الوصية السنية الدرية الزكية
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الوصية السنية الدرية الزكية، وصية مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وخليفة رب العالمين، المنصور بالله رب العالمين القاسم بن محمد بن علي -عليه السلام-، أوصى بها ولده السيد البدر العالم العلم الطود الأشم، كشاف الغمم، صاحب السيادة والزهادة: محمد بن القاسم بن محمد -عليهم السلام جميعا-.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته، ثم إني أوصيك أن لا تترك درس القرآن يوما واحدا ولو في كل يوم جزءين أو جزءا واحدا، لا تترك ذلك أبدا، وعليك بصلاة الجماعة فإنها من الواجبات، ولا يغرنك قول من قال: إنها سنة، وعليك بملازمة العلم وطلبه فإنه من أكبر الفرائض، واستعن على ذلك بتقوى الله سبحانه؛ لأن الله تعالى يقول: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}، والفرقان هو: العلم والفطنة وتنوير القلب الذي يفرق به بين الحق والباطل، وتقوى الله هي: أن تترك كل حرام وكل مشتبه بالحرام كأكل الشظا لأجل الخلاف، وأن تقوم بكل ما أوجب الله عليك.
ومما تستعين به على تحصيل العلم: ترك حب الدنيا والاشتغال بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من اشتدت رغبته في الدنيا أعمى الله قلبه على قدر رغبته فيها)).
صفحة ٧٩
وعليك بالإكثار من الحسنات؛ لأن الله تعالى يقول: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}، وعليك بالتواضع للمؤمنين، وترك التكبر عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله)).
وعليك بترك الإعجاب بنفسك، وذلك أن تعتقد أنك أفضل من غيرك من المؤمنين، فإن ذلك من الكبائر الموبقات، المحبطات للأعمال؛ لأن إبليس -لعنه الله- كان قد عبد الله ستة آلاف سنة أو خمسة آلاف سنة -شككت أنا في ذلك- فاعتقد أنه أفضل من آدم عليه السلام، فجعل الله عليه لعنته إلى يوم الدين.
وروى الإمام أحمد بن سليمان-عليه السلام-في كتاب( حقائق المعرفة): أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صفة المحبين للرحمن، فأمر عليا-عليه السلام-أن يخبره، فقال له علي عليه السلام: (يا ذا خذ عني صفة المحبين للرحمن:
عبد استصغر بذله في الله واستعظم ذنبه، ووطن نفسه أنه ليس في السماوات والأرض مؤاخذ غيره حينئذ -يعني اعتقد أنه لا يؤاخذ أحد من المؤمنين من أهل السماوات والأرض- قال: فصعق الأعرابي حينئذ- يعني ذهب عقله- حتى وقع على الأرض كالميت، فلما أفاق يعني رجع له عقله، قال: أخبرنا يا ابن أبي طالب هل تكون في حالة أعلى من هذا العبد؟
قال: نعم، سبعين درجة حينئذ- يعني أنه خائف أنه ليس مؤاخذ في السماوات والأرض غيره خوفا زائدا على خوف العبد الذي وصفه سبعين درجة.
صفحة ٨٠
واعلم يابني أن ذلك صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}.
ولا تظن بأحد من المؤمنين سوء؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} ويقول: { إن بعض الظن}.
وعليك بترك المرآء، وهو: كثرة المراجعة، فلا تفعل شيئا من ذلك، لكن إذا عرضت مراجعة وقد عرفت الحق إن قبل وإلا سكت؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أنا زعيم لمن ترك المرآء ببيت في رياض الجنة، وإن كان محقا)).
وعن علي-عليه السلام-أنه قال: (ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق).
وقال عليه السلام: (فمن جعل المرآء دينا لم يصبح ليله والدين العادة)، ومعنى أنه لم يصبح ليله: أنه يبقى في الظلمات لا يهتدي إلى الحق.
وقال -عليه السلام-في وصيته لابنه الحسن: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، وليكن طلبك بتفهم وتعلم، لابتورط الشبهات، وعلم الخصومات...) في كلام طويل إلى أن قال فيه: (وليس كل طالب للدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل).
