Averroes, Tahāfut al-tahāfut (تهافت التهافت).
Prooemium
بسم الله الرحمن الرحيم وبعد حمد الله الواجب والصلوة على جميع رسله وانبيائه فان الغرض فى هذا القول ان نبين مراتب الاقاويل المثبتة فى كتاب التهافت فى التصديق والاقناع وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين والبرهان
صفحة ٣
[المسئلة فى قدم العالم]
قال ابو حامد حاكيا لادلة الفلاسفة فى قدم العالم ولنقتصر من ادلتهم فى هذا الفن على ما له موقع فى النفس
[1] قال وهذا الفن من الادلة هو ثلاثة
الدليل الاول
قولهم يستحيل صدور حادث من قديم مطلقا لانا اذا فرضنا القديم ولم يصدر منه العالم مثلا ثم صدر فانما لم يصدر لانه لم يكن للوجود مرجح بل كان وجود العالم ممكنا عنه امكانا صرفا فاذا حدث لم يخل ان تجدد مرجح او لم يتجدد فان لم يتجدد مرجح بقى العالم على الامكان الصرف كما كان قبل ذلك وان تجدد مرجح انتقل الكلام الى ذلك المرجح لم رجح الآن ولم يرجح قبل فاما ان يمر الأمر الى غير نهاية أو ينتهى الامر الى مرجح لم يزل مرجحا
صفحة ٤
[2] قلت هذا القول هو قول فى أعلى مراتب الجدل وليس هو واصلا موصل البراهين لان مقدماته هى عامة والعامة قريبة من المشتركة ومقدمات البراهين هى من الامور الجوهرية المتناسبة .
[3] وذلك ان اسم الممكن يقال باشتراك على الممكن الاكثرى والممكن الاقلى والذى على التساوى وليس ظهور الحاجة فيها الى المرجح على التساوى وذلك ان الممكن الاكثرى قد يظن به انه يترجح من ذاته لا من مرجح خارج عنه بخلاف الممكن على التساوى .
صفحة ٥
[4] والامكان ايضا منه ما هو فى الفاعل وهو امكان الفعل ومنه ما هو فى المنفعل وهو امكان القبول وليس ظهور الحاجة فيهما الى المرجح على التساوى وذلك ان الامكان الذى فى المنفعل مشهور حاجته الى المرجح من خارج لانه يدرك حسا فى الامور الصناعية وكثير من الامور الطبيعية وقد يلحق فيه شك فى الامور الطبيعية لان اكثر الامور الطبيعية مبدأ تغيرها منها ولذلك يظن فى كثير منها ان المحرك هو المتحرك وانه ليس معروفا بنفسه ان كل متحرك فله محرك وانه ليس ههنا شىء يحرك ذاته فان هذا كله يحتاج الى بيان ولذلك فحص عنه القدماء . والامكان الذى فى الفاعل فقد يظن فى كثير منه انه لا يحتاج فى خروجه الى الفعل الى المرجح من خارج لان انتقال الفاعل من ان لا يفعل الى ان يفعل قد يظن بكثير منه انه ليس تغيرا يحتاج الى مغير مثل انتقال المهندس من ان لا يهندس وانتقال المعلم من ان لا يعلم .
[5] والتغير ايضا الذى يقال انه يحتاج الى مغير منه ما هو فى الجوهر ومنه ما هو فى الكيف ومنه ما هو فى الكم ومنه ما هو فى الاين .
[6] والقديم ايضا يقال على ما هو قديم بذاته وقديم بغيره عند كثير من الناس والتغيرات منها ما يجوز عند قوم على القديم مثل جواز كون الارادة الحادثة على القديم عند الكرامية وجواز الكون والفساد على المادة الاولى عند القدماء وهى قديمة وكذلك المعقولات على العقل الذى بالقوة وهو قديم عند اكثرهم ومنها ما لا يجوز وخاصة عند بعض القدماء دون بعض .
