الرحيم. تعليم منه سبحانه ؛ ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها ؛ تبركا به. ومعناه أبدأ : { بسم الله } ؛ لأن حرف الباء مع سائر حروف الجر لا يستغني عن فعل مضمر أو مظهر ؛ فكان ضمير الباء في هذه الآية : الأمر.
واختلف الناس في معنى اشتقاق الاسم ؛ وأكثر أهل اللغة على أنه مشتق من السمو ؛ وهو الرفعة. ومعنى الاسم التنبيه على المسمى والدلالة عليه. وقال بعضهم : مشتق من السمة ؛ وهي العلامة ؛ فكان الاسم علامة للمسمى.
وأما { الله } فقال بعضهم : هو اسم لا اشتقاق له ؛ مثل قولك : فرس ؛ ورجل ؛ وجبل ؛ ومعناه عند أهل اللسان : المستحق للعبادة ؛ ولذلك سمت العرب أصنامهم : آلهة ؛ لاعتقادهم استحقاقها للعبادة. وقال بعضهم : هو من قولهم : أله الرجل إلى فلان يأله إلاهة ؛ إذا فزع إليه من أمر نزل به ؛ فآلهه أي أجاره وأمنه. ويقال للمألوه إليه : إلها. كما قالوا للمؤتم به : إماما ؛ فمعناه أن الخلائق يألهون ويتضرعون إليه في الحوائج والشدائد.
واختلفوا في { بسم الله الرحمن الرحيم } هل هي آية من الفاتحة ؟
فقال قراء الكوفة : هي آية منها ؛ وأبى ذلك أهل المدينة والبصرة. وأما قوله { الرحمن الرحيم } فهما اسمان مأخوذان من الرحمة ؛ وزنهما من الفعل نديم وندمان من المنادمة ، وفعلان أبلغ من فعيل ، وهو من أبنية المبالغة. ولا يكون إلا في الصفات ؛ كقولك : شبعان وغضبان ؛ ولهذا كان اسم { الرحمن } مختصا بالله لا يوصف به غيره. وأما اسم { الرحيم } فمشترك.
وعن عثمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الرحمن العاطف على جميع خلقه بإدرار الرزق عليهم " فالرحمة من الله تعالى الإنعام على المحتاج ؛ ومن الآدميين رقة القلب ؛ وإنما جمع بين الرحمن والرحيم للنهاية في الرحمة والإحسان بعد الاحتنان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : [هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر] ولو قال : لطيفان لكان أحسن.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب في أوائل الكتب في أول
الإسلام : [بسمك اللهم] حتى نزل { بسم الله مجرياها }[هود : 41]. فكتب [بسم الله]. ثم نزل : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان }[الإسراء : 110] فكتب : [بسم الله الرحمن]. فنزل : { بسم الله الرحمان الرحيم }[النمل : 30] في سورة النمل ؛ فكتب حينئذ : [بسم الله الرحمن الرحيم].
فإن قيل : لم قدم اسم الله على الرحمن ؟ قيل : لأنه اسم لا ينبغي إلا لله عز وجل. وقيل في تفسير قوله تعالى : { هل تعلم له سميا }[مريم : 65] أي هل تعرف في السهل والجبل والبر والبحر والمشرق والمغرب أحدا اسمه الله غير الله ؟ وقيل : هو اسمه الأعظم. وقدم الرحمن على الرحيم ؛ لأن الرحمن اسم خص به الله ؛ والرحيم مشترك ؛ يقال : رجل رحيم ، ولا يقال : رجل رحمن. وقيل : الرحمن أمدح ؛ والرحيم أرأف.
وإنما أسقطت الألف من اسم الله وأصله باسم الله ؛ لأنها كثرت على ألسنة العرب عند الأكل والشرب والقيام والقعود ؛ فحذفت اختصارا من الخط وإن ذكرت اسما غيره من أسماء الله لم تحذف الألف لقلة الاستعمال ؛ نحو قولك : باسم الرب ، وباسم العزيز ؛ وإن أتيت بحرف سوى الباء لم تحذف الألف أيضا ؛ نحو قولك : لاسم الله حلاوة في القلوب ؛ وليس اسم كاسم الله. وكذلك باسم الرحمن ؛ واسم الجليل ؛ و{ اقرأ باسم ربك }[العلق : 1].
