### || التحذير من المعاونة على الفتنة
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
[وبه أستعين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله]
الحمد لله الذي جعل الكتاب هدى للمتقين، وشفاء لصدور المؤمنين، ودامغا لباطل المبطلين، فمن تمسك بحبله عصم، ومن خالفه قصم، ومن قال به صدق، ومن حرفه مرق، ومن التمس الهدى فيه وفي موافقته من السنة اهتدى، ومن طلبه في غيرهما ضل وغوى.
والصلاة والسلام على محمد الأمين وعلى آله الأكرمين وعلى أصحابهم المتقين، وأشياعهم الصالحين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنه لما وقع النكير على من حذر من المعاونة على الفتنة، بقول كالحث على إحياء أرض الظالمين، أو مال كتسليم ما يعسكرون به العساكر، ويحصنون به الحصون، ويضطهدون بسنة الآمرين بالمعروف، ويضيمون لأجله الناهين عن المنكر، ويخيفون من أوجب الله أمانه، ويؤمنون به من أوجب الله تخويفه، ويتقوون به على سفك الدماء، وينكحون به الذكور، ويشربون به الخمور، ويلبسون به الحرير، إلى غير ذلك مما لا أحصي له من المحظور، وإثارة الشرور.
وعلمت أن الله سبحانه لا يعذر عن تبيين الحق، قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}[البقرة:159] وغيرها مما يؤدي هذا المعنى من الآيات.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((من كتم علما مما ينفع الله به في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)) وغيره مما يؤدي هذا المعنى من الأخبار.
صفحة ٢٩٩
جمعت في هذا الكتاب من الأدلة وأقوال الأئمة -"- ما يشتد به إن شاء الله ظهور المؤمنين، ويرغم به أنوف المبطلين، ولا عدوان إلا على الظالمين {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}[هود:88].
صفحة ٣٠٠
[الأدلة على تحريم معاونة الظالمين]
أما الأدلة، فقال تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}[المائدة:2].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن المعين للظالمين كالمعين لفرعون على موسى))، رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام) .
وعن أبي جعفر محمد الباقر بن علي عليه السلام أنه كان يروي ويقول: ((إذا كان يوم القيامة جعل سرادق من نار، وجعل فيه أعوان الظلمة، وجعل لهم أظافير من حديد يحكون بها[أبدانهم] حتى تبدو أفئدتهم فتحترق، فيقولون: ربنا، ألم نكن نعبدك؟ فيقول: ((بلى، ولكنكم كنتم أعوانا للظالمين))، رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام) أيضا، وهو في (الشفاء).
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث طويل: ((أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني، ولست منهم، ولا يردون على حوضي)) ، الخبر، رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
وروى حديثا نحوه من طريق أخرى.
وبالجملة من طالع كتب الحديث وجد ذلك متواترا معنى، بل ذلك معلوم من الدين ضرورة، وإنما أوردت ذلك؛ لما في ذكره من الموعظة والتخويف، وقد قيل: إن تسليم الأموال إليهم وما ضاها ذلك لا يكون معاونة لهم إلا مع قصد كونه معاونة.
صفحة ٣٠١
[شبهة القائلين بجواز ذلك والرد عليهم]
وشبهتهم في ذلك أن قالوا: إنما هو مجرد تمكين، ومجرد التمكين لا يقبح، كتمكين الله تعالى للعصاة من الأموال وغيرها، ثم لايسمى مجرد التمكين من غير قصد معاونة، وإلا لزم أن يسمى الله تعالى معينا على الظلم والله تعالى منزه عن ذلك، فما كان من المكلف من التسليم إليهم من غير قصد لا تناوله تلك الأدلة، وذلك باطل؛ لأن تمكين الله تعالى للعصاة إنما كان ليصح التكليف، وتثبت الطاعة للمطيع والمعصية للعاصي، إذ لو لم يمكنهم لم يكن المطيع مطيعا، ولا العاصي عاصيا، ولا استحق ثواب ولا عقاب، ألا ترى أنه تعالى مكنهم من المعاصي! ولم يكن ذلك قبيحا منه تعالى لما كان لا يصح التكليف إلا به، ولم يجز للمكلف أن يمكن العاصي من المعصية لما كان مكلفا بالذب عن دين الله سبحانه وتعالى.
ياسبحان الله فلم لم يجعلوا ذلك كتمكين المكلف للعاصي من المعاصي! كأن يمكنه من الخمر فيشربه، أو من الزنى فيفعله، أو من نفس محرمة فيقتلها، وينظروا هل يحل ذلك! لأن القياس بهذا أولى؛ لأنه من قياس بعض أحكام التكليف على بعض.