صفحة ٦
[7] وكذلك الفاعل ايضا منه ما يفعل بارادة ومنه ما يفعل بطبيعة وليس الامر فى كيفية صدور الفعل الممكن الصدور عنهما واحدا اعنى فى الحاجة الى المرجح . وهل هذه القسمة فى الفاعلين حاصرة او يؤدى البرهان الى فاعل لا يشبه الفاعل بالطبيعة ولا الذى بالارادة الذى فى الشاهد هذه كلها هى مسائل كثيرة عظيمة يحتاج كل واحدة منها الى ان تفرد بالفحص عنها وعما قاله القدماء فيها وأخذ المسئلة الواحدة بدل المسائل الكثيرة هو موضع مشهور من مواضع السفسطانيين السبعة والغلط فى واحد من هذه المبادى هو سبب لغلط عظيم فى اخر الفحص عن الموجودات
[8] قال ابو حامد
الاعتراض من وجهين احدهما
احدهما ان يقال بم تنكرون على من يقول ان العالم حدث بارادة قديمة اقتضت وجوده فى الوقت الذى وجد فيه وان يستمر حدمه الى الغاية التى استمر اليها وان يبتدئ الوجود من حيث بدأ وان الوجود قبل لم يكن مرادا فلم يحدث لذلك وانه فى وقته الذى حدث فيه، مراد بالارادة القديمة فحدث فما المانع لهذا الاعتقاد وما المحيل له
[9] قلت هذا قول سفسطانى وذلك انه لما لم يمكنه ان يقول بجواز تراخى فعل المفعول عن فعل الفاعل له وعزمه على الفعل اذا كان فاعلا مختارا قال بجواز تراخيه عن ارادة الفاعل وتراخى المفعول عن ارادة الفاعل جائز واما تراخيه عن فعل الفاعل له فغير جائز وكذلك تراخى الفعل عن العزم على الفعل فى الفاعل المريد فالشك باق بعينه .
صفحة ٧
[10] وانما كان يجب ان يلقاه باحد أمرين اما بان فعل الفاعل ليس يوجب فى الفاعل تغيرا فيجب ان يكون له مغير من خارج او ان من التغيرات ما يكون من ذات المتغير من غير حاجة الى مغير يلحقه منه وان من التغيرات ما يجوز ان يلحق القديم من غير مغير وذلك ان الذى يتمسك به الخصوم ههنا هو شيئان احدهما ان فعل الفاعل يلزمه التغير وان كل تغير فله مغير والاصل الثانى ان القديم لا يتغير بضرب من ضروب التغير وهذا كله عسير البيان .
صفحة ٨
[11] والذى لا مخلص للاشعرية منه هو انزال فاعل اول او انزال فعل له اول لانه لا يمكنهم ان يضعوا ان حالة الفاعل من المفعول المحدث تكون فى وقت الفعل هى بعينها حالته فى وقت عدم الفعل فهنالك ولا بد حالة متجددة او نسبة لم تكن وذلك ضرورة اما فى الفاعل او فى المفعول او فى كليهما واذا كان ذلك كذلك فتلك الحال المتجددة اذا أوجبنا ان لكل حال متجددة فاعلا لا بد ان يكون الفاعل لها اما فاعلا اخر فلا يكون ذلك الفاعل هو الاول ولا يكون مكتفيا بفعله بنفسه بل بغيره واما ان يكون الفاعل لتلك الحال التى هى شرط فى فعله هو نفسه فلا يكون ذلك الفعل الذى فرض صادرا عنه أولا بل يكون فعله لتلك الحال التى هى شرط فى المفعول قبل فعله المفعول . وهذا لازم كما ترى ضرورة الا أن يجوز مجوز أن من الاحوال الحادثة فى الفاعلين ما لا يحتاج الى محدث وهذا بعيد الا على من يجوز أن ههنا اشياء تحدث من تلقاءها وهو قول الاوائل من القدماء الذين انكروا الفاعل وهو قول بين سقوطه بنفسه
