أفضل من سكناه بحضرته، لأنه مبلغ عنه للخلائق شريعته التي بعثه الله بها، فهو خليفته في ذلك، يدل على هذا أنه أوجب الجنة لمن قضى بالحق.
الباب الرابع: في بيان معرفة ملك سليمان بن داود ﵉ ووجه طلبه الملك وسؤاله أن لا يؤتاه أحد من بعده ونفي البخل عنه
فإن قال لنا قائل: ليس سليمان بن داود ﵉، قال: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ (صّ: ٣٥) . ثم زاد على ذلك بأن لا يؤتى مثله أحد بعده وكان ظاهره يؤذن بالبخل. والكلام على هذه الآية من وجوه: أحدهما أنه إنما سأل هذا بعد أن سلبه الله تعالى ملكه ثم أعاده إليه، فحين طلب الملك كان ملكًا، فكأنه قال: هذا الملك الذي جددته هبه لي على صفات لا أعصيك فيه، فتسلبني إياه وتعاقبني؛ يدل عليه أنه بدأ بالمغفرة فقال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا﴾ (صّ: ٣٥)، أي ملكًا لا أعصيك فيه فتؤاخذني، والدليل على صحة هذا قوله تعالى: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (صّ: ٣٩) . فكأنه أجاب دعاءه فقال: تصرف كيف شئت فلا حساب عليك فيه. وقيل: إن أعطيت أجرت، وإن أمسكت فلا تبعة عليك. وهذا تخصيص لسليمان بن داود ﵉ لم يخص به أحد من ولد آدم سواه، لأن الله تعالى قال للخلائق: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*َمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الحجر٩٣: ٩٢) .
وأما قوله تعالى: ﴿لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ (ص: ٣٥) فقال عطاء: معناه لا أسلبه في باقي عمري فيصير لغيري كما سلبته فيما مضى من عمري. وقيل: لا تسلط علي فيه شيطانًا كالذي سلطته علي. وقيل: إنما سأل ذلك ليكون علمًا على المغفرة وقبول التوبة، فأجيب إلى ذلك فعلم أنه قد غفر له. وقيل: إنما سأل ذلك ليكون آية على نبوته وعلمًا على معجزته. وقال مقاتل: كان سليمان بن داود ملكًا ولكنه أراد بقوله: لا ينبغي لأحد من بعدي تسخير الرياح والطير، يدل عليه ما بعده وهو قوله تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ﴾ (صّ: ٣٦) . وقيل: إن سليمان كان ملكه في خاتمه، ولهذا ذهب ملكه بذهاب خاتمه، فقال لا ينبغي لأحد من بعدي، يعني اجعل ملكي في نفسي لا في خاتمي حتى لا يملكه أحد غيري، فإن إبليس لعنه الله لما أخذ خاتم سليمان تحول ملك سليمان إلى إبليس لعنه الله، وقعد على كرسيه يحكم فيه حتى أنكرت بنو إسرائيل أحكامه، وكان قد ألقى عليه شبهه. وقال عمرو بن عثمان المكي: إنما أراد فيه ملك النفس وقهر الهوى، يدل عليه ما روى سليمان الشعباني قال: بلغني أن النبي ﷺ قال: أرأيتم سليمان وما آتاه الله من ملكه، فإنه لم يرفع طرفه إلى السماء تخشعًا لله تعالى حتى قبضه ﷿؟ وزاد غيره: إنما أراد ملك النفس وقهرها لئلا يفتتن بالمملكة، ولهذا قدم سؤال المغفرة على طلب المملكة. وقال بعض الوعاظ: إنما أراد حتى أنتقم لآدم من إبليس وذريته حيث كان سببًا لإخراجه وذريته من الجنة.
وروى البخاري في صحيحه أن النبي ﷺ قال: إن عفريتًا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، فرده الله خاسئًا.
فإن قيل: فما معنى قول يوسف ﵇: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: ٥٥) . قلت: يستفاد من الآية أن من حصل بين يدي ملك لا يعرف قدره أو أمة لا يعرفون فضله فخاف على نفسه، لو أراد إبراز فضله جاز له أن ينبه على مكانته وما يحسنه، دفعًا للشر عن نفسه وإظهارًا لفضله فيجعل في مكانه. وفيه فائدة أخرى وهو أنه إذا رأى الأمر في يد الخونة واللصوص ومن لا يؤدي
1 / 43