ويروي أن أبا العتاهية مر بدكان وراق، فإذا كتاب فيه بيت من الشعر:
لن ترجع الأنفس عن غيها ما لم يكن منها لها زاجر
فقال: لمن هذا؟ فقيل: لأبي نواس. فقال: وددت أنه لي بنصف شعري! وقال الأصمعي: إن النعمان بن امرئ القيس الأكبر الذي بنى الخورنق أشرف على الخورنق يومًا، فأعجبه ما أوتي من الملك والسعة ونفوذ الأمر وإقبال الوجوه عليه، فقال لأصحابه: هل أوتي أحد مثل ما أوتيت؟ فقال له حكيم من حكماء أصحابه: أهذا الذي أوتيت شيء لم يزل ولا يزول، أم شيء كان لمن قبلك زال عنه وصار إليك؟ قال: بل شيء كان لمن قبلي زال عنه وصار إلي وسيزول عني! قال فسررت بشيء تذهب عنك لذته وتبقى تبعته! قال: فأين المهرب؟ قال: إما إن تقيم وتعمل بطاعة الله، أو تلبس أمساحًا وتلحق بجبل تعبد ربك فيه وتفر من الناس حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا فعلت ذلك فما لي؟ قال: حياة لا تموت وشباب لا يهرم، وصحة لا تسقم وملك جديد لا يبلى. قال: فأي خير فيما يفنى؟ والله لأطلبن عيشًا لا يزول أبدًا! فانخلع من ملكه ولبس الأمساح وساح في الأرض، وتبعه الحكيم وجعلا يسيحان ويعبدان الله تعالى حتى ماتا؛ وفيه يقول عدي بن زيد:
سر رب الخورنق إذ أصـ بح يومًا وللهدى تذكير
غره ماله وكثرة ما يمـ لك والبحر معرضًا والسدير
فارعوى قبله وقال فما غبـ طة حي إلى الممات يصير؟
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر وان أم أين قبله سابور؟
وبنو الأصفر ملوك الـ روم لم يبق منهم مذكور
لم يهبه ريب المنون فباد الـ ملك عنه فبابه مهجور
وفيهم أيضا يقول الأسود بن يعفر:
ولقد علمت سوى الذي نبأتني
أن السبيل سبيل ذي الأعواد ماذا أؤمل أل محرق
تركوا منازلهم وبعد إياد؟ أرض الخورنق والسدير وبارق
والقصر ذي الشرفات مع سنداد
نزلوا يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد
جرت الرياح على محل ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد
فأرى النعيم وكل ما يلهى به يومًا يصير إلى بلى ونفاد
وقال وهب بن منبه: أصبت على غمدان وهو قصر سيف بن ذي يزن بأرض صنعاء اليمن، وكان من الملوك الأجلة مكتوبًا بالقلم المسند فترجم العربية، فإذا هي أبيات جليلة وموعظة عظيمة:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
واستنزلوا من أعالي معقلهم فأسكنوا حفرًا يا بئس ما نزلوا!
ناداهم صارخ من بعد ما دفنوا: أين الأسرة والتيجان والحلل؟
أين الوجوه التي كانت محجبة من دونها تضرب الأستار والكلل؟
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم: تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
1 / 10