ومن جيد النعت قول ذكوان العجلي:
نواضرَ غُلْبًا قد تدانت رؤوسها ... من النبت حتى ما يطير غرابُها
ترى الباسقاتِ العُمَّ منها كأنها ... ظعائنُ مضروبٌ عليها قبابُها
بعيدة بين الذرع لا ذات حشوة ... قصار ولا صعل سريع ذَهابها
ألا تراه كيف أتى بما شرطناه من تباعد الاصول، ونواصي الفروع. وهذا مثل قول المرّار الذي أحسن فيه فعابه الأصمعي.
وأشدُّ من وصفيهما تقارب فروع، قول عُمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
دُهم الخوافي منطقات خُرسُ ... تَحارُ في أطلالهنّ الشمسُ
كأنهنَّ الفتيات اللعسُ
وما تحار الشمس فيها، وتمنع الناظر اليها، إلاّ من تكاثف الجريد واتصاله وأطراف خوصه. ومثله قول المخيِّس بن أرطأة الأعرجي:
غُلْب الرِّقاب تدحّى في مباركها ... كومًا بها درّ ملتفًا أعاليها
فجعلها مُلتفّة، ومانعة شعاع الشمس، وهو يدخل من خرت الإبرة فضلًا عما سواه.
وأشدُّ من هذا كثافة وتدانيًا قول أبى سليمان المحرزي:
بجانبيها منزلا مخرف ... ذُراهما مُعتصمُ الطائرِ
يذكرني بردهما فائظًا ... من برد ظل الصخرة الوافرِ
ولاظل كظل صخرة! وقال أيضًا:
وظلّها داجٍ ولا منظرٌ ... أحسنُ منها بعدُ للناظرِ
والدّاجي: الأسود، ومنه: دجا الليل، وقال الله ﷿: (وجَنَّاتٍ ألْفافًا)، وقال غيره: الألفاف جمع لفَف من قولهم: لفَّ الشجر يُلَفُّ لفًّا ولفَفًَا ثم سمّوا بالمصدر، وهو مثل التفّ التفافًا، قال الشاعر:
ولقد غذتني منك جدوى أنبتت ... حَصَرًا إلى لففٍ من الأشجارِ
ويقولون: جنّة لفّاء، وشجر ألفّ، إذا التفَّ بعضه ببعض. ومن وصف أهل البصرة لنخلهم: هذا نخل كالليل المُدْلهم، ومن وصف أهل المدينة: نخل كالحَرّة سوداء، قال المحرزي:
كجانب الحَرّة مسودّة ... تملأ عين اللامح الحازرِ
وقال غالب بن الجز الطاثي يصف نخلًا:
كأنَّهاحين أنى شبابُها ... وأدركتْ برد الثرى أسبابُها
حرّة ليلى متدانٍ لابُها
وقال ابن الأعرابي: يحمد من النخل التفاف جريده مع تباعد أصوله، وأن يسودّ منظره لشدّة خضرة سعفه وزيّه، وأن تسودّ أيضًا جذوعه.
وأنشد الأصمعي لسُويد بن الصامت:
على كل خوّار كأنَّ جذوعها ... طُلين بزفتٍ أو بحمأة ماتحِ
وأنشد الهِزّاني عن السجستاني لابن أرطأة الأعرجي يصف نخلًا:
كأنَّ سدّ الليل في نهارها ... من أي قطرجئت من أقطارها
كثيرة الخير على خطّارها
وقال أبو الغُصن العَنبري:
خطيرةٌ بين بُراقٍ وقننْ ... مثل العذارى زيَّنَتْهُنَّ اللّوَنْ
كأنّها الليل إذا الليل سكنْ
فانظر الى هذه الأوصاف بنظر غير كليل، تجدهم وصفوا حتى يعود ما تحتها نهارًا كظلمة الليل.
وقد أنشد أبو حنيفة لقُدامة بن غالب الحمّاني:
دُهمًا كأنَّ الليل في زُهائها
وكان يلزم أبا حنيفة أن لا يورد قول الأصمعي في تغليط الشاعر المستحق للحمد المستوجب لاسم التجويد، فلما وهم في ايراده أن لا يورد شاهدًا له ليس بصحيح فلما أن فعل ذلك قرنَّاه به ونبهنا على غلطيهما، والله نسأل العصمة بمنِّه وفضله.
٥٥ - وقد وهم أيضًا أبو حنيفة في رواية بيت لبيد وفي تفسيره، فمما وهم فيه من التفسير ما أنباتك به من أنه جعل الحَصَر تقارب الرؤوس، وإنما هو تقارب الأصول، ووهم أيضًا وخلط في السَّواجد وزعم أفها المَوائل وزعم أنها الثوابت، واستشهد لهذا القول، بقول الراجز:
لولا الزّمام اقتحم الأجاردا ... بالغَرْب أو دقَّ النعامَ السَّاجدا
أنشده ابن الأعرابي وقال: قول ابن الأعرابي هذا حسن، وقد يجوز أن يكون الساجد: المائل، على أن المُرَجّبات من النخل كلها موائِل، ولا يُرَجّب إلا كريم النخل.
٥٦ - ثم قال: وصَعْل النخل كلها عوج، وأنشد:
لا ترجونَّ بذي الآطام حاملةً ... ما لم تكن صَعْلةً صعبًا مراقيها
ثم مال إلى أنها الموائل واختار هذا القول.
وقد أساء من جهتين: إحداهما تغيير الرواية، إنما روى العلماء بيت لبيد:
1 / 32