صفحة ١
[2]
قوله عز وجل : { الحمد لله } ، الحمد والشكر نظيران ؛ إلا أن الحمد أعم من حيث إن فيه معنى المدح من المنعم عليه ؛ وغير المنعم عليه ؛ ولا يكون الشكر إلا من المنعم عليه. والشكر أعم من الحمد من حيث إنه يكون من اللسان والقلب والجوارح ؛ والحمد لا يكون إلا باللسان ؛ ويتبين الفرق بينهما بنقيضهما. فنقيض الحمد الذم ؛ ونقيض الشكر الكفران.
وقوله : { رب العالمين }. الرب في اللغة : اسم لمن يربي الشيء ويصلحه ؛ يقال لسيد العبد : رب ؛ ولزوج المرأة : رب ؛ وللمالك : رب. ولا يقال : الرب معرفا بالألف واللام إلا لله عز وجل. والله تعالى هو المربي والمحول من حال إلى حال ؛ من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى أجل مسمى.
وقوله { رب العالمين } العالم : جمع لا واحد له من لفظه ؛ كالنفر والرهط ؛ وهو اسم لمن يعقل مثل الإنس والجن والملائكة ؛ لأنك لا تقول : رأيت عالما من الإبل والبقر والغنم ؛ إلا أنه حمل اسم العالم في هذه السورة على كل ذي روح دب ودرج لتغليب العقلاء على غيرهم عند الاجتماع. وربما قيل للسموات وما دونها مما أحاطت به : عالم ؛ كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن لله ثمانية عشر ألف عالم ؛ وإن دنياكم منها عالم ".
صفحة ٢
[3]
وقوله : { الرحمن الرحيم }. قد تقدم تفسيره.
صفحة ٣
[4]
وقوله عز وجل : { مالك يوم الدين }. أي يوم الحساب ؛ فإن قيل : لم خص يوم الدين ؛ وهو ملك الدنيا والآخرة ؟ قيل : لأن الله تعالى لا ينازعه أحد في ملكه ذلك اليوم ؛ كما قال تعالى : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار }[غافر : 16].
قرأ عاصم والكسائي : (مالك يوم الدين) بالألف ؛ والباقون بغير ألف. قال أهل النحو : (ملك) أمدح من (مالك) لأن المالك قد يكون غير ملك ولا يكون الملك إلا مالكا. وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقرأ : (مالك يوم الدين) على النداء المضاف ؛ أي يا مالك يوم الدين. وقرأ أنس بن مالك : (ملك يوم الدين) جعله فعلا ماضيا.
صفحة ٤
[5]
قوله عز وجل : { إياك نعبد وإياك نستعين }. لا يحسن إدخال { إياك } في غير المضمرات. وحكي عن الخليل : (إذا بلغ الرجل الستين فإياه ؛ وإيا الشواب). فأضافه إلى ظاهر ؛ وهو قبيح مع جوازه ولا يكون إلا إذا تقدم ، فإن تأخر ؛ قلت : نعبد ؛ ولا يجوز : نعبد إياك. فإن قيل : لم قدم { إياك نعبد } وهلا قال : نعبدك ؟ قيل : إن العرب إذا ذكرت شيئين قدمت الأهم فالأهم ؛ ذكر المعبود في هذه الآية أهم من ذكر العبادة فقدمه عليها.
والكاف من { إياك } في موضع خفض بمنزلة عصاك ؛ وأجاز الفراء : أن تكون في موضع نصب ؛ فكأنه جعل { إياك } بكماله ضمير المنصوب. فإن قيل : لم عدل عن المغايبة إلى المخاطبة ؟ قلنا : مثله كثير في القرآن ؛ قال الله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح }[يونس : 22].
صفحة ٥
[6]
قوله عز وجل : { اهدنا الصراط المستقيم } ؛ أي أرشدنا الطريق القائم الذي ترضاه ؛ وهو الإسلام . وهذا دعاء ؛ ومثله بلفظ الأمر ؛ لأن الأمر لمن دونك ؛ والمسألة لمن فوقك.
فإن قيل : ما معنى قولكم : اهدنا! وأنتم مهتدون ؟ قيل : هذا سؤال في مستقبل الزمان عند دعوة الشيطان. وقيل : معناه : ثبتنا على الطريق المستقيم ؛ لا تقلب قلوبنا بمعصيتنا. ونظير قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام : { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين }[البقرة : 131] أي أثبت على الإسلام.
