بسم الله الرحمن الرحيم
حسبنا الله، ونعم الوكيل
قال الشيخ الإمام المحقق العالم العلامة شيخ الإسلام والمسلمين. قدوة الأنام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه وأرضاه ونفعنا ببركته.
صفحة ٢١
الحمد لله ذي الوجه الكريم، والفضل العظيم، والمن القديم.
وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد
فقد سألني بعض إخواني الصالحين أن أكتب له وصية، فامتنعت من ذلك لعلمي: أني غير مستوص في نفسي، ولا عامل بما ينبغي.
صفحة ٢٢
ثم بدا لي أن أجيبه إلى مسألته رجاء:
1- ثواب قضاء حاجة الأخ المسلم.
2- ودعائه لي.
3- وأن يجرى لي أجر إذا عمل بوصيتي.
4- وأن أكون من الدالين إلى الخير حين عجزت عن عمله لأكون بدلالتي عليه كفاعله.
صفحة ٢٥
والأعمال بالنيات.
صفحة ٢٦
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
فأقول، وحسبنا الله ونعم الوكيل:
اعلم - رحمك الله:
أن هذه الحياة الدنيا مزرعة الآخرة.
صفحة ٢٧
ومتجر أرباحها، وموضع تحصيل الزاد منها والبضائع الرابحة بها بذر السابقون، وفاز المتقون، وأفلح الصادقون، وربح العاملون، وخسر المبطلون.
وإن هذه الدار هي أمنية أهل الجنة وأهل النار!:
1- قال الله تعالى في أهل النار:
{وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل}.
وقال سبحانه وتعالى:
{ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين}.
صفحة ٢٨
2- وقال تعالى في حق أهل الجنة: {ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين}.
قال الحسن: هي الدنيا لأن أهل التقوى يتزودون فيها للآخرة.
ذكر ذلك البغوي رحمه الله تعالى.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه- فيما يرويه:
إن أرواح الشهداء كطير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. فبينما هم كذلك إذا اطلع عليهم ربك اطلاعة.
فقال: يا عبادي سلوني ما شئتم.
قالوا: يا ربنا نسألك أن ترد أرواحنا في أجسادنا، ثم تردنا إلى الدنيا فنقتل فيك مرة أخرى.
فلما رأى أنهم لا يسألون إلا ذلك تركوا.
صفحة ٢٩
واعلم يا أخي رحمك الله تعالى أن الله تعالى قد علم أنهم يسألون ذلك وأنهم لا يردون إلى الدنيا، وإنما أراد إعلام المؤمنين الذين في الدنيا أمنيتهم في الجنة القتل في سبيله ليرغبهم في ذلك.
3- وقال إبراهيم التيمي -رحمه الله تعالى-:
مثلت نفسي في الجنة (مع حورها، وألبس من سندسها وإستبرقها) آكل من ثمارها، وأعانق أبكارها، وأتمتع بنعيمها، فقلت لنفسي:
يا نفس أي شيء تتمنين؟
فقالت: أرد إلى الدنيا، فأزداد من العمل الذي نلت به هذا.
ثم مثلت نفسي في النار (أعالج أغلالها وسعيرها) أحرق بجحيمها، وأجرع من حميمها، وأطعم من زقومها، فقلت لنفسي:
أي شيء تتمنين؟
فقلت لنفسي: أرد إلى الدنيا فأعمل عملا أتخلص به من هذا (العذاب).
يا نفس فأنت في الأمنية فاعملي.
4- وكان بعض السلف قد حفر لنفسه قبرا، فإذا فتر من العمل نزل في قبره، فتمدد في لحده، ثم قال:
يا نفس قدري أني قد مت وصرت في لحدي: أي شيء كنت تتمنين؟!
صفحة ٣٠
قالت: أرد إلى الدنيا، فأعمل فيها صالحا.
فيقول لها: قد بلغت أمنيتك، فقومي فاعملي صالحا.
صفحة ٣١
5- واعلم رحمك الله أن أهل القبور أمنية أحدهم:
- أن يسبح.
- أن يسبح تسبيحة تزيد في حسناته.
- أو يقدر على توبة من بعض سيئاته.
- أو ركعة ترفع في درجاته.
