بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة ١٠
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم اعلم أرشدنا الله وإياك أنه واجب على كل مكلف أن يعلم أن الله عز وجل واحد في ملكه ، خلق العالم بأسرهم العلوي والسفلي ، والعرش والكرسي ، والسموات والأرض وما فيهما ، وما بينهما ، جميع الخلائق مقهورون بقدرته ، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، ليس معه مدبر في الخلق ، ولا شريك في الملك ، حي قيوم (¬1) ، لا تأخذه سنة (¬2) ولا نوم ، عالم الغيب والشهادة (¬3) ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء ، يعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ، ولا رطب ، ولا يابس إلا في كتاب مبين ، أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ، فعال لما يريد ، قادر على ما يشاء ، له الملك والغناء (¬4) ، وله العزة والبقاء ، وله الحكم والقضاء ، وله الحمد والثناء ، وله الأسماء الحسنى ، لا دافع لما قضى ، ولا مانع لما أعطى ، يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء ، لا يرجو ثوابا ، ولا يخاف عقابا ، ليس عليه حق ، ولا عليه حكم ، وكل نعمة منه فضل ، وكل نقمة (¬5) منه عدل ، لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون ، موجود قبل الخلق ، ليس له قبل ولا بعد ، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال ، ولا خلف ولا أمام ، ولا كل ولا بعض ، ولا يقال متى كان ، ولا أين كان ، ولا كيف كان ، كون المكان ، ودبر الزمان ، ولا يتخصص بالمكان ، ولا يلحقه وهم ، ولا يكيفه عقل ، ولا يتخصص في الزمن ، ولا يتمثل في النفس ، ولا يتصور في الوهم ، ولا يتكيف في العقل ، ولا تلحقه الأوهام والأفكار ، ولا تحويه الجهات والأقطار (¬1) ، وليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، نعم المولى (¬2) ونعم النصير (¬1) ، عرفه العارفون بأفعاله ، ونفوا التكييف عن جلاله / فكل ما خطر في الأوهام والأفكار فالله تعالى اب بخلافه .
... أما بعد ...
... ... فهذه وصية من الإمام الأعظم أبي حنيفة ، رحمه الله لأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ، على مذهب أهل السنة والجماعة .
صفحة ١٣
... لما مرض أبو حنيفة رضي الله عنه قال : اعلموا أصحابي وإخواني أن مذهب أهل السنة والجماعة على اثنتي عشرة خصلة (¬2) ، فمن كان يستقيم على هذه الخصال لا يكون مبتدعا (¬3) ، ولا صاحب هوى ، فعليكم بهذه الخصال حتى تكونوا في شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة :
صفحة ١٤
أولها ... : الإيمان ، وهو إقرار باللسان ، وتصديق بالجنان ، ومعرفة بالقلب ، والإقرار وحده لا يكون إيمانا ؛ لأنه لو كان إيمانا لكان المنافقون كلهم مؤمنين ، وكذلك المعرفة لا تكون إيمانا ، لأنها لو كانت إيمانا ؛ لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين . قال الله تعالى في حق المنافقين : [والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ] (¬1) ، وقال في حق أهل الكتاب : [الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم] (¬2) ، والإيمان لا يزيد ولا ينقص ، لأنه لا يتصور نقصانه إلا بزيادة الكفر ، ولا يتصور زيادته إلا بنقصان الكفر ، وكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمنا وكافرا ، والمؤمن مؤمن حقا ، والكافر كافر حقا ، وليس في الإيمان شك ، كما أنه ليس في الكفر شك ، لقوله تعالى : [أولئك هم المؤمنون حقا] (¬3) و[أولئك هم الكافرون حقا ] (¬4) ، والعاصون من أمة محمد عليه السلام كلهم مؤمنون حقا ، وليسوا بكافرين ، والعمل غير الإيمان ، والإيمان غير العمل ، بدليل أن كثيرا من الأوقات يرتفع العمل عن المؤمن ، ولا يجوز أن يقال: ارتفع عنه الإيمان ، فإن الحائض (¬5) يرفع الله سبحانه وتعالى عنها الصلاة ، ولا يجوز أن يقال : رفع الله عنها الإيمان ، أو أمرها بترك الإيمان/ وقد قال لها الشرع دع الصوم ، ثم اقضيه ، ولا يجوز2أ ولا يجوزأن يقال : دع الإيمان ، ثم اقضيه ، ويجوز أن يقال : ليس على الفقير الزكاة ، ولا يجوز أن يقال : ليس على الفقير الإيمان ، وتقدير الخير والشر كله من الله سبحانه وتعالى ؛ لأنه لو زعم أحد أن تقدير الخير والشر من غيره لصار كافرا بالله ، وبطل توحيده ، إن كان له توحيد .
والثاني : نقر بأن الأعمال ثلاثة : فريضة ، وفضيلة ، ومعصية ، فالفريضة بأمر الله تعالى ، ومشيئته ، ومحبته ، ورضاه ، وقضائه ، وقدره ، وتخليقه ، وحكمه ، وعلمه ، وتوفيقه ، وكتابته في اللوح المحفوظ . والفضيلة ليست بأمر الله تعالى ، ولكن بمشيئته ، ومحبته ، ورضاه ، وقضائه ، وقدره ، وتخليقه ، وكتابته في اللوح المحفوظ . والمعصية ليست بأمر الله ، ولكن بمشيئته ، لا بمحبته ، وبقضائه ، لا برضاه , وبتقديره ، لا بتوفيقه ، وبخذلانه ، وعلمه ، وكتابته .
