بسم الله الرحمن الرحيم
... وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما،{ هذا تأليف الشيخ العالم العلامة، والبحر الفهامة النحرير، في متعاطيه ومرامه، عمنا امحمد بن يوسف أطفيش نفعنا الله بعلمه المنير، واسدد اللهم علينا سبل غدران العمى، وافتح اللهم لنا أبواب العلم} (¬1) جل الله عن الشريك والمضاد، وتعالى { وتقدس } عن الشبيه (¬2) والمناد، وصلى الله وسلم هو وملائكته على مبلغ أنبائه،رسوله محمد بن عبد الله أفضل خلقه وأنبيائه وآله وصحبه الأبرار، ووفقني، ورحم الله من يستفيد من كتابي مخلصا ولم يعقني، وبعد:.
... فيقول امحمد اطفيش{ وفي العافية يعيش،ودرجات الآخرة يريش}: هذا " تخليص العاني من ربقة جهل المعاني (¬3) " تقبله الله مني، وجعله محوا للذنوب عني، وهو الذي إذا غفر الذنب العظيم لم يبال، والغني المغني، والكبير المتعال.
باب فصاحة المفردات
صفحة ٨
و" زيد العاقل " كلمتان فصيحتان، و"إن قام زيد " كلم فصيحات، كما تقول: " غلام " كلمة فصيحة، و" زيد " كلمة فصيحة، و"العاقل" كلمة فصيحة، و" إن " كلمة فصيحة، و " قام " (¬1) كلمة فصيحة، و" زيد " كلمة فصيحة، وقول فصيح في ذلك كله، وتقول: " غلام زيد " قول فصيح، و" زيد العاقل " قول فصيح.، و"إن قام زيد " قول فصيح.
والفصاحة لغة لا تخرج عن معنى الظهور، فكل دلالة علىظهور تسمى فصاحة سواء وضع اللفظ لتلك الدلالة وحدها، أو وضع لها مع غيرها دفعة فكانت جزء معناه، أو استلزمها معناه، وسواء كانت حقيقة أو مجازا، وإنما قدمت الفصاحة على البلاغة؛ إذ لا توجد البلاغة في كلام أو متكلم إلا بعد حصول فصاحة المفرد والكلام، فكل بليغ من كلام متكلم فصيح أو بعض الفصيح.
والبليغ هو ما طابق مقتضى الحال من الفصيح؛ فإذا كان الكلام فصيحا بليغا فالمتكلم فصيح بليغ، وإذا كانت المفردات فصيحات، فالمتكلم فصيح فيها. ولا يقدر على تأليف كلام بليغ من لا يقدر على تأليف كلام فصيح، ولا يقدر على تأليف كلام فصيح من لا يقدر على تأليف كلام صحيح في مطلق فن النحو .
وفصاحة كل مفرد في الاصطلاح كون حروفه متلائمة، مع كون ذلك المفرد كلمة مشهورة وموافقة لقياس الصرف أو مخالفة له، لكن كثر ذكرها في كلام البلغاء مع مخالفتها، أو لا تذكر إلا مع مخالفة فإن لم تتلاءم حروفه بل تنافرت، أو لم يكن مشهورا بل غريبا، أو لم يوافق القياس أو وافق قياسا مهجورا لم يكن فصيحا.
باب التنافر في الكلمة
... هو وصف فيها يوجب عسر النطق بها " كالهعخع " لنوع من النبات لصعوبة اجتماع الهاء والعين المهملتين متصلتين، وهو بهاء مضمومة وعين مهملة ساكنة فخاء مضمومة، وكقول امرئ القيس في وصف شعر حبيبته:[ من الطويل ]
صفحة ٩
العقاص في مثنى ومرسل (¬1)
ومعنى " امرؤ القيس " إنسان القيس أو رجل القيس؛ أي رجل من قبيلة تسمى "القيس " وذلك لقب له، وامرؤ الذي يذكر فيما همزته همزة وصل، كقوله تعالى { إن امرؤ هلك } (¬2) ، والصحيح أن القيس الشدة؛ فمعنى " امرؤ القيس " رجل الشدة والقوة ، وهذا تفاؤل، وقيل القيس جسم ، ولذا كره بأن يقال: يا امرأ القيس، وكان يروى [ عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل ]، والبيت من قصيدته المشهورة اللامية غير المردفة، والهاء في غدائره للشعر المعبر عنه بالفرع في البيت قبله:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيت كقنو النخلة المتعثكل (¬3)
صفحة ١٠
... والغديرة: القطعة من الشعر الذي ينسدل من الرأس إلى الظهر إذا أرسل، والمراد هنا الملوية، لكن لو أرسل لوصل الظهر، وسمي الشعر غديرة لأنه غودر أي ترك حتى طال. ومستشزرات: مرتفعات (بكسر الزاي)؛ يقال: استشزر الشعر أو غيره: ارتفع، واستشزرته: رفعته فهو مستشزر (بفتح الزاي) أي مرفوع، فهو في البيت بالكسر من اللازم، أو بالفتح من المتعدي، وهو أولى إذا كان ذلك في الشعر الملوي إذ الأنسب فترفعه، وأما بلا (لي) فالأولى كسره، وعلى كل حال فهو كلمة غير فصيحة لثقلها على اللسان، وضابط التنافر أن كل ما يعده الذوق السليم ثقيلا متعسر النطق فهو متنافر.
