٤٩ - وقال أبوحنيفة في تطبيب الخمر، قال الأعشى:
أُلقيَ فيها فِلجانِ من مِسك دا ... ...رينَ، وفِلجٌ من عَنبرٍضَرِمِ
أي متوهج الريح، والفِلْج: مكيال معروف، ومنه قول أنجي كبير الهذلي:
كسُلافةِ العِنبِ العصير مزاجها ... عُودٌ وكافور ومِسكٌ أصهبُ
وليس البيت للأعشى، ولا الرواية فيه كما روى، ولا وجه لروايته والخمر قد يطيب كما ذكر، وأكثر الطِّيب يقع في تطييبها ما خلا العنبر فإنه لا فعل له فيها وللمسك والكافور والعود والقرنفل والزنجبيل والسنبل وغير ذلك من الأفواه فيها عمل مستلذّ ولا عمل للعنبر فيها لأنه لا طعم له إلا إذا مُضغ ولا رائحة له إلاّ على النار، والعنبر لايوصف بالضرم، ولو ضرم لأدّى رائحة أخثاء، البقر، والبيت للنابغة الجعدي وروايته: من فلفل ضرم.
وسترى هذا البيت مشروحًا في كتابنا على تنبيهاتنا على ما في كتاب الجمهرة - جمهرة اللغة - من كتابنا هذا إن شاء الله.
٥٠ - وذكر أبو حنيفة أسماء الخمر، فقال: ومنها الكأس، وهو اسم لها، ولا يقال للزجاجة: كأس إن لم يكن فيها خمر. ثمَّ أورد حججًا على ذلك منها قوله ﷿: (يُطافُ عليهم بكأْسٍ مِن مَعين) .
وقد أساء في هذا الشرط، الكأس: نفس الخمر كما قال، والكأس: الزجاجة، وقول الله ﷿ الذي ذكرنا أنه احتجَّ به حجة عليه، ومثله قوله سبحانه: (بأكوابٍ وأباريقَ وكأْسٍ مِن مَعين) وقوله تعالى: (وكأس من مَعين) أي ظَرْف فيه خمرمن هذه التي هذه صفتها، وقد قال سبحانه: (وكأْسًا دِهاقًا) والدَّهاق: الملأى ولا يجوز أن يقال: أراد وخمرًا وملأى. هذا فاسد من القول. والعرب تقول: سقاه كأسًا مُرّةً، وجرّعه كأسًا من الذِّيفان، وسقاه كؤوس الموت قال الراجز:
كأسًا من الذِّيفان والجُحالِ
وقال العجاج:
أو أن يُرَوّوا نهلَ المُجْتسِّ ... من الذُّعاف غيرَ ما تَحَسِّ
من العدى بالكأس بعد الكأسِ
وقال:
وقد سقى القومَ كأسَ النَّعْسةِ السَّهَرُ
وأوضح من هذا كله وأبعدُ من قول أبي حنيفة ما أنشده أبو زياد لريسان بن عَمِيرة - من بني عبد الله بن كلاب -:
وأولُ كأس من طعام تذوقه ... ذُرَى قُضُبٍ تجلو نقيًّا مُفلّجا
فجعل سواكها كأسًا، وجعل الكأس من الطعام وبعّضَ من تبعيضًا، يدل على صحة ماقلنا.
وقال الآخر:
مَنْ لم يمتْ عَبْطةً يمتْ هَرَمًا ... الموتُ كأسٌ والمرءُ ذائقها
وقال الكراع، الكأس: الزجاجة، والكأس أيضًا: الخمر. فبدأ بقولنا.
ثم قال أبو حنيفة: وكل ما شرب به الشراب - أعني الخمر - فهو مع ما فيه من الخمر كأس، ولا يقال له وحده كأس.
وقد بيّنا فساد قوله فيما مضى.
ثم قال: ولا يقال للاناء وحده كأس إلا بما فيه كما لا يقال للدلو: سَجْل إلاّ بما فيها من الماء وقد بينا فساد هذا القول ومضى.
٥١ - وأنشد أبو حنيفة:
مُفدّمةً قزًّا كأنَّ رؤوسها ... رؤوسُ بنات الماء أفزعها الرَّعدُ
وقال: شبه أعناق الطير إذا نصبتها بأعناق الأباريق فلذلك قال: أفزعها الرَّعد.
وقد غلط في الرواية والتفسير، وهذا الشعر للأقيشر الأسدي، مجرور، والرواية:
سيُغني أبا الهنديّ عن وطبِ سالمٍ ... أباريقُ لم يَعْلقْ بها وَضَرُ الزُّبْدِ
مُفدّمةً فَزًّا كأنَّ رقابَها ... رقابُ بنات الماء تفزع للرَّعدِ
فهذا غلطه في الرواية.
وأما غلطه في التفسير فقوله: شبّه أعناق الطير إذا نَصَبتها بأعناق الأباريق فلذلك قال: أفزعها الرَّعد.
وهذا غلط لأن الطائر إذا سمع صوت الرعد لم ينصب عنقه له، ولكن يلويه، وكذلك أيضًا الأباريق عُوج، ولذلك شتهت بأعناق الطير العرج، وقد أوضح ما قلناه شُبْرمة بن الطفيل الضّي بقوله:
كأنَّ أباريقَ الشَّمول عشيّةً ... إوَزٌّ بأعلى الطَّف عُوجُ الحناجر
ألا تراه كيف اختار إوزَّ كسكر - وهي أعلى الطف - لأنها تُعوِّج رقابها شديدًا.
٥٢ - وقال أبو حنيفة - في باب النَّخل وقد ذكر أسماء الفسيل - وأنشد الثقة فى الهِراء:
أبَعد عطيّتي ألفًا جميعًا ... من المرجُوِّ ثاقبةَ الهِراءِ
1 / 30