وقال بعض الشعراء في ذلك:
إياك إياك المرآء فإنه
صفحة ٨١
إلى الشر دعاء وللشر جالب وعليك بتعظيم شيخك في العلم لقوله تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}...الآية، وقوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}، فمن جمع بين الإيمان والعلم أفضل من الذي لم يكن منه الإيمان فقط، وهو التعلم.
واعلم يابني أني لم آمرك بالعلم إلا أنه من أعظم الطاعات لحاجتنا إليه؛ ولأنه لا ينجو إلا العلماء العاملون؛ لأنه لا ينجو من عذاب الله إلا من خشي الله بدليل قوله تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}، وقال تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمان بالغيب وجاء بقلب منيب}، وقد أخبر الله سبحانه أنه لا يخشاه إلا العلماء حيث قال: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، والعابد يوشك أن يقدح الشك في قلبه، فإذا هو في وادي الهلكات.
صفحة ٨٢
وروى زيد بن علي -عليه السلام- عن علي -عليه السلام- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سلك طريقا يطلب فيها علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، وإنه ليستغفر لطالب العلم من في السماوات والأرض حتى حيتان البحر، وهوام البر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب))(1) .
صفحة ٨٣
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله
هذه الوسيلة لمولانا أمير المؤمنين: المنصور بالله رب العالمين القاسم بن محمد علي رضوان الله عليه
أيا الله يا أحد ... ويا ألله ياصمد
ويا من أوجد الأشياء ... من لا شيء يعتمد
ويا من علمه محصي ... يخلق شأنه العدد
ويا من ليس ذا قبل ... بذاك الله ينفرد
ويا من ليس ذا بعد ... محال ذاك مبتعد
ويا من لم يكن عرضا ... ولا شبحا له جد
ويا من ليس ذا وطن ... ولا يجري له أمد
ويا من ليس يدركه ... بطرف كل من يجد
ويا من ليس صاحبة ... تكون له ولا ولد
ويا من لا ولي له ... لما ذل ولا سند
ولا ضد ولا ند ... ولا حد ولا عمد
ويا من فضله عمم ... إلى كل الورى يرد
وفدت إليك مرتجيا ... لما يعطى الذي يفد
وعلمك بالسرائر ما ... سواك لذاك ينفرد
وإن وفد الأنام إلي ... سواك فربما وفدوا
فكيف أخيب يا أملي ... وأنت والله الصمد
فصل على محمد ال ... أمين وآله العمد
وهب ما رجوتك من ... دعائك شر ما أجد
وزدني مما رجوتك من ... نوال عيشة رغد
تمت والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا، طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى.
وصلى الله وسلم على محمد وآله.
إجازة العلامة أحمد بن يحيى حابس
بقلم الإمام القاسم بن محمد -عليه السلام-
بسم الله الرحمن الرحيم
وبالله الحول والقوة والطول.
يقول الفقير إلى الله تعالى أمير المؤمنين القاسم بن محمد لطف الله به آمين:
صفحة ٨٤
الحمد لله المكرم لنا بسنة سيد الأنام، الكرامة العظمى من نعمه التوام، وأياديه الجسام، المتفضل علينا بتوفيقنا لنحملها عن حفظتها الأعلام المتصلين إسنادا بالنبي محمد عليه وعلى آله من الله أفضل الصلاة والسلام إلى نظرائهم من أهل دين الإسلام، الطالبين معرفة الحلال والحرام وما سوى ذلك من الأحكام.
وبعد:
فإن دين الإسلام لما كان مأخوذا من سيد الأنام وخاتم الرسل الكرام، وتراخت بنا الأيام عن إدراك زمانه، ففاتنا الأخذ عنه مشافهة، وخلف فينا كتاب الله المعلوم بالاضطرار، من دينه يسمعه أهل كل عصر عن من سبقه من غير حصر حتى ينتهي إلى سيد المرسلين، لا يختلفون في ذلك فهو معلوم الإسناد المتصل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله، وخلف فينا صلى الله عليه وعلى آله سنته، وإن لم يبلغ أكثر ما أسند منها مبلغ ما أسند به كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
فقد استعنا بالله سبحانه وطلبناه ففتح الله لنا من ذلك بنصيب وافر فلله الحمد كثيرا، بكرة وأصيلا.
