كتاب الولاية تأليف: عبد الرزاق حرز الدين بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة ١
الإهداء إلى من هما أوجب حقا علي وأقدم إحسانا إلي وأعظم منة لدي إلى والدي اللهم اجعله حطة لذنوبهما وزيادة في حسناتهما ووسيلة لنجاتهما عبد الرزاق
صفحة ٢
قالوا في الإمام ابن عقدة قال الدارقطني (ت 385 ه): كان أبو العباس بن عقدة يعلم ما عند الناس ولا يعلم الناس ما عنده.
(تاريخ بغداد: 5 / 18) وقال أيضا: أجمع أهل الكوفة أنه لم ير من زمن عبد الله بن مسعود إلى زمن ابن عقدة أحفظ من ابن عقدة.
(تاريخ بغداد: 5 / 16) وقال الخطيب البغدادي (ت 463 ه): كان حافظا عالما مكثرا جمع التراجم والأبواب والمشيخة وأكثر الرواية وانتشر حديثه وروى عنه الحفاظ والأكابر.
(تاريخ بغداد: 5 / 14) وقال ابن الجوزي (ت 597 ه): كان من أكابر الحفاظ.
(المنتظم: 14 / 35) وقال سبط ابن الجوزي (ت 654 ه): ابن عقدة مشهور بالعدالة.
(تذكرة الخواص: 54) وقال الذهبي (ت 748 ه): حافظ العصر والمحدث البحر أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي. كان إليه المنتهى في قوة الحفظ وكثرة الحديث وصنف وجمع وألف في الأبواب والتراجم.
(تذكرة الحفاظ: 3 / 389) وقال أيضا: الحافظ العلامة أحد أعلام الحديث ونادرة الزمان وصاحب التصانيف وهو المعروف بالحافظ ابن عقدة. وكتب منه ما لا يحد ولا يوصف عن خلق كثير بالكوفة وبغداد ومكة، وجمع التراجم والأبواب والمشيخة وانتشر حديثه وبعد صيته.
(سير أعلام النبلاء: 15 / 340) وقال ابن كثير (ت 774 ه): كان من الحفاظ الكبار، سمع منه الطبراني والدارقطني وابن الجعابي وابن عدي وابن المظفر وابن شاهين.
(البداية والنهاية: 11 / 236)
صفحة ٣
تمهيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل الأنبياء رحمة للعالمين، ونصب الأوصياء بعدهم حججا مجاهدين، من لدن آدم إلى يوم الدين، ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.
وبعد، فقد بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) رسالة ربه، وأدى ما ائتمن عليه، ونصح لامته، فقبض وليس للناس على الله حجة وقد بين لهم ما فرض الله عليهم من الحلال والحرام، وما يقربهم ويبعدهم منه تعالى.
وقد تجلى ذلك التبليغ في غدير خم حيث أنزل تبارك وتعالى: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس...) * (1) فنعى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم نفسه الكريمة في ذلك الموضع، وأشهدهم على ذلك التبليغ، وأمر أن يبلغ الشاهد منهم الغائب ليخرج عن مسؤوليتهم فيما لو رجعوا كفارا بعده.
فبلغ ما أنزل عليه من ولاية علي (عليه السلام) بعد إقرارهم له بأنه أولى بهم من أنفسهم، وبعد أن ذكرهم بطائفة من الأمور مما يجب عليهم الاعتقاد بها كالتوحيد والنبوة والموت والبعث والساعة والجنة والنار.
وهنأ المسلمون الإمام (عليه السلام) في ذلك اليوم إمرته، وباركوا له ولايته.
وقد اهتم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا الحديث، وحرص على تركيزه في أذهان الناس، فلم يزل يذكرهم به ما سنحت له الفرصة كدليل على حقه في الخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) فناشد أصحاب الشورى بالحديث،
صفحة ٥
وجمع الناس في الرحبة أيام خلافته بعد خمس وعشرين عاما تمر على واقعة الغدير، فأنشدهم الله أن يشهدوا بما سمعوه من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك اليوم، ولا يقوم للشهادة إلا من قد سمع النبي (صلى الله عليه وآله) ورآه (1).
