مع وجود ظروف تاريخية مميزة توفرت للأمة الإسلامية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، ومع ما أنعم الله عليها من فكر إلهي باعث ناهض، دافع للإنسان نحو تحقيق ذاته وترقية أحواله،وإيجاد أسس لأمة عظيمة، إلا أن الواقع السياسي الجائر الذي عانت منه الأمة إبان سقوط الخلافة الإسلامية عام 41ه، أخذ يضرب في تلك الأسس، وعلى وجه الخصوص الجانب الفكري منه. فنشأت عبر القرون التي تلت ثقافة تميت وتشل وتخدر. كان للأسطورة والخرافة والتفكير اللاعقلاني والكهنوت مساحة ملحوظة فيها. قدس السلطان، ونبذ التفكير، ومنع الحوار. وابتعدت الأمة عن النظرة الفاحصة، وغاب عن ساحتها العقل المستقل. إضافة إلى سقوط الخلافة وما تلاها من تفاعلات سلبية، حصل أمر آخر شكل منعطفا حادا لمسار الأمة الفكري هو إعلان الوثيقة القادرية في 17محرم من العام 409ه ، فعندها أعلن الخليفة العباسي الملقب بالقادر بالله منشوره الشهير الذي منع به التفكير والاجتهاد وكفر فيه المعتزلة واستباح دماءهم. وقد سارع هذا القرار في تدهور الأوضاع الفكرية والثقافية للأمة الإسلامية، فشاعت الخرافة والأسطورة والدروشة والمهدوية والانتظار والخمول، وتعزز كل ذلك من خلال كتابات متعددة ظهرت عبر القرون. ازداد الأمر سوءا مع نشوء الدولة العثمانية التي أوقفت الانهيار المحتوم بقوتها العسكرية، ولكن بغير أن تعالج أسبابه. ويمكن القول إنها بتأخيرها موعد الانهيار قد أضرت بالأمة من حيث لا تدري. ففي وقت سيطرتها على زمام الأمور سياسيا، أخذ الغرب يتحرك نحو الأمام، ولكن سرعته في البدء كانت تجعل من اللحاق به أمرا يسيرا في فترة قصيرة. ولكن الذي حصل أننا لا تقدمنا، ولا سقطنا سقوط اليقظة، فلما أتى المحتوم من الإنهيار كانت المسافة بيننا وبين الغرب قد اتسعت بشكل فلكي. سادنا اليوم الفقر، والجهل، والظلم، والاستبداد. تخلينا عن الفعل واستسلمنا للانفعال. أصبحنا نقتات على فضلات خصومنا وأعدائنا. فقدنا إضافة لذلك أسباب الحياة، والتأثير على مصيرنا فضلا عن مصير غيرنا. بتنا نستمرئ أخلاق الكذب والنفاق والخيانة والحسد والبغضاء. تخلفت أمتنا عن حركة الإنسانية نحو النمو الاقتصادي، والرفاه المادي، والقيم الاجتماعية، والنظام السياسي العادل والمعبر عن إرادة شعوبها. نصبح ونمسي حالمين بحياة كريمة حرة، بحرية القول والتفكير، بالمساواة أمام القانون، بحق الحماية المشترك، بحق المشاركة في القرارات التي تؤثر على حياتنا وحياة من نعول، بحق امتلاك مستوى معيشة لائق صحيا وغذائيا وملبسا ومسكنا، بحق التعلم. نعم!! لا زلنا نحلم بكل ذلك، إلا قلة قليلة. هذا كله في حين أن المسافة بيننا وبين الغرب في ازدياد متواصل. وفي مواجهتنا معه خلال المائتي سنة التي مضت فإنه لم يزدد إلا قوة، ولم نزدد إلا ضعفا. ويزداد المرء منا حسرة حينما يدرك حجم الدور الذي قمنا به نحن في خدمة من استنزفنا، وفي تدمير بنيتنا الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بدون تقليل من شأن وحجم الدور الذي لعبته القوى الغربية فيما آلت إليه أوضاعنا، إلا أننا يجب أن نقدر أن العالم عالم الأقوياء، لا يرحم الضعيف، وأنه لم يحل بنا ما حل لولا حالة الضعف الذاتي التي وصلنا إليها قبل مجيء الاستعمار. إن الاستعمار منذ أن دخل بلادنا، ومن بعد ما خرج منها، وإلى اليوم، ما اعتمد إلا علينا في القضاء على أنفسنا. فمهما كان دور الغير، يجب أن نتجاوز أي سؤال غرضه تخفيف وطأة المسؤولية علينا. لننصرف إلى استكشاف الأسباب الذاتية التي بها صرنا نعيش خارج الزمن، وصار السعيد منا من سعد بشقاء غيره. نحن في مشكلة!! نعرف أننا في مشكلة لأننا نريد أن نكون على حال غير الحال الموجود اليوم. نريد نظاما اجتماعيا يؤمن الناس من الفقر والجهل والخوف والظلم. وحال اليوم بعيد جدا عن هذا النظام المراد. بديهي أنه عند معالجة أي مشكلة فلا بد من تحديد أسبابها. تحديد الأسباب ليس بالأمر الهين. ولكن لو افترضنا أنها حددت بدقة، فإننا سنواجه مشكلة تتمثل في أن معالجتها جميعا بشكل فعال وعملي يتجاوز دوما الموارد المتاحة بنسبة عالية. فلو افترضنا على سبيل التمثيل أن مشكلة ((أ)) تحتاج إلى مائة ساعة تفكير لحلها تماما، فما سنجده فعلا متوفرا لنا من تلك المائة قد لا يتجاوز الخمسين في بعض الحالات. بمعنى أننا سنكون مضطرين لمعالجة بعض أسباب المشكلة دون غيرها، أي الوصول إلى حل جزئي فحسب. يغيب عن بعضنا أن أسباب أي مشكلة، وإن استوت في قدر ما تحتاجه من معالجة، فإنها لا تستوي في قدر تأثيرها على أصل وحل المشكلة. فلو افترضنا أن للمشكلة ((أ)) خمسة أسباب، وافترضنا أن كلا منها يحتاج إلى عشرين ساعة تفكير لمعالجتها، أي أنها تستوي في حاجتها للموارد، فإن ذلك لا يعني أن كل سبب يتحمل خمس المشكلة، بل تتفاوت في ذلك تفاوتا كبيرا. فإذا لم يكن لدينا إلا خمسين ساعة متوفرة، فإنه بعد تحديد الأسباب التي أدت إلى المشكلة، علينا أن نحدد نسبة تحمل كل سبب من تلك الأسباب للمشكلة التي نحن فيها. ظهر بالاستقراء، أن ما يقرب من20
من أسباب أي مشكلة، تتحمل80
من المشكلة نفسها، وأن80
من الأسباب لا تتحمل إلا حلا ل20
من المشكلة. هذه المعادلة تعني أن قلة الموارد ليست عائقا أساسيا أمام حل المشكلة، وإنما العائق الأكبر تحديد السبب الذي يجب أن يعالج. فلو لم نملك إلا 20
من موارد حل مشكلة، فإنه مع حسن التدبير سنستطيع حل 80
من المشكلة نفسها.
صفحة ٢١