صفحة ٨٥
ولنبدأ إن شاء بأسانيد العترة الطاهرين، وأشياعهم المتقين؛ لأن العترة قرناء وحي الله وشيعتهم متمسكون بهما، وقد قال صلى الله عليه وآله: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخببر نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض))، وأحاديث التمسك بالعترة الطاهرة لها طرق كثيرة، وردت عن نيف وعشرين صحابيا فيما رواه العامة.
وأما الأئمة -عليهم السلام- وشيعتهم رضي الله عنهم جميعا فإنهم لا يختلفون في حديث التمسك، ويرويه منهم خلف عن سلف، ويرفعونه إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله، يعرف ذلك من قرأ في علومهم واطلع على مصنفاتهم.
ثم نتبع ذلك بما ثبت لنا طريقة من سائر كتب الحديث وغيرها إن شاء الله تعالى.
فأقول وبالله الثقة والحول والقوة:
أنا أروي من فقه الزيدية (الأزهار)، وشرح بن مفتاح، و(التذكرة)، و(مفتاح الفرائض)، وشرح الناظري على السيد العالم التقي جمال الدين علي بن إبراهيم القاسمي، قراءة عن الفقيه العلامة محمد بن عبد الله بن رواغ قراءة [بياض في الأم].
صفحة ٨٦
(ح) وعن الفقيه العالم المهدي بن أحمد الرجمي قراءة لجميع كتاب الأحكام من (البحر)، وإجازة لسائر كتب آل محمد وشيعتهم قراءة لكتاب الأحكام من (البحر) على الفقيه العلامة إبراهيم بن مسعود الحوالي، قراءة على الفقيه العلامة محمد بن عبد الله بن راوع مقدم الذكر، وإجازة له من الفقيه سعيد بن عطاف القداري الآتي ذكره -إن شاء الله تعالى-.
(ح) وعن السيد العلامة المجاهد في سبيل الله إبراهيم بن المهدي القاسمي الجحافي قراءة (أصول الأحكام) للإمام أحمد بن سليمان، وإجازة لغيره عن السيد أحمد بن عبد الله بن الوزير، وقراءة لكتاب (أصول الأحكام)، وإجازة لغيره أيضا.
(ح) وعن السيد العلامة أمير الدين بن عبد الله قراءة لجميع كتاب (شفاء الأوام) من أوله إلى آخره، وإجازة لجميع كتب علوم أهل محمد وغيرها مما يأتي ذكره -إن شاء الله تعالى-.
عن السيد أحمد بن عبد الله بن الوزير مقدم الذكر.
(ح) وعن القاضي العلامة محب آل محمد أحمد بن صلاح الدواري الملقب بالقضعة إجازة عن السيد أحمد بن عبد الله بن الوزير مقدم الذكر.
وعن الحاكم عبد العزيز بن محمد بن بهران الآتي ذكره.
(ح) وعن الفقيه العلامة عبد الرحمن بن عبد الله الحيمي قراءة لقطعة من كتاب (شفاء الأوام)، وإجازة لباقيه عن السيد أحمد بن عبد الله بن الوزير المقدم ذكره.
صفحة ٨٧
(ح) وعن الحاكم عبد العزيز بن محمد بن يحيى بن بهران التميمي إجازة عن والده محمد بن يحيى ومشائخه الذين هم: يحيى بن محمد بن حميد المقرائي، ومحمد بن علي بن عمر الضمدي، والفقيه حسن الزريقي.
(ح) وعن السيد الأكمل صلاح بن أحمد بن عبد الله بن الوزير مقدم الذكر إجازة عن والده أحمد بن عبد الله.
(ح) وعن الفقيه العلامة عبد الله بن المهلا التيسائي إجازة عن السيد أحمد بن عبدالله مقدم الذكر.