ومنذ ذلك اليوم فقد هيأ الله تعالى رجالا لتدوين هذه الواقعة العظيمة في كتب ورسائل وموسوعات لا زالت صحائف التاريخ مشرقة بأنوارها.
فكان أول من بادر إلى هذه المهمة التابعي الكبير صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام) سليم بن قيس الهلالي (ت 76 ه) في زمن منع تدوين الحديث.
وتوالت بعد ذلك الكتب في ثبت تلك الواقعة وبيان تفاصيلها، فقال ابن كثير: إني رأيت لمحمد بن جرير الطبري كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين (2).
وقال أبو المعالي الجويني: رأيت مجلدا في بغداد بيد صحاف فيه روايات خبر غدير خم مكتوبا عليه: المجلدة الثانية والعشرون من طرق قوله (صلى الله عليه وآله): " من كنت مولاه فعلي مولاه " (3).
ومن جملة الكتب التي ألفت في هذا الشأن وربما من أهمها ما ألفه الحافظ الكبير الإمام أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة الكوفي المتوفى سنة 332 ه. فقد أخرج حديث الغدير من مائة وخمس
صفحة ٦
طرق في كتاب أسماه كتاب الولاية (الموالاة).
وكغيره من كتب الإمام ابن عقدة يعد كتاب الولاية من الكتب المفقودة في عصرنا الحاضر (1).
ومن ثم جاء سعينا لجمع شتات الكتاب واستخراج أحاديثه من بطون الكتب. وقد أمكننا الله سبحانه وتعالى بتوفيقه وتسديده بعد جهود حثيثة من البحث والتتبع والمطالعة من العثور على أحاديث أكثر الصحابة رواة حديث الغدير في كتاب الولاية هذا، ليضع الكتاب نفسه من جديد في مكانه بين المصادر الحديثية، مع أن المؤسف له حقا أن أكثر المخرجين لحديث الغدير عن كتاب الولاية قد أعرضوا عن نقل تفاصيل واقعة الغدير، وهي من الأهمية بمكان، واقتصروا على ذكر شئ من الحديث أو الإشارة إليه فحسب.
وقد يقول قائل: إن عدم الإفادة عن الكتاب والتصريح بوجوده زمنا لا يدل على عدم بقائه إلى يومنا هذا ولعله ما زال موجودا في ثنايا المكتبات غير المفهرسة وما أكثرها في أرجاء المعمورة، فعسى أن يظهره الله تعالى.
قلنا: وهذا هو أملنا ورجاؤنا منه تعالى، وما سعينا في استخراج هذا السفر إلا محاولة للتعريف بهذا الحافظ الكبير وإحياء جزء من تراثه وما له صلة بفضائل أهل البيت (عليهم السلام) وما لا يدرك كله لا يترك جله، والله ولي التوفيق.
عبد الرزاق حرز الدين
صفحة ٧
المقدمة القسم الأول: حياته الشخصية * اسمه ونسبه... 9 * ولادته ووفاته... 10 * والده... 12 * ولده... 13 * سيرته... 13 القسم الثاني: حياته العلمية * حفظه وإتقانه... 15 * مكانته العلمية... 20 * حاله في رواية الحديث... 25 * رحلته... 37 * مذاكرته... 39 * مكتبته... 42 * عقيدته... 43 * آراؤه... 45 * مؤلفاته... 58 * الكتب التي رواها... 67 * شيوخه في الرواية... 109 * تلاميذه والرواة عنه.... 129 القسم الثالث: كتاب الولاية * الأدلة على وجود كتاب الولاية... 138 * تسمية الصحابة رواة حديث الغدير في كتاب الولاية... 150
صفحة ٨
القسم الأول: حياته الشخصية اسمه ونسبه هو أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن زياد بن عبد الله بن عجلان، أبو العباس الكوفي المعروف بابن عقدة، وزياد هو مولى عبد الواحد بن عيسى بن موسى الهاشمي عتاقة، وجده عجلان هو مولى عبد الرحمن بن سعيد ابن قيس الهمداني.
هكذا نسبه الشيخ الطوسي (ت 460 ه) (1) والخطيب البغدادي (ت 463 ه) (2) والسمعاني (ت 562 ه) (3).