وفي { الصراط } أربع لغات : صراط بالصاد ؛ وسراط بالسين ، وبالزاي الخالصة ، وبإشمام الصاد والزاي ، وكل ذلك قد قرئ به ؛ فبالسين قراءة قنبل ، وبإشمام الزاي قراءة خلف ؛ وقرأ الباقون بالصاد الصافية.
صفحة ٦
[7]
وقوله تعالى : { صراط الذين أنعمت عليهم } ؛ هم الأنبياء وأهل طاعة الله تعالى. واختلاف القراءة في { صراط } كاختلافهم في (الصراط).
قوله عز وجل : { غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } { المغضوب عليهم } هم اليهود ؛ و{ الضآلين } هم النصارى.
وأما (آمين) فليس من السورة ؛ ولكن روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله ويأمر به. وقال : " لقني جبريل عليه السلام بعد فراغي من فاتحة الكتاب : آمين ، وقال : إنه كالطابع على الكتاب " وقيل : معنى آمين : اللهم استجب. وقيل : معناه : يا آمين ؛ أي يا الله. فآمين اسم من أسماء الله. وقيل : معناه : اللهم اغفر لي. وفي آمين لغتان : المد والقصر ؛ قال الشاعر في القصر : تباعد منى فطحل إذ رأيته أمين فزاد الله ما بيننا بعداوقال آخر في المد : صلى الإله على لوط وشيعته أبا عبيدة قل بالله آمينوقال آخر في المد أيضا : يا رب لا تسلبنى حبها أبدا ويرحم الله عبدا قال آميناقال صلى الله عليه وسلم : " فاتحة الكتاب رقية من كل شيء إلا السأم " وهو الموت. وروي أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " كنت أخشى العذاب على أمتك فلما نزلت الفاتحة أمنت ؛ لأنها سبع آيات ؛ وجهنم لها سبعة أبواب ، فمن قرأها صارت كل آية طبقا على باب ".
صفحة ٧
[1]
قوله عز وجل : { الم } ؛ اختلفوا في تفسير { ألم } وسائر حروف التهجي ، وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود : (أن الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر). ووافقهم في ذلك الشعبي ؛ وقال : (إن لله تعالى سرا في كتبه ؛ وإن سره في القرآن الحروف المقطعة) وقال بعضهم : إنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها. وقال علي رضي الله عنه : (لكل شيء صفوة ؛ وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي).
وعن ابن عباس رضي الله رضي الله عنهما : (أن معنى (ألم) : أنا
الله أعلم وأرى ، و(ألمص) : أنا الله أعلم وأفصل ، و(كهيعص) : الكاف من كاف ، والهاء من هاد ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق). ويقال : الألف : مفتاح اسمه الله ؛ واللام : لطيف ، والميم : مجيد ، ومعناه اللطيف المجيد أنزل الكتاب. ويقال : الألف : الله ، واللام : جبريل ، والميم : محمد ، معناه : الله أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن. وقيل : هذا قسم أقسم الله به أن هذا الكتاب الذي أنزل على محمد هو الكتاب الذي عند الله ، وجوابه : { لا ريب فيه }[البقرة : 2]. وقال محمد بن كعب : (الألف آلاء الله ، واللام لطفه ، والميم ملكه). وقال أهل الإشارة : الألف أنا ، واللام لي ، والميم مني.
فصل : وهذه الحروف موقوفة ؛ لأنها حرف هجاء ، وحروف الهجاء لا تعرب كالعدد في قوله : واحد اثنان. ولغاية أدخلوا الواو وحركوه ؛ لأنه صار في حد الأسماء ، فيقال : ألف ولام كالعدد. وكذلك قال الأخفش : [هي ساكنة لا تعرب].
وقوله : (ألم) رفع بالابتداء ؛ و(ذلك) خبره ؛ و(الكتاب) صلة لذلك. ويحتمل أن يكون (ألم) خبرا مقدما تقديره : ذلك الكتاب الذي وعدت أن أوحيه إليك (ألم). ومن أبطل محل الحروف جعل (ذلك) ابتداء و(الكتاب) خبره. و(ألم) صلة ؛ فيكون لذلك معنيان ؛ أحدهما : أن (ذلك) بمعنى ، وقد يستعمل (ذلك) بمعنى ، (هذا). قال خفاف : أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إننى أنا ذلكاأي إنني هذا أطرأ لعود عطفه.
