وسمع رجلًا يقول: يا ليتني كنت من أصحاب اليمن، فقال ابن مسعود: يا ليتني إذا مت لم أبعث. وقال عمران بن الحصين: وددت أني رماد تسفيني الرياح في يوم عاصف. وقال أبو الدرداء: يا ليتني كنت شجرة تعضد ويؤكل ثمري ولم أك بشرًا.
وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ لما رجع من صفين ودخل أوائل الكوفة فإذا هو بقبر قال: قبر من هذا؟ قالوا: قبر خباب بن الأرت. فوقف عليه وقال: رحم الله خبابًا أسلم راغبًا وهاجر طائعًا وعاش مجاهدًا وابتلي في جسمه آخرًا، ألا ولن يضيع الله أجر من أحسن عملًا. ثم مضى فإذا قبور فجاء حتى وقف عليها فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، أنتم لنا سلف ونحن تبع وبكم عما قليل لاحقون. اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز عنا وعنهم. طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب، وقنع بالكفاف ورضي عن الله تعالى. ثم قال: يا أهل القبور، أما الأزواج فقد نكحت، وأما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، فهذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما إنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا خير الزاد التقوى.
الباب الثاني: في مقامات العلماء والصالحين عند الأمراء والوزراء والسلاطين
دخل الأحنف بن قيس على معاوية وعليه شملة ومدرعة صوف. فلما مثل بين يديه اقتحمته عينه فأقبل عليه فقال: مه! فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين، أهل البصرة عدد يسير وعظم كسير، مع تتابع من المحول واتصال من الدخول، فالمكثر منها قد أطرق والمقل منها قد أملق. وبلغ به المخنق؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير ويجبر الكسير ويسهل العسير، ويصفح عن الدخول ويداوي المحول، ويأمر بالعطاء ليكشف البلاء ويزيل اللأواء. ألا وإن السيد من يعم ولا يخص، ويدعو الجفلى ولا يدعو النقرى، إن أحسن إليه شكر وإن أسيء إليه غفر، ثم يكون من وراء الرعية عمادًا يدفع عنهم الملمات ويكشف عنهم المعضلات. فقال معاوية: ها هنا يا أبا بحر، ثم قرأ: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ (محمد: ٣٠) .
وقال سفيان الثوري: لما حج المهدي قال: لا بد لي من سفيان. فوضعوا لي المرصد حول البيت فأخذوني بالليل، فلما مثلت بين يديه أدناني ثم قال: لأي شيء لا تأتينا فنستشيرك في أمورنا، فما أمرتنا من شيء صرنا إليه وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه؟ فقلت له: كم أنفقت في سفرك هذا؟ قال: لا أدري لي أمناء ووكلاء. قلت: فما عذرك غدًا إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك عن ذلك؟ لكن عمر بن الخطاب ﵁ لما حج قال لغلامه: كم أنفقنا في سفرتنا هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر دينارًا. فقال: ويحك، أجحفنا بيت مال المسلمين!
وقال الزهري: ما سمعت بأحسن من كلام تكلم به رجل عند سليمان بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين اسمع مني أربع كلمات، فيهن صلاح دينك وملكك وآخرتك ودنياك. قال: ما هن؟ قال: لا تعد أحدًا عدة وأنت لا تريد إنجازها، ولا يغرنك مرتقى سهلًا إذا كان المنحدر وعرًا، واعلم أن للأعمال جزاء فاحذر العواقب، وللدهر ثورات فكن على حذر.
ولما دخل ابن السماك على هارون قال له: عظني. فقال: يا أمير المؤمنين إن الله لم يرض لخلافته في عباده غيرك، فلا ترض من نفسك إلا ما رضي به عنك، فإنك ابن عم رسول الله ﷺ وأولى الناس بذلك. يا أمير المؤمنين من طلب فكاك رقبته في مهلة من أجله كان خليقًا أن يعتق نفسه. يا أمير المؤمنين من أذاقته الدنيا حلاوتها بركون منه إليها، أذاقته الآخرة مرارتها بتجافيه عنها.
1 / 29