هذا إن زعموا أن تسليم الأموال إليهم ليس من نفس التمكين من المعصية، وإلا فهو من صميمه لا ينكره إلا ألد مكابر؛ لأن إنفاق المال في المعاصي معصية إجماعا، وهؤلاء قد مكنوهم من ذلك.
صفحة ٣٠٢
[تفنيد شبهة القائلين بجواز ذلك]
وأما قولهم: لا يسمى مجرد التمكين من غير قصد معاونة فباطل أيضا؛ لأنه خلاف المعلوم من لغة العرب، ألا ترى أنهم لايشترطون في تسمية الأفعال أن تكون مقصودة! وإنما يقولون: تحرك النائم، وجرى المآء، وهبت الريح وهي لا قصد لها! والكتاب والسنة إنما جريا على لغة العرب.
صفحة ٣٠٣
(من القرآن)
قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}[إبراهيم:4]، مع أن الكتاب والسنة واللغة تشهد لنا بالحق في نفس المتنازع فيه.
قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا}[الفرقان:55] أي: معينا.
ولا خلاف في ذلك بين المفسرين، والكافر لا قصد له في المعاونة على الله تعالى بدليل قوله تعالى، حاكيا عن الكفار: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر:3].
صفحة ٣٠٤
(من السنة النبوية)
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من دعا لظالم بالبقاء فقد أعان على هدم الإسلام)) ، ومن البعيد الملتحق بالمستحيل أن يكون من يدعو إلى الله تعالى له قصد في أن يعين بدعائه على هدم الإسلام.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنه نهى عن أكل الطين، وقال: إنه ليعظم البطن ويعين على القتل))، رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام) .
وعن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ياحميراء، إياك وأكل الطين، فإنه يعظم البطن، ويعين على القتل)) رواه الأمير الحسينفي (الشفاء) . والطين لا قصد له ضرورة، وإنما تأثيره كجري الماء، وهبوب الريح، وإحراق النار.
صفحة ٣٠٥
[من أقوال الأئمة عليهم السلام]
وعن زيد بن علي عليه السلام، عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة أنه قال : (وإن أنت رميت طيرا بسهم فوقع على الأرض فلا تأكل، فإني أخاف أن تكون الأرض أعانت على قتله)، رواه الإمام محمد بن المطهر عليه السلام في (المنهاج الجلي).
وقيل لعلي عليه السلام: بأي شيء غلبت الأقران؟ فقال عليه السلام: (ما لقيت أحدا إلا أعانني على نفسه)، رواه في (نهج البلاغة).
ومن البعيد الملتحق بالمستحيل أنهم يقصدون المعاونة على قتلهم.
صفحة ٣٠٦
[قول الإمام الهادي عليه السلام]
وقال الهادي عليه السلام في (الأحكام): (فإن أرسل مرسل كلبا معلما على صيد فعارضه كلب غير معلم، فأعانه عليه [حتى قتله يحبس عليه]، أو أخذ معه، فلا يجوز أكله، وقد أفسد ذكاته معاونة الكلب الذي ليس بمكلب)، فسمى عليه السلام فعل الكلب الغير المكلب معاونة، مع أنه إنما فعل ذلك ليأكل فقط، والهادي عليه السلام ممن يحتج بعربيته.
صفحة ٣٠٧
[قول الأمير الحسين عليه السلام]
قال الأمير الحسين عليه السلام في باب صفة من توضع فيهم الزكاة من (الشفاء) في سياق ذكر المسكين: ونص عليه القاسم، والهادي -عليهما السلام- وهما حجازيا اللغة، أراد بذلك أنهما ممن يحتج بلغته.
وقال بعض بني جهينة في وقعة كانت لكلب وفزارة شعرا:
فإنا وكلبا كاليدين متى تقع .... شمالك في الهيجاء تعنها يمينها
أي: يقع من اليمين ما يعضد الشمال ويعينها، وهي لا قصد لها ضرورة، فعلمنا بذلك علما أن الأدلة متناولة لإعطائهم الأموال وللإشارة بإحياء أرضهم والمشورة، وكان علم المعطين والمشيرين بثمرة إعطائهم وإشارتهم مغنيا عن قصد المعاونة في التحريم، واستحقاق النكال من الله تعالى؛ لأن المعلوم من حال كل عاقل أن يعلم أنه لولا تسليم الأموال إليهم لما انتصبت لهم راية، ولا تبعهم أحد من جنودهم، ولا تمكنوا من شمول الفتنة التي شملوا بها أهل وطأتهم، وجحود ذلك وإنكاره سفسطة، وكان أيضا العلم في ذلك مغنيا عن القصد، كما أن العلم مغنيا عن القصد عند الإقدام على سائر المعاصي، وإلا لزم الإثم على جنودهم في الغزو بين أيديهم وسفكهم للدماء، إذا كان قصدهم بذلك مجرد منفعة أنفسهم.
وكذلك يلزم الإثم على من بقر بطن محترم الدم من مسلم أو معاهد لاستخراج درهم مثلا في بطنه قاصدا بذلك مجرد انتفاعه بالدرهم، ولو كان يعلم بذلك هلاك النفس المحرمة، إذ جعل بعض المعاصي مفتقرا إلى القصد دون بعض تحكم، والقول بذلك خلاف ما علم من الدين ضرورة.
صفحة ٣٠٨
ومما يعضد هذا: أن عواقب الأمور التي يؤول إليها مراعاة في ثبوت التحليل والتحريم من دون اعتبار القصد عقلا وشرعا:
أما عقلا: فإن العقل يقضي ضرورة بقبح الفعل الذي يكون سببا لقبيح.
وأما شرعا: فإن الله سبحانه وتعالى حرم شرب الخمر، وفعل الميسر، لما كان عاقبتهما التي يؤولان إليها إيقاع الشيطان العداوة والبغضاء بين المؤمنين، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، قال تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون}[المائدة:91]، ولم يشترط في ذلك قصدا.
وعن أبي طالب عليه السلام في (الأمالي) وأنا أرويه بالإسناد الصحيح المتصل إليه أنه قال: أخبرني أبي رحمه الله تعالى، قال أخبرنا حمزة بن القاسم العلوي العباسي، قال حدثنا أحمد بن محمد بن خالد، قال حدثنا علي بن الحسين، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، [عن ابيه] عن آبائه، عن علي عليه السلام أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله أوصني، فقال له: ((هل أنت مستوص إن أوصيتك؟)) حتى قال له ذلك ثلاثا، في كلها يقول الرجل: نعم يارسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فإني موصيك، إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يك رشدا فامضه، وإن يك غيا فانته عنه)).
صفحة ٣٠٩
وعن الإمام المتوكل على الله عليه السلام أحمد بن سليمان في كتاب (حقائق المعرفة) يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام: ((عليك باليأس مما في أيدي الناس فإنه الغنى الحاضر))، فقلت: زدني ياسول الله صلى الله عليك؟، فقال: ((إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يك خيرا فاتبعه، وإن يك غيا فدعه)) ورواه أبو طالب في (الأمالي) أيضا ونحوه.
فلو كان التحليل والتحريم في ذلك يفتقر إلى القصد لما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتدبر العاقبة، إذ لو لم يتدبرها لم يعرفها، فضلا عن أن يقصدها.
ومن العجب أنهم يفتون بتحريم التراخي عن إزالة الجدار إذا كان مائلا يخاف وقوعه على مارة الطريق، ولا يشترطون في ذلك قصدا، وإنما يجعلون ذلك حراما بمجرد العلم، ويقولون في مسألتنا هذه بخلاف ذلك من غير فرق يجدونه، وهم يعلمون أن عاقبة تسليم المال إلى الجبارين تكثير سوادهم، وانتشار فسادهم، وسفك دماء المسلمين، وظلم الأرامل والأيتام والمساكين.
صفحة ٣١٠
[شبهة القائلين بأن الله يعين العاصي بتمكينه ما يستعين به على
ظلمه والرد عليهم]
وأما قولهم: يلزم أن يسمى الله تعالى معينا على المعاصي لإعطائه لهم ما استعانوا به على ظلمهم، فمعارض بأنه يلزمهم أن يسموا الله تعالى مقويا على المعصية؛ لأنه خالق القوى للعاصين وغيرهم، ولا محيد لهم عنه، حيث جعلوا شبه ذلك لازما.
وأما نحن فنقول: إن الله سبحانه لا يجوز أن يجري له من الأسماء إلا ما تضمن مدحا، وإن كان جائزا في اللغة؛ لدليل مذكور في علم الكلام لا ينكره الموحدون، وهو إجماع.
صفحة ٣١١
[من الأدلة الدالة على تحريم تسليم الأموال للظلمة]
(قوله تعالى: {ولا تبذر تبذيرا}).
ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم قوله تعالى: {ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا} [الإسراء:26،27].
ووجه الاستدلال بهذه الآية أن التبذير لا يعدو أحد وجهين:
إما أن يكون المراد به تضييع المال أو إنفاقه في المعاصي، إن كان الأول، وهو تضييعه، فدلالة الآية على تحريم تسليمه إلى من ينفقه في المعاصي بطريق الأولى؛ لأن تسليمه إلى من كان ينفقه في المعاصي أقبح ضرورة، وإن كان الثاني، وهو إنفاقه في المعاصي، فدلالتها على تحريم تسليمه إلى من ينفقه في المعاصي بصريح لفظها، وذلك أنها لم تفصل بين أن يكون إنفاق المال بالنفس أو بالنيابة، وهنا قد جعل الظالم نائبا عنه في إنفاقه في المعاصي لما كان المعطي عالما بذلك، ومختارا له لأجل أن يقر في بيته، ويسكن في وطنه، وإلا فهو متمكن من أن لا يعطيهم شيئا بأحد أمرين:
إما أن يهاجر، أو أن لا يتعلق بشيء مما يحملهم على الأخذ منه.
صفحة ٣١٢
(قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم...})
ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم قوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم...الآية}[النساء:5].
ووجه الاستدلال بها أن تفسيرها لا يخلو من أحد معنيين:
إما أن يكون المراد بالسفهاء الذين ينفقون المال في المعاصي، أو الذين يضيعونه، فأيهما ثبت، فلا يخلو من أحد وجهين أيضا، وذلك: إما أن تكون الآية عامة في كل السفهاء، أو خاصة بمن يجب إنفاقه، أو يستحب أو يباح، إن كانت عامة وكان المراد بالسفهاء من ينفق المال في المعاصي فواضح؛ لأن الذين يسلمون المال إليهم وينفقونه في المعاصي قد تناولتهم الآية بصريحها؛ لأنهم ينفقونه في المعاصي من سفك الدماء ونهب الأموال، واضطهاد المحقين، وظلم الأيتام والأرامل والمساكين، ويجب أن يكون قوله تعالى: {وارزقوهم فيها واكسوهم}[النساء:5] خاص بسد فاقة من لا يحل دمه، وستر عورته ممن يجب إنفاقه، أو يستحب أو يباح من أهل المعاصي دون الذين يبغون في الأرض بغير الحق من سلاطين الجور وأعوانهم؛ لقوله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي...}الآية، وثمرة القتال إتلافهم بأي ممكن، وسلبهم وانتهاب ما يجلبون به على المسلمين، ويتقوون به.
صفحة ٣١٣
ومن أطعمهم أو كساهم فقد ناقض في ذلك حكم أحكم الحاكمين، وإن كانت خاصة بمن عدا الباغين من الذين يجب إنفاقهم، أو يستحب أو يباح، وكان المراد بالسفهاء من ينفق المال في المعاصي أيضا، فهي تدل على تحريم تسليم الأموال إلى غيرهم من الظالمين بالفحوى؛ لأنه إذا حرم تسليم المال إلى من ينفقه في المعاصي من خواص الإنسان، أو إلى من يستحب له أن ينفقه أو يباح، فبالأولى أن يحرم تسليمه إلى من ينفقه في المعاصي من غيرهم؛ لأنه لا أصل لجواز تسليم المال إليه، وهو على تلك الحال البتة، وإن كان المراد بالسفهاء من يضيع المال، فإنه يدل على تحريم تسليم المال إلى من ينفقه في المعاصي بالفحوى، سواء كانت الآية عامة أو خاصة بمن تقدم ذكره[أما حيث كانت الآية عامة فواضح].
وأما حيث كانت خاصة بمن يجب إنفاقه أو يستحب أو يباح، فإنه إذا حرم تسليم الأموال إلى من يضيعها منهم، فإن تسليم الأموال إلى من ينفقها في المعاصي أعظم لا يخفى ذلك، وجميع ذلك مبني على أن المراد بالأموال أموال المعطين بكسر الطاء، كما هو ظاهر الآية الكريمة، لا أموال السفهاء كما ذهب إليه بعض المفسرين.
فأما على مذهبه هذا إن صح، فاعلم أنه إذا كان حرام أن يسلم إلى الإنسان نفس ما يملكه لأجل أن يضيعه أو ينفقه في المعاصي، فتسليم ما لا يملك العاصي من المال إليه لينفقه في المعاصي أعظم، ودلالة الآية على تحريمه أقوى، وذلك بحمد الله واضح.
صفحة ٣١٤
[من الأدلة على تحريم ذلك من السنة]
( حديث: ((من جبا درهما...)) ووجه الاستدلال به]
ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم من السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من جبا درهما لإمام جائر كبه الله على منخريه في النار))، رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام).
ووجه الاستدلال به أن الجباية تفيد معنيين:
أحدهما: جلب ما ينتفع به، قال تعالى: {أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء}[القصص:57] أي: تجلب.
والثاني: أخذ المال على وجه الاستعلاء، ومنه الجباء الذي يأخذ المال عن أمر السلطان.
ومن سلم المال إلى سلاطين الجور فقد جلبه لهم إما بنفسه أو بنائبه الذي يوصله إليه حيث سلمه إليه مختارا، إذ كان يمكنه ألا يسلم شيئا بأن يهاجر، أو بأن لا يتعلق بشيء مما يطالب به، فلما ثبت ذلك كان الخبر متناولا له؛ لأنه مشترك بين معنيين، ولا يجوز أن يحمل على أحدهما دون الآخر إلا بدليل، وإلا كان تحكما، والدليل هنا منتف؛ ولأنه إذا انتفى الدليل على إرادة البعض، مما يدل عليه المشترك من المعاني دون البعض وكان الجمع بين معانيه ممكنا وجب حمله على الجمع لغة عند العترة " ما خلا الإمام يحيى عليه السلام، فإنه قال: إنه يصح من حيث الإرادة لا اللغة، وهو محجوج بقوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي}[ الأحزاب:56]، الآية ولفظ يصلون مشترك بين معنيين:
صفحة ٣١٥
الصلاة من الله، وهي: معظم الرحمة، والصلاة من الملائكة، وهي: الاستغفار، وقد قال تعالى: {بلسان عربي مبين}[الشعراء:195] وقال تعالى: {قرآنا عربيا} وقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}[إبراهيم:4]، فدل على أن ذلك من اللغة فتأمله؛ ولأنه قد جاء نحو ذلك في قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم .... رعيناه وإن كانوا غضابا
فلفظ السماء قد استعمله لمعنيين معا:
أحدهما: المطر، بدليل قوله: نزل السماء.
والثاني: النبات، بدليل قوله: رعيناه، وفي قول الآخر:
وسقى الغضى والساكنيه وإن هم .... شبوه بين جوانحي وضلوعي
فإن الغضى استعمله لثلاثة معان:
الأول: الشجر المخصوص بدليل قوله: وسقي الغضى.
والثاني: منبته ومكانه، بدليل قوله: والساكنيه.
والثالث: النار العظيمة المتوقدة في معظم الشجر، بدليل قوله: وإن هم شبوه، ويسمى ذلك في البيتين وما جرى مجراه: الاستخدام.
صفحة ٣١٦
(حديث: ((ثلاثة لا يستجاب لهم...)))
ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم من السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ثلاثة لا يستجاب لهم))، وذكر منهم: ((رجلا دفع إلى سفيه ماله)) ، رواه الأمير الحسين عليه السلام في (الشفاء)، والاحتجاج به على نحو ما مر في ذكر السفهاء.
صفحة ٣١٧
[الآية: {إن الذين توفاهم الملائكة...} ووجه الاستدلال بها]
ومما يدل على تحريم تسليم الأموال إليهم قوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}[النساء:97].
ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن المراد بها الذين أخلوا بالفرائض التي افترضها الله سبحانه وتعالى، أو بعضها لكونهم مستضعفين وهم متمكنون من الهجرة، بدليل الوعيد في آخرها، وهو لا يكون إلا لمن أخل بما افترض الله سبحانه من القيام بالواجب، أو ترك القبيح وهو يتمكن من القيام بهما، كأن يهاجر.
ومن جملة ما افترض الله تعالى تجنب مشاهدة المعاصي حين تفعل إلا لتغييرها، بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل))، ونحو ذلك، فلما ثبت الوعيد لمن لم يتجنب مشاهدة المعاصي، ولم يغيرها لأجل الاستضعاف ثبت الوعيد لمن يسلم إليهم الأموال المقوية لهم على سفك الدماء وشرب الخمور، ونكح الذكور، ولبس الحرير، وغير ذلك من المنكرات؛ لأجل الاستضعاف ولم يهاجر بطريق الأولى، وكانت دلالة الآية على ذلك أقوى.
صفحة ٣١٨