فاروق يا رب الكتابة في مجلات الوزارة
رب السلاسة والمهارة والرصانة والشطارة!
ولما كان سمير مولعا بإملاء ما يكتب على الآلة الكاتبة، ويقتصر على المسرح فقد تطلب قصيدة مختلفة تذكر ما يمليه وتؤكد تمكنه من «الدرامة».
سرحان يا رب الدرامة والمقالات العجيبة
في كل ما تمليه من أشياء أفكار مريبة
وكان فاروق عبد الوهاب - الذي أصبح بعد رحيلنا - سكرتير مجلة المسرح الأوحد لسنوات طويلة، ما يزال يذكر قصيدتي الفكاهية، حتى بعد أن استقر به المقام في شيكاغو وأصبح أستاذ للغة العربية وآدابها هناك.
وكان أخي الأصغر مصطفى آنذاك ما يزال طالبا في كلية التجارة، ولكنه كان دائما أقرب الناس إلى قلبي؛ فهو يشاركني حب الأدب والاستمتاع باللغة، وكان كثيرا أثناء أيام دراستي في الجامعة يصاحبني في نزهاتي في القاهرة، وكنت - رغم فارق السن الصغير - أمتاز عنه بالضخامة، فكان يستمتع بما أشتريه من مأكولات تدخل في عداد «الرمرمة»؛ مثل الفول السوداني واللب (بذر البطيخ) والحمص والجيلاتي - بل والكشري! وكنت أقرأ عليه هذا الشعر الفكاهي فيضحك منه ويجده مسليا، وكنت ما أزال أثق فيه ثقة مطلقة، فكنت أبوح له بأسراري كلها، وكان يحفظها ويدهش منها، وقد اتجه في يوم من الأيام بعد تخرجه عام 1965م وعمله في هيئة السد العالي إلى كتابة القصة القصيرة، ونشر بعض قصصه في مجلة «صباح الخير»، وكانت قصصه تتميز بعمق النظرة الإنسانية والتحليل الدقيق للمشاعر، ولكنه كان يشاركني أنا وسمير «الحس الفكاهي» فكان يعمد - مثل نعمان عاشور في بداية حياته الأدبية - إلى السخرية، وكان يلتقط بسهولة ويسر «اللقطات» المضحكة في حياتنا، وكنت في أعماقي أحسده على سلاسة أسلوبه، وأحاول محاكاته فلا أوفق، ربما بسبب الوعي الذي كان يتزايد لدي بنماذج النثر الغربي الذي كنت من مدمني قراءته بعد التخرج.
كنت أكتشف يوما بعد يوم مدى الصعوبة التي تواجه كاتب النثر، ومدى المعاناة التي لا بد أن يكابدها من يصر على إيضاح أفكاره، ولم يكن الشعر موطأ الأكناف، فكتابة النظم يسيرة، أما كتابة شعر مثل ما يكتبه صلاح عبد الصبور أو أحمد عبد المعطي حجازي فكانت مستحيلة، ولم يكن أمامي إذن سوى المسرح!
ومع اشتداد حر صيف 1964م أصبحت جلسات لاباس - المقهى المكيف الهواء - أفضل مكان لقضاء فترة الظهيرة والعصر، وكانت نهاد صليحة قد عرفت المكان وأصبحت ترتاده معنا، وكان المفهوم أنني أحاول أن أخطب ودها بأسلوب جديد، فهي على أبواب السنة الثالثة، وهي موهوبة وطموحة، ونظريتي في الحب التي كنت أدعو إليها هي ما كنت أسميه «الحب المركب» أي الحب الذي يتحول إلى أسلوب حياة مشتركة، أي لا يقتصر على لواعج الغرام التقليدية القائمة على تجاذب الجنسين بعضهما إلى البعض، وقد قبلت نهاد ذلك ورحبت به، وكانت أحيانا تقضي المساء معنا أنا وسمير سرحان ثم نوصلها بالتاكسي، أو أحيانا سيرا على الأقدام، إلى منزلها.
كانت صعوبة الخروج من مصر تمثل لكل منا عائقا مخيفا، ومن ثم وطنت النفس، رغم تفاؤل سمير، على البقاء واستكمال دراستي في القاهرة، وبدلا من الانكباب على ترجمة «روميو وجوليت»، تحولت إلى الرسالة فبدأت أضع الخطوط الأولى للحجة التي أعتبرها جوهر الرسالة، وهي أن الشاعر عندما تحول عن الاتجاه الثوري في الفن والسياسة والدين، انعكس ذلك كله في صياغته للصور الشعرية شكلا ومضمونا، ولكنني كنت كلما بدأت الكتابة، وجدت أبيات الشعر العربية تزاحم الإنجليزية، وكلما استغرقت في كتاب بالإنجليزية وجدت بعض الواجبات «النقدية» في مجلة المسرح تطلب مني بذل الجهد، وفي سبتمبر 1964م كنا نحضر إحدى مناقشات الماجستير حين التفت إلى نهاد وقلت لها بأسلوب تمنيت أن يكون غير تقليدي «إحنا طبعا حنتجوز!» وتلعثمت، ولا أدري ما قالته فقد كان غمغمة فهمت منها أنها موافقة.
صفحة غير معروفة