والذوق هو قوة إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ومحاسنه، وهو إما طبيعي كما للعرب العرباء أو كسبي كما للمولدين والممارسين،الباعثين لنكائثهم وأسراره، فإذا عده الذوق السليم (¬1) متنافرا فهو متنافر سواء أكان من قرب المخارج أومن بعدها من غير ذلك،فقد يوجد قرب المخارج ولا يوجد التنافر، وليس كما قيل: إن المعول عليه في التنافر قرب المخارج أو بعدها أو الإدخال من الشفة إلى جهة الحلق إذا كان عسرا دون العكس ،لأن كلا منهما لا يطرد ، فقد حسن "بلغ " بالإدخال كما حسن " غلب " بالإخراج من جهة الحلق إلى الشفة وحسن ملح، كما حلم وعلم وملع،فقيل <<مستشزرات>> تنافر ب(الشين) بين (التاء) و(الزاي)، وبه قال الخلخالي (¬2) {
صفحة ١١
التاء) و ( الشين) من حروف الهمس وهي حروف قولك: << فحثه شخص سكت >> والهمس الخفاء ، وهي جفية لضعفها بجريان النفس معها،لضعف الاعتماد عليها في مخارجها،والزاي المعجمة التي هي من الحروف المجهورة الرخوة ، والجهر الإعلان سميت للجهر بها لقوتها ومنع النفس أن يجري معها لقوتها في مخارجها، وهي ما عدا المهموسة والشديدة حروف<< أجدل قطب>> والرخوة ما عدا ذلك وعدا << لم نروعا >> وحروف << لم نروعا >> بين الشديدة والرخوة ولو قال معتري لزال ذلك ( بالراء المهملة )، والصحيح ما قلنا من أن التنافر ما استثقله الذوق السليم، وبه قال ابن الأثير أبو الفتح نصر الله بن محمد (¬1) .وأما ما قاله الخلخالي فمعترض بأن (الراء) المهملة من المجهورة [ فليحصل بها......................] وعلى صحة ما قاله فلا وجه لذكر كون (التاء )همسية في تحصيل التنافر، لأنه لم يحصل بكونها شديدة لمنعها النفس أن يجري معها لقوتها في مخارجها، وسميت حروف { لم نروعا } بينها وبين الرخوة لأن النفس لم ينحبس معها انحباس الشديدة، ولم يجر معها جريانه مع الرخوة.وإنما قلت (الراء) المهملة مع أن كتابتها تغني عن قيد المهملة؛ لأن من العرب من ينطق ب(الزاي) إذا نطق باسمها فيقول:(زا) بنقطة فألف فهمزة، فيحترزعلى هذه اللغة بقولنا المهملة. وأجيب من جانب الخلخالي أن الثقل الزائد ب(الراء) المهملة في مستشرف[ هو] الثقل الحاصل إذا تلت (الشين) (زاي) لامطلق الثقل و (الزاي) ولو جهرية، لكن بين الشديدة والرخوة، بخلاف (الراء) فإنها مجهورة ورخوة. واعترض هذا بأن كون (الزاي) بين الرخوة والشديدة يوجب ثقل مستشرفات على مستشزرات على مقتضى قول الخلخالي لأن معاندة (الشين) لل(راء) من جهة همسها ورخاوتها، ومعاندة (الشين) لل(زاي) من جهة همسها فقط؛ لأن (الزاي) مجهورة رخوة. وأجيب أيضا من جانب الخلخالي بأن وجود (الراء) (والفاء) أورث عدم التنافر لأنهما من حروف الذلاقة، وهي حروف<< مربنفل >>، والذلاقة سرعة النطق.قال الزوزني (¬2) " إن قرب المخارج سبب للثقل المخل بالفصاحة " ، وإن في قوله تعالى (ألم أعهد ) (¬3)
صفحة ١٣
أي: بجمعها بين (الهمزة) و(الهاء) الخارجتين من أسفل الحلق، والعين الخارجة من وسطه.