صفحة ٩
[12] وفى هذا الاعتراض من الاختلال أن قولنا ارادة ازلية وارادة حادثة مقولة باشتراك الاسم بل متضادة فان الارادة التى فى الشاهد هى قوة فيها امكان فعل احد المتقابلين على السواء وامكان قبوله لمرادين على السواء بعد فان الارادة هى شوق الفاعل الى فعل اذا فعله كف الشوق وحصل المراد وهذا الشوق والفعل هو متعلق بالمتقابلين على السواء فاذا قيل هنا مريد أحد المتقابلين فيه ازلى ارتفع حد الارادة بنقل طبيعتها من الامكان الى الوجوب واذا قيل ارادة ازلية لم ترتفع الارادة بحضور المراد واذا كانت لا أول لها لم يتحدد منها وقت من وقت لحصول المراد ولا تعين الا ان نقول انه يؤدى البرهان الى وجود فاعل بقوة ليست هى لا ارادية ولا طبيعية ولكن سماها الشرع ارادة كما ادى البرهان الى اشياء هى متوسطة بين اشياء يظن بها فى بادى الرأى انها متقابلة وليست متقابلة مثل قولنا موجود لا داخل العالم ولا خارجه
[13] قال ابو حامد مجاوبا عن الفلاسفة فان قيل هذا محال بين الاحالة لان الحادث موجب ومسبب وكما يستحيل حادث بغير مسبب وموجب يستحيل ايضا وجود موجب قد تمت شرائط ايجابه واسبابه واركانه حتى لم يبق شىء منتظر البتة ثم يتأخر الموجب بل وجود الموجب عند تحقق الموجب بتمام شروطه ضرورى وتأخره محال حسب استحالة وجود الحادث الموجب بلا موجب فقبل وجود العالم كان المريد موجودا والارادة موجودة ونسبتها الى المراد موجودة ولم يتجدد مريد ولا ارادة ولا تجددت للارادة نسبة لم تكن قبل فان كل ذلك تغير فكيف تجدد المراد وما المانع من التجدد قبل ذلك وحال التجدد لم يتميز عن حال عدم التجدد فى شىء من الاشياء ولا فى امر من الامور ولا فى حال من الاحوال ولا فى نسبة من النسب بل الامور كما كانت بعينها ثم لم يكن وجود المراد وبقيت بعينها كما كانت فوجد المراد ما هذا الا غاية الاحالة
صفحة ١٠
[14] قلت وهذا بين غاية البيان الا عند من ينكر احدى المقدمات التى وضعنا قبل .
صفحة ١١
[15] لكن ابو حامد انتقل من هذا البيان الى مثال وضعى فشوش به هذا الجواب عن الفلاسفة وهذا هو قوله قال ابو حامد وليس استحالة هذا الجنس فى الموجب والموجب الضرورى الذاتى بل وفى العرفى والوضعى فان الرجل لو تلفظ بطلاق زوجته ولم تحصل البينونة فى الحال لم يتصور ان تحصل بعده لانه جعل اللفظ علة للحكم بالوضع والاصطلاح فلم يعقل تأخر المعلول الا ان يعلق الطلاق بمجىء الغد او بدخول الدار فلا يقع فى الحال ولكن يقع عند مجىء الغد وعند دخول الدار فانه جعله علة بالاضافة الى شيء منتظر فلما لم يكن حاضرا فى الوقت وهو الغد ودخول الدار توقف حصول الموجب على حضور ما ليس بحاضر فما حصل الموجب الا وقد تجدد امر وهو الدخول او حضور الغد حتى أنه لو اراد مريد ان يؤخر الموجب عن اللفظ غير منوط بحصول ما ليس بحاصل لم يعقل مع انه الواضع بذاته المختار فى تفصيل الوضع فاذا لم يكن وضع هذا مفهوما ولم نعقله فكيف نعقله فى الايجابات الذاتية العقلية الضرورية . وأما فى العادات فما يحصل بقصدنا لا يتأخر عن القصد مع وجود القصد اليه الا لمانع فان تحقق القصد والقدرة وارتفعت الموانع لم يعقل تأخر المقصود اليه وانما يتصور ذلك فى العزم لان العزم غير كاف فى وجود الفعل بل العزم على الكتابة لا يوقع الكتابة ما لم يتجدد قصد هو انبعاث فى الانسان متجدد حال الفعل فان كانت الارادة القديمة فى حكم قصدنا الى الفعل فلا يتصور تأخر المقصود الا لمانع ولا يتصور تقدم القصد اذ لا يعقل قصد فى اليوم الى قيام فى الغد الا بطريق العزم وان كانت الارادة القديمة فى حكم عزمنا فليس ذلك كافيا فى وقوع المعزوم عليه بل لا بد من تجدد انبعاث قصدى عند الايجاد وفيه قول بالتغير . ثم يبقى عين الاشكال فى ان ذلك الانبعاث او القصد او الارادة او ما شئت ان تسميه لم حدث الآن ولم يحدث قبل فاما ان يبقى حادث بلا سبب او يتسلسل الى غير نهاية ورجع حاصل الكلام الى انه وجد الموجب بتمام شروطه ولم يبق أمر منتظر ومع ذلك ينأخر الموجب ولم يوجد فى مدة لا يرتقى الوهم الى اولها بل آلاف سنين لا تنقص شيئا منها ثم انقلب الموجب بغتة ووقع من غير أمر تجدد وشرط تحقق وهذا محال
صفحة ١٢
[16] قلت هذا المثال الوضعى من الطلاق اوهم انه يؤكد به حجة الفلاسفة وهو يوهيها لان للاشعرية ان تقول انه كما تأخر وقوع الطلاق عن اللفظ الى وقت حصول الشرط من دخول الدار او غير ذلك كذلك تأخر وقوع العالم عن ايجاد البارى سبحانه اياه الى وقت حصول الشرط الذى تعلق به وهو الوقت الذى قصد فيه وجوده لكن ليس الامر فى الوضعيات كالامر فى العقليات ومن شبه هذا الوضعى بالعقلى من أهل الظاهر قال لا يلزم هذا الطلاق ولا يقع عند حصول الشرط المتأخر عن تطليق المطلق لانه يكون طلاقا وقع من غير ان يقترن به فعل المطلق ولا نسبة للمعقول من المطبوع فى ذلك المفهوم الى الموضوع المصطلح عليه
[17] ثم قال ابو حامد مجاوبا عن الاشعرية والجواب ان يقال استحالة ارادة قديمة متعلقة باحداث شىء أى شىء كان تعرفونه بضرورة العقل او نظره وعلى لغتكم فى المنطق أتعرفون الالتقاء بين هذين الحدين بحد أوسط أو من غير حد أوسط فان ادعيتم حدا أوسط وهو الطريق الثانى فلا بد من اظهاره وان ادعيتم معرفة ذلك ضرورة فكيف لم يشارككم فى معرفته مخالفوكم والفرقة المعتقدة لحدوث العالم بارادة قديمة لا يحصرها بلد ولا يحصيها عدد ولا شبهة فى انهم لا يكابرون العقول عنادا مع المعرفة فلا بد من اقامة برهان على شرط المنطق يدل على استحالة ذلك اذ ليس فى جميع ما ذكروه الا الاستبعاد والتمثيل بعزمنا وارادتنا وهو فاسد فلا تضاهى الارادة القديمة القصود الحادثة وأما الاستبعاد المجرد فلا يكفى من غير برهان
