149

[80]

كان للمنصور يتقلد النفقات في أيامه، ذهب على اسمه، قال:

وقف المنصور يوما من الأيام نهارا على سرب في داره، فيه قنديل معلق، وكان الموضع، بين المضيء والمظلم، فكان تعليق القنديل إنما يقع استظهارا، فأمر بأن يطفأ، وقال: لا يعاود هذا المصباح إلى هذا الموضع إلا في وقت الحاجة من الليل، أو من آخر النهار. قال: فلما رأيت ذلك من تفقده، قلت في نفسي: إذا كان يتفقد هذا المقدار التافه، فهو لغيره أشد تفقدا، فنظرت إلى فضول موائده، فبعتها، فاجتمع لي من ذلك مال شهر، جملة وافرة صالحة، ونظرت في أشياء غير ذلك، ففعلت فيها مثل هذا الفعل، فلما كان من رأس الشهر عرضت عليه ما وفرته، فسألني عن سببه؟ فقلت: إن آمنتني شرحت لك الخبر، فآمنني، فصدقته عن الصورة، فقال: ما الذي كنتم تصنعونه بما يفضل من هذه الموائد في كل يوم؟ فقلت: كان يأكله خدمك وغلمانك وحشمك، وما فضل بعد ذلك عنهم تصدق به على الفقراء والمساكين، فقال: هذا لم يكن يضيع منه شيء، فأجر الأمر على ما كان جاريا عليه فيه، وليس سبيل القنديل سبيل ذلك في ذلك الموضع، لأن ذلك الموضع الذي كان فيه كان مضيئا بالنهار، وكان الزيت يذهب ضياعا، ولا وجه للتضييع في شيء وإن قل.

وحكي أنه ثقل على كتاب المنصور تفقده الأعمال، ومراعاته لها، فقالوا لمتطببه: لو زينت له شرب النبيذ حتى يتشاغل عنا، لأعظمت المنة عندنا، فوعدهم بذلك، ولم يزل يقول له في الوقت بعد الوقت، لو سخنت يا أمير المؤمنين معدتك لأصلحت جسمك، ونفذ طعامك. فيقول: بماذا؟ فيقول: بشراب العسل. فلما ألح عليه بذلك استدعى شيئا منه، فشربه في اليوم الأول، فاستطابه، فعاد له في اليوم الثاني، وازداد منه، فخدره، ثم عاوده في اليوم الثالث، فأبطأ عن صلاة الظهر والعصر والعشاء، فلما كان من غد دعا بما عنده من الشراب فهراقه، ثم قال: ما ينبغي لمثلي أن يشرب شيئا يشغله.

صفحة ١٤٩