وأما الثقل المتناهي فنحو: " الهعخع " (بكسر الهاء وإسكان العين المهملة وفتحها وبعدها غير مهملة)؛ وهو نبت أسود وتناهي ثقله لجمعه بين الهاء الخارجة من أسفل الحلق والعين الخارجة من وسطه وذكرت مرتين والخاء الخارجة من أعلاه، وذلك في " ألم أعهد " على قراءة غير ورش، وأما ورش (¬1) فينقل فتحة الهمزة للميم ويسقط الهمزة. قلت: الجواب عندي إن مادة "ع ه د " تدرب عليها اللسان في القرآن وغيره، وخفت في الذوق فصارت كسائر الكلمات التي لا ثقل فيها، فلم يحصل الثقل بزيادة الهمزة، وذلك أنها كلمة تنطق بها العرب كلهم؛ أعني مادة { ع ه د} خلقها الله في ألسنتهم كلها، وأن المتنافر هو الثقيل على الإطلاق.
... وأما بالنسبة، فكل كلمة تكون ثقيلة بالنسبة إلى ما هو أسهل، وقد اجتمعت ثماني ميمات في قوله تعالى { أمم ممن معك } (¬2) ولم يثقل، قيل: بل زاد خفة وإنما تحصلت ثماني ميمات بقلب النزن فيها. وأما الجواب فإن الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير فصيحة لا يخرج عن الفصاحة، كما لا يخرج الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير عربية عن أن يكون عربيا فلا يصح لأن الكلام لا يسمى فصيحا ولو طال وكان غالبه كله فصيحا، إلا إن كانت كلماته كلها فصيحات.
ركنا الإسناد وما اتصل بهما من الفضلات
صفحة ١٤
هذا الفن " ركنا الإسناد مع ما اتصل بهما من الفضلات " إن كانت معهما فضلة، ومرادي بالاتصال كون الفضلة ولو فضلت. وأما في اصطلاح النحو فالصحيح أن الفضلة خارجة عن الكلام، وأنت خبير بإن" أعهد " ركن إسناد فهو أبعد عن أن يدعى فيه تنافر، ولا يخفي أيضا أنه يلزم على ذلك الجواب أن لا تخرج السورة عن الفصاحة بكون كلام تام فيها غير فصيح ولو كان وليس كذلك بل تخرج. لكن لا يوجد كلام ولا كلمة في القرآن غير فصيحين ، وإلا كان[ معيبا ]، فكيف يكون معجزا ؟ والحق إن إعجازه بلفظه أو به مع ما فيه من الإخبار بالغيب الخارج على وفق الأخبار وأما كون بعض الكلام عجميا فلا يخرج الكلام عن كونه عربيا إذا اللفظ العجمي معربا جيء به على طريقة العربية من كونه فاعلا أو مفعولا أو مبتدأ أو خبرا أو نحو ذلك ولاسيما ما في القرآن من أسماء العجم ك( إبراهيم ) و ( موسى ) فإنها كالأسماء العربيات، لأن العرب كانوا يذكرونها كما ذكرت في القرآن ولو لم تذكر كذلك، بل بلفظ آخر لم تعرف والإجماع حجة.