والثاني : على الإضمار ؛ كأنه قال : هذا القرآن{ ذلك الكتاب }[البقرة : 2] الذي وعدت في التوراة والإنجيل أن أوحيه إليك. وقيل : (ألم) ابتداء ؛ و(ذلك) ابتداء آخر ؛ و(الكتاب) خبره ، والجملة خبر الأول.
وقال بعض المفسرين : اختلف في{ ذلك الكتاب }[البقرة : 2] ، فقال الحسن وابن عباس وقتادة ومجاهد : (هو القرآن). فعلى هذا يكون { ذلك } بمعنى (هذا) كقوله تعالى : { وتلك حجتنآ }[الأنعام : 83] أي هذه حجتنا. وقيل : معناه : { ذلك الكتاب }[البقرة : 2] الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
صفحة ٨
[2]
وقوله عز وجل : { ذلك الكتاب لا ريب فيه } ؛ أي لا شك فيه. ونصب { ريب } لتعميم النفي ؛ ألا ترى أنك تقول : لا رجل في الدار ؛ بالنصب ، فيكون نفيا عاما. وإذا قلت : لا رجل في الدار ؛ بالرفع ، جاز أن يكون في الدار رجلان أو ثلاثة.
قوله عز وجل : { هدى للمتقين } ؛ نصب على الحال ؛ إما من { ذلك الكتاب } ؛ كأنه قال : ذلك الكتاب هاديا. وإما من { لا ريب فيه } كأنه قال { لا ريب فيه } في حال هدايته. ويجوز أن يكون موضعه رفعا على إضمار (هو) ، أو (فيه).
فإن قيل : لم خص المتقين ؛ وهو هدى لهم ولغيرهم ؟ قيل : تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ، وفائدة التخصيص تشريف المتقين ، ومثله : { إنما تنذر من اتبع الذكر }[يس : 11]{ إنمآ أنت منذر من يخشاها }[النازعات : 45].
صفحة ٩
[3]
قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } ؛ أي بالبعث والحساب والجنة والنار. وقيل : (الغيب) هو الله. قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } ، أي الصلوات الخمس بشرائطها في مواقيتها. قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } ؛ يعني الزكاة ؛ وهو الأظهر ؛ لأن الله تعالى قرن بين الصلاة والزكاة في مواضع كثيرة ، وإقامة الصلاة طهارة الأبدان ؛ وإعطاء الزكاة طهارة الأموال. وبالأموال قوام الأبدان ، وقد قيل : هو نفقة الرجل على أهله.
قيل : لما نزل قوله عز وجل : { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة } الآية ، قالت اليهود : نحن نؤمن بالغيب ونقيم الصلاة وننفق مما رزقنا الله ؛ فأنزل الله تعالى : { والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك } ، والذي أنزل إليه القرآن والذي أنزل من قبله التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة ؛ فنفروا من ذلك. فإن قيل : لم قال : { وبالآخرة هم يوقنون } ، ولم يقل يؤمنون ؟ قيل : لأن الإيقان توكيد الإيمان ؛ واليقين بالآخرة يقين خبر ودلالة ، ومعنى الآية : وبالدار الآخرة هم يعلمون ويستيقنون أنها كائنة.
صفحة ١٠
[5]
قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم وأولائك هم المفلحون }. أي أهل هذه الصفة على رشد وثبات وصواب من ربهم. والمفلحون : الناجون الفائزون بالجنة ، ونجوا من النار. وقيل : هم الباقون بالثواب والنعيم المقيم.
صفحة ١١
[6]
قوله عز وجل : { إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } ، يعني مشركي العرب. وقال الضحاك : (نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته). وقال الكلبي : (يعني اليهود) وقيل : المنافقين. والكفر : هو الجحود والإنكار. قوله تعالى : { ءأنذرتهم } الإنذار : التحذير والتخويف. { أم لم تنذرهم لا يؤمنون } وهذه الآية خاصة فيمن حقت عليه كلمة العذاب والشقاوة في سابق علم الله.
