194

{ و } اذكروا { لما } أي: حين { جآء موسى لميقاتنا } المبعوث إليكم لإصلاح حالكم ليناجي معنا { و } من غاية اللطف والجود { كلمه ربه } أي: كلم معه مرتبته التي حصل له وانكشف بها من الله؛ إذ لكل أحد بل لكل ذرة من ذرائر المظاهر مرتبة خاصة وظن مخصوص بالنسبة إلى الله؛ لذلك قال سبحانه:

" أنا عند ظن عبدي بي ".

وأعلى المراتب وأسناها مرتبة النبوة والرسالة على تفاوت طبقاتها ، ثم الأمثل فالأمثل، كما انبسط موسى وانكشف من ربه بما اكشف، حيث سمع كلامه من جميع الجوانب بلا واسطة ووسيلة من ملك وغيرها، بلا تلفظ وتقطيع حروف، اضطرب ووله ومن غاية ولهه وسكره تسارعه إلى انكشاف أجلى منه { قال } بعد سماع كلامه سبحانه: { رب أرني } يا ربي، فإنك تنزهت عن المقابلة والمحاذاة والمماثلة والمحاكاة، كما أسمعتني كلامك المنزه عن الحروف والأصوات وتقطيع الكلمات { أنظر إليك } ببصري كما سمعت كلامك بسمعي.

{ قال } سبحانه: { لن تراني } يا موسى ما دمت في جلباب تعينك وغشاوة هويتك { ولكن } إن أردت أن تعرف استعدادك لرؤيتي { انظر إلى الجبل } حي تجليت عليه بهويتي المسقطة لهوياتها مطلقا { فإن استقر } وثبت عندك { مكانه } بعدما أتجلى عليه بذاتي، وإن بقي على هويته التي هويته هو فيها قبل التجلي { فسوف تراني } أي: فيمكنك أن تراني لهويتك { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } مدكوكا مفتتا متلاشيا كأن لم يكن أصلا حيث اضمحلت جميع تعيناته الباطلة { و } بعدما رأى الكليم ما رأى { خر } أي: سقط { موسى } بعدما نظر نحوه فلم يره { صعقا } جائزا هائما قلقا مغشيا، كأنه انفصل عن لوازم هويته { فلمآ أفاق } موسى عن ولهه وسكره وانكشف من ربه بما انكشف أنه لا يرى الله إلا الله { قال } مستحييا منيبا خائفا مستنزها: { سبحانك } أن يحيط بك أحد من مصنوعاتك { تبت } ورجعت { إليك } يا ربي بما اجترأت من سؤل ما ليس في وسعي وطاقتي { و } بعدما عرفتك الآن عرفانا أكمل وانكشفت منك يا ربي ما لم انكشف لو من قبل { أنا أول المؤمنين } [الأعراف: 143] الموقنين بعظمتك وجلالك؛ إذ لا اعتداد لإيماني من قبل.

ثم لما استحى موسى من الله وندم عن سؤله بلا استئذان منه سبحانه، تغمم ونحزن من اجترائه بما ليس في وسعه، أزال الله سبحانه ما عرض عليه من الندم والخجل حيث { قال } سبحانه مناديا: { يموسى } المستخلف من عندي { إني اصطفيتك } اخترتك { على الناس برسالاتي } أي: بتحميل أحكامي وأمرامري وتذكيري حتى توصلها إلى عبادي نيابة عني { و } خصصتك من بين الرسل { بكلامي } أي: سماعة بلا كيف ولا حرف، وبلا واسطة ملك وسفير { فخذ مآ آتيتك } تفضلا عليك بقدر وسعك واستعدادك، ولا تبادر إلى سؤل ما لا طاقة لك { وكن من الشاكرين } [الأعراف: 144] لنعمه، واصرفها على الوجه الذي أمرناك به من المصارف ووفقناك عليه ولا تكن من الكفارين لنعمنا، المنصرفين عن أوامرنا وأحكامنا؛ لتفوز منا بالرضا الذي هو أحسن أحوال أرباب الكشف والشهود.

{ وكتبنا } من جملة اصطفائنا وإنعامنا إياه إنا كتبنا { له } أي: أثبتنا لأجل تربيته وإرشاده { في الألواح } أي: ألواح التوراة { من كل شيء } يتعلق بتهذيب الظهر والباطن { موعظة } تذكره وتبيانا يتعظ بها هو ومن تبعة { وتفصيلا } توضيحا وتبيينا متعلقا { لكل شيء } أي: لكل حكم من الأحكام المتعلقة بأمور معاشهم { فخذها } أي: فقلنا له: خذها أيها الداعي للخلق إلى الحق { بقوة } عزيمة صادقة وجزم خالص { وأمر قومك } أيضا { يأخذوا بأحسنها } يعني: بعزائمها دون رخصها حتى تستعد نفوسهم لأن يفيض عليها من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات التي هي عبارة ع الجنة المأوى والمرتبة العليا عند العارف، ولا تميلوا عنها وعن أحكامها حتى لا يلحقوا بزمرة الفساق المنحطين عن مرتبة الإنسانية { سأوريكم } في النشأة الأخرى أيها المائلون عن مقتضى الأحكام الإلهية التي هي صراط الله الأقوم { دار الفاسقين } [الأعراف: 145] التي هي جهنم الحرمان وجحيم الخذلان.

[7.146-147]

ثم قال سبحانه: { سأصرف } أي: أميل وأغفل { عن آياتي } الظاهرة في الآفاق والأنفس الدالة على توحيدي واستقلالي في التصرفات الكائنة في الآفاق، القوم { الذين يتكبرون } ويمشون خيلا { في الأرض } ويظلمون فيها { بغير الحق } لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم { و } هم من نهاية جهلهم المركوز في جبلتهم { إن يروا كل آية } دالة على الصدق والصواب { لا يؤمنوا بها } عتوا وعنادا { و } بالجلمة { إن يروا سبيل الرشد } الصدق والصواب { لا يتخذوه سبيلا } لعدم موافقة طباعهم { وإن يروا سبيل الغي } والضلال { يتخذوه سبيلا } لميل نفوسهم نحوه بالطبع، كل { ذلك } أي: الصرف والانحراف والأهواء الباطلة والآراء الفاسدة { بأنهم } من غاية انهماكهم في الضلال { كذبوا بآياتنا } الدالة على توحيدنا المنزلة على رسلنا { وكانوا } من غاية جهلهم { عنها } وعن الامتثال بها والعمل بمقتضاها والتدبير في معناها { غافلين } [الأعراف: 146] غفلة لا تيقظ لهم منها أصلا، نبهنا بلطفك عن نومة الغالفين.

{ و } بالجملة: { الذين كذبوا بآياتنا } الظاهرة عن أوصافنا الذاتية في النشأة الأولى { ولقآء الآخرة } أي: كذبوا برجوع الكل إلينا في النشاة الأخرى، أولئك الأشقياء المردودون هم الذين { حبطت أعمالهم } وضاعت وخسروا فيها في الأولى والأخرى { هل يجزون } بإحباط الأعمال { إلا ما كانوا يعملون } [الأعراف: 147] أي: جزاء ما يقترفون ويكتسبون لأنفسهم من تكذيب الآيات والرسل المنبهين لها المبينين لمقتضاها.

[7.148-151]

صفحة غير معروفة