فلما علم بنا الفضيل خرج وجلس على التراب على السطح، فجلس هارون إلى جانبه فجعل يكلمه وهو لا يجيبه، فبينما نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد أذيت الشيخ هذه الليلة، فانصرف يرحمك الله! فانصرفنا.
ووعظ شبيب بن شيبة المنصور فقال:
يا أمير المؤمنين إن الله لم يجعل فوقك أحدًا، فلا تجعل فوق شكرك شكرًا. ودخل عمرو بن عبيد على المنصور فقرأ: ﴿وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ (الفجر٢: ١) حتى بلغ ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الفجر: ١٤)، لمن فعل مثل فعالهم، فاتق الله يا أمير المؤمنين فإن بأبوابك نارًا تأجج، لا يعمل فيها بكتاب الله ولا بسنة رسول الله، وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك! أما والله لو علم عمالك أنه لا يرضيك منهم إلا العدل لتقرب به إليك من لا يريده. فقال له سليمان بن مجالد: اسكت! فقد غممت أمير المؤمنين. فقال عمرو: ويحك يا ابن مجالد! أما كفاك أنك خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين حتى أردت أن تحول بينه وبين من ينصحه؟ اتق الله يا أمير المؤمنين فإن هؤلاء قد اتخذوك سلمًا إلى شهواتهم، فأنت كالماسك بالقرون وغيرك يحلب، وإن هؤلاء لن يغنوا عنك من الله شيئًا! وقال الأوزاعي للمنصور في بعض كلامه: يا أمير المؤمنين، أما علمت أنه كان بيد رسول الله ﷺ جريدة يابسة يستاك بها ويردع بها المنافقين، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، ما هذه الجريدة بيدك اقذفها لا تملأ قلوبهم رعبًا؟ فكيف من سفك دماء المسلمين وشق أبشارهم ونهب أموالهم؟ إن المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، دعا إلى القصاص من نفسه بخدشة خدشها أعرابيًا عن غير عمد، فقال له جبريل ﵇: إن الله لم يبعثك جبارًا تكسر قلوب رعيتك! يا أمير المؤمنين لو أن ثوبًا من النار صب على ما في الأرض لأحرقه، فكيف بمن يتقمصه؟ ولو أن ذنوبًا من النار صب على ما في الأرض لأحرقه، فكيف بمن يتجرعه؟ ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب، فكيف بمن يسلك فيها ويرد فضلها على عاتقه؟ ودخل بعض العقلاء على سلطان فقال له: إن أحق الناس بالإحسان من أحسن الله إليه، وأولاهم بالإنصاف من بسطت يداه بالقدرة، فاستدم ما أوتيت من النعم بتأدية ما
عليك من الحق. وروي أن أعرابيًا قام بين يدي هشام بن عبد الملك فقال له: أيها الأمير أتت على الناس سنون ثلاثة: أما الأولى فأكلت اللحم، وأما الثانية فأذابت الشحم، وأما الثالثة فهاضت العظم، وعندك فضول أموال فإن كانت لله فأقسمها بين عباد الله، وإن كانت لهم فلم تحظر عليهم؟ وإن كانت لكم فتصدقوا إن الله يجزي المتصدقين. فأمر هشام بمال فقسم بين الناس وأمر للأعرابي بمال، فقال: أكل المسلمين له مثل هذا المال؟ قال: لا يقوم بذلك بيت المال. قال: لا حاجة لي فيما يبعث لأئمة الناس على أمير المؤمنين.
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين أذكر بمقامي هذا مقامًا لا يشغل الله عنك كثرة من تخاصم من الخلائق يوم تلقاه بلا ثقة من العمل ولا براءة من الذنب. فبكى عمر بكاء شديدًا ثم استرده الكلام، فجعل يردده وعمر يبكي وينتحب، ثم قال: حاجتك؟ فقال: عاملك بأذربيجان أخذ مني اثني عشر ألف درهم. فقال: اكتبوها له حتى ترد عليه. ولما دخل زياد على عمر بن عبد العزيز قال: يا زياد ألا ترى إلى ما ابتليت به من أمر أمة محمد ﷺ؟ فقال زياد: يا أمير المؤمنين والله لو أن كل شعرة منك قطعت ما بلغت كنه ما أنت فيه، فاعمل لنفسك في الخروج
1 / 32