وقد روينا أن رجلا ركع ركعتين إلى جانب قبر ثم اتكأ عليه، فأغفى، فرأى صاحب القبر في المنام يقول:
تنح عني، فقد آذيتني، والله إن هاتين الركعتين اللتين ركعتهما لو كانا لي كانتا أحب إلي من الدنيا وما فيها، إنكم تعملون ولا تعلمون، ونحن نعلم ولا نعمل.
صفحة ٣٥
فاغتنم رحمك الله حياتك النفيسة واحتفظ بأوقاتك العزيزة واعلم
أن مدة حياتك محدودة وأنفاسك معدودة، فكل نفس ينقص به جزء منك، والعمر كله قصير، والباقي منه هو اليسير، وكل جزء منه جوهرة نفيسة لا عدل لها، ولا خلف منها، فإن بهذه الحياة اليسيرة خلود الأبد في النعيم أو العذاب الأليم:
صفحة ٤٠
وإذا عادلت هذه الحياة بخلود الأبد علمت أن كل نفس يعدل أكثر من ألف عام في النعيم المقيم الذي لا حصر له، أو خلاف ذلك، وما كان هكذا فلا قيمة له، فلا تضيع جواهر عمرك النفيسة بغير عمل، ولا تذهبها بغير عوض، واجتهد أن لا يخلو نفس من أنفاسك إلا في عمل طاعة أو قربة تتقرب بها، فإنك لو كانت معك جوهرة من جواهر الدنيا، فضاعت منك، لحزنت عليها حزنا شديدا.
بل لو ضاع منك دينار لساءك.
فكيف تفرط في ساعاتك وأوقاتك؟!
وكيف لا تحزن على عمرك الذاهب بغير عوض؟!
وإنني قد خطر لي أن أمثل هذه الدنيا وأهلها كمثل أهل سفينة
ألقتهم الريح إلى جزيرة في البحر: فيها معادن الجواهر كلها من الياقوت والزمرد والزبرجد والبلور والمرجان والدر واللؤلؤ وما دون ذلك إلى العقيق والسيح!
ثم بعد ذلك زلف وحجارة لا قيمة لها، وفيها أنهار وبساتين وفي الجزيرة حمى للملك قد حد له حدودا وأحاط عليه حائطا: فيه خزائن للملك وإماء وولدان، فنزل أهل السفينة في الجزيرة، وقيل لهم: إن مقامكم بها يوم وليلة، فاغتنموا مدتكم القصيرة فيما أمكنكم من أخذ هذه الجواهر الكثيرة:
1- فأما الحازمون: فأسرعوا في تلك الجواهر: ينتقون منها، ويحملونه إلى مخازنهم في السفينة ويجدون ويجتهدون، فإذا تعبوا تذكروا قدر تلك الجواهر التي يحصلونها وكثرة قيمتها وقلة مقامهم في تلك الجزيرة، وأنهم عن قليل رائحون وراحلون منها لا يقدرون على الازدياد، فرفضوا الراحة، وتركوا الدعة، وأقبلوا على الجد والاجتهاد ليلا ونهارا.
وإن عرض لهم النوم تذكروا ذلك فذهب عنهم لذة النوم والكرى، وتمثلوا:
عند الصباح يحمد القوم السرى.
صفحة ٤١
2- وأما آخرون:
فأخذوا من الجواهر شيئا، واستراحوا في أوقات الراحة، وناموا وقت النوم.
3- وأما فرقة أخرى:
- فلم يتعرضوا للجواهر أصلا، وآثروا النوم والراحة والتفرج.
- ومنهم قوم أقبلوا على بناء المساكن والقصور والدور.
- وقوم أقبلوا على جمع الزلف والصدف والحجارة والثقف.
- وقوم أقبلوا على اللعب والنزهان، وتشاغلوا باللذات، وسماع الحكايات المطربات، وقالوا:
درة منقودة خير من درة موعودة!