صفحة ١٥
وقد أجمع الموحدون أن القرآن عربي، بل زعم بعض أنه يكفي في تسمية الكلام عربيا كون أكثره عربيا، << والعلا >> بالضم جمع << العليا >> والمراد: السموات أو أعالي [ الأرض ]، و<< تضل >> تغيب، و<< العقاص>> جمع عقيص وعقصة ( بكسر العين وإسكان القاف ) وهي:الخلصة المجموعة من الشعر المثنى المفتول خلاف المرسل، أراد أن ذوائب شعرها مشدودة بخيوط على وسط رأسها، وأن عقائص شعرها تغيبت في مثناه ومرسله، والمراد بالعقائص:هو الغدائر، فما شعر رأسها إلا ثلاث غدائر:وهو العقائص ومثنى ومرسل، وفي جمع العقاص مع المراد المثنى والمرسل إشارة إلى أن العقاص مع كثرتها تغيب في المثنى والمرسل مع وحدتهما تلويحا بكثرة شعرها، وذكر بعضهم أن المثنى: المفتول والعقاص: الملوي كالخيط، والمرسل: ما لم يلو ولم يفتل، وأن الذوائب تشمل الثلاثة، وأن الجمع شد على الرأس بالخيوط فارتفعت إلى أعالي الرأس، وأن التقدير: تضل العقاص منها في مثنى ومرسل منها أي الغدائر، ويروى: تضل المذاري: جمع مذرى والمراد: المشط، وأصله: خشبة ذات أطراف يزال بها التبن ونحوه عن الحب ونحوه، وقيل: من عادة نساء العرب أن تجمع المرأة شيئا من شعر رأسها في وسط الرأس، وتشده بخيط، وتجعله كالرمانة؛ ويسمونه غديرة وذؤابة وعقيصة، ويسترنه بإرخاء المثنى والمرسل فوقه الزوراء، ويسمى أيضا المثنى والمرسل غديرة وذؤابة. والدليل على الشد بالخيوط لفظ " مستشزرات “، ولاسيما إن فتحت الزاي. [ وأما ] لفظ " العقاص" فإن العقاص: شعر، و" عقاص": خيط يربط به أطراف الذوائب، والله أعلم.
صفحة ١٦
باب الغرابة وهي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى الموضوعة هي له من حيث إنه لم يؤنس استعمال العرب لها، ولو أنس استعمالهم لها لكانت ظاهرة المعنى، ولو لم يؤنس عند العلماء أو عند المولدين، وتسمى التي هي غير ظاهرة المعنى أيضا وحشية لأنها لم يؤنس استعمال العرب لها أشبهت الحيوان الذي هو وحشي، وإذا كانت كذلك لزمها اسم << الغريبة >> و<< الوحشية>> ولو كثر استعمال العرب أو المولدين لها أو العامة، وخرج المتشابه في القرآن والمشكل والمجمل، لأن معانيها لم تعلم لعدم الدلالة عليها، وإنما يعلم المجمل في تفصيله.
والغرابة تتفاوت بالنسبة إلى قوم، فالمراد بالغرابة المخلة بالفصاحة: أن يكون اللفظ غريبا بالنظر إلى الفصحاء كلهم لا إلى العرب كلهم، فإنه لا يتصور، إذ لا أقل من تعارفه عند قوم يتكلمون به؛ فالغرابة أعم مما يخل بالفصاحة، فثبتت فصاحة غريب القرآن والحديث، وبها تقرر علم أن قوله تعالى { إن هذان لساحران } (¬1) فصيح لأنه مأنوس الاستعمال عند قوم من فصحاء العرب، وعدم ظهور المعنى المخل بالفصاحة إنما هو بالنظر إلى الأعراب الخلص كلهم من سكان البوادي لا بالنظر إلى البوادي؛ فإذا وصف اللفظ بها في مقام المدح فإنما هو اعتبار المولدين، وأما باعتبار بعض الأعراب الخلص من أهل البادية فلا قدح ولا مدح. ثم الغرابة قسمان:
أحدهما أن يكون اللفظ قليل الاستعمال فيخفى معناه، فيبحث عنه في كتب اللغة أو في دواوين الأشعار أو نحو ذلك، أو تسأل عنه حفاظ اللغة، فيوجد أن لفظ كذا وضع لمعنى كذا، ولم يكن خفاؤه لتصرف فيه بل لقلة استعماله.