(ح) وأروي أيضا جميع كتاب (شفاء الأوام) عن الفقيه المحقق المتقن عامر بن محمد قراءة عن الحاكم عبد العزيز بن محمد بن يحيى بهران قراءة عن مشائخه المذكورين.
(ح) وعن الفقيه سعيد بن عطاف القداري إجازة عن يحيى بن محمد بن حسن المقراني.
(ح) وعن أحمد بن يحيى الذويد الصعدي إجازة عن عبد العزيز عن والده وعن مشائخه المذكورين، وهؤلاء الذين انتهى إليهم السند كلهم يروون عن الإمام يحيى شرف الدين -عليه السلام- جميع ما سنقف عليه إن شاء الله تعالى فيما يأتي ذكره من كتب أهل المذهب -عليهم السلام- وغيرهم من أتباعهم وغيرهم من فقهاء العامة.
وعلى الجملة فكل ما في هذا الإسناد مما هو سماع أو إجازة أو مناولة أو غيرها من الطرق للإمام شرف الدين -عليه السلام-، فقد صار لنا بمثل تلك الطرق التي للإمام شرف الدين إليه عن المقدم ذكرهم عن مشائخهم عن الإمام شرف الدين -عليه السلام- حسبما قد وضعناه هاهنا، والله الموفق والهادي.
صفحة ٨٨
ولبعض من تقدم ذكره من الطرق غير طريق الإمام شرف الدين -عليه السلام- كما يأتي -إن شاء الله تعالى-، ولنا أيضا من الطرق غير ما ذكرنا، وستقف علىذلك إن شاء الله تعالى.
وأقول وأنا العبد الفقير الخائف من عذاب ربه العلي الكبير أحمد بن يحيى بن أحمد بن حابس، بعد حمد الله على سوابغ نعمائه، وبوالغ آلائه، والصلاة على النبي وآله لما من الله علي وأحسن إلي بالإتفاق بمولانا وإمام زماننا وحجة الله علينا القاسم بن محمد أيده الله تعالى ليلة السبت في العشر الأواخر من شهر محرم سنة اثنين وعشرين وألف.
كان من جملة ما ذكره لي وأوصاني به أن قال: إنما في علم الحديث ويكون الاعتماد على حديث القدماء من أهل البيت، إذ طريقهم فيه الطريقة المعتمدة حيث كان عمدتهم على طلب اليقين وترك الظن الذي لا يغني من الحق شيئا.
قال -عليه السلام-: واعلم أن الحديث على خمسة أقسام:
الأول: المتواتر.
والثاني: المتلقى بالقبول وهو: ما يتفق عليه أئمتنا والصحاح(1) الستة للفقهاء.
الثالث: الأحادي، الذي يشهد له الكتاب إما بنص أو قياس، وهذه الثلاثة هي المعتمدة.
الرابع: الأحادي المصادم للكتاب، أو المتواتر، فهذا حقيق بالإطراح.
صفحة ٨٩
الخامس: الأحادي الذي لم يشهد له الكتاب ولا خالفه، فهذا لا يعتمد عليه لما قد علمنا من وقوع الكذب في الحديث ممن لانرضى طريقته.
ولما ذكر لي هذا الخطاب الذي أتى فيه بما يروق ويستطاب، سكن لذلك خاطري، وقر بذلك ناظري، فقلت له: أريد منكم ترسمون لي إجازة فيما قد حصل لكم فيه من طرق السماع وغيرها من الطرق المعتبرة، وما قد جمعتموه من كتب وجوابات.
فقال لي مشافها: قد أجزت لك جميع ما قد حصل لي فيه من الطرق المعتبرة، حسبما هو موضوع في كتاب (الإجازة) المسمى (كتاب إجازة المنصور بالله) وفيه إجازات عديدة من العلماء، منها ما يستند إلى الإمام شرف الدين -عليه السلام- كإجازته لمحمد بن يحيى بن بهران، ومحمد بن علي بن عمر الضمدي وغيرها.