إلا أن النجاشي (ت 450 ه) (4) والشيخ الطوسي في الفهرست (5) ذكرا أنه: أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن بن زياد بن عبيد الله بن زياد بن عجلان، مولى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس السبيعي الهمداني.
صفحة ٩
وقال الشيخ: أخبرنا بنسبه أحمد بن عبدون، عن محمد بن أحمد بن الجنيد.
أقول: والأول هو الصواب، إلا أنه روى الخطيب البغدادي عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن سفيان الحافظ أنه قال: وكتب لي إجازة كتب فيها يقول:
أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني مولى سعيد بن قيس، ثم ترك ذاك أواخر وكتب أحمد بن محمد بن سعيد مولى عبد الوهاب بن موسى الهاشمي، ثم ترك ذاك وكتب الحافظ (1).
ولادته ووفاته ولد أبو العباس بن عقدة سنة تسع وأربعين ومائتين ليلة النصف من المحرم في الكوفة. ذكر ذلك الخطيب البغدادي (2)، والسمعاني (3)، والذهبي (ت 748 ه) (4).
وتوفي لسبع خلون من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ذكره الدارقطني (ت 385 ه) (5)، والشيخ الطوسي (6)، والخطيب البغدادي (7)، وابن
صفحة ١٠
الجوزي (ت 597 ه) (1)، والذهبي (2)، والصفدي (ت 764 ه) (3)، وابن كثير (ت 774 ه) (4)، وابن العماد الحنبلي (ت 1089 ه) (5)، وابن أبي الرجال (ت 1092 ه) (6).
لكن النجاشي (7)، والشيخ الطوسي (8)، وابن داود الحلي (ت بعد 707 ه) (9)، والعلامة الحلي (ت 726 ه) (10) ذكروا أنه توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
والقول بوفاة ابن عقدة سنة 332 ه رواه الخطيب البغدادي والذهبي عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن سفيان الحافظ، وهو أحد تلاميذ ابن عقدة والمجازين عنه في الرواية، وكذا الدارقطني، وهما أقرب زمنا لضبط تاريخ وفاته عمن سواهما. وإنما صرح الذهبي في ميزانه أن ابن عقدة توفي سنة 332 ه عن أربع وثمانين سنة (11) وهو لا ينسجم إلا مع القول بوفاته سنة 333 ه، بعد الاتفاق على ما ذكر في ولادته .
فالظاهر أن الصواب هو القول الأول - أي أنه توفي سنة 332 ه - وفي القول الثاني المنقول عن النجاشي، وما ذكره الذهبي في ميزانه تصحيف وتوهم.
صفحة ١١
والده هو محمد بن سعيد بن عبد الرحمن الملقب بعقدة.
قال السمعاني: العقدي: بضم العين المهملة، وفتح القاف، وفي آخرها الدال المهملة، هذه النسبة إلى (عقدة) وهو لقب والد أبي العباس بن عقدة الحافظ، وإنما لقب بذلك لعلمه بالتصريف والنحو، كان يورق بالكوفة، ويعلم القرآن والأدب (1). وهو من العلماء العاملين وكان قبل الثلاثمائة (2).
وقال الدارقطني: كان عقدة أنحى الناس (3).
وقال ابن النجار: كان عقدة زيديا، وكان ورعا ناسكا، سمي عقدة لأجل تعقيده في التصريف، وكان وراقا جيد الخط (4).
وروى الخطيب البغدادي عن أبي علي النقار حكايتين دلت على شدة ورعه، قال: كان عقدة يؤدب ابن هشام الخزاز، فلما حذق الصبي وتعلم، وجه إليه ابن هشام دنانير صالحة فردها، فظن ابن هشام أن عقدة استقلها، فأضعفها له، فقال عقدة: ما رددتها استقلالا ولكن سألني الصبي أن أعلمه القرآن فاختلط تعليم النحو بتعليم القرآن فلا أستحل أن آخذ منه شيئا ولو دفع إلي الدنيا.
وقال: سقطت من عقدة دنانير، فجاء بنخال ليطلبها، قال عقدة: فوجدتها ثم فكرت، فقلت: ليس في الدنيا غير دنانيرك؟ فقلت للنخال: هي في ذمتك، وذهبت وتركته (5).
