سراج الملوك
الناشر
من أوائل المطبوعات العربية
مكان النشر
مصر
فهو كائن، ومن خالفنا في القضاء والقدر وافقنا في العلم، فرب أمر قدر الله تعالى وصوله إليك بغير طلب فهو واصل، ورب أمر قدر وصوله إليك بعد الطلب فلا يصل إلا بالطلب، والطلب أيضًا من القدر ولا فرق بين الأمر المطلوب وبين القدر في أنهما مقدوران.
فمن ههنا قلنا إنهما لا يتنافيان. وكذلك التوكل مع الكسب لأن التوكل محله القلب والكسب محله الجوارح، ولا يتضاد شيئان في محلين بعدما يتحقق العبد أن المقدور من الله تعالى، فإن تعسر شيء فبتقديره وإن أتفق فبتيسيره. قال أنس ﵁: جاء رجل على ناقة له فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل. والتوكل والاعتصام بالقدر يستمدان من العقل، والطلب والكسب يستمدان من الأمر، فالتوكل على الله تعالى هو الثقة بما ضمنه والقطع بكون ما حكم به، فمن رام أمرًا من الأمور ليس من الطريق في تحصيله أن يغلق بابه عليه، ويفوض أمره إلى ربه وينتظر حصول ذلك الأمر، بل الطريق أن يشرع في طلبه على الوجه الذي شرعه الله تعالى فيه. وقد ظاهر النبي ﷺ بين درعين، واتخذ خندقًا حول المدينة ليستظهر به ويحترس به من العدو، وأقام الرماة يوم أحد ليحفظوه من خالد بن الوليد، وكان يلبس لامة الحرب ويعبئ، الجيوش، ويأمرهم وينهاهم بما فيه مصالحهم، واسترقى وأمر بالاسترقاء وتداوى وأمر بالمداواة وقال: أنزل الداء الذي أنزل الدواء.
فإن قيل: قد روى أن النبي ﷺ قال: من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل؟ قلنا: أليس أنه قد قال اعقلها وتوكل، وظاهر بين درعين وسائر ما ذكرناه آنفًا. فإن قيل: فما الجمع بين ذلك؟ قلنا: معناه من اكتوى أو استرقى متكلًا على الرقية والكي، وأن البرء من قبلهما خاصة فهذا يخرجه من التوكل، وإنما يفعله كافر يضيف الحوادث إلى غير الله تعالى. فأما من باشر الأسباب والأدوية وتعاطى تدبير الأمور بنفسه وأعوانه وماله، على ما جرت به سيرة الله في أرضه وعادته في خلقه، غير معتمد على شيء من ذلك بل هو واثق القلب أن ما حصل فبتقديره وما تعسر فبتقديره، معتمدًا في ذلك على المسبب لا على الأسباب، فهذا هو التوكل لكن شرطه أن يمشي في ذلك كله مع الأمر، ولا يسلك طريقًا فيه معصية فليس يستدرك ما عند الله بمعاصيه.
قال علي ﵁: من ابتغى أمرًا بمعصية الله تعالى كان أبعد لما رجي وأقرب لمجيء ما أتقن. ومن ظن أن الطلب والاكتساب يناقض التوكل، فقعد في بيته وأغلق بابه متكلًا على اله ﷿ في زعمه، كان عن العقل خارجًا وفي تيه الجهل والجًا، ويقال له: فيجب من هذا إذا جعت وحضر الطعام لا تمد يدك إليه ولا تفتح فاك له، فإن تمادى على ذلك كان إلى العقل أحوج منه إلى المعرفة، وينبغي لأهله أن يداووه. ألا ترى أن الله تعالى قال لمريم عليها الصلاة والسلام: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ (مريم: ٢٥)
فهلا أمرها بالسكوت ثم حمل الرطب إلى فيها؟ وهكذا القول فيمن له دابة أو بستان يؤمر بسقي البستان وحفره وإصلاح شأنه، ويؤمر بأن يعلف الدابة ويسقيها. وأنشدوا:
ألم تر أن الله قال لمريم
إليك فهزي الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أحنى الجذع من غير هزها
إليها ولكن كل شيء له سبب
وهكذا قال رسول الله ﷺ: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو أخماصًا وتروح بطانًا فلم يحمل أرزاقها إليها في أوكارها بل ألهمها طلبه في الغدو والرواح. وقد كان جهبل بن رئيس القندهارس برئ من تصديق القدر وتكذيب الطلب، دون أهل زمانه من
1 / 182