بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله
1- الحمد لله الذي تتابعت على خلقه نعمه، وترادفت لديهم مننه، وتكاملت فيهم حججه، بواضح البيان، وبين البرهان، ومحكم آي الفرقان؛ {ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} .
وصلى الله على سيد الأصفياء، وخاتم الأنبياء محمد وآله وسلم كثيرا.
قال أبو جعفر: ثم أما بعد: ذلكم معاشر حملة الآثار ونقلة سنن الأخبار من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، من أهل آمل طبرستان فإنكم سألتموني تبصيركم سبل الرشاد في القول فيما تنازعت فيه أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من بعد فراقه إياهم، واختلفت فيه بعده من أمر دينهم، مع اجتماع كلمة جميعهم على أن ربهم تعالى ذكره واحد، ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم صادق، وقبلتهم واحدة.
صفحة ١٠٣
وقلتم. قد كثرت الأهواء، وتشتت الآراء، وتنابز الناس بالألقاب، وتعادوا فتباغضوا وافترقوا، وقد أمرهم الله تعالى ذكره بالألفة، ونهاهم عن الفرقة، فقال جل ذكره في محكم كتابه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون. ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} .
وقال تعالى ذكره: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} .
2- وقلتم: هذا كتاب الله المنزل وتنزيله المحكم، يأمر بالائتلاف، وينهى عن الاختلاف، وقد خالف ذلك من قد علمتم من الأمة؛ فكفر بعضهم بعضا، وتبرأ بعض من بعض، وكل حزب يدلي بحجة لما يظهر من اعتقاده؛ فيلعن –على القول بخلافه فيه-
صفحة ١٠٤
من خالفه، ولا سيما في زماننا هذا وبلدتنا هذه، فإن المصدور عن قوله فيهم، والمأخوذ معالم الدين عنه منهم الأجهل، والمقنوع برأيه وعلمه في نوازل الحلال والحرام وشرائع الإسلام عندهم الأسفه الأرذل.
فالمسترشد منهم حائر تزيده الليالي والأيام على طول استرشاده إياهم حيرة، والمستهدي منهم إلى الحق فيهم تائه، يتردد على كر الدهور باستهدائه إياهم في ظلمة لا يتبين حقا من باطل، ولا صوابا من خطأ.
3- وسألتموني إيضاح قصد السبيل، وتبيين هدي الطريق لكم في ذلك بواضح من القول وجيز، وبين من البرهان بليغ؛ ليكون ذلك لكم إماما في القول فيما اشتجر فيه الماضون تأتمون به، وعمادا تعتمدون عليه فيما تبتغونه من معرفة صحة القول في الحوادث والنوائب فيما يختلف فيه الغابرون.
وإن مسألتكم إياي صادفت مني فيكم تحريا، ووافقت مني
صفحة ١٠٥
لكم احتسابا؛ لما صح عندي، وتقرر لدي من خصوص عظيم البلاء ببلدكم دون بلاد الناس سواكم من ترؤس الرويبضة فيكم، واستعلاء أعلام الفجرة عليكم وإعلانهم صريح الكفر جهرة بينكم، وإصغاء عوامكم لهم، وترك وزعتكم إلحاقهم بنظائرهم بقتلهم ثم صلبهم والتمثيل بهم، حتى لقد بلغني عن جماعة منهم أن
صفحة ١٠٦
الأمنية بينكم بلغت بهم، والجرأة عليكم حملتهم على إظهار نوع من الكفر لا يعلم أنه دان به يهودي، ولا نصراني، ولا مجوسي، ولا وثني، ولا زنديق ولا ثنوي، ولا جنس من
صفحة ١٠٧
أجناس أهل الكفر سواهم، وهو أن أحدهم –فيما ذكر لي- يخط بيده في التراب بسم الله، ويكتب بيده نحوه على اللوح، أو ينطق بلسانه، ثم يقول: ((قولي هذا الذي قلته ربي الذي أعبده، وكتاب هذا الذي كتبته: خالقي الذي خلقني)) .
ويزعم أن علته في صحة القول بذلك أن أبا زرعة وأبا حاتم الرازيين قالا: ((الاسم هو المسمى)) .
4- فلا هو يعقل الاسم ولا يعرف المسمى، ولا هو يدري ما مراد القائل: الاسم هو المسمى، ولا مراد القائل: الاسم غير المسمى، ولا مراد القائل: لا هو المسمى ولا غير المسمى، بلادة وعمى،
صفحة ١٠٨
فسبحان الله لقد عظمت مزلة هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم، الزاعمين أنهم يعملون ربهم بأيديهم، ويحدثونه بألسنتهم كلما شاءوا، ويفنونه بعد إحداثهموه كلما أحبوا، لقد خابوا وخسروا ، وضلوا بفريتهم هذه على الله ضلالا بعيدا، وقالوا على الله قولا عظيما.
