{ و } قل للمؤمنين يا أكمل الرسل تسلية لهم: لا تغتموا على منعهم منا وسعيهم في تخريبها، ولا تحصروا توجهكم إلى الله في الأمكنة المخصوصة، بل { لله } المتجلي في الآفاق { المشرق والمغرب } فهما كنايتان عن طرفي العالم { فأينما تولوا } توجهوا نحوه { فثم وجه الله } أي: ذاته؛ إذهو منتهى الجهات محيط بها { إن الله واسع } أجل من أن تحيط به القلوب إلا من وسعه الله بلطفه كما أخبر سبحانه بقوله: " لا يسعني أرضي ولا سمائي بل يسعني قلب عبدي المؤمن " { عليم } [البقرة: 115] لا يغيب عن علمه شيء، وحيث اتجهتم نحوه علمه قبل توجهكم، بل توجهكم عين توجهه فلا يتوجه إليه إلا هو ، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه.
ومن غاية جهلهم بالله الواسع العليم الذي لا يسعه الأرض والسماء
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء
[البقرة: 255] حصروه سبحانه في شخص وتخيلوه جسما، وأثبتوا له لوازم الأجسام { وقالوا اتخذ الله ولدا } قتل وإجلاء وسبي وذلة { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } كعيسى وعزير عليهما السلام { سبحنه } وتعالى، عز الصمد الذين شأنه
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
[الإخلاص: 3-4] أن يتخذ صاحبة وولدا { بل له } مظاهر { ما في السموت و } مظاهر { الأرض } ليظهر عليها ويتجلى لها؛ إظهارا لكمالاتها المترتبة على صفاته المندرجة في ذاته ونسبته تعالى إلى جميع المظاهر في التكوين والخلق على السوى من غير تفاوت، وعيسى وعزير - عليهما السلام - أيضا من جملة المظاهر، ومرجع جميع المظان إلى الظاهر؛ إذ { كل له قانتون } [البقرة: 116] خاضعون منقادون مقرون على ما هم عليه قبل ظهورهم من العدم مقرون بأنه:
{ بديع } مبدع { السموت والأرض } من العدم بلا سبق مادة وزمان { و } من بدائع إبداعه أنه { إذا قضى } أراد أن يوجد { أمرا } مما في خزائن علمه ولوحه المحفوظ وكتابه المبين { فإنما يقول له } إمضاء لحكمه ونفاذا لإرادته { كن فيكون } [البقرة: 117] بلا تراخ ولا مهلة، بحيث لا يسع التعقيب أيضا إلا لضيق التعبير، والألفاظ بمعزل عن أداء سرعة نفوذ القضاء.
[2.118-121]
ثم لما ظهر واشتهر أن القرآن ناسخ للكتب السالفة مع كونه مصدقا لها، ناطقا بأنها منزلة من عند الله على الرسل الماضين الهادين إلى طريق الحق، وأن حكم الناسخ ماض باق، وحكم المنسوخ مضى ولم يبق أثره، مع أن كلا منهما حكم الله في زمانين { وقال الذين لا يعلمون } لا يعرفون ظهور الله وتجلياته بحسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا في كل آن وشأن: لا نقبل هذ الحكم ولا نؤمن به { لولا يكلمنا الله } مشافهة، بأن هذا ناسخ راجح وذاك منسوخ مرجوح { أو تأتينآ } على الله من يدعي الرسالة { آية } ملجئة تدل على هذا الحكم بلا احتمال آخر، ولولا هذا ولا ذاك لم نقبله ولم نؤمن به، ولا تستبعد يا أكمل الرسل منهم هذا القول؛ إذ { كذلك قال الذين } كفروا للأنبياء الماضين { من قبلهم مثل قولهم } بلا تفاوت بل { تشابهت قلوبهم } المنكرة المخمرة لهذه الأباطيل، المموهة مع أنا { قد بينا الآيات } المنزلة الدالة على توحيدنا { لقوم } ذوي قلوب صافية عن كدر الإنكار { يوقنون } [البقرة: 118] بها سواء الآيات الظاهرة على الآفاق والأنفس، وهم لا نهماكهم في كدر الإمكان والإنكار لا يرجى منهم الإيمان والإقرار.
{ إنا } من مقام جودنا { أرسلناك } يا أكمل الرسل ملتبسا { بالحق بشيرا } إلى طريقه { ونذيرا } عن طريق الباطل { و } وإن لم يبششروا ولم ينذروا بعدما بلغت إليهم التبشير والإنذار { لا تسأل } أنت { عن } إعراض { أصحاب الجحيم } البقرة: 119] المجبولين على الكفر والعناد.
صفحة غير معروفة