صفحة ١٢
قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم }. أي طبع على
قلوبهم ؛ والختم والطبع بمعنى واحد ؛ وهو التغطية للشيء. والمعنى طبع الله على قلوبهم ؛ أي أغلقها وأقفلها ؛ فليست تفقه خيرا ولا تفهمه. { وعلى سمعهم } فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به ، وإنما وحده وقد تخلل بين جمعين ؛ لأنه مصدر ؛ والمصدر لا يثنى ولا يجمع. وقيل : أراد سمع كل واحد منهم كما يقال : أتاني برأس كبشين ؛ أراد برأس كل واحد منهما. وقال سيبويه : (توحيد السمع يدل على الجمع ؛ لأنه توسط جمعين) كقوله تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النور }[البقرة : 257] وقوله تعالى : { عن اليمين وعن الشمال عزين }[المعارج : 37] يعني الأنوار والإيمان ؛ وقرأ ابن عبلة : { وعلى سمعهم }.
وتم الكلام عند قوله : { وعلى سمعهم } ثم قال : { وعلى أبصارهم غشاوة }. أي غطاء وحجاب فلا يرون الحق. وقرأ المفضل بن محمد : (غشاوة) بالنصب ؛ كأنه أضمر فعلا أو جملة على الختم ؛ أي ختم على أبصارهم غشاوة ، يدل عليه قوله تعالى : { وجعل على بصره غشاوة }[الجاثية : 23]. وقرأ (غشاوة) بضم الغين. وقرأ الجحدري : (غشاوة) بفتح الغين. وقرأ أصحاب عبدالله : (غشوة) بفتح الغين بغير ألف. ومن رفع (غشاوة) فعلى الابتداء.
قوله تعالى : { ولهم عذاب عظيم } ، يعني القتل والأسر. وقال الخليل : (العذاب ما يمنع الإنسان من مراده). وقيل : هو إيصال الألم إلى الحي مع الهوان به ؛ ولهذا لا يسمى ما يفعل الله بالبهائم والأطفال عذابا ؛ لأنه ليس على سبيل الهوان.
صفحة ١٣
[8]
قوله عز وجل : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } ، نزلت هذه الآية في المنافقين : عبدالله بن أبي بن أبي سلول ؛ ومعتب بن قشير ؛ وجد بن قيس ومن تابعهم ، كانوا يقولون للصحابة : آمنا بالذي آمنتم به ونشهد أن صاحبكم صادق ؛ وليس هم كذلك في الباطن إذا خلوا ، وكانوا يقولون فيما بينهم : هذه خلة نسلم بها عن محمد وأصحابه ونكون مع ذلك متمسكين بديننا ؛ فقال الله عز وجل : { وما هم بمؤمنين } وإنما وحد في أول الآية وجمع الضمير في آخرها ؛ لأن لفظ (من) للوحدان ، ومعناه يصلح للمذكر والمؤنث ؛ والاثنين والجماعة ؛ فعدل تارة إلى اللفظ وتارة للمعنى ؛ ومنه قوله تعالى : { بلى من أسلم وجهه لله }[البقرة : 112] الآية ، { ومن يقنت منكن لله ورسوله }[الأحزاب : 31] الآية.
صفحة ١٤
[9]
قوله عز وجل : { يخادعون الله والذين آمنوا } ؛ أي يخالفون الله ويكذبونه ويكذبون المؤمنين. ويخالفونهم في ضمائرهم وهم المنافقون. وأصل الخدع في اللغة الاختفاء ؛ ومنه قيل للبيت الذي يخبأ فيه المتاع : مخدع ؛ فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر. وقال بعضهم : أصل الخداع في اللغة : الفساد. وقال الشاعر : أبيض اللون لذيذ طعمه طيب الريق إذا الريق خدعأي فسد ، فيكون المعنى : مفسدون ما أظهروا بألسنتهم مما أضمروا في قلوبهم. وقيل : معناه : يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : { فلمآ آسفونا انتقمنا منهم }[الزخرف : 55] أي آسفوا نبينا. وقوله تعالى : { الذين يؤذون الله ورسوله }[الأحزاب : 57] أي أولياء الله ؛ لأن الله تعالى لا يؤذى ولا يخادع. وقد يكون المفاعلة من واحد كالمسافرة.