صفحة ١٧
معناه لتصرف فيه إلا بتكلف تخريج على وجه بعيد، وهذا أغرب من الأول؛ لأن تخريجه على وجه بعيد فرع عدم وجوده في كتب اللغة؛ فالأول << كالجرشى>> في قول أبي الطيب يمدح سيف الدولة أبا الحسن من المتقارب المحذوف العروض والضرب:
مبارك الاسم أغر اللقب ... كريم الجرشى شريف النسب (¬1)
... << مبارك>> الاسم وجه بركة اسمه أن اسمه<<علي >> مشعر بالعلو مع موافقته لاسم <<علي بن أبي طالب>> فيما قيل، ولو قيل موافقة اسم الله لكان أولى والمجتمع وافقة كنيته لكنية ( علي ) وهي: " أبو الحسن “ وموافقة اسمه لاسم الله ولاسم ( علي ) ، وأغر اللقب: مشهور اللقب وهو " سيف الدولة " واسمه أيضا أعز وهو ( علي (¬2) لكن الملوك تعظم بألقابها وتشريف النسب لكونه عباسيا ، وأصل أغر: فرس أغر أبيض، استعير لكل أبيض أو كل مشهور[ وهو استعارة] تصريحية وليس مجازا مرسلا، والسببية كما قيل. و<<الجرشى>>( بفتح الجيم والراء وتشديد الشين بعدها ألف ): النفس. وهو لفظ غير فصيح لغرابته. و" كتكأكأتم" و" افرنقعوا " في قول أبي علقمة عيسى بن عمر النحوي (¬3) حين سقط من الحمار، واجتمع الناس عليه:(مالكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة، افرنقعوا عني ) أي ما لكم اجتمعتم علي اجتماعكم على ذي جنون ، افترقوا عني، وذكر جل ذلك في الصحاح، وقال الزمخشري: في ( الدر الفائق عن الجاحظ ) (¬4)
صفحة ١٨
البصرة وهاجت به (مرة) يعني الصفراء فوثب عليه قوم يعصرون إبهامه ويؤذنون في أذنه؛ يعني كما يفعل بالمجنون، فأفلت من أيديهم، فقال: (ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني) ، فقال بعضهم: " دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية " ، ويمكن الجمع بين ذلك بأنه سقط من الحمار لهيجان الصفراء به .
... الثاني: كمسرج في قول العجاج:[من الرجز ]
أزمان أبدت واضحا مفلجا ... أغر براقا وطرفا أبرجا
ومقلة وحاجبا مزججا ... وفاحما ومرسنا مسرجا (¬1)
صفحة ١٩
... << أزمان >> ظرف منصوب متعلق بما قبله مضاف للجملة بعده جمع " زمن "، وفي << أبدت >> ضمير عائد إلى محبوبته، وقيل: << أزمان >> مبتدأ، اسم امرأة، وفي << أبدت >> ضميرها، والجملة خبر. والمعنى أظهرت، و << واضحا >> بمعنى شيء واضح أي أبيض وهو السن، و << مفلجا >> بمعنى مبعد عن الآخر بفسحة بينهما، و << أغر >>: أبيض، و << طرفا >> عينا، و << أبرجا >>: محدق بياضه بسواده كله، و << البرج >> ( بفتح الباء والراء ) أحداق بياضه بسواده، و << المقلة >> بياض العين مع سوادها أو موضع البصر من السواد، والمرسن( بفتح الميم وكسر السين وفتحها ):أنف البعير، اسم مكان أي موضع الرسن، و << رسنته >>: جعلت له زماما أطلقه على الأنف مطلقا، فاستعمله في أنف المحبوبة مجازا مرسلا لعلاقة الإطلاق والتقييد أو أحدهما، وهذا هنا أولى من التشبيه على الاستعارة، إذ لا يحسن تشبيه أنف الحبيبة الممدوحة بأنف البعير؛ إذ لا جمال في أنفه ولا زينة ولا فائدة في مطلق التشبيه بأنفه في أن كلا منهما ولا سيما أن الاستعارة أبلغ. وعلى كل حال لا يحسن له التعبير عن أنفه باسم أنف البعير، و<< مرججا >> بمعنى مدقق من الله مطول مع تقوس، و<< فاحما >> بمعنى شعر أسود. يقال: فحم الشيء (بالضم ) فحومة فهو أفحم وفاحم أي: أسود. فليس تشبيها بالفحم، ولا نسبا " كلابن " و" تامر"، فضلا عن أن تدعى فيه غرابة كما قيل. و << مسرجا >> عند ابن دريد (¬1) بمعنى السيف المنسوب إلى سريج وهو حداد تنسب إليه السيوف، ووجه الشبه الدقة والاستواء، أو بمعنى كالسراج في اللمعان عند ابن سيدة (¬2) ،
صفحة ٢٠
اسم مفعول من << فعل>> (بالتشديد) بالنسبة إلى الأصل، كقولك: تممته أي نسبته إلى " تميم " وفسقته: نسبة إلى الفسق، لا كما يقال: إنه بكسر( الراء ) للصيرورة أي:صائرا كالسيف السريجي أو كالسراج، ووجه البعد أن مجرد النسبة لا يدل على التشبيه، فأخذه من بعيد، فذلك عند حفاظ اللغة أن لفظ << مسرج >> لذلك المعنى، كما تجد أن لفظ << أسد >> للسبع، ولفظ كذا لكذا، ولا تجد ذلك في كتب اللغة، ولا يعتبر وجوده بعد أن شهر هذا التخريج؛ لأن ذكر هذا في كتب اللغة وحفظه ليس من نفس جمع الألفاظ اللغوية بل كتفسير إذ المراد بالرجل فلان وبالأعمى ابن أم مكتوم .
