وقال: ألا تعجبون من هذا؟ ثم قال لي: لو كنت إبراهيم بن أدهم ما زاد على هذا! فلما كان من الغد حدث الناس في المسجد بالصفة، فجاء الناس عنقًا إلى البستان، فلما رأيت كثرة الناس اختبأت والناس داخلون وأنا هارب منهم. وكان إبراهيم بن أدهم يأكل من عمل يده مثل الحصاد وحفظ البساتين والعمل في الطين. وكان يومًا يحفظ كرمًا فمر به جندي فقال: أعطنا من هذا العنب. فقال: ما أمرني صاحبه. فأخذ يضربه بالسوط فطأطأ رأسه وقال: اضرب رأسًا طالما عصى الله. فانحجز الرجل ومضى. وقال سهل بن إبراهيم: صحبت إبراهيم بن أدهم فمرضت فأنفق علي نفقته، فاشتهيت شهوة فباع حماره وأنفق علي، فلما تماثلت قلت: يا إبراهيم أين الحمار؟ فقال: بعته. قلت: فعلام أركب؟ قال: يا أخي على عنقي! قال: فحملني ثلاث منازل ﵀. وأنشدوا:
أيها المرء إن دنياك بحر طافح موجه فلا تأمننها
وسبيل النجاة فيها منير وهو أخذ الكفاف والقوت منها
وبلغني أن بالهند يومًا يخرج الناس فيه إلى البرية فلا يبقى في البلد بشر من طين: لا شيخ كبير ولا مولود صغير، وهذا اليوم يكون بعد انقراض مائة سنة من يوم مثله، فإذا اجتمع الخلائق في صعيد واحد نادى منادي الملك، لا تصعدون هذا الحجر الحجر هناك منصوب إلا من حضر في المجمع الأول الذي قد خلا من مائة سنة، فربما جاء الشيخ الهرم الذي قد ذهبت قوته وعمي بصره وفني شبابه، وتجيء العجوز تزحف لم يبق منها إلا رسمها وقد أخنى الدهر عليها، فيصعدان على الحجر الذي هناك، وربما لم يجئ أحد وقد يكون قد فنى القرن بأسره. ويقول الشيخ: قد حضرت المجمع الأول منذ مائة سنة وأنا طفل صغير، وكان الملك فلانًا، ويصف الجيوش الماضية والأمم الخالية وكيف طحنهم البلى، وصاروا تحت أطباق الثرى، ويقوم خطيبهم فيعظ الناس ويذكرهم صرعة الموت وحسرة الفوت، فيبكي الناس ويتوبون من المظالم، ويكثرون الصدقات ويخرجون عن التبعات ويصلحون على ذلك مدة.
وقال وهب بن منبه: صحب رجل بعض الرهبان سبعة أيام ليستفيد منه شيئًا، فوجده مشغولًا بذكر الله تعالى والفكر لا يفتر، فالتفت إليه في اليوم السابع فقال: يا هذا قد علمت ما تريد، حب الدنيا رأس كل خطيئة والزهد رأس كل خير والتوفيق تاج كل خير، فاحذر رأس كل خطيئة وارغب في رأس كل خير، وتضرع إلى ربك أن يهب لك تاج كل خير. قال: فكيف أعرف ذلك؟ قال: كان جدي رجلًا من الحكماء قد شبه الدنيا بسبعة أشياء: فشبهها بالماء الملح يغر ولا يروي ويضر ولا ينفع، وبالبرق الخلب يغر ولا ينفع، وبسحاب الصيف يمر ولا ينفع، وبظل الغمام يغر ولا يخذل، وبزهر الربيع ينضر ثم يصفر فتراه هشيمًا، وبأحلام النائم يرى السرور في منامه فإذا استيقظ لم يكن في يده إلا الحسرة، وبالعسل المشوب بالسم الزعاف يغر ويقتل.
فتدبرت هذه الأحرف السبعة سبعين سنة، ثم زدت حرفًا واحدًا فشبهتها بالغول التي تهلك من أجابها وتترك من أعرض عنها، فرأيت جدي في المنام فقال لي: يا بني أشهد أنك مني وأنا منك، وهي والله كالغول التي تهلك من أجابها وتترك من أعرض عنها! قلت: فبأي شيء يكون الزهد في الدنيا؟ قال: باليقين، واليقين بالبصر، والبصر بالعين، والعين بالفكر. ثم وقف الراهب فقال: خذها منا فلا أراك خلفي إلا متجردًا بفعل دون قول، فكان ذلك آخر العهد به. قلت: قد وصف الله الدنيا وأهلها بصفة أعم من هذه الصفة، فقال ﷾: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ
1 / 12