فإن قيل : ما وجه مخادعتهم الله ؛ وهو لا يخفى عليه شيء ؟ وما وجه مخادعة المؤمنين ومخادعة أنفسهم ؟ قيل : المخادعة الإخفاء ، يقال : انخدعت الضبية في جحرها. والله تعالى لا يخادع في الحقيقة ، ولكن أطلق عليه اسم المخادعة لما فعلوا فعل المخادعين. ولو كان يصح لهم خداعهم لقال : يخدعون الله. وقيل : معناه : يخادعون رسول الله.
وأما مخادعة المؤمنين ، فإظهارهم لهم الإسلام تقية ؛ وقيل : إظهار الإسلام لهم ليكرموهم ويبجلوهم. وقيل : أظهروا لهم ذلك ليفشوا إليهم سرهم فينقلوه إلى أعدائهم. وأما مخادعة أنفسهم فضرر ذلك عليهم. قال الله تعالى : { وما يخدعون إلا أنفسهم } ؛ لأن وبال الخداع عائد إلى أنفسهم فكأنهم في الحقيقة إنما يخدعون أنفسهم.
قوله تعالى : { وما يشعرون } ؛ أي وما يعلمون أنه كذلك. والشعر : هو العلم الدقيق الذي يكون حادثا من الفطنة ؛ وهو من شعار القلب ؛ ومنه سمي الشاعر شاعرا لفطنته لما يدق من المعنى والوزن ، ومنه الشعر لدقته. ويقال : ما شعرت به ؛ أي ما علمت به. وليت شعري ما صنع فلان ؛ أي ليت علمي.
واختلف القراء في قوله تعالى : { وما يخدعون } فقرأ نافع ؛ وابن كثير ؛ وأبو عمرو : (يخادعون) بالألف. وقرأ الباقون : (يخدعون) بغير ألف على أشهر اللغتين وأفصحهما ؛ واختاره أبو عبيد. ولا خلاف في الأول أنه بالألف.
صفحة ١٥
[10]
قوله عز وجل : { في قلوبهم مرض } ؛ أي شك ونفاق ، وسمي النفاق مرضا لأنه يهلك صاحبه ؛ ولأنه يضطرب في الدين يوالي المؤمنين باللسان ؛ والكفار بالقلب ؛ فحاله كحال المريض الذي هو مضطرب بين الحياة والموت. وقيل : إن الشك ؛ أي بالقول : ألم القلب ، والمرض : ألم البدن. فسمي الشك مرضا لما فيه من الهم والحزن. وقيل : سمي النفاق مرضا ؛ لأنه يضعف الدين واليقين كالمرض الذي يضعف البدن وينقص قواه ؛ ولأنه يؤدي إلى الهلاك بالعذاب كما أن المرض في البدن يؤدي إلى الهلاك بالموت.
قوله تعالى : { فزادهم الله مرضا } ؛ أي شكا ونفاقا وعذابا وهلاكا. والفاء في { فزادهم الله } بمعنى المجازاة. وقيل : على وجه الدعاء ، { ولهم عذاب أليم } ؛ أي موجع يخلص وجعه إلى قلوبهم ؛ وهو بمعنى مؤلم. قوله تعالى : { بما كانوا يكذبون } ؛ قال بعضهم : الباء في (بما) صلة ؛ أي لهم عذاب أليم بكذبهم وتكذيبهم الله ورسوله في السر ؛ فيكون (ما) مصدرية ؛ والأولى إعمال الحروف. و(ما) وجد لها مساغ ؛ أي بالشيء الذي يكذبون.
وفي قوله : { يكذبون } خلاف بين القراء ، فقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وتخفيف الذال ؛ أي بكذبهم إذ قالوا : آمنا ، وهم غير مؤمنين.
صفحة ١٦
[11]
قوله عز وجل : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } ؛ قرأ الكسائي ؛ ويعقوب ؛ وهشام : { قيل } و{ حيل } [سبأ : 54] ، و{ سيق } [الزمر : 71] ، و{ جيئ } ، و{ سيء } [هود : 77] بإشمام الضمة. ومعنى الآية : وإذا قيل للمنافقين وقيل لليهود ؛ أي إذا قال لهم المؤمنون : لا تفسدوا في الأرض بالكفر والمعصية والمداهنة وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، { قالوا إنما نحن مصلحون } ؛ أي عاملون بالطاعة ومصلحون بالمداهنة ؛ لأنهم كانوا يقولون : لا نعادي المؤمنين ولا الكفار ؛ نداري هؤلاء وهؤلاء ؛ حتى إذا غلب أحد الفريقين لا يأتينا من دائرتهم شيء.