... ويجوز أن يكون << مسرجا >> من سرج الله وجهه أي حسنه فيكون من القسم الأول، أو جعله ذا سراج فيكون من القسم الثاني الذي نحن فيه؛ وذلك أنه لا يوجد << سرج >> بمعنى " حسن "، كما أنه لا يوجد << تكأكأ >> و << افرنقع >> إلا قليلا، ولا يوجد << سرج >> بمعنى جعله ذا السراج إلا بهذا التصرف، فإن المعنى الظاهر لسرج الله وجهه جعله ذا سراج حقيق مجمله على جعله ذا سراج بالمشابهة في اللمعان تخريج على وجه بعيد، ووجود " سرجه الله " بمعنى " حسنه | في ديوان اللغة و تاج العروس (¬1) ونحوهما لا يوجب فصاحته لإمكان أنه أتى من استعمال الناس له بذلك المعنى، أوشهر في كتب اللغة بعد حكم المتقدمين بأنه غريب، وقال المرزوقي (¬2) :
صفحة ٢١
السيف السريجي أيضا منسوب إلى السراج على غير قياس ؛لأنه إن نسب إلى"السراج " بلا تصغير، فالقياس السراجي، أو نسب إلى تصغير سراج فالقياس السريجي ( بتشديد الياء بعد الراء ) لتكون فيه ياء التصغير وياء عن ألف " سراج " ، أو جاز أن يكون السريجي بمعنى السيف الذي هو ذو سراج أي يضيء لصفائه كالسراج، قال كقولك:سرج الله أمرك أي حسنه ونوره، وهذا إثبات لهذا المعنى على حد ما مر عند " التاج " و" الديوان" .وغيرهما .
والغرابة باعتبار الحسن والقبح قسمان أيضا. الأول: أن يكون غريبا حسنا لا يعاب لعدم ثقله في السمع وعدم كراهته في الذوق " كشرنبث " لغليظ الكفين والرجلين و"اشمخر " و" اقمطر " ، وهو في النظم أحسن منه في كلامهم.ومنه غريب القرآن والحديث.والثاني: أن يكون غريبا قبيحا يعاب استعماله لثقله في السمع والذوق، ويسمى متوعرا أو وحشيا غليظا " كجحيش" للفريد في خصلة حسنة و" اطلخم " الأمر اختلط، والله أعلم.
صفحة ٢٢
باب المخالفة المخلة بالفصاحة ... وهي مخالفة قياس الصرف للضرورة أو الشذوذ الاستعمالي، فليس من الباب "أبى، يأبى" ولو فتح الماضي والمضارع معا بلا حرف حلق عينا أو لاما، فقياس المضارع الكسر، و " عور، يعور " بالتصحيح والقياس " عار، يعار"و" استحوذ " أيضا، والقياس " استحاذ " و" قطط " القياس " قط " و" آل " و" ماء " القياس " أهل" و" ماه" ، إذ لا يقاس قلب الهاء ألفا ولا همزة، ولو قلبت الهمزة بعد ذلك ألفا، ولا قلب الهاء همزة؛ فمثل هذه الكلمات فصيح ولو خالف القياس لأنها ثبتت كذلك عن الواضع ، فهي شاذة قياسا فصيحة استعمالا. وقيل في " يأبى":إنه غير شاذ قياسا، وإنه مضارع أبي (بالكسر) استغنى به عن " يأبي " (بالكسر) مضارع أبي (بالكسر) مضارع " أبى " (بالفتح)، أو إن الألف حرف حلق فأثر هذا في فتح المضارع ولو لم يؤثر في نحو :" أتى " " يأتي " كما لو يؤثر الفتح في " رجع" " يرجع " بسطت ذلك في " شرح اللامية " (¬1) .
