[مقدمة المصنف]
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله رافع درجات العارفين (2) إلى ذروة العلاء، ومهبط منازل الجاهلين إلى أسفل درك الشقاء، ومفضل مداد العلماء على دماء الشهداء؛ إذ بأنوار مصابيح أفكارهم تنجلي (3) غياهب الظلماء، وبنتائج أبكار أذهانهم تنكشف جلابيب الغماء، أحمده على ترادف الآلاء، وتواتر النعماء (4)، وصلى الله على سيد الأنبياء (5)(6) محمد المصطفى وعترته الأئمة الأتقياء.
أما بعد (7): فهذا كتاب (8) تهذيب الوصول إلى علم الاصول، حررت فيه
صفحة ٤٣
طرق (1) الأحكام على الإجمال، من غير تطويل ولا إخلال، إجابة لالتماس ولدي (2) محمد جعلني الله فداه من كل محذور (3)، وكساه الله تعالى (4) ثوب السرور في كل الامور، وأمده (5) بالسعادات (6) الأبدية، وأيده (7) بالعنايات الأزلية، بمحمد وآله الطاهرين.
ورتبت هذا الكتاب على مقاصد:
صفحة ٤٤
المقصد الأول في المقدمات وفيه فصول
صفحة ٤٥
الأول: في مباحث مهمة
تصور المركب يستلزم تصور مفرداته، لا مطلقا، بل من حيث (1) هي صالحة للتركيب.
فالاصول لغة: ما يبنى عليها غيرها (2).
وعرفا: الأدلة.
والفقه (3) لغة: الفهم.
وعرفا: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستدل على أعيانها، بحيث (4) لا يعلم كونها من الدين ضرورة.
فخرج: العلم بالذوات، وبالأحكام العقلية، وكون الإجماع وخبر الواحد ونظائرهما حجة، وعلم (5) المقلد، والاصول الضرورية كالصلاة والزكاة.
وظنية الطريق لا تنافي علمية الحكم.
وليس المراد العلم بالجميع فعلا، بل قوة قريبة منه (6).
صفحة ٤٧
وإضافة اسم المعنى تفيد اختصاصه (1) بالمضاف إليه، فاصول (2) الفقه:
مجموع طرق (3) الفقه على الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية حال المستدل بها.
ورسمه- باعتبار العلمية-: العلم بالقواعد التي تستنبط (4) منها (5) الأحكام الشرعية الفرعية.
ومعرفته واجبة على الكفاية، لتوقف العلم بالأحكام الواجبة كذلك عليه.
ومرتبته: بعد علم الكلام، واللغة، والنحو، والتصريف (6).
وغايته: معرفة أحكام الله تعالى، لتحصيل (7) السعادة (8) الأبدية بامتثالها (9).
ومبادئه التصديقية: من الكلام واللغة والنحو.
و(10) التصورية: من الأحكام.
وموضوعه: طرق الفقه على الإجمال.
ومسائله: المطالب المثبتة فيه.
صفحة ٤٨
والدليل: ما تفيد معرفته العلم بشيء آخر، إثباتا أو نفيا.
والأمارة: ما تفيد (1) ظنه.
والعلم: لا يحد، وإلا جاء الدور.
والنظر: ترتب امور ذهنية ليتوصل بها إلى أمر (2) آخر.
والظن: اعتقاد راجح يجوز معه النقيض.
ومرجوحه: الوهم.
والشك: سلب الاعتقادين.
والجهل البسيط: عدم العلم.
والمركب: كذلك مع اعتقاده.
واعتقاد الرجحان: جنس للاعتقاد (3) الراجح الخالي عن الجزم.
ويستجمع العلم الجزم والمطابقة والثبات. ولا ينتقض (4) بالعاديات، لحصول الجزم وإمكان النقيض باعتبارين.
صفحة ٤٩
الفصل الثاني: في الحكم الشرعي
الحكم: خطاب الشرع (1) المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع.
والاقتضاء (2): قد يكون للوجود مع المنع من (3) النقيض (4)، فيكون وجوبا.
ولا معه، فيكون ندبا.
وقد يكون للعدم مع المنع من النقيض، فيكون حراما.
ولا معه، فيكون مكروها.
والتخيير: الإباحة (5).
والوضع: الحكم (6) على الوصف بكونه شرطا، أو سببا، أو مانعا. وربما رجع (7) بنوع من الاعتبار إلى الأول.
والواجب: ما يذم تاركه. ولا يرد المخير، والموسع، والكفاية، لأن الواجب في
صفحة ٥٠
المخير والموسع الأمر (1) الكلي، وفي الكفاية فعل كل واحد يقوم مقام الآخر (2)، فكأن التارك فاعل (3)، أو يزاد في الحد (4) (لا إلى بدل).
ويرادفه الفرض، والمحتوم، واللازم.
والمحظور: هو (5) الذي يذم فاعله.
ويرادفه الحرام، والمزجور عنه، والمعصية، والذنب، والقبيح.
والمندوب: هو الراجح فعله مع جواز تركه.
وهو المرغب فيه، والنافلة، والمستحب، والتطوع (6)، والسنة، والإحسان (7).
وأما المباح: فهو ما تساوى وجوده وعدمه.
وهو الجائز، والحلال، والمطلق (8).
والمكروه: هو الراجح تركه، ولا عقاب على فعله.
ويطلق على الحرام وترك الأولى بالاشتراك.
صفحة ٥١
الفصل الثالث: في تقسيم الفعل
وهو على وجوه:
الأول: الفعل قد يوصف بالصحة، وهو في العبادات (1) ما وافق الشريعة (2)، وعند الفقهاء ما أسقط القضاء، فصلاة من ظن الطهارة صحيحة على الأول خاصة (3)، وفي العقود ما (4) ترتب (5) أثر السبب عليه.
وقد يوصف بالبطلان، وهو ما قابل الاعتبارين، وهو يرادف (6) الفاسد، خلافا للحنفية حيث جعلوا الفاسد مختصا بالمنعقد بأصله دون وصفه، كالربا المشروع من حيث إنه بيع، الممنوع من حيث الزيادة (7).
الثاني: الفعل قد يكون حسنا، وهو ما للفاعل القادر عليه (8) العالم به أن يفعله، أو الذي لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم.
صفحة ٥٢
وقد يكون قبيحا، وهو الذي ليس له فعله، أو الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم.
وهو (1) قول، أو فعل، أو ترك قول، أو ترك فعل ينبئ عن اتضاع حال (2) الغير.
والحق أنهما عقليان، خلافا للأشاعرة (3)، للعلم الضروري بقبح الظلم والكذب الضار والجهل، وحسن الصدق النافع والإحسان والعلم، ولهذا يحكم به من لا يتدين بالشرائع، ولأنه لو لا ذلك لصح (4) إظهار المعجز (5) على يد الكاذب، فيمتنع العلم بصدق المحق، فتنتفي فائدة النبوة (6)، ولجاز الكذب عليه (7) تعالى، فينتفي الوثوق بوعده ووعيده، فتنتفي فائدة التكليف، ولأنه يؤدي إلى إفحام الأنبياء، ولأنا نعلم قطعا اختيار العاقل الصدق لو خير بينه وبين الكذب مع تساويهما (8) من كل جهة.
احتجوا ب: أن أفعال العباد اضطرارية، فينتفي الحسن والقبح العقليان، وب:
صفحة ٥٣
قوله (1) تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (2)(3).
والجواب: المنع من صغرى القياس، وقد كذبناها في كتبنا الكلامية (4)، والسمع متأول بما ذكرناه في (5) نهاية الوصول (6).
تذنيبان
الأول: لو لم يجب شكر المنعم عقلا بالضرورة لم تجب المعرفة، لعدم الفرق بينهما عقلا، والتالي (7) باطل، وإلا لزم إفحام الأنبياء؛ فالمقدم مثله، ولأنه معلوم بالضرورة للعقلاء، ولأنه دافع للخوف.
احتجت الأشاعرة ب: أن الوجوب لا لفائدة عبث، والفائدة إن كانت عاجلة فهي منتفية (8)، لأن العاجل التعب، وإن كانت آجلة أمكن إيصالها (9) بدونه، فكان
صفحة ٥٤
عبثا (1).
والجواب: لم لا يجب لكونه شكرا؟! ولا (2) يستلزم فائدة اخرى، وإلا لزم التسلسل. أو: لم لا تكون الفائدة آجلة ولا يمكن إيصالها على وجه الاستحقاق بدون الشكر.
الثاني: ذهبت جماعة من الإمامية (3) ومعتزلة بغداد إلى تحريم الأشياء التي ليست اضطرارية قبل ورود الشرع، وذهبت معتزلة البصرة إلى أنها على الإباحة، وتوقف الأشعري (4)(5).
والحق الثاني (6)، لأنها (7) منفعة خالية عن أمارات المفسدة، ولا ضرر على
صفحة ٥٥
المالك بتناولها (1)، فوجب حسنه، كالاستظلال بحائط الغير (2).
احتج المانع ب: أنه تصرف في مال الغير بغير إذنه، فكان حراما (3).
والجواب (4): الإذن معلوم عقلا، كالاستظلال.
الثالث: الفعل قد يكون مجزيا، بمعنى أن الإتيان به كاف في سقوط التعبد به، وإنما يحصل ذلك لو أتى المكلف به مستجمعا لجميع الامور المعتبرة فيه شرعا.
وقد لا يكون كذلك، إذا لم يوقعه المكلف على وجهه المطلوب منه.
وإنما يصح وصف الفعل بالإجزاء إذا أمكن وقوعه على وجهين (5) أو على جهات، أما ما لا يقع إلا على وجه واحد، كالمعرفة، فلا يصح وصفه به.
الرابع: الواجب إن اتي به في وقته سمي الإتيان به (6) أداء، وإن كان بعد وقته الموسع أو المضيق سمي قضاء، وإن فعل ثانيا في وقته، لوقوع الأول على نوع من الخلل، سمي إعادة.
وقد يعصي المكلف إذا أخر الموسع عن الوقت الذي يغلب على ظنه أنه لو
صفحة ٥٦
لم يفعله (1) مات فيه (2)، فلو أخره وعاش؟ قال القاضي (3): يصير قضاء (4). وليس بمعتمد، لظهور بطلان ظنه (5).
ولو أخره (6) مع غلبة ظن (7) السلامة فمات فجأة، لم يعص.
ثم إن (8) القضاء إنما يثبت عند وجود سبب وجوب الأداء مع عدم الأداء، إما مع وجوبه وتركه كتارك (9) الصلاة حتى يخرج الوقت، أو مع عدم الوجوب (10) لامتناعه عقلا كالنائم، أو شرعا كالحائض، أو لا لامتناعه كالمسافر إذا علم (11) القدوم قبل الزوال، والمريض إذا علم برأه قبل الزوال.
الخامس: الفعل قد يكون عزيمة، وهو ما جاز فعله لا مع قيام المقتضي
صفحة ٥٧
للمنع، أو رخصة وهو الجائز معه (1)، فمباح الأصل ليس رخصة (2)، وتناول الميتة رخصة، وقد تجب الرخصة كالتناول عند خوف الهلاك.
صفحة ٥٨
المقصد الثاني في اللغات وفيه فصول
صفحة ٥٩
الأول: في الواضع
ذهب عباد بن سليمان (1) إلى أن اللفظ يدل على المعنى لذاته، لاستحالة ترجيح بعض الألفاظ بمعناه من غير (2) مرجح (3).
وأطبق المحققون على بطلانه، والمخصص إما إرادة المختار، أو سبق المعنى حال (4) خطور اللفظ.
ثم اختلفوا:
فالأشعري وابن فورك (5) على أنها توقيفية، لقوله تعالى وعلم آدم الأسماء
صفحة ٦١
كلها (1) وقوله تعالى واختلاف ألسنتكم (2) وليس المراد الجارحة المخصوصة، للاتفاق فيها، بل ما يصدر عنها تسمية للمسبب باسم السبب، ولافتقار الاصطلاح إلى مثله فيتسلسل (3).
وأبو هاشم (4) على أنها اصطلاحية، لقوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه (5)، دل على سبق اللغة على الرسول السابق على التوقيف (6).
والاعتراض (7): لم لا يجوز حمل التعليم على الإلهام باحتياجه إلى هذه الألفاظ أو الإقدار على وضعها ، أو حمل الأسماء على الصفات مثل كون الفرس للركوب والثور للحرث لأنها علامات، أو علمه ما اصطلح عليه غيره؟! وليس حمل الألسنة على اللغات أولى من حملها على الإقدار عليها، مع تساويهما في كونهما آية. والاصطلاح قد يعلم بالقرائن كالأطفال من غير تسلسل، ونمنع توقف التوقيف
صفحة ٦٢
على البعثة، لجواز حصوله بالإلهام أو بخلق علم ضروري أو (1) أصوات في أجسام جمادية.
الفصل الثاني: في الموضوع له
كل معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه وجب في الحكمة وضع لفظ بإزائه، لوجود (2) القدرة والداعي وانتفاء الصارف.
وما عداه لا يجب، وإلا لزم وضع (3) ما لا يتناهى من الألفاظ، ولأن أنواع الروائح ومراتب الاشتداد لم يوضع لها ألفاظ بخصوصياتها، ولا يجوز وضع الظاهر بإزاء الخفي.
وليس القصد بوضع (4) المفرد إفادة معناه، لتقدمها عليه، بل التمكن من تركيب المعاني بواسطة تركيب الألفاظ.
واللفظ يدل على المعنى الخارجي بواسطة الذهني، لتغاير الألفاظ عند تغاير التخيلات للشخص المتحد في الحقيقة.
ومعرفة الوضع مستفادة من النقل المتواتر أو الآحاد أو المركب من النقلين،
صفحة ٦٣
كالاستثناء من الجمع (1)، وكون الاستثناء إخراجا (2).
الفصل الثالث: في تقسيم الألفاظ وهو من وجوه:
الأول: اللفظ يدل على المعنى بتوسط وضعه له مطابقة، وبتوسط دخوله فيما وضع له تضمنا، وبتوسط لزومه له ذهنا التزاما.
والدال بالمطابقة مفرد إن لم يقصد بجزئه الدلالة على جزء معناه حين هو جزء، ومركب إن قصد.
والمفرد جزئي إن منع نفس تصوره (3) من (4) الشركة (5)، وكلي إن لم يمنع.
والكلي إما أن يكون (6) نفس الماهية، أو داخلا فيها إما جنسا أو فصلا، أو خارجا عنها إما خاصة أو عرضا عاما، والخارج إما لازم للماهية أو للوجود أو مفارق، والمفارق إما سريع المفارقة أو بطيئها، وسهل الزوال أو عسره.
الثاني: اللفظ إن لم يستقل بالدلالة على معناه فهو الأداة، وإن استقل فهو
صفحة ٦٤