ومنها: ما سنده إلى غيره، وكذلك جميع ما قد ألفته من كتب وجوابات.
ثم إنه صلوات الله عليه قد كان أجاز لي قبل هذا التاريخ مثل هذه الإجازة، أعني بالعموم الشامل، ونص على كتب منها: كتاب (شفاء الأوام) بعد أن كنت قد قرأت عليه أيده الله تعالى قطعة منه، ولله الحمد، ويسأله تمام سماعه.
ومنها: كتاب (البحر)، ومنها: كتاب (الأساس)، و(الإرشاد)، و(التحذير)، و( جواب مسائل عبد الجبار).
واشترط علي في إجازته مطلقا ما يشترطه العلماء من حسن التأدية والضبط، فالتزمت ذلك.
هذا من فضل الله علينا وعلى الناس، {ولكن أكثر الناس لا يشكرون}.
صفحة ٩٠
واعلم: أن مولانا وإمام زماننا أيده الله تعالى قد أحيا الله ما اندرس من معالم علم آبائه وأجداده الذين هم سفن النجاة، وله من العناية بسائر العلوم والتحري في طرقها ما ليس لأحد من أبناء زمانه مثله، سيما علم الحديث الذي كاد يندرس في البلاد وتنمطس معالمه مع شدة الحاجة إليه، وكثرة الاعتماد عليه، وهو يفتقر إلى تصحيح الرواية، لما قد وقع من التحريف والكذب على النبي صلى الله عليه وآله.
نقلت من خط مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى ما لفظه: المروي عن النبي صلى الله عليه وآله من الأخبار غير مصون من إفك المنافقين، ووضع الفاسقين، ووهم الواهمين، ثم من حشو الملاحدة وأهل البدع والأهواء من المارقين الخوارج، وعتاة النواصب، وغلاة الروافض، وطغام المجبرة والمشبهة، وهمج القصاص والوعاظ والحشوية، وأغتام الظاهرية والكرامية والخطابية وغيرهم مما لا أحصي كثرة من المسترسلين في وضع الأخبار من عوام المتفقهين ونساك المتعبدين والمتصوفين الذاهبين إلى قبول المجهولين.
قال شعبة: لم يفتش أحد عن الحديث تفتيشي، فوجدت ثلثي ما وجدت منه كذبا.
وقال ابن المعتز: كذبنا عن الكذابين، ولقد تسامح من ينظر إليه في أحاديث الترغيب والترهيب، واعتمد من يعتمد على قوله في وجوب العمل بما ظن صدقه، مع أن المعلوم عقلا أن الظن يخطئ، ومع قوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا}، وقوله تعالى: {إن بعض الظن إثم }.
صفحة ٩١
وروى أيده الله تعالى عن مقدمة (جامع الأصول) ما لفظه: قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا.
وما ذكرناه فهو حاصل في زمن الصحابة أعني من التحريف والكذب على النبي صلى الله عليه وعلى آله، خلافا لابن الصلاح؛ لأنه قال في النوع التاسع والثلاثين من كتاب (معرفة أنواع علم الحديث) للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي: أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدلين بالكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة، قال الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، وقال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}، وقال سبحانه: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار}.
قال: وفي نصوص السنة الشاهدة بذلك كثرة كحديث أبي سعيد المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لاتسبوا أصحابي...)) الخبر.
قال: ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جمع الصحابة ومن لابس الفتن منهم كذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع.
صفحة ٩٢
قال مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى: وهلا تلا ابن الصلاح قوله تعالى: {مردوا على النفاق لا تعلمهم...} الآية، وقوله تعالى: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة...} الآية، مع قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها...} الآية، وهل يذكر ما روي هو في الصحاح قوله صلى الله عليه وآله في أصحابه الذين يردون الحوض فيجلؤن عنه، فيقال: إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك، وأين إجماع الأمة على التعديل مع استحلال دماء وقعة الجمل وصفين والنهروان دماء بعضهم بعضا؟ اللهم إلا أن يخرج أولئك عن الأمة، وكيف وهم كانوا هم الأمة؟ ثم من هؤلاء الذين يعتد بإجماعهم دون من سواهم إن كان بدليل خاص فليبرزه فهو في محل الاحتجاج الذي لا يقتصر فيه على مجرد الدعوى، ثم إن المخالفة أن تدعي خلاف ما أدعي، ثم لا تكون أيهما أولى بصحة دعواه من الآخر ... !