ومثال المخالفة المخلة بالفصاحة أن تفك المدغم وتمد المقصور أو تصرف مثل " عمر " أو " أحمد " للضرورة، مثل بعض قول أبي النجم (¬2) :
الحمد لله العلي الأجلل ... الواسع الفضل الوهوب المجزل
الحمد لله العلي الأجلل ... الواحد الفرد القديم الأول
وفي رواية:
الحمد لله العلي الأجلل ... أنت مليك الناس ربا فاقبل
صفحة ٢٣
... والقياس: الأجل (بالإدغام)، ولا تتوهم أن الضرورة كما أباحت مالا يباح في السعة تنفي عن صاحبها عدم الفصاحة، بل ما يقبح من الضرائر مخل بالفصاحة، بل قيل: ما يقبح منها ومالا يقبح منها كلاهما مخل، وقال عصام الدين (¬1) : الضرورة: مقيسة وغير مقيسة، وفك الإدغام غير مقيس، وغيرالمقيسة مخلة بالفصاحة، وكل ما يثبت من القبح والضعف فإنما يتوجه إلى أبي النجم إذ فك لا في اسم الله - عز وجل - وتبارك وتعالى، وليس كون " الأجلل " ( بالفك ) أصلا للأجل (بالإدغام ) يثبت الفصاحة له، لأنه أصل مهجور وكذا أصل كل مغير موضوع. ولا يقال: " الأجلل " (بالفك ) داخل في الغرابة لأنا نقول: " الأجلل " (بالفك ) و" الأجل " ( بالإدغام ) كلاهما مادة واحدة في معنى واحد مشهور وما تصرفت منه وما تصرف معها. و" ربا " ( بالتنوين ) حال من المستتر في مليك، ومن أجاز مجيء الحال من المبتدأ ومجيئه من الخبر مطلقا أجاز كونه حالا من أنت، وقيل: إنه منادى بحرف محذوف وهو مقصود لكن نون بالنصب للضرورة، وهذا على أن الضرورة ما ورد في الشعر ولو كانت مندوحة، إن لم ينون لصح ( بالخبن ) (¬2) وعلى ذلك هو مما حذف حرف النداء منه والمنادى أعني اللفظ أنت جنس، وقيل هو غير منون منادى مضاف للياء المقلوبة ألفا. والله أعلم.
باب فصاحة الكلام
صفحة ٢٤
... هي كونه قوي التركيب متناسب الكلمات التي فيه كلها ظاهر الدلالة على المعنى المراد منه، فصيح الكلمات التي فيه كلها بأن لا تكون فيه كلمة تنافرت حروفها فيما بينها، ولا غريبة، ولا مخالفة للقياس؛ فإن كان ضعيف التركيب أو تنافرت فيه كلمتان فصاعدا إحداهما مع تاليتها ولو كانت في حد ذاتها لا تنافر بين حروفها ولم تتناسبا أو غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد، بل معقدا أو كانت كلمة منه غير فصيحة - فليس بفصيح. والله أعلم. ...
باب ضعف التركيب
ويقال ضعف التأليف والمراد هنا التركيب التام، والتركيب أعم لأن التأليف تركيب مع ألفة ما ولو ضعيفة، والتركيب مطلقا: ضم كلمة إلى أخرى أو جمع ما فوق الكلمتين بحيث يحسن السكوت ولو لم تحصل ألفة ما، وضعفه هوأن يكون تركيب أجزاء الكلام على خلاف القانون النحوي المشتهر فيما بين معظم النحاة الذين يقولون: إنه المقيس المطرد، وإيضاح ذلك أن النحاة كالخليل وسيبويه تصفحوا كلام العرب فاختاروا منه ما اختاروا وجعلوه أصولا فهو القوي وغيره ضعيف، فلا يوهمنك قول عصام الدين في " الأطول ": إن العرب لا تعرف القانون النحوي لأن مرجع ذلك إلى من تصفح كلامهم لا إليهم ولأن القانون النحوي كما شخصه الخليل وسبيويه وغيرهما قد عرفه العرب؛ وهو قانون لغتهم، ولو لم يعرفوا ما أحدث النحاة في اصطلاحهم، والغالب أن يكون الصواب مع جمهور النحاة بما منعوه كان غير فصيح، وقد يكون مع غير الجمهور لقرب مقاله إلى اللغة وظهور شواهده، وإن لم يثبت أن أحد الرأيين رأي الجمهور ولا مرجح اعتبر ما هو أقرب إلى اللغة؛ وإن اختلف البصريون والكوفيون ولا مرجح، فقيل: يرجح مذهب البصريين لأنهم يتعمدون الدليل القوي الكثير من كلام العرب، والكوفيون يكتفون بالدليل الغريب القليل، وقيل بالوقف ولسنا - ولا بد - متعبدين بتقليد البصريين.