صفحة ١٢
ولده أشارت المصادر إلى أن الإمام ابن عقدة خلف ولدا واحدا وهو أبو نعيم محمد ابن أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة.
وقد سار على النهج الصالح الذي اتبعته أسرته، فقد كان محدثا جليل القدر عظيم الحفظ، روى عنه التلعكبري (1) وسمع منه في حياة أبيه، وكان يروي عن حميد (2) (3).
سيرته مع تقدم ابن عقدة على أصحابه في قوة الحفظ وبصيرته في معرفة الحديث، فقد عرف بإجلاله وإكرامه وتواضعه لهم.
قال الدارقطني في حكاية له: كنت إذا حضرت أكرمني ورفعني في المجلس (4).
وقال أبو بكر بن أبي دارم الحافظ: ما رأيت ابن عقدة يتواضع لأحد من الحفاظ كتواضعه لأبي علي النيسابوري (5).
صفحة ١٣
وحينما استعر الخلاف على رئاسة الكوفة، المدينة التي نشأ وعاش بها ابن عقدة، تنقل لنا المصادر أنه تدخل لتهدئة الوضع ونجح في إخماد الفتنة آنذاك.
قال أبو الحسن محمد بن عمر العلوي: كانت الرئاسة بالكوفة في بني الفدان قبلنا، ثم فشت رئاسة بني عبيد الله، فعزم أبي على قتالهم، وجمع الجموع، فدخل أبو العباس بن عقدة وقد جمع جزءا فيه ست وثلاثون ورقة فيها حديث كثير لا أحفظ قدره في صلة الرحم عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن أهل البيت، وعن أصحاب الحديث فاستعظم أبي ذلك واستكثره... (1).
صفحة ١٤
القسم الثاني: حياته العلمية حفظه وإتقانه بلغ ابن عقدة الغاية في قوة حفظه وضبطه، وقد شهد له كبار الحفاظ بذلك وأقروا بتقدمه على من سواه من حفاظ عصره وحتى السابقين له.
قال الدارقطني: أجمع أهل الكوفة أنه لم ير من زمن عبد الله بن مسعود إلى زمن ابن عقدة أحفظ من ابن عقدة (1).
وقال الدارقطني: كان أبو العباس بن عقدة يعلم ما عند الناس ولا يعلم الناس ما عنده (2).
وقال الحاكم النيسابوري: سمعت أبا علي الحافظ يقول: ما رأيت أحدا أحفظ لحديث الكوفيين من أبي العباس بن عقدة (3).
وحكى الذهبي عن محمد بن جعفر النجار أنه قال: كان أبو العباس بن عقدة أحفظ من كان في عصرنا للحديث (4).
صفحة ١٥
وقال الإدريسي: سمعت الحافظ محمد بن أبي سعيد السمرقندي يقول:
سمعت المنكدري (1) يقول: أناظر في ثلاثمائة ألف حديث. فقلت له: هل رأيت بعد أبي العباس بن عقدة أحفظ من المنكدري؟ قال: لا (2).
وقال أبو أحمد الحاكم النيسابوري: قال لي أبو العباس بن عقدة: دخل البرديجي (3) الكوفة فزعم أنه أحفظ مني، فقلت: لا تطل، تتقدم إلى دكان وراق، وتضع القبان، وتزن من الكتب ما شئت، ثم تلقي علينا فنذكره، فبقي (4).
وقال الدارقطني: سمعت أبا العباس بن عقدة يقول: أنا أجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل البيت خاصة (5).
وقال أبو بكر بن أبي دارم: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن سعيد يقول:
أحفظ لأهل البيت ثلاثمائة ألف حديث (6).
وقال الأبهري : سمعت أبا العباس بن عقدة يقول: أحفظ ثلاثمائة (7) ألف حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأهل البيت. قال ابن البادا: فجئت إلى أبي الحسين بن المظفر فأخبرته بقول الأبهري، فقال: صدق، أنا سمعت هذا القول منهما
صفحة ١٦
جميعا (1).
وقال أبو الطيب أحمد بن الحسن بن هرثمة: كنا بحضرة أبي العباس بن عقدة نكتب عنه وفي المجلس رجل هاشمي إلى جانبه، فجرى حديث حفاظ الحديث، فقال أبو العباس: أنا أجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل بيت هذا سوى غيرهم، وضرب بيده على الهاشمي (2).
