أصول السرخسي
محقق
أبو الوفا الأفغاني
الناشر
لجنة إحياء المعارف النعمانية
رقم الإصدار
الأولى
مكان النشر
حيدر آباد
تصانيف
أصول الفقه
بَالِغَة وَهُوَ بَقَاء الْأَحْكَام بعد وَفَاة الْمُرْسلين على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي حياتهم فَإِن النُّبُوَّة ختمت برسولنا ﷺ وَقد كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاس كَافَّة وَقد أمرنَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ والتيقن بِمَا يخبر بِهِ قَالَ تَعَالَى ﴿فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول﴾ وَهَذَا الْخطاب يتَنَاوَل الْمَوْجُودين فِي عصره وَالَّذين يُؤمنُونَ بِهِ إِلَى قيام السَّاعَة وَمَعْلُوم أَن الطَّرِيق فِي الرُّجُوع إِلَيْهِ لَيْسَ إِلَّا الرُّجُوع إِلَى مَا نقل عَنهُ بالتواتر فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن هَذَا كالمسموع مِنْهُ فِي حَيَاته وَقد قَامَت الدّلَالَة على أَنه كَانَ رَسُول الله ﷺ لَا يتَكَلَّم إِلَّا بِالْحَقِّ خُصُوصا فِيمَا يرجع إِلَى بَيَان الدّين فَيثبت مِنْهُ بِالسَّمَاعِ علم الْيَقِين
وَمن النَّاس من يَقُول إِن مَا يثبت بالتواتر علم طمأنينة الْقلب لَا علم الْيَقِين وَمعنى هَذَا أَنه يثبت الْعلم بِهِ مَعَ بَقَاء توهم الْغَلَط أَو الْكَذِب وَلَكِن لرجحان جَانب الصدْق تطمئِن الْقُلُوب إِلَيْهِ فَيكون ذَلِك علم طمأنينة مثل مَا يثبت بِالظَّاهِرِ لَا علم الْيَقِين
قَالُوا لِأَن التَّوَاتُر إِنَّمَا يثبت بِمَجْمُوع آحَاد وَمعنى احْتِمَال الْكَذِب ثَابت فِي خبر كل وَاحِد من تِلْكَ الْآحَاد فبالاجتماع لَا يَنْعَدِم هَذَا الِاحْتِمَال بِمَنْزِلَة اجْتِمَاع السودَان على شَيْء لَا يعْدم صفة السوَاد الْمَوْجُود فِي كل وَاحِد مِنْهُم قبل الِاجْتِمَاع وَهَذَا لِأَنَّهُ كَمَا يتَوَهَّم أَن يجتمعوا على الصدْق فِيمَا ينقلون يتَوَهَّم أَن يجتمعوا على الْكَذِب إِذْ الْخَبَر يحْتَمل كل وَاحِد من الوصفين على السوَاء أَلا ترى أَن النَّصَارَى وَالْيَهُود اتَّفقُوا على قتل عِيسَى ﵇ وصلبه ونقلوا ذَلِك فِيمَا بَينهم نقلا متواترا وَقد كَانُوا أَكثر منا عددا ثمَّ كَانَ ذَلِك كذبا لَا أصل لَهُ وَالْمَجُوس اتَّفقُوا على نقل معجزات زرادشت وَقد كَانُوا أَكثر منا عددا ثمَّ كَانَ ذَلِك كذبا لَا أصل لَهُ
فَعرفنَا أَن احْتِمَال التواطؤ على الْكَذِب لَا يَنْتَفِي بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يثبت علم الْيَقِين فَإِنَّمَا الثَّابِت بِهِ علم طمأنينة بِمَنْزِلَة من يعلم حَيَاة رجل ثمَّ يمر بداره فَيسمع النوح وَيرى آثَار التهيؤ لغسل الْمَيِّت وَدَفنه فيخبرونه أَنه قد مَاتَ ويعزونه ويعزيهم فيتبدل بِهَذَا الْحَادِث الْعلم الَّذِي كَانَ (لَهُ) حَقِيقَة ويعلمه مَيتا على وَجه طمأنينة الْقلب مَعَ احْتِمَال أَن ذَلِك
1 / 284