صفحة ٢٥
وقد اختار ابن هشام (¬1) أن قراءة الجمهور لا تكون مرجوحة، وليست قراءة غير الجمهور تنافي الفصاحة لإمكان إجازة الجمهور لها ولصحتها بأدلتها، بل كثير من قراءة الجمهور لا تجوز عند جمهور النحاة، ولهذا ردها الزمخشري (¬2) لاشتمالها على ضعف التأليف، وكذا يرد التفسير الذي يفيد ضعف التأليف. ومن ضعف التركيب الإضمار قبل الذكر لفظا ومعنى وحكما لا لغرض أما لغرض فلا يخرج عن الفصاحة، ومنه ما إذا حكم الواضع بوجوب الإضمار قبل الذكر فإنه فصيح، كما أن المحذوف لعلة كالثابت، ومن [ الخطإ ] تقديمه لا لغرض فيخل بالفصاحة، نحو: " ضرب غلامه زيدا " فهذا غير فصيح ولو أجازه الأخفش (¬3) وابن جني معللين [ بما ورد عند ابن ] سيده اقتضاء للمنقول تارة كشدة اقتضائه للفاعل مستدلين بما ورد ظاهره على ذلك، ووافقهما عبد القاهر وابن مالك في شرح التسهيل (¬4)
صفحة ٢٦
من إجازة عبد القاهر ذلك إنه فصيح، إذ هو قدوة في الفن ومنه جزى ربه عني عدي بن حاتم. البيت (¬1) [ من الطويل ] ، وقوله:[من السريع ]
لما عصى أصحابه مصعبا ... أدى إليه الكيل صاعا بصاع (¬2)
... وقوله: <<جزى بنوه أبا الغيلان>> (البيت) (¬3) [ من البسيط ] وقوله:[ من الطويل]
ألا ليت شعري هل يلومن قومه ... زهيرا على ما جر من كل جانب (¬4)
وغير ذلك مما ذكرته في النحو، وقيل بشذوذ ذلك أو برد الضمير إلى مصدر الفعل، أي رب الجزاء وأصحاب العصيان في الأول والثاني، وقد جعلوا الضمير إلى مصدر الفعل السابق من تقدم المرجع كقوله تعالى { اعدلوا هو أقرب للتقوى } (¬5) .
صفحة ٢٧
وفي تقدم الذكر لفظا أن يكون المرجع ملفوظا به صريحا، نحو: " زيد ضرب غلامه "، و" زيد أكرمه الله "، و" ضرب غلاما ربه " .
والذكر المعنوي أن لا يكون مرجع الضمير مصرحا به قبله، لكن هناك ما يقتضي ذكره قبله ككون رتبة تقدم الفاعل [ تقتضي ] التقديم على المفعول به؛ نحو: " ضرب غلامه زيد "، وككون رتبة المفعول الأول [ تتطلب ] التقديم على الثاني، نحو: " أعطيت درهمه زيدا "، وكتضمن الكلام السابق للمرجع كقوله تعالى { اعدلوا هو أقرب للتقوى } .فإن الفعل متضمن لمصدره، وكاستلزام السابق له استلزاما قريبا، كقوله تعالى { ولأبويه } (¬1) أي أبوي الموروث أو أبوي الميت، فإن الكلام السابق في بيان الميراث وهو يدل على الميت الموروث أو استلزاما بعيدا، كقوله تعالى { حتى توارت بالحجاب } (¬2) أي الشمس بدليل العشي.
صفحة ٢٨