الترغيب في الإقامة بمكة للحسن البصري

الحسن البصري ت. 110 هجري

الترغيب في الإقامة بمكة للحسن البصري

تصانيف

الحديث

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد ...

... يا أخي فإني قد كتبت إليك ، ولمن قبل من الإخوان على أفضل ما يجب ، فإنه قد بلغني أنك قد أجمعت رأيك على الخروج من حرم الله تعالى وأمنه إلى اليمن / وإني والله كرهت ذلك وغمني، واستوحشت لذلك وحشة شديدة ، إذا أراد أن يزعجك الشيطان من حرم الله تعالى ويستذلك ، فيا عجبا (¬2) من عقلك إذ نويت ذلك في نفسك ، بعدما جعلك الله من أهله ، فكان من الواجب عليك شكره أبدا ما دمت حيا ، أضعافا على ما كنت عليه ، إذ جعلك من أهل بيته وأمنه وجيران حرمه ، فإياك يا أخي ، ثم إياك البعد منها شبرا واحدا ، فإن المقام فيها سعادة ، والخروج منها شقاوة ، فإنك في خير أرض الله ، وأحب أرض الله إليه ، وأفضلها عنده ، وأعظمها وأشرفها ، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياك للخيرات ، إنه سميع الدعاء .

صفحة ١

واعلم يا أخي أن الله تعالى فضل مكة المشرفة على جميع البلاد ، وأنزل ذكرها في كتابه العزيز ، وفي مواضع عديدة ، فقال ، وهو أصدق القائلين : [ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ] (¬1) ، وقال تعالى : [وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر] (¬2) وقال الله تعالى [ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ] (¬3) وقال تعالى : [وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود] (¬4) ، وقال تعالى : [وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ] (¬5) وقال تعالى : [وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم] (¬6) وقال تعالى [إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها] (¬7) وقال تعالى [ بلدة طيبة ورب غفور] (¬8) وقال تعالى [ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ] (¬9) وقال تعالى [فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم ] (¬10) وقال تعالى [أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا] (¬1) .

فهذه الآيات يا أخي أنزلها الله تعالى في حق مكة المشرفة خاصة (¬2) ما ليس لبلد سواها ، ثم أقرب لك يا أخي بعد هذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار في فضائلها ، وفضائل أهلها ، ومن جاورها .

فاعلم يا أخي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين خرج من مكة ، فوقف على الحزورة فاستقبل الكعبة ، وقال : والله إني أعلم أنك أحب بلد الله ، وأنك أحب أرض الله إلى الله تعالى ، وأنك خير بقعة على وجه الآرض ، وأحبها إلى الله تعالى ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دحيت الأرض من مكة فمد الله الأرض من تحتها فسميت أم القرى ، وأول جبل وضع على / وجه الأرض أبو قبيس ، وأول من طاف بالبيت الملائكة قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، وما من ملك يبعثه الله تعالى من السموات السبع إلى الأرض في حاجة إلا اغتسل من تحت العرش ..... (¬3) محرما فيبدأ ببيت الله تعالى ، فيطوف به سبعا ، ثم يصلي خلف المقام ركعتين ، ثم يمضي إلى حاجته ، وكل نبي من الأنبياء إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم إلى مكة ، وما من نبي هرب من أمته إلا هرب لمكة ، فعبد الله تعالى عند الكعبة حتى أتاه الموت ، وهو اليقين .

