{ و } من غاية عداوتهم معك يا أكمل الرسل ومع من بايعك من المؤمنين أنهم { قالوا } حين دعوتكم إياهم إلى الإيمان والتصديق بالإسلام: لا نفقة حديثكم ولا نفهم كلامكم؛ إذ { قلوبنا } التي هي وعاء الإيمان والإذعان { غلف } مغلوف مغشاة بالأغطية الكثيفة لا يصل إليها دعوتكم وإخباركم قل لهم يا أكمل الرسل: لا غطاء ولا غشاوة إلا عنادكم وحديثكم وحسدكم على ظهور دين الإسلام وبغيكم عليه مع جزمكم بحقيته عقلا ونقلا { بل } قل لهم نيابة عنا: { لعنهم الله } أي: طردهم وبعدهم باسمه المنتقم { بكفرهم } أي: بسبب كفرهم المذكور في جبلتهم، لكونهم مقهروين تحت اسم المضل المذل، وإذا كانوا من مقتضيات اسم المضل { فقليلا ما } نزرا يسيرا منهم { يؤمنون } [البقرة: 88] يهتدون بطريق التوحيد إيفاء لحق الفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها، وهم الذين ذكرهم سبحانه في قوله:
إن الذين آمنوا والذين هادوا
[البقرة: 62] وبالجملة فلا يجرى منهم الإيمان.
[2.89-91]
{ و } أيضا من غاية عداوتهم وعتوهم وعنادهم وحسدهم على ظهرو دين الإسلام { لما جآءهم كتاب } مشتمل على الأحكام والمعتقدات والحقائق والمعارف جزموا أنه نازل { من عند الله } لتوافقه على ما في كتابهم وإعجازه عموم من تحدى معه ومع ذلك { مصدق لما معهم } من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين { و } الحال أنهم { كانوا من قبل } ظهوره ونزوله { يستفتحون } يستنصرون بهذا النبي ودينه وكتابه { على الذين كفروا } بكتابهم ونبيهم ويقولون: سينصر ديننا بالنبي الموعود والدين الموعود { فلما جآءهم ما عرفوا } في كتابهم ونبيهم انتظروا له قبل مجيئه وافتخروا به على معاصريهم { كفروا به } حين مجيئه عنادا ومكابرة فاستحقوا بهذا الكفر والعناد طرد الله ومقمته وتبعيده عن طريق التوحيد وتخليده إياهم في جنهم الإمكان، نعوذ بالله من غضب الله { فلعنة الله } الهادي للكل إلى سواء السبيل نازلة دائما { على الكافرين } [البقرة: 89] المصرين على العناد، المستكبرين على العباد.
ثم لما ذكر سبحانه ذمائم أخلاقهم وقبائح أفعالهم، أراد أن يذكر كلاما مطلقا على وجه العظة والنصيحة في ضمن تعبيره وتقريعهم، ليتذكر به المؤمنون فقال: { بئسما اشتروا به أنفسهم } بما باعوا واستبدلوا به أنفسهم معارف نفوسهم أو شهدوها أو وصولها { أن يكفروا } أن يكذبوا من غاية خبائثهم وعنادهم { بمآ أنزل الله } على من هو أهل وقابل له؛ ليهدي به من ضل عن طريق الحق مع جزمهم أيضا بحقيته بلا شبهة ظهرت لهم، بل إنما يكفرون { بغيا } وحسدا على { أن ينزل الله } المستجمع المستحصر للقابليات والاستعدادات { من } محض { فضله } ولطفه بلا علة وغرض { على من يشآء من عباده } يختار ويريد من عباده الخلص، وهم الذين ارتفعت هوياتهم وتلاشت ماهياتهم واضمحلت وفنيت تعيناتهم، وصاروا ما صاروا لا إله إلا هو، ولما كفروا بالله وحدسوا لأنبيائه وبخلوا عن خزائن فضله { فبآءو } رجعوا مقاربين { بغضب } عظيم من الله المنتقم عن جريمتهم { على غضب } عظيم إلى ما شاء الله الظهور باسم المنتقم، وقل يا أكمل الرسل للمؤمنين: { وللكافرين } المستهينين بكتاب الله ودينه ونبيه { عذاب مهين } [البقرة: 90] لهم في الدنيا والآخرة، إهانتهم في الدنيا ضرب الذلة والمسكنة والجزية والصغار، وفي الآخرة حرمانهم عن الكمال الإنساني الذي يتوقع منهم، ولا عذاب أشد من ذلك.
ربنا اصرف عنا عذابك وقنا من سخطك.
{ و } من غاية استنكافهم واستكبارهم { إذا قيل لهم } كلاما صادقا يقبله كل العقول { آمنوا بما أنزل الله } في الواقع مطلقا { قالوا } في الجواب حاصرين: بل { نؤمن بمآ أنزل علينا } فقط، ولا تم الإنزال لغيرنا { و } لا يقتصرون عليه بل { يكفرون بما ورآءه و } إن كان { هو الحق } المطابق للواقع في نفسه وهم يعلمون حقيته، وإن كان { مصدقا لما معهم } من الكتاب، والحسد والعناد الراسخين في نفوسهم وطباعهم ومبالغتهم في العناد والإصرار على تكذيب هذا الكتاب مع أن الإيمان بأحد المتصدقين المتوافقين يوجب الإيمان بالآخر، يدل على ألا إيمان لهم بالتوارة أيضا، بل هم كافرون بها لدلالة أفعالهم وأعمالهم على الكفر بها وإن أنكروه { قل } لهم إلزاما يا أكمل الرسل: { فلم تقتلون } أيها المدينون بدين اليهود المؤمنون المصدقون بالتوراة { أنبيآء الله } الحاملين لها العاملين بها { من قبل إن كنتم } صادقين في أنكم { مؤمنين } [البقرة: 91] بها فثبت أنكم لستم مؤمنين بها حينئذ لتخلفكم عن مقتضاه وتكذيبكم من أنزل عليه، وإن أنكروه اذكر له:
[2.92-100]
{ ولقد جآءكم موسى بالبينات } الواضحات المبينات في التوراة المبينات لطريق التوحيد والإيمان، فكذبتم موسى عليه السلام على جميع بيناته بالمرة { ثم اتخذتم العجل } ألها { من بعده } أي من بعد ما ذهب موسى إلى الطور للفوائد الأخر المتعلقة لتكميلكم { وأنتم } قوم { ظالمون } [البقرة: 92] شأنكم العدول عن طريق الحق ومنهج الصواب.
صفحة غير معروفة