عليه قال: لا أرى ذلك صوابًا. فسألوه عن علة ذلك فقال: غدًا أخبركم إن شاء الله. فلما أصبحوا غدوا عليه للوعد وقالوا: لقد وعدتنا. قال: نعم. فأمر بإحضار كلبين عظيمين قد أعدهما، ثم حرش بينهما وألب كل واحد منهما على الآخر فتواثبا وتهارشا حتى سالت دماؤهما، فلما بلغا الغاية فتح باب بيت عنده وأرسل منه على الكلبين ذئبًا عنده قد أعده، فلما أبصراه تركا ما كانا عليه وتألفت قلوبهما ووثبا جميعًا على الذئب، فنالا منه ما أرادا. ثم أقبل الرجل على أهل الجمع فقال لهم: مثلكم مع المسلمين مثل هذا الذئب مع الكلاب، لا يزال الهرج والقتال بينهم ما لم يظهر لهم عدو من غيرهم، فإذا ظهر لهم عدو من غيرهم تركوا العداوة بينهم وتألفوا على العدو. فاستحسنوا قوله وتفرقوا عن رأيهم.
وأما المذموم في هذا الباب فصرف العقل إلى الدهاء والمكر. قال الشعبي: دهاة العرب ستة: معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أمية وقيس بن سعد بن عبادة وعبد الله بن بديل بن ورقا. قال الأصمعي: كان معاوية يقول: أنا للأناة وعمرو للبداهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم. قال قبيصة بن جابر: ما رأيت أعطى الجزيل مال من غير سلطان من طلحة بن عبيد الله، ولا رأيت أثقل حلمًا ولا أطول أناة من معاوية، ولا رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص، ولا أشبه سرًا بعلانية من زياد، ولو أن المغيرة كان في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج من أبوابها كلها. وقال أبو الدرداء: قال لي النبي ﷺ: يا عويمر ازدد عقلًا تزدد من ربك قربًا. قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ومن لي بالعقل؟ قال: اجتنب محارم الله وأد فرائض الله تكن عاقلًا، ثم تنفل صالح الأعمال تزدد في الدنيا عقلًا وتزدد من ربك قربًا وعليه عزًا. وتروى هذه الأبيات لعلي بن أبي طالب ﵁:
إن المكارم أخلاق مطهرة
فالعقل أولها والدين ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها
والجود خامسها والعرف سادسها
والبر سابعها والصبر ثامنها
والشكر تاسعها واللين عاشيها
والنفس تعلم أني لا أصدقها
ولست أرشد إلا حين أعصيها
والعين تعلم من عيني محدثها
إن كان من خربها أو من أعاديها
وقال بعض الحكماء: العاقل من عقله في إرشاد، ومن رأيه في إمداد، فقوله سديد وفعله حميد، والجاهل من جهله في إغواء، فقوله سقيم وفعله ذميم. فأما من صرف فضل عقله إلى الدهاء والمكر والشر والحيل والخديعة، كالحجاج وزياد وأشباههما، فمذموم. وقد قال عمر بن الخطاب ﵁: لست بالخب والخب لا يخدعني. وقال المغيرة: كان والله عمر ابن الخطاب ﵁ أفضل من أن يخدع وأعقل من أن يخدع.
والموصوف بالدهاء والمكر مذموم، وصاحبه محذور تخاف غوائله وتحذر عواقب حبائله. وقد أمر عمر بن الخطاب ﵁ أبا موسى الأشعري أن يعزل زيادًا عن ولايته، فقال زياد: أعن موجده أو جناية يا أمير المؤمنين؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكن كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك.
وكتب زياد إلى معاوية ﵁: إن العراق في شمالي ويميني فارغة، فولني الحجاز أكفك أهله. فبلغ ذلك ابن عمر فقال: الهم كفه. فطعن في إصبعه بعد أيام فمات. فنحن وإن كنا نرغب عن الدهاء والمكر فإنا
1 / 68