صفحة ٣

واعلم يا أخي أن حول الكعبة قبر ثلاثمائة نبي ، وما بين الركن اليماني والركن الأسود قبر سبعين نبيا ، قتلهم الجوع والقمل ، وقبر إسماعيل وأمه هاجر تحت الميزاب في الحجر ، وقبر نوح وهود وشعيب وصالح فيما بين زمزم والمقام ، وما على وجه الأرض بلد وفد إليه جميع الناس والنبيين والملائكة والمرسلين والعباد والزهاد والصلاح من عباد الله من أهل السموات والأرض ، والجن والإنس إلا مكة المشرفة ، وما على وجه الأرض بلد يرفع الله تعالى فيه الحسنة الواحدة بمائة ألف حسنة إلا مكة ، ومن صلى فيها صلاة رفعت له مائة ألف صلاة ، ومن صام فيها يوما كتب له صوم مائة ألف يوم ، ومن تصدق فيها بدرهم كتب الله له مائة ألف درهم صدقة ، والدرهم منها أثقل من جبل أبي قبيس / ومن ختم فيها القرآن مرة واحدة كتب اله له ثواب مائة ألف ختمة بغيرها ، وكل حسنة فعلها العبد في الحرم بمائة ألف حسنة بغيرها ، وكل أعمال البر فيها كل واحدة بمائة ألف ، وما أعلم بلدة يحشر الله تعالى منها يوم القيامة من الأنبياء والأصفياء ، والأتقياء، والأبرار، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، والعلماء والفقهاء ، والفقراء من الرجال والنساء إلا من مكة ، إنهم يحشرون وهم آمنون من عذاب الله يوم القيامة ، وليوم في حرم الله وأمنه أرجى بك وأفضل من صيام الدهر وقيامه في غيرها من البلدان ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تشد الرحال إلا لثلاث مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ، وقال صلى الله عليه وسلم : صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، فإن صلاة بالمسجد الحرام بمائة ألف صلاة في غيره ، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة ، وليس على وجه الأرض بقعة ينزلها كل يوم من عند الله مائة وعشرون رحمة إلا مكة / المشرفة، ستون منها للطائعين ، وأربعون للمصلين ، وعشرون للناظرين إلى الكعبة ، والنظر إلى البيت عبادة ، وقال صلى الله عليه وسلم : من نظر إلى البيت إيمانا وتصديقا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وما على وجه الأرض بلدة أبواب الجنة كلها مفتحة إليها إلا مكة ، لأن أبواب الجنة ثمانية ، فباب منها الكعبة ، وباب منها تحت الميزاب ، وباب عند الركن اليماني ، وباب عند الركن الأسود ، وباب خلف المقام ، وباب عند زمزم ، وباب عند الصفا ، وباب عند المروة ، ولا يدخلها أحد إلا برحمة الله ، ولا يخرج منها أحد إلا بمغفرة الله تعالى ، فإن الله تعالى قال : [ومن دخله كان آمنا] (¬1) أي من النار ، وما على وجه الأرض بلدة يستجاب فيها الدعاء في خمسة عشر موضعا إلا مكة ، أولها جوف الكعبة، وعند الركن الأسود ، وعند الركن اليماني ، وتحت الميزاب ، والحجر ، وفي الملتزم ، وخلف المقام ، وعند زمزم ، وعند الصفا ، وعلى المروة ، وفي الموقف ، وعند المشعر الحرام ، وعند الجمرات الثلاث مستحب .

