشبيه الكافرين بالدواب والأنعام، كما ذكرنا في العنوان السابق.
أما الإنسان فقد خلق الله تعالى فيه "الشهوة"، وخلق له "الشهوات"، قال تعالى: ﴿زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث﴾، فهذه كلها "شهوات"، وقال تعالى عن قول لوط ﵇ لقومه: ﴿إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء﴾، فسمّى تلك الفاحشة:" شهوة" ولم يقل:"غريزة". وحذّر الله تعالى الذين يتّبعون "الشهوات" من سوء العاقبة، فقال تعالى: ﴿فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا﴾ .
وكذلك في الاخرة حيث ينال المؤمنون في الجنة ما يشتهون، كما قال تعالى: ﴿وفيها تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين﴾ .
1 / 20