4- والفرقة الثالثة:
عدلوا إلى حمى الملك، فطافوا به، فلم يجدوا له بابا، ففتحوا لهم فيه ثلما واقتحموه، ففتحوا خزائن الملك، وكسروا أبوابها وانتهبوا منها، وعبثوا بجواري الملك والولدان، وقالوا: ليس لنا دار غير هذه الدار، وأقاموا على ذلك، حتى ذهبت مدة المقام، وضربت كؤوس الرحيل، ونودي بالتحويل بل بالحث والتعجيل.
1- فأما الدين حصلوا الجواهر فرحلوا مغتبطين ببضائعهم لا يأسون على المقام إلا للازدياد مما كانوا فيه.
2- وأما الفرقة الثانية:
فاشتد جزعهم: لعدم استبضاعهم، وكثرة تفريطهم، وقلة زادهم، وتركهم ما عمروه، وارتحالهم إلى ما أخربوه.
3- وأما الفرقة الثالثة:
فكانوا أشد جزعا وأعظم مصيبة، وقيل لهم: لا ندعكم حتى نحملكم ما أخرجتم من خزائن الملك في أعناقكم وعلى ظهوركم!
صفحة ٤٢
فارتحلوا على هذه الصفة، حتى وردوا مدينة الملك العظمى، فنودي في المدينة أنه قد قدم قوم كانوا في معادن الجواهر، فتلقاهم أهل المدينة، وتلقاهم الملك وجنوده، فاستنزلوهم، وقيل لهم: اعرضوا بضاعتكم على الملك!
1- فأما أهل الجواهر فعرضت بضائعهم، فحمدهم الملك، وقال:
أنتم خاصتي وأهل مجالستي ومحبتي، ولكم ما شئتم من كرامتي.
وجعلهم ملوكا: لهم ما شاءوا، وإن سألوا أعطوا، وإن شفعوا شفعوا، وإن أرادوا شيئا كان لهم.
وقيل لهم:
خذوا ما شئتم واحتكموا فيما أردتم.
فأخذوا القصور والجواري والدور والجوهر والبساتين والقرى والرساتيق، وركبوا المراكب، وسار بين أيديهم وحولهم الولدان والجنود، وصاروا ملوكا ينزلون في جوار الملك، ويجالسونه، وينظرون إليه، ويزورونه، ويشفعون إليه فيمن شاءوا، وإن سألوه ما سألوه أعطاهم، وما لم يسألوه ابتدأهم.
2- وأما الفرقة الثانية:
فقيل لهم: أين بضائعكم؟
فقالوا: ما لنا بضاعة!
فقيل لهم: ويحكم! أما كنتم في معادن الجواهر؟!
أما كنتم وهؤلاء الذين صاروا ملوكا في موضع واحد؟!
قالوا: بلى، ولكنا آثرنا الدعة والنوم!
وقال بعضهم: اشتغلنا ببناء الدور والمساكن!
وقال آخرون: اشتغلنا بجمع الزلف والشقف!
فقيل لهم: تبا لكم! أما علمتم قلة مقامكم، ونفاسة الجواهر التي عندكم؟!
صفحة ٤٣
أما علمتم أن تلك ليست لكم بدار مقام، ولا محل منام؟!
أما أيقظكم الأيقاظ، أما وعظكم الوعاظ؟!
قالوا: بلى والله قد علمنا فتجاهلنا، وأوقظنا فتناومنا، وسمعنا فتصاممنا!
فقيل لهم: تبا لكم آخر الدهر.
فعضوا أيديهم ندما، وبكوا على التفريط بعد الدموع دما، وبقوا آسفين متحيرين، ووقفوا منتظرين أن يتصدق عليهم بعض الذين صاروا ملوكا بشفاعة أو يتكلم لهم عند الملك بكلمة.
فهؤلاء إن خرجوا من الجزيرة على طاعة الملك لم يهتكوا حرمة ولم يتعدوا حدوده رجي لهم بعض الاتصال بالملك.
3- أما الفرقة الثالثة:
فجاءوا يحملون أوزارهم على ظهورهم آيسين بائسين مبلسين حيارى سكارى، قد زلت بهم القدم، وحل بهم الندم، ونزل بهم الألم، وافتضحوا عند الأمم، فأبعدهم الملك عن داره وطردهم من جواره، وأمر بهم إلى السجن فجروا إليه: قد أيقنوا بالعذاب، وجل أمرهم عن العتاب، {فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين}.