صفحة ٥

فاغتنموا أخي الدعاء في هذه الأماكن ، وهي المشاهد العظام ، وهي التي لا يرد فيها /الدعاء ، وإنك إن خرجت من حرم الله تعالى وأمنه فقد ذهبت عنك بركات هذه المشاهد العظام ، فاعلم يا أخي أنه لا يخرج مها أحد إلا ندم لقوله : صلى الله عليه وسلم : المقام بمكة سعادة ، والخروج منها شقاوة ، فاثبت مكانك ، وإياك والقلق والضجر ، فإن ذلك من فعل الشيطان ، فلا تبرح منها ، ولو كان مكسبك فيها يساوي فلسين من حلال لكان خير وأفضل من أن تكسب في غيرها ألفا من الدراهم ، وقال صلى الله عليه وسلم : من مات حاجا أو معتمرا لم يعرض ولم يحاسب ، وقيل له : ادخل الجنة بسلام من الآمنين ، وقال صلى الله عليه وسلم : من صام شهر رمضان بمكة كتب الله له ثواب مائة ألف شهر بغيرها من البلدان ، وصلاة بالمسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، وإن صلاها في جماعة فهي بألفي (¬1) ألف وخمسمائة ألف صلاة ، وذلك خمسا وعشرين مرة مائة ألف ، ومن مرض بمكة يوما واحدا حرم الله تعالى جسده ولحمه على النار ، ومن صبر على حر مكة ساعة من نهار أبعده الله تعالى من النار مسيرة خمسمائة عام ، وقربه من الجنة مسيرة مائتي عام ، وإن مكة والمدينة لينفيان خبثهما كما ينفي الكير خبث الحديد ، ألا وإن بكة أنشيئت على المكرمات ، والدرجات ، فمن / صبر على شدتها كنت له شفيعا ، أو شهيدا يوم القيامة ، وإن أهل مكة هم اهل الله تعالى ، وجيران بيته ، وما على وجه الأرض بلدة فيها شراب الأبرار ، ومصلى الأخيار إلا مكة ، وسئل ابن عباس رضي الله عنه ما مصلى الأخيار ، قال : تحت الميزاب ، فقيل : فما شراب الأبرار ، قال : زمزم ، وخير واد على وجه الأرض وادي إبراهيم عليه السلام ، ولا (¬1) على وجه الأرض بلدة يوجد فيها شيء إذا ما الإنسان خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، والحجر الأسود يد الله في الأرض ، يصافح بها من يشاء من عباده ، والركن الأسود والمقام يأتيان يوم القيامة كل واحد منهما كجبل أبي قبيس ، لهما عينان وشفتان ولسانان يشهدان لكل من وافاهما ، وقال صلى الله عليه وسلم : أكرم الملائكة عند الله الطائفين بالعرش ، وإن أكرم بني آدم الطائفين بالبيت ، وقال : إن لله تعالى لوحا من ياقوتة حمراء ، ينظر إليه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، منها مائة وثمانون نظرة رحمة ، ومائة وثمانون نظرة عذابا ، وإن أول من ينظر إليه بالرحمة أهل مكة ، فمن رآه قائما يصلي غفر له ، ومن رآه طائفا غفر له ، ومن رآه جالسا مستقبل الكعبة غفر له ، فتقول الملائكة ، وهو أعلم بذلك : ربنا لم يبق إلا النائمون / فيقول الله تبارك وتعالى : والنائمون حول بيتي ألحقوا بهم ، وقال صلى الله عليه وسلم : من طاف بالبيت سبعا رفع الله له تعالى بكل قدم سبعين (¬2) ألف درجة ، وأعطاه سبعين ألف شفاعة فيمن شاء من بيته من المسلمين ، إن شاء الله عجلت له في الدنيا ، وإن شاء ادخرت له في الآخرة ، والحاج والمعتمر وفد الله تعالى ، إن سألوه أعطاهم ، وإن دعوه أجابهم ، وإن أنفقوا أخلف عليهم بكل درهم سبعمائة ألف درهم ، وفي رواية ألف ألف درهم وسبعمائة درهم ، والذي نفسي بيده ما هلل مهلل ، ولا كبر مكبر إلا هلل بتهليله ، وكبر بتكبيره كل شيء حتى منقطع التراب ، فقال رجل : يا رسول الله وإلى هذه المضاعفة ، فقال : والذي نفسي بيده أما نفقاتهم ليخلفن الله عليهم بسبعمائة ألف في دار الدنيا ، قبل أن يخرجوا منها ، وأما الألف ألف فهي مدخرة لهم في الآخرة ، وإن الدرهم منها لأثقل من جبلكم هذا ، وأشار إلى أبي قبيس، وقال صلى الله عليه وسلم : العمرة إلى العمرة كفارة إلى ما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ، وقال : عمرة في شهر رمضان تعدل حجة معي ، وما من رجل أوصى بحجة إلا كتب الله له ثلاث حجج ، حجة للذي كتبها ، وحجة للذي أنفذه ، وحجة للذي أحرم بها عنه ، ومن حج عن والديه كتبت له حجتان، حجة له، وحجة لوالديه ، ومن حج لميت حجة / من غير أن يوصى بها كتب الله للميت حجة ، وكتب للذي حج عنه سبعين حجة ، فإذا كان عشية يوم عرفة هبط الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا ؛ فينظر إلى عباده فيباهي بهم الملائكة ، يقول : جل جلاله : يا ملائكتي أما ترون إلى عبادي قد أقبلوا إلي من كل فج عميق ، شعثا غبرا ، يرجون رحمتي ومغفرتي ، أشهدكم يا ملائكتي أني وهبت سيئهم لمحسنهم ، وشفعت بعضهم في بعض ، وغفرت لهم أجمعين ، أفيضوا عبادي كلكم مغفور لكم ما مضى من ذنوبكم ، صغيرها وكبيرها ، وحجة غير مقبولة خير من الدنيا وما فيها ، فالذي لا يقبل حجه ، فقد فاز فوزا عظيما ، وقال صلى الله عليه وسلم : من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي ، ومن جاء إلى المدينة بعد وفاتي وسلم علي ، وزارني عند قبري ، وسلم على أبي بكر وعمر ، وأتى الركن الأسود فقبله فكأنما بايع الله تعالى ورسوله ، ومن مات في الحرم فكأنما مات في السماء الرابعة ، ومن مات في بيت المقدس فكأنما مات في السماء الدنيا ، ومن حج ماشيا كتب الله له بكل قدم يرفعه ويضعه سبعين ألف حسنة من حسنات الحرم ، وقال بن عباس رضي الله تعالى عنه : حسنة بمائة ألف حسنة ، وقال صلى الله عليه وسلم : يحشر الله تعالى من مقبرة مكة سبعين ألف شهيد (¬1) يدخلون الجنة بغير حساب ، فيشفع كل / واحد منهم في سبعين رجلا ، فقيل : من هم يا رسول الله ؟ قال هم من الغرباء ، ومن مات في حرم الله ، أو حرم رسوله ، أو مات بين مكة والمدينة ، حاجا أو معتمرا بعثه الله يوم القيامه من الآمنين ، ألا وإن التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق ، ومن صلى في الحجر ركعتين ناحية الركن الشامي فكأنما أحيى سبعين ألف ليلة ، وكأنما حج أربعين حجة مبرورة متقبلة ، ومن صلى أربع ركعات على باب الكعبة فكأنما عبد الله كعبادة جميع خلقه ، وصلى عليه سبعون (¬2) ألف ملك ، ومن صلى خلف المقام ركعتين غفر الله ما تقدم من ذنبه (¬3) ، وأعطي من الحسنات بعدد من صلى خلفه أضعافا مضاعفة ، وأمنه الله تعالى يوم الفزع الأكبر ، وأمر الله تعالى جبريل وميكائيل أن يستغفروا له إلى يوم القيامة .

فاغتنم يا أخي هذه الخيرات ، ولا تفارق مكة وحرم الله تعالى وأمنه .

وعليك مني السلام ، ولا حول ولا قوة

إلا بالله العلي العظيم

وصلى الله على سيدنا

محمد وعلى آله

وصحبه

وسلم .

صفحة ٩