صفحة ١٧
[12]
يقول الله تعالى : { ألا إنهم هم المفسدون } ، (ألا) كلمة تنبيه ، والمعنى : ألا إنهم هم المفسدون بالمداهنة والعاملون بالمعصية ، وقوله تعالى : { هم } عماد وتأكيد. قوله تعالى : { ولاكن لا يشعرون } ؛ أي لا يعلمون ما أعد الله لهم من العذاب. وقيل : لا يعلمون أنهم كذلك.
صفحة ١٨
[13]
قوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا كمآ آمن الناس } ؛ أي إذا قيل للمنافقين : صدقوا كما صدق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { قالوا أنؤمن كمآ آمن السفهآء } ؛ أي أنصدق كما صدق الجهال ، يقول الله تعالى : { ألا إنهم هم السفهآء } ؛ أي هم الجهال بتركهم التصديق في السر ؛ { ولاكن لا يعلمون } ؛ أنهم جهال. وقيل : قالوا : أنصدق { كمآ } صدق الجهال بقول الله تعالى ، { ألا إنهم }. وقيل : معناه : آمنوا كما آمن عبدالله ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.
والسفهاء : جمع سفيه ، وهو البهات الكذاب المتعمد بخلاف ما يعلم. وقال قطرب : (السفيه : العجول الظلوم القائل خلاف الحق).
صفحة ١٩
[14]
قوله عز وجل : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } ؛ قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : (كان عبدالله بن أبي بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة ، وكان إذا لقي سعدا قال : نعم الدين دين محمد ، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه من أهل الكفر قال : شدوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية).
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ؛ قال : (نزلت هذه الآية في عبدالله ابن أبي وأصحابه ، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عبدالله لأصحابه : أنظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ؟ فذهب فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال : مرحبا بالصديق وسيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه ، وقال : مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الصادق القوي في دين الله عز وجل الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد علي كرم الله وجهه ؛ فقال : مرحبا يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال علي رضي الله عنه : اتق الله ولا تنافق ؛ فإن المنافقين شر خليقة الله. فقال : مهلا يا أبا الحسن ، والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم. وفي رواية : والله إني مؤمن بالله ورسوله. ثم افترقوا ، فقال عبدالله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت. فأثنوا عليه ؛ وقالوا : لا نزال بخير ما عشت. فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك ، فأنزل الله هذه الآية). ومعناها : وإذا لقوا الذين آمنوا ، أبا بكر وأصحابه ؛ قالوا : آمنا كإيمانكم.
وقرأ محمد بن السميقع : (وإذا لاقوا) وهما بمعنى واحد ، وأصل (لقوا) : لقيوا ؛ فاستثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى القاف وسكنت الواو والياء ، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين.
قوله تعالى : { وإذا خلوا إلى شياطينهم } ؛ أي مع شياطينهم ؛ وهم رؤساؤهم في الضلالة. قال الأخفش : (كل عاق متمرد فهو شيطان). ومعنى { خلوا } أي جمعوا. ويجوز أن يكون من الخلوة ؛ يقال : خلوت به وخلوت معه وخلوت إليه ؛ كلها بمعنى واحد. قال ابن عباس : ((شياطينهم) رؤساؤهم وكبراؤهم وكهنتهم وهم خمسة نفر من اليهود). ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان ، منهم كعب بن الأشرف بالمدينة ؛ وأبو بردة في بني أسلم ؛ وعبد الدار في جهينة ؛ وعوف بن عامر في بني أسد ؛ وعبدالله بن السوداء في الشام. والشيطان المتمرد العاتي من كل شيء ؛ ومنه قيل للحية النصناص : شيطان ؛ قال الله تعالى : { طلعها كأنه رءوس الشياطين }[الصافات : 65] أي الحيات.
وقوله تعالى : { قالوا إنا معكم } ؛ أي على دينكم وأنصاركم ، قوله عز وجل : { إنما نحن مستهزئون } ؛ أي بمحمد وأصحابه بإظهار قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
صفحة ٢٠