فانظر -رحمك الله- تفاوت ما بين المنزلتين وما حصل من الفرق بين الفريقين بالصبر في تلك المدة القصيرة اليسيرة التي أقاموها في الجزيرة.
فهذا تقريب مثال الدنيا: ومن عمل فيها بالطاعة، ومن استوعبها بالتفريط والإضاعة.
فاجتهد رحمك الله تعالى في الكون من الفرقة الأولى:
1- الذين استوعبوا الساعات بالطاعات. ولم يفرطوا في شيء من الأوقات.
صفحة ٤٤
2- وألزم قلبك الفكر:
- في نعم الله لتشكرها.
- وفي ذنوبك لتستغفرها.
- وفي تفريطك لتندم.
- وفي مخلوقات الله وحكمه لتعرف عظمته وحكمته.
- وفيما بين يديك لتستعد له.
- أو في حكم شيء تحتاج إليه لتعلمه.
3- وألزم لسانك ذكر الله تعالى، ودعاءه، واستغفاره، أو قراءة قرآن، أو علما، أو تعليما، أو أمرا بمعروف، أو نهيا عن منكر، أو إصلاحا بين الناس.
4- وأشغل جوارحك بالطاعات، وليكن من أهمها الفرائض في أوقاتها على أكمل أحوالها، ثم ما يتعدى نفعه إلى الخلق، وأفضل ذلك ما ينفعهم في دينهم لتعليمهم الدين، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
واحترس من مفسدات الأعمال لئلا يفسد عملك ويخيب سعيك فلا تحصل
على أجر العاملين ولا راحة الباطلين وتفوتك الدنيا والآخرة.
1- فمن ذلك الرياء والعمل لمحمدة الناس، فإن هذا شرك.
وقد روينا عن الله -عز وجل- أنه قال:
(من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء).
وقد لا يحصل للمرائي ما قصده فيخيب بالكلية.
فقد روينا أن رجلا كان يرائي بعمله، فإذا مر بالناس قالوا:
صفحة ٤٥
هذا مرائي!
فقال يوما في نفسه:
والله ما حصلت على شيء، فلو جعلت عملي لله.
فما زاد على أن قلب نيته فكان إذا مر بهم بعد قالوا:
هذا رجل صالح!
2- ومن ذلك العجب.
صفحة ٤٦
فقد روي: إن المدل لا يجاوز عمله رأسه.
وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: يا موسى، قل للعاملين المعجبين بعملهم: اخسروا!
وقل للمذنبين التائبين النادمين: أبشروا.
وقال بعضهم:
صفحة ٤٧
لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إلي من أن أبيت قائما وأصبح معجبا.
3- ولا تحقرن مسلما، ولا تظنن أنك خير منه، فإن ذلك ربما أحبط عملك.
وقد روينا أن عيسى عليه السلام خرج في سياحته معه بعض حواريه فمر بقلعة فيها لص، فلما رآهما قال لنفسه:
هذا عيسى نبي الله، وهذا حواريه من أنت، أنت يا شقي يا لص تقطع الطريق، وتخيف السبيل، وتقتل النفس التي حرم الله، فنزل إليهما تائبا نادما، فلما أراد أن يمشي معهما قال لنفسه:
ما أنا بأهل أن أمشي معهما ولكن أمشي خلفهما كما يمشي المذنب الذليل فمشى خلفهما.
فالتفت الحواري، فرآه يمشي خلفهما، فعرفه الحواري فقال في نفسه: من هذا الكلب حتى يمشي خلفنا؟!
فاطلع الله على ما في أنفسهما، فأوحى إلى عيسى عليه السلام:
أن قل للحواري واللص يستأنفان العمل:
- أما اللص: فقد غفرت له بتوبته وازدرائه على نفسه.
وأما الحواري فقد أحبطت عمله بازدرائه اللص التائب.
صفحة ٤٨
وقال بعض أنبياء بني إسرائيل لقومه:
ائتوني بخيركم.
فأتوه برجل، فقال له النبي: ائتني بشرهم.
فرجع بنفسه فقال:
ما وجدت فيهم شرا مني.
فقال: صدقوا، أنت خيرهم.
صفحة ٤٩