والأَشياءُ الصناعية التي نحن الفاعلون لها: منها أشياء قد تقدم غيرنا فصنعها، مثل الاحتجاج بالأَمثال السائرة التي قد وضعت واشتهرت، ومنها ما نخترعها نحن عند القول في الشيء الذي فيه الإِقناع ونستنبطها.
فأما التصديقات التي نفعلها نحن ونخترعها فهي ثلاثة أنواع: أحدها إِثبات المتكلم فضيلة نفسه التي يكون بها أهلا إِن يُصدق، كما قال تعالى حاكيا عن هود: " وأنا لكم ناصحا أمين "، وأن يكون عند التكلم بهيئة في وجهه وأعضائه شأْنها إِن توقع التصديق بالشيء المتكلم فيه، مثل التؤدة والوقار وغير ذلك. والفضيلة التي شأْنها هذا هي التي يعني أرسطو بالكيفية والهيئة التي شأْنها هذا هو الذي يعني بالسمت. وقد يدل على إِن الفضيلة لها تأْثير في التصديق إِن الصالحين الفاضلين يُصدقون سريعا دون قول يتكلفونه في الشيءِ. وإنما يكون ذلك في الأُمور الظاهرة للحس التي يزعمون أنهم أحسوها، مثل أنه شرب أو قتل. فأما إِخبارهم عن الأُمور الخفية عند الحس وهي التي يظن أنه خفى عنهم ما أحسوا من ذلك أو وهموا فيه، إِذا كان ذلك الشيء ممكنا إِن يهم فيه الحس، فليس يُصدّقون في الأَشياءِ التي يدعونها في أمثال هذه الأَشياء دون إِن يستعملوا، في تثبيت ذلك الشيء، القولَ.
قال: وليس كما ظن الذين ذكرنا أنهم تكلموا في الخطابة إِن الفضيلة والأَناة أنما هي نافعة في باب الإِنفعال فقط.
وأما الصنف الثاني من التصديقات فهو الصنف الذي يكون بأن يكسب السامع بالقول إِنفعالا ما يوجب له التصديق بالشيءِ الذي فيه القول، فإِنه ليس تصديقنا بالشيءِ وإِقرارنا به ونحن في حال الفرح أو الحزن تصديقا واحدا، وكذلك إِذا كنا في حالة السخط على الشيء أو في حال الرضا عنه. وهذه هي الأَشياءُ التي تكلم فيها أُؤلئك الذين ذكرنا أنهم تكلموا في هذه الصناعة.
وأما الصنف الثالث من هذه التصديقات فهو تثبيت الشيء بالكلام المقنع، أو ما يظن به أنه مقنع، وذلك في الأُمور الجزئية التي تقنع فيها هذه الصناعة. وإِذا كانت التصديقات إِنما تكون في هذه الصناعة بهذه الوجوه، فهو بيّن إِن الذي يقدر إِن يقنع الإِقناع الممكن في كل واحد من الأَشياءِ إِنما هو الذي يكون عالما بثلاثة أشياء، أولها: معرفة الأَقاويل المقنعة، وثانيها: معرفة الأَخلاق والفضائل، وثالثها: معرفة الانفعالات، وذلك بأن يعرف كل واحد من الانفعالات: ما هو، ومن أي شيء يكون، ومتى يكون، وكيف يكون. وإِذا كان ذلك كذلك، فهذه الصناعة كأنها مركبة من صناعة الكلام والصناعة الخلقية، أعني المدنية. وإِنما لم يوجد لمن تقدم قول مستوفي في أجزائها إِما من قبل جهلهم، وإِما من قبل أنهم ضنوا على غيرهم وبخلوا عليهم بما وقفوا عليه من ذلك لمكان الخيرات التي من خارج.
فهذه الصناعة هي جزء من صناعة المنطق، وهي شبيهة بالجدل في أ، ها تنظر في كلا المتقابلين، وفي أنهما ليسا ينظران في شيءِ محدود نظرًا يبلغان به اليقين، لكن إِنما يبلغان من النظر ما دون اليقين. وقد تكلم في ذلك فيما كافيا.
1 / 7