[18] قلت هذا القول هو من الاقاويل الركيكة الاقناع وذلك ان حاصله هو انه اذا ادعى مدع ان وجود فاعل بجميع شروطه لا يمكن ان يتأخر عنه مفعوله فلا يخلو ان يدعى معرفة ذلك اما بقياس واما انه من المعارف الاولى فان ادعى ذلك بقياس وجب عليه ان يأتى به ولا قياس هنالك وإن ادعى ان ذلك مدرك بمعرفة اولى وجب ان يعترف به جميع الناس خصومهم وغيرهم وهذا ليس بصحيح لانه ليس من شرط المعروف بنفسه ان يعترف به جميع الناس لان ذلك ليس اكثر من كونه مشهورا كما انه ليس يلزم فيما كان مشهورا ان يكون معروفا بنفسه
صفحة ١٣
[19] ثم قال كالمجاوب عن الاشعرية فان قيل نحن بضرورة العقل نعلم انه لا يتصور موجب بتمام شروطه من غير موجب وتجويز ذلك مكابرة لضرورة العقل قلنا وما الفصل بينكم وبين خصومكم اذا قالوا لكم انا بالضرورة نعلم احالة قول من يقول ان ذاتا واحدا عالم بجميع الكليات من غير ان يوجب ذلك كثرة فى ذاته ومن غير ان يكون العلم زائدا على الذات ومن غير ان يتعدد العلم بتعدد المعلوم وهذا مذهبكم فى حق الله تعالى وهو بالنسبة الينا والى علومنا فى غاية الإحالة ولكن تقولون لا يقاس العلم القديم بالحادث وطائفة منكم استشعروا احالة هذا فقالوا ان الله تعالى لا يعلم الا نفسه فهو العاقل وهو العقل وهو المعقول والكل واحد فلو قال قائل اتحاد العقل والعاقل والمعقول معلوم الاستحالة بالضرورة اذ تقدير صانع للعالم لا يعلم صنعه محال بالضرورة والقديم اذا لم يعلم الا نفسه تعالى عن قولهم وعن قول جميع الزائفين علوا كبيرا لم يكن يعلم صنعه البتة
صفحة ١٤
[20] قلت حاصل هذا القول انهم لم يدعوا تجويز خلاف ما اظهروا من ضرورة امتناع تراخى المفعول عن فعله مجانا وبغير قياس اداهم اليه بل ادعوا ذلك من قبل البرهان الذى اداهم الى حدوث العالم كما لم تدع الفلاسفة رد الضرورة المعروفة فى تعدد العلم والمعلوم الى اتحادهما فى حق البارى سبحانه الا من قبل برهان زعموا اداهم الى ذلك فى حق القديم وأكثر من ذلك من ادعى من الفلاسفة رد الضرورة فى ان الصانع يعرف ولا بد مصنوعه اذ قال فى الله سبحانه انه لا يعرف الا ذاته .
[21] وهذا القول اذا قوبل هو من جنس مقابلة الفاسد بالفاسد وذلك ان كل ما كان معروفا عرفانا يقينا وعاما فى جميع الموجودات فلا يوجد برهان يناقضه وكل ما وجد برهان يناقضه فانما كان مظنونا به انه تعين لا انه كان فى الحقيقة فلذلك ان كان من المعروف بنفسه اليقينى تعدد العلم والمعلوم فى الشاهد والغائب فنحن نقطع انه لا برهان عند الفلاسفة على اتحادهما فى حق البارى سبحانه واما ان كان القول بتعدد العلم والمعلوم ظنا فيمكن ان يكون عند الفلاسفة برهان وكذلك ان كان من المعروف بنفسه انه لا يتاخر مفعول الفاعل عن فعله ويدعى رده الاشعرية من قبل ان عندهم فى ذلك برهانا فنحن نعلم على القطع انه ليس عندهم فى ذلك برهان .