هذا جوابه -عليه السلام- على ابن الصلاح، ولقد أجاد وأفاد، فتأمله، فهو يدفع عنك زخارف أهل العناد.
هذا وإن أصحابنا المتأخرين قد سلكوا في كتبهم الفقهية طريقا كان الأولى لهم والأجدر بحالهم أن يسلكوا طريقا غيرها، وهي: أنهم يعتمدون على نقل أقوال مخالفيهم من فقهاء العامة ويملؤون كتبهم بكثرة أقوالهم حتى أنهم يذكرون للعالم أقوالا عديدة، ويعدون ذلك مفخرا عظيما!
صفحة ٩٣
وهذا غاية التساهل، فإن الأولى الإعتناء في حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله الصحيح منه والساقط، فإنهم يحتجون بالحديث في تحليل أو تحريم، ولا يبحثون عن صحته، ومن رواه مع ما في هذا من الخطر العظيم، وأنت ترى فقهاء العامة لا يلتفتون إلى أقوالهم ولا يعولون عليها، بل لا يبعد أنهم يدعون الإجماع مع إجماع الزيدية على خلاف ما ذكروه!
ولنا سلف بحمد الله صالح لاتجد لفقهاء العامة مثله، يروون الحديث عن الآباء والأجداد الطاهرين عن سيد المرسلين، لا يشاركهم فيه مشارك إلا من عرفوا عدالته من شيعتهم الأخيار كزيد بن علي -عليه السلام-، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، والإمام أحمد بن عيسى، والقاسم بن إبراهيم، والهادي بن يحيى بن الحسين -عليهم السلام-، ومحمد بن منصور المرادي، والمؤيد بالله، وأبي طالب وغيرهم، فهم قد اتخذوا من طرق الحديث أبهجها وأحسنها.
صفحة ٩٤
قال السيد الهادي بن إبراهيم أعاد الله من بركاته في كتاب (هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطيبين): وصنف زيد بن علي (مجموع الفقه)، وهو: أول من صنف من العترة النبوية وبوب في الفقه أبوابا، وتكلم عليها، وليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله إلا ثلاثة: أبوه، وجده الحسين بن علي، وأمير المؤمنين -عليه السلام-، فهو يروي عن زين العابدين وأبوه عن أبيه سبط سيد المرسلين، وهو عن أبيه خاتم الوصيين الأنزع البطين، فمن أولى بالتقليد والاتباع في الدين؟ من لم يكن بينه وبين صاحب الشريعة إلا أبوه وجده وجد أبيه ثلاثة اثنان معصومان، والثالث قريب من العصمة، أم غيره من علماء الأمة؟ لولا قلة الإنصاف وأخلاف الخلاف، فلينظر الناظر لنفسه، وقد ذكرنا من حديث الباقر بن محمد بن علي عليهما السلام تعظيمه لزيد، وأنه كان يقول فيه: هذا والله سيد بني هاشم، وقصته معه في كتاب أبيه الذي كان طلبه منه وأنه استغنى عنه بكتاب الله .
صفحة ٩٥
وفي بعض كلام الباقر دليل عظيم على علم زيد -عليهما السلام-، وأن الباقر إنما سمي بهذا الإسم لتبقره في العلم، والتبقر: التوسع، فإذا اعترف الباقر لزيد بالسيادة فقد اعترف له بالريادة عليه في العلم بقوله لأبي خالد وأبي حمزة، وقد تقدم ذكرهما: يا أبا خالد، ويا أبا حمزة إن زيدا أعطي من العلم علينا بسطة، فصح بإقراره -عليه السلام- واعترافه أن زيدا كان أعلم منه وأفضل، فما ظنك برجل فاق الباقر فضلا وعلما، واعترف بفضله وصحة إمامته أبو حنيفة أكثر الأمة فهما.
قال الذهبي في ترجمة جابر الجعفي: أنه حفظ عن الباقر سبعين ألف حديث، فانظر إلى سعة علمه -عليه السلام-، وانظر إلى سعة علم زيد حيث يقول الباقر: هو أعلم منه صلوات الله عليهما انتهى بلفظه.
قلت: ولم يخل زمان من قائم من أهل البيت -عليهم السلام- يعلن الحق ويظهره، ويمحو الباطل ويطمسه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لاتزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين))، والمراد به أهل البيت لما صح من الأخبار المشهورة والمتواترة مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)).
صفحة ٩٦
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون)) إلى غير ذلك، فقد دلت هذه الأخبار على عدم خلو الزمان منهم، فما ظنك بمن علمه هو: العلم، واتباعه هو: النجاة، وسنده أصح الأسانيد.
قال العلماء: إن الله لما خلق الدنيا بأسرها من أجل محمد صلى الله عليه وآله وسلم جعل دوامها بدوامه، ودوام أهل بيته -عليهم السلام-.
والذي يدل على نجاتهم ونجاة من اتبعهم أدلة كثيرة من الكتاب مثل: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}، ومثل: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا} وهم: أهل البيت؛ لأنه مجمل بينه: (( إني تارك فيكم...))الخبر، ونحوه وغير ذلك من الآيات.
وأما الأحاديث فكثيرة.
روى مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى في كتاب (الإرشاد) عن الديلمي رحمه الله تعالى أنه قال: الأحاديث التي من روايات الفقهاء المتفق عليها يعني في أهل البيت -عليهم السلام-: ألف وستمائة وخمسة أحاديث غير ما ذكره أهل البيت -عليهم السلام- وشيعتهم رضي الله عنهم، منها ستمائة وخمسة وثمانون حديثا تختص بعلي -عليه السلام-، وتسعمائة وعشرون تختص بالعترة -عليهم السلام-، كل واحد منها يدل على إمامتهم وفضلهم على سائر الناس.
صفحة ٩٧
وروى أيده الله تعالى عن المنصور بالله -عليه السلام- أنه قال ما معناه: الأحاديث فيهم -عليهم السلام- من رواية الموالف والمخالف قربت من ألف ألف حديث.
فهذا تنبيه لطيف وإشارة يسيرة ترشدنا إلى أن أهل البيت -عليهم السلام- لايحتاج من اتبعهم إلى علم غيرهم؛ لأن علمهم دين كامل كافل بنيل السؤل والمرام، فمالنا والتلذذ حول علم غيرهم والإحتجاج بحديث غيرهم -عليهم السلام-.
وقد روى النجري في مقدمة شرح البيان عن أبي طالب عليهما السلام ما معناه أنه قال: كيف يحتج علينا بحديث من يستحل قطع رقابنا؟
فينبغي للإنسان أن لا يقتبس إلا من نورهم، ولا يهتدى إلا بهديهم، وأن لايغره الشيطان بأن يقول: إنهم ليس لهم عناية في علم الحديث.
ولا أقول لك إنك لا تذكر حديث غيرهم رأسا، فينبغي ذكره زيادة في تأكيد الحجة، واستعانة على دحض الخصم بحديثه الذي يصح عنده، وهذا مقصد مهم، وإنما أردت بقولي لك أولا أنك لا تجعل حديثهم أصلا في دينك ترجع إليه وترجحه على حديث أهل البيت -عليهم السلام-، فافهم أيها المسترشد موفقا.
واعلم: أنه يجب عليك التفهم لكتاب الله تعالى وما صح لك من الأخبار حتى إذا ورد عليك شيء من الحديث عرضته على ذلك، فإن وافقه ولو بتأويل من غير تعسف قبل، وإلا أطرح، وعند ذلك يسهل عليك عبور هذا الميدان والدخول في هذا الشأن.
صفحة ٩٨