والثالث : نقر بأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى ، من غير أن يكون له حاجة ، واستقرار عليه ، وهو حافظ العرش ، وغير العرش من غير احتياج ، فلو كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم ، والحفظ ، وتدبيره كالمخلوقين ، ولو صار محتاجا إلى الجلوس والقرار ، فقبل خلق العرش أين كان الله تعالى ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
صفحة ١٥
والرابع: نقر بأن القرآن كلام الله تعالى ، غير مخلوق ، ووحيه ، وتنزيله ، وصفته ، لا هو ولا غيره ، بل هو صفته على التحقيق ، مكتوب في المصاحف ، مقروء بالألسن ، محفوظ في الصدور ، غير حال فيها ، والحبر والكاغد والكتابة كلها مخلوقة ؛ لأنها أفعال العباد ، وكلام الله سبحانه وتعالى غير مخلوق ؛ لأن الكتابة والحروف والكلمات والآيات كلها آلة القرآن ؛ لحاجة العباد إليها ، وكلام الله تعالى قائم بذاته ، ومعناه مفهوم بهذه الأشياء ، فمن قال بأن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم / والله تعالى معبود لا يزال كما كان ، وكلامه مقروء مكتوب2ب ومحفوظ من غير مزايلة عنه عن الموصوف .
والخامس : نقر بأن أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ، ثم عمر ثم عثمان ، ثم علي رضوان الله عليهم أجمعين ، لقوله تعالى : [والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ] (¬1) وكل من كان أسبق فهو أفضل ، يحبهم كل مؤمن تقي ، ويبغضهم كل منافق شقي .
والسادس : نقر بأن العبد مع أعماله ، وأقواله ، ومعرفته مخلوق ، فلما كان الفاعل مخلوقا فأفعاله أولى أن تكون مخلوقة .
صفحة ١٦
والسابع : نقر بأن الله تعالى خلق الخلق ، ولم يكن لهم طاقة ؛ لأنهم ضعفاء عاجزون ، والله تعالى خالقهم ، ورازقهم ، لقوله تعالى : [ الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم ] (¬1) ، والكسب حلال ، وجمع المال من الحلال حلال ، وجمع المال من الحرام حرام . والناس (¬2) على ثلاثة أصناف : المؤمن المخلص في إيمانه ، والكافر الجاحد في كفره والمنافق المداهن في نفاقه ، والله تعالى فرض على المؤمن العمل ، وعلى الكافر الإيمان ، وعلى المنافق الإخلاص ، لقوله تعالى : [يا أيها الناس اتقوا ربكم] (¬3) يعني : أيها المؤمنون أطيعوا ، وأيها الكافرون آمنوا ، وأيها المنافقون أخلصوا .
والثامن : نقر بأن الاستطاعة مع الفعل لا قبل الفعل ، ولا بعد الفعل ؛ لأنه لو كان قبل الفعل لكان العبد مستغنيا عن الله تعالى وقت الحاجة ، فهذه خلاف حكم النص ، لقوله تعالى : [والله الغني وأنتم الفقراء] (¬4) ، ولو كان بعد الفعل لكان من المحال ؛ لأنه حصول الفعل بلا استطاعة .
والتاسع : نقر بأن المسح على الخفين واجب للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ، لأن الحديث ورد هكذا ، فمن أنكر فإنه يخشى عليه الكفر ؛ لأنه قريب من الخبر المتواتر ، والقصر ، والإفطار في السفر رخصة بنص الكتاب ، لقوله تعالى : [وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ] (¬5) وفي الإفطار / قوله تعالى : [فمن كان 3 أمنكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر] (¬6) .
صفحة ١٧
والعاشر : نقر بأن الله تعالى أمر القلم بأن يكتب ، فقال القلم : ماذا أكتب يا رب، فقال الله تعالى : اكتب ما هو إلى يوم القيامة ، لقوله تعالى : [وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر] (¬1) .
والحادي عشر : نقر بأن عذاب القبر كائن لا محالة ، وسؤال منكر ونكير حق ، لورود الأحاديث ، والجنة والنار حق ، مخلوقتان لأهلهما ، لقوله تعالى في حق المؤمنين: [أعدت للمتقين] (¬2) وفي حق الكفرة : [أعدت للكافرين] (¬3) خلقها الله تعالى للثواب والعقاب ، والميزان حق ، لقوله تعالى : [ونضع الموازين القسط ليوم القيامة] (¬4) وقراءة الكتب حق ، لقوله تعالى : [اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ] (¬5) .
صفحة ١٨
والثاني عشر : نقر بأن الله تعالى يحيى هذه النفوس بعد الموت ، ويبعثهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة للجزاء والثواب ، وأداء الحقوق ، لقوله تعالى : [وأن الله يبعث من في القبور] (¬1) ولقاء الله تعالى ، لأهل الجنة حق بلا كيفية ، ولا تشبيه ، ولا جهة ، وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حق لكل من هو من أهل الجنة ، وإن كان صاحب الكبيرة، وعائشة رضي الله عنها بعد خديجة الكبرى أفضل نساء العالمين ، وأم المؤمنين ، ومطهرة من الزنا ، بريئة عما قالت الروافض ، فمن شهد عليها بالزنا ، فهو ولد الزنا ، وأهل الجنة في الجنة خالدون ، وأهل النار في النار خالدون ، لقوله تعالى في حق المؤمنين : [أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ] (¬2) ، وفي حق الكافرين : [أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ] (¬3) .
... ... والحمد لله رب العالمين وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تمت وصية الإمام أبي حنيفة لأصحابه
رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، آمين ، آمين ، آمين
وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله
وحده
م
صفحة ١٩