صفحة ١٠٩
وغير بديع –رحمكم الله- أن يصغى إلى مثل هذا العظيم من الكفر العجيب فيتقبله من كان قد أخذ عن آبائه الدينونة بنبوة السندي الرشنيق، ويقبل منهم عنه تحليل الزنا، وإباحة فروج
صفحة ١١٠
النساء بغير نكاح ولا شراء، ومن كان داينا بإمامة من رأى أن المآثم تزول عن الزاني بامرأة رجل بإحلال زوجها له ذلك.
5- وإن بلدة وجد فيها أشكال من ذكرنا على جهله وعمى قلبه اتباعا، وسلم فيها من سفك دمه جهارا، لحري أن تكون الأقلام عن أهلها مرفوعة، وأن يكون الإثم عنهم موضوعا وجديرون أن يتركوا في طغيانهم يعمهون، وفي دجى الظلماء يترددون، غير أني تحريث بياني ما بينت، وإيضاحي ما أوضحت في كتابي هذا لذوي الأفهام والألباب منكم، ليكون ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فليدبر كل من قرأ –منكم ومن سائر الناس غيركم- كتابي هذا بإشعار نفسه نصحها، وطلبه حضها، وتركه تقليد الرؤوس الجهال، ودعاة الضلال؛ فإني لم آل نفسي فيه وإياكم والمسلمين نصحا. فإلى الله أرغب في حسن التوفيق، وإصابة القول في توحيده وعدله وشرائع دينه، والعون على ما يقرب من محابه، إنه سميع قريب، وصلى الله على محمد النبي وسلم تسليما.
صفحة ١١١
القول في المعاني التي تدرك حقائق المعلومات من أمور الدين، وما يسع الجهل به منه، وما لا يسع ذلك فيه، وما يعذر بالخطأ فيه المجتهد الطالب، وما لا يعذر بذلك فيه.
6- اعلموا –رحمكم الله- أن كل معلوم للخلق من أمر الدين والدنيا أن تخرج من أحد معنيين:
(أ) من أن يكون إما معلوما لهم بإدراك حواسهم إياه.
(ب) وإما معلوما لهم بالاستدلال عليه بما أدركته حواسهم.
صفحة ١١٢
ثم لن يعدو جميع أمور الدين –الذي امتحن الله به عباده- معنيين: أحدهما: توحيد الله وعدله.
والآخر: شرائعه التي شرعها لخلقه من حلال وحرام وأقضية وأحكام.
(أ) فأما توحيده وعدله: فمدركة حقيقة علمه استدلالا بما أدركته الحواس.
(ب) وأما شرائعه فمدركة حقيقة علم بعضها حسا بالسمع، وعلم بعضها استدلالا بما أدركته حاسة السمع.
ثم القول فيما أدركت حقيقة علمه منه استدلالا على وجهين:
أحدهما: معذور فيه بالخطأ والمخطئ، ومأجور فيه على الاجتهاد والفحص والطلب؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر)) .
وذلك الخطأ فيما كانت الأدلة على الصحيح من القول فيه مختلفة غير مؤتلفة، والأصول في الدلالة عليه مفترقة غير متفقة،
صفحة ١١٣
وإن كان لا يخلو من دليل على الصحيح من القول فيه، فميز بينه وبين السقيم منه، غير أنه يغمض بعضه غموضا يخفى على كثير من طلابه، ويلتبس على كثير من بغاته.
والآخر منهما غير معذور بالخطأ فيه مكلف قد بلغ حد الأمر والنهي، ومكفر بالجهل به الجاهل، وذلك ما كانت الأدلة الدالة على صحته متفقة غير مفترقة، ومؤتلفة غير مختلفة، وهي مع ذلك ظاهرة للحواس.
صفحة ١١٤
7- وأما ما أدركت حقيقة علمه منه حسا، فغير لازم فرضه أحدا إلا بعد وقوعه تحت حسه، فأما وهو واقع تحت حسه فلا سبيل له إلى العلم به، وإذا لم تكن له إلى العلم به سبيل، لم يجز تكلفيه فرض العمل به، مع ارتفاع العلم به؛ وذلك أنه من لم ينته إليه الخبر بأن الله تعالى ذكره بعث رسولا يأمر الناس بإقامة خمس صلوات كل يوم وليلة، لم يجز أن يكون معذبا على تركه إقامة الصلوات الخمس. لأن ذلك من الأمر الذي لا يدرك إلا
صفحة ١١٥
بالسماع، ومن لم يسمع ذلك ولم يبلغه؛ فلم تلزمه الحجة به، وإنما يلزم فرضه من ثبتت عليه به الحجة.
8- فأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف لوجود الأدلة متفقة في الدلالة عليه غير مختلفة،
صفحة ١١٦
ظاهرة للحس غير خفية، فتوحيد الله تعالى ذكره، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله، وذلك أن كل من بلغ حد التكليف من أهل الصحة والسلامة، فلن يعدم دليلا دالا وبرهانا واضحا يدله على وحدانية ربه جل ثناؤه، ويوضح له حقيقة صحة ذلك؛ ولذلك لم يعذر الله جل ذكره أحدا كان بالصفة التي وصفت بالجهل وبأسمائه، وألحقه إن مات على الجهل به بمنازل أهل العناد فيه تعالى ذكره، والخلاف عليه بعد العلم به، وبربوبيته في أحكام الدنيا، وعذاب الآخرة فقال –جل ثناؤه-: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} .
فسوى –جل ثناؤه- بين هذا العامل في غير ما يرضيه على حسبانه أنه في عمله عامل بما يرضيه في تسميته في الدنيا بأسماء أعدائه المعاندين له، الجاحدين ربوبيته مع علمهم بأنه ربهم، وألحقه بهم في الآخرة في العقاب والعذاب. وذلك لما وصفنا من
صفحة ١١٧
استواء حال المجتهد المخطئ في وحدانيته وأسمائه وصفاته وعدله، وحال المعاند في ذلك في ظهور الأدلة الدالة المتفقة غير المفترقة لحواسهما، فلما استويا في قطع الله –جل وعز- عذرهما بما أظهر لحواسهما من الأدلة والحجج، وجبت التسوية بينهما في العذاب والعقاب.
صفحة ١١٨
وخالف حكم ذلك حكم الجهل بالشرائع، لما وصفت من أن من لم يقطع الله عذره بحجة أقامها عليه بفريضة ألزمه إياها من شرائع الدين، فلا سبيل له إلى العلم بوجوب فرضها؛ إذ لا دلالة على وجوب فرضها، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن مأمورا، وإذا لم يكن مأمورا لم يكن بترك العمل لله –عز ذكره- عاصيا، ولا لأمر ربه مخالفا؛ فيستحق عقابه؛ لأن الطاعة والمعصية إنما تكون باتباع الأمر ومخالفته.
صفحة ١١٩
9- فإن قال لنا قائل:
فإنك قد تستدل بالمحسوس من أحكام الشرائع بعد وقوعه تحت الحس على نظائره التي لم تقع تحت الحس ويحكم له بحكم نظيره، ويفرق فيه بين المجتهد المخطئ، وبين المعاند فيه بعد العلم بحقيقته؛ فتجعل المجتهد المخطئ مأجورا باجتهاده، والإثم عنه زائلا بخطئه. وقد سويت بين حكم المجتهد المخطئ في توحيد الله وأسمائه وصفاته وعدله، والمعاند في ذلك بعد العلم به.
فما الفصل بينك وبين من عارضك في ذلك، فسوى بين المجتهد المخطئ والمعاند بعد العلم، حيث فرقت بينهما، وفرق حيث سويت؟
قيل: الفرق بيني وبينه أن من قيلي وقيل كل موحد: أن كل محسوس أدركته حاسة خلق في الدنيا فدليل لكل مستدل على وحدانية الله عز وجل وأسمائه وصفاته وعدله، وكل دال على ذلك فهو في الدلالة عليه متفق غير مفترق، ومؤتلف غير مختلف.
وإن من قيلي وقيل كل قائل بالاجتهاد في الحكم على الأصول: أنه ليست الأصول كلها متفقة في الدلالة على كل فرع.
وذلك أن الحجة قد ثبتت على أن واطئا لو وطئ نهارا في شهر رمضان امرأته في حال يلزمه فيها فرض الكف عن ذلك، أن عليه
صفحة ١٢٠
كفارة بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك حكم من الله تعالى ذكره على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فيمن وطئ امرأته في حال حرام عليه وطؤها، وقد يلزمه في حال أخرى يحرم عليه فيها وطؤه، فلا يلزمه ذلك الحكم بل يلزمه غيره؛ وذلك لو وطئها معتكفا، أو حائضا: أو مطلقة تطليقة واحدة قبل الرجعة، وفي أحوال سواها نظائر لها. فقد اختلفت أحكام الفرج الموطوء في الأحوال المنهي فيها الواطئ عن وطئه مع اتفاق أحواله كلها في أنه منهي في جميعها عن وطئه.
صفحة ١٢١
وليست كذلك الأدلة على وحدانية الله –جل جلاله- وأسمائه وصفاته وعدله، بل هي كلها مؤتلفة غير مختلفة، ليس منها شيء إلا وهو في ذلك دال على مثل الذي دلت عليه الأشياء كلها. ألا ترى أن السماء ليست بأبين في الدلالة من الأرض، ولا الأرض من الجبال، ولا الجبال من البهائم، ولا شيء من المحسوسات وإن كبر وعظم بأدل على ذلك من شيء فيها وإن صغر ولطف، فلذلك افترق القول في حكم الخطأ في التوحيد، وحكم الخطأ في شرائع الدين وفرائضه.
ولولا قصدنا في كتابنا هذا الاختصار والإيجاز فيما قصدنا البيان عنه لاستقصينا القول في ذلك، وأطنبنا في الدلالة على صحة
صفحة ١٢٢