صفحة ١٥
[22] وهذا وامثاله اذا وقع فيه الاختلاف فانما يرجع الامر فيه الى اعتباره بالفطرة الفائقة التى لم تنشأ على رأى ولا هوى اذا سبرته بالعلامات والشروط التى فرق بها بين اليقين والمظنون فى كتاب المنطق كما انه اذا تنازع اثنان فى قول ما فقال احدهما هو موزون وقال الاخر ليس بموزون لم يرجع الحكم فيه الا الى الفطرة السالمة التى تدرك الموزون من غير الموزون والى علم العروض وكما ان من يدرك الوزن لا يخل بادراكه عنده انكار من ينكره فكذلك الامر فيما هو يقين عند المرء لا يخل به عنده انكار من ينكره
[23] وهذه الاقاويل كلها فى غاية الوهى والضعف وقد كان يجب عليه الا يستحق كتابه هذا بمثل هذه الاقاويل ان كان قصده فيه اقناع الخواص
[24] ولما كانت الالزامات التى اتى بها فى هذه المسئلة برانية وغريبة عن المسئلة قال فى أثر هذا بل لا نتجاوز إلزامات هذه المسئلة - فنقول لهم بم تنكرون على خصومكم اذ قالوا قدم العالم محال لانه يؤدى الى اثبات دورات للفلك لا نهاية لاعدادها ولا حصر لآحدها مع ان لها سدسا وربعا ونصفا الى قوله كما سننصه بعد
صفحة ١٦
[25] وهذه ايضا معارضة سفسطانية فان حاصلها هو انه كما انكم تعجزون عن نقض دليلنا فى ان العالم محدث وهو انه لو كان غير محدث لكانت دورات لا شفع ولا وتر كذلك نعجز نحن عن نقض قولكم انه اذا كان فاعل لم يزل مستوفيا شروط الفعل انه لا يتأخر عنه مفعوله وهذا القول غايته هو اثبات الشك وتقريره وهو من احد اغراض السفسطانيين
[26] وانت يا هذا الناظر فى هذا الكتاب فقد سمعت الاقاويل التى قالتها الفلاسفة فى اثبات ان العالم قديم فى هذا الدليل والاقاويل التى قالتها الاشعرية فى مناقضة ذلك فاسمع ادلة الاشعرية فى ذلك واسمع الاقاويل التى قالتها الفلاسفة فى مناقضة أدلة الأشعرية بما نصه هذا الرجل قال ابو حامد فنقول بم تنكرون على خصومكم اذا قالوا قدم العالم محال لانه يؤدى الى اثبات دورات للفلك لا نهاية لاعدادها ولا حصر لآحادها مع ان لها سدسا وربعا ونصفا فان فلك الشمس يدور فى سنة وفلك زحل فى ثلاثين سنة فتكون دورة زحل ثلث عشر دورة الشمس ودورة المشترى نصف سدس دورة الشمس فانه يدور فى اثنى عشر سنة ثم انه كما لا نهاية لاعداد دورات زحل لا نهاية لاعداد دورات الشمس مع انه ثلث عشره بل لا نهاية لادوار فلك الكواكب الذى يدور فى سنة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة كما انه لا نهاية للحركة المشرقية التى للشمس فى اليوم والليلة مرة فلو قال قائل هذا مما يعلم استحالته ضرورة فبما ذا تنفصلون عن قوله . بل لو قال قائل اعداد هذه الدورات شفع أو وتر أو شفع ووتر جميعا أو لا شفع ولا وتر فان قلتم شفع ووتر جميعا أو لا شفع ولا وتر فيعلم بطلانه ضرورة وان قلتم شفع فالشفع يصير وترا بواحد فكيف أعوز ما لا نهاية له واحد وان قلتم وتر فالوتر يصير واحد شفعا فكيف أعوز ذلك الواحد الذى يصير به شفعا فيلزمكم القول بانه ليس بشفع ولا وتر
صفحة ١٧
[27] قلت حاصل هذا القول انه اذا توهمت حركتان ذواتا ادوار بين طرفى زمان واحد ثم توهم حد محصور من كل واحد منهما بين طرفى زمان واحد فان نسبة الجزء من الجزء هى نسبة الكل من الكل مثال ذلك انه اذا كانت دورة زحل فى المدة من الزمان التى تسمى سنة ثلث عشر دورات الشمس فى تلك المدة فانه اذا توهمت جملة دورات الشمس الى جملة دورات زحل مذ وقعت فى زمان واحد بعينه لزم ولا بد ان تكون نسبة جميع ادوار الحركة من جميع ادوار الحركة الاخرى هى نسبة الجزء من الجزء واما اذا لم يكن بين الحركتين الكليتين نسبة لكون كل واحد منهما بالقوة أى لا مبدأ لها ولا نهاية وكانت هنالك نسبة بين الاجزاء لكون كل واحد منها بالفعل فليس يلزم ان يتبع نسبة الكل الى الكل نسبة الجزء الى الجزء كما وضع القوم فيه دليلهم لانه لا نسبة توجد بين عظمين أو قدرين كل واحد منهما يفرض لا نهاية له فاذا القدماء لما كانوا يفرضون مثلا جملة حركة الشمس لا مبدأ لها ولا نهاية لها وكذلك حركة زحل لم يكن بينهما نسبة اصلا فيلزم من ذلك ان تكون الجملتان متناهية كما لزم فى الجزئين من الجملة . وهذا بين بنفسه .