وقال أبو الحسن محمد بن عمر بن يحيى العلوي: حضر أبو العباس بن عقدة عند أبي في بعض الأيام، فقال له: يا أبا العباس قد أكثر الناس علي في حفظك الحديث فأحب أن تخبرني بقدر ما تحفظ، فامتنع أبو العباس أن يخبره وأظهر كراهة ذلك، فأعاد المسألة وقال: عزمت عليك إلا أخبرتني. فقال أبو العباس:
أحفظ مائة ألف حديث بالإسناد والمتن، وأذاكر بثلاثمائة ألف حديث (3).
وقال أبو الحسن محمد بن عمر العلوي: كانت الرياسة بالكوفة في بني الفدان قبلنا، ثم فشت رئاسة بني عبيد الله، فعزم أبي على قتالهم وجمع الجموع، فدخل إليه أبو العباس بن عقدة وقد جمع جزءا فيه ست وثلاثون ورقة فيها حديث كثير لا أحفظ قدره في صلة الرحم عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعن أهل البيت وعن أصحاب الحديث، فاستعظم أبي ذلك واستكثره. فقال له: يا أبا العباس بلغني من حفظك للحديث ما استنكرته واستكثرته فكم تحفظ؟ فقال له: أنا أحفظ منسقا من
صفحة ١٧
الحديث بالأسانيد والمتون خمسين ومائتي ألف حديث، وأذاكر بالأسانيد وبعض المتون والمراسيل والمقاطيع ستمائة ألف حديث (1).
وقال أبو عبد الله الزعفراني: روى ابن صاعد ببغداد في أيامه حديثا أخطأ في إسناده، فأنكر عليه ابن عقدة الحافظ، فخرج عليه أصحاب ابن صاعد وارتفعوا إلى الوزير علي بن عيسى، وحبس ابن عقدة، فقال الوزير: من نسأل ونرجع إليه؟ فقالوا: ابن أبي حاتم، فكتب الوزير يسأله عن ذلك، فنظر وتأمل فإذا الحديث على ما قال ابن عقدة، فكتب بذلك، فأطلق ابن عقدة، وارتفع شأنه (2).
وقال حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق: سمعت جماعة يذكرون أن يحيى بن صاعد كان يملي حديثه من حفظه من غير نسخة، فأملى يوما في مجلسه حديثا عن أبي كريب، عن حفص بن غياث، فعرض على أبي العباس بن عقدة، فقال:
ليس هذا الحديث عند أبي محمد عن أبي كريب، وإنما سمعه من أبي سعيد الأشج، فاتصل هذا القول بابن صاعد فنظر في أصله فوجده كما قال، فلما اجتمع الناس، قال لهم: إنا كنا حدثناكم عن أبي كريب، عن حفص، عن عبيد الله بحديث كذا ووهمنا فيه، إنما حدثناه أبو سعيد الأشج، عن حفص بن غياث، وقد رجعنا عن الرواية الأولة (3).
وقال أبو إسحاق الطبري: سمعت ابن الجعابي يقول: دخل ابن عقدة بغداد ثلاث دفعات، فسمع في الدفعة الأولى من إسماعيل القاضي ونحوه، ودخل
صفحة ١٨
الثانية في حياة ابن منيع وطلب مني شيئا من حديث يحيى بن صاعد لينظر فيه، فجئت إلى ابن صاعد وسألته أن يدفع إلي شيئا من حديثه لأحمله إلى ابن عقدة، فدفع إلي مسند علي بن أبي طالب، فتعجبت من ذلك وقلت في نفسي:
كيف دفع إلي هذا وابن عقدة أعرف الناس به مع اتساعه في حديث الكوفيين، وحملته إلى ابن عقدة فنظر فيه ثم رده علي فقلت: أيها الشيخ هل فيه شئ يستغرب؟ فقال: نعم. فيه حديث خطأ. فقلت: أخبرني به، فقال: والله لا أعرفنك ذلك حتى أجاوز قنطرة الياسرية، وكان يخاف من أصحاب ابن صاعد، فطالت علي الأيام انتظارا لوعده، فلما خرج إلى الكوفة سرت معه، فلما أردت مفارقته قلت: وعدك. فقال: نعم. الحديث عن أبي سعيد الأشج، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة. ومتى سمع منه، وإنما ولد أبو سعيد في الليلة التي مات فيها يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، فودعته وجئت إلى ابن صاعد، فقلت له: ولد أبو سعيد الأشج في الليلة التي مات فيها يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، فقال: كذا يقولون، فقلت له: في كتابك حديث عن الأشج عنه فما حاله؟ فقال لي: عرفك ذلك ابن عقدة؟ فقلت: نعم. فقال: لأجعلن على كل شجرة من لحمه قطعة، ثم رجع يحيى إلى الأصول فوجد الحديث عنده عن شيخ غير أبي سعيد عن ابن أبي زائدة وقد أخطأ في نقله فجعله على الصواب (1).
وقال الخليل بن عبد الله القزويني: أخبرني أبو بكر بن عبدان الحافظ فيما كتب إلي، نا عبد الله بن شاهين، نا محمد بن يزيد السلمي، نا الحسين بن الوليد، نا أبو حنيفة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): " من
صفحة ١٩
كان مصليا بعد الجمعة فليصل بعدها أربعا ".
ثم قال القزويني: سمعت أبا علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري يقول: لما سمعت من ابن عبدان حديث أبي حنيفة، عن سهيل، رجعت إلى البصرة، فقال لي علي بن محمد بن موسى غلام عبيد بالبصرة: يا أبا علي سمعت من ابن عبدان حديث أبي حنيفة عن سهيل؟ فقلت: نعم. فتبسم وقال: قال لي أبو العباس بن عقدة: إنما وقع هذا الغلط على من روى عن الحسين بن الوليد. فلم يلق الحسين أبا حنيفة، فهذا لا يفرح به (1).
مكانته العلمية احتل الإمام ابن عقدة منزلة عظيمة بين علماء القرن الثالث والرابع الهجري، ولم يستطع أحد أن يبلغ مكانته أو ينافسه على ما وصل إليه من علم ومعرفة، تلك المكانة التي اعترف بها المخالف قبل الموافق.
قال الدارقطني: كان أبو العباس بن عقدة يعلم ما عند الناس ولا يعلم الناس ما عنده (2).
وقد تجاوزت شهرة ابن عقدة في العلم آفاق الكوفة، وانتشر اسمه في البلدان، وبعد صيته في أرجاء المعمورة، ونال من المنزلة الرفيعة والمقام الشامخ ما أصبح به مرجعا يرجع إليه الحفاظ وعلماء الأمصار لما أشكل عليهم من مسائل في الحديث وعلومه.
صفحة ٢٠
قال ابن أبي كامل: سمعت خيثمة يقول: رويت بدمشق حديث الثوري، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " اطلبوا الخير عند حسان الوجوه " فأنكر القاضي زكريا البلخي هذا وبعث فيجا (1) إلى الكوفة يسأل ابن عقدة، فكتب إليه: قد كان السري بن يحيى حدث به في تاريخ كذا. قال:
فطلب البلخي مني الأصل فوجد تاريخه موافقا، فاستحلني البلخي فلم أحله (2).
وقال الخطيب البغدادي: بلغني أن دعلج (3) بعث بكتابه المسند إلى أبي العباس بن عقدة لينظر فيه، وجعل في الأجزاء بين كل ورقتين دينارا (4).
وهكذا أصبح ابن عقدة ممن يشد الرحال إليهم، وقامت شهرته الواسعة لما وصل إليه من الحفظ والمعرفة في الحديث وعلومه.
قال أبو بكر البرقاني: سمعت عبد الله الفارسي - وعرفه البرقاني - يقول:
أقمت مع إخوتي بالكوفة عدة سنين نكتب عن ابن عقدة، فلما أردنا الانصراف ودعناه، فقال: قد اكتفيتم بما سمعتم مني!! أقل شيخ سمعت منه، عندي عنه مئة ألف حديث، فقلت: أيها الشيخ نحن أربعة إخوة، قد كتب كل واحد منا عنك مئة ألف حديث (5).
وتظهر مكانة ابن عقدة في كلام لتاج الدين السبكي (ت 771 ه) حول أهمية
صفحة ٢١