[28] فهذا القول يوهم انه اذا كانت نسبة الاجزاء الى الاجزاء نسبة الاكثر الى الاقل يلزم فى الجملتين ان تكون نسبة احدهما الى الاخرى نسبة الاكثر الى الاقل وهذا انما يلزم اذا كانت الجملتان متناهيتين واما اذا لم يكن هنالك نهاية فلا كثرة هنالك ولا قلة واذا وضع ان هنالك نسبة هى نسبة الكثرة الى القلة توهم انه يلزم عن ذلك محال آخر وهو ان يكون ما لا نهاية له اعظم مما لا نهاية له وهذا انما هو محال اذا اخذ شيئان غير متناهيين بالفعل لانه حينئذ توجد النسبة بينهما واما اذا أخذ بالقوة فليس هنالك نسبة . فهذا هو الجواب فى هذه المسئلة لا ما جاوب به ابو حامد عن الفلاسفة
صفحة ١٩
[29] وبهذا تنحل جميع الشكوك الواردة لهم فى هذا الباب وأعسرها كلها هو ما جرت به عادتهم ان يقولوا انه اذا كانت الحركات الواقعة فى الزمن الماضى حركات لا نهاية لها فليس يوجد منها حركة فى الزمان الحاضر المشار اليه الا وقد انقضت قبلها حركات لا نهاية لها وهذه صحيح ومعترف به عند الفلاسفة ان وضعت الحركة المتقدمة شرطا فى وجود المتأخرة وذلك انه متى لزم ان توجد واحدة منها لزم ان توجد قبلها اسباب لا نهاية لها .
صفحة ٢٠
[30] وليس يجوز احد من الحكماء وجود اسباب لا نهاية لها كما تجوزه الدهرية لانه يلزم عنه وجود مسبب من غير سبب ومتحرك من غير محرك لكن القوم لما أداهم البرهان الى ان ههنا مبدأ محركا ازليا ليس لوجوده ابتداء ولا انتهاء وان فعله يجب ان يكون غير متراخ عن وجوده لزم ان لا يكون لفعله مبدأ كالحال فى وجوده والا كان فعله ممكنا لا ضروريا فلم يكن مبدأ أولا فيلزم ان تكون افعال الفاعل الذى لا مبدأ لوجوده ليس لها مبدأ كالحال فى وجوده واذا كان ذلك كذلك لزم ضرورة ان لا يكون واحد من افعاله الاولى شرطا فى وجود الثانى لان كل واحد منهما هو غير فاعل بالذات وكون بعضها قبل بعض هو بالعرض فجوزوا وجود ما لا نهاية له بالعرض لا بالذات بل لزم ان يكون هذا النوع مما لا نهاية له أمرا ضروريا تابعا لوجود مبدأ أول ازلى .
[31] وليس ذلك فى امثال الحركات المتتابعة او المتصلة بل وفى الاشياء التى يظن بها ان المتقدم سبب للمتأخر مثل الانسان الذى يولد انسانا مثله وذلك ان المحدث للانسان المشار اليه بانسان آخر يجب ان يترقى الى فاعل اول قديم لا اول لوجوده ولا لاحداثه انسانا عن انسان فيكون كون انسان عن انسان اخر الى ما لا نهاية له كونا بالعرض والقبلية والبعدية بالذات وذلك ان الفاعل الذى لا اول لوجوده كما لا اول لافعاله التى يفعلها بلا آلة كذلك لا أول للآلة التى يفعل بها افعاله التى لا اول لها من افعاله التى من شأنها أن تكون بآلة .
[32] فلما اعتقد المتكلمون فيما بالعرض انه بالذات دفعوا وجوده وعسر حل قولهم وظنوا ان دليلهم ضرورى . وهذا من كلام الفلاسفة بين فانه قد صرح رئيسهم الاول وهو ارسطو انه لو كانت للحركة حركة لما وجدت الحركة وانه لو كان للاسطقس اسطقس لما وجد الاسطقس .
صفحة ٢١
[33] وهذا النحو مما لا نهاية له ليس له عندهم مبدأ ولا منتهى ولذلك ليس يصدق على شىء منه انه قد انقضى ولا انه قد دخل فى الوجود ولا فى الزمان الماضى لان كل ما انقضى فقد ابتدأ وما لم يبتدئ فلا ينقضى وذلك ايضا بين من كون المبدأ والنهاية من المضاف . ولذلك يلزم من قال انه لا نهاية لدورات الفلك فى المستقبل ألا يضع لها مبدأ لان ما له مبدأ فله نهاية وما ليس له نهاية فليس له مبدأ وكذلك الامر فى الاول والآخر اعنى ما له اول فله آخر وما لا اول له فلا آخر له وما لا آخر له فلا انقضاء لجزء من اجزائه بالحقيقة ولا مبدأ لجزء من اجزائه بالحقيقة وما لا مبدأ لجزء من اجزائه فلا انقضاء له .
[34] ولذا اذا سأل المتكلمون الفلاسفة هل انقضت الحركات التى قبل الحركة الحاضرة كان جوابهم انها لم تنقض لان من وضعهم انها لا اول لها فلا انقضاء لها . فايهام المتكلمين ان الفلاسفة يسلمون انقضاءها ليس بصحيح لانه لا ينقضى عندهم الا ما ابتدأ .
[35] فقد تبين لك انه ليس فى الادلة التى حكاها عن المتكلمين فى حدوث العالم كفاية فى ان تبلغ مرتبة اليقين وانها ليس تلحق بمراتب البرهان ولا الادلة التى ادخلها وحكاها عن الفلاسفة فى هذا الكتاب لا حقة بمراتب البرهان وهو الذى قصدنا بيانه فى هذا الكتاب .
صفحة ٢٢
[36] وأفضل ما يجاوب به من سأل عمل دخل من أفعاله فى الزمان الماضى ان يقال دخل من افعاله مثل ما دخل من وجوده لان كليهما لا مبدأ له
[37] واما ما جاوب به أبو حامد عن الفلاسفة فى كسر دليل كون الحركات السماوية بعضها أسرع من بعض والرد عليهم فهذا نصه قال ابو حامد فان قيل محل الغلط فى قولكم انها جملة مركبة من آحاد فان هذه الدورات معدومة أما الماضى فقد انقرض وأما المستقبل فلم يوجد بعد والجملة إشارة الى موجودات حاضرة ولا موجود ههنا
[38] ثم قال هو فى مناقضة هذا قلنا العدد ينقسم الى الشفع والوتر ومستحيل ان يخرج عنه سواء كان المعدود موجودا باقيا أو فانيا فاذا فرضنا عددا من الاعداد لزمنا ان نعتقد انه لا يخلو من كونه شفعا أو وترا سواء قدرناها موجودة أو معدومة فانه ان انعدمت بعد الوجود لم تنعدم هذه القضية ولا تغيرت